المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة ولا في الخيال



harleydavld son
29-06-2005, 08:14 PM
لا بد وانك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة ألعمليات. إلا أنني هذه ألمره عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد ألرعب من إجراء مثل هذه العملية. ولا اعلم حتى الآن سبب هذا الرعب. إلا أن فكرة الموت سيطرت على عقلي سيطرة كاملة، حتى وصلت إلى درجة ألإيمان ألعميق بأن يوم وفاتي متعلق تماما بيوم دخولي غرفة ألجراحه. وبدأت هذه ألفكرة تتسلط على نفسي وتتناوشها من شتى الجهات، حتى اعتصرت حمرة أناملي وتورد وجنتاي. وقذفتني بكل سوداويتها إلى إحساس مجهول أمام تصور ألموت، ومفارقة ألحياة. ألحياة ألزاخرة بتدفق الروح والنشاط في كل شيء.

الجبال، الوديان، ألأشجار، ألحيوانات، ألأمتدادت ألهائلة للفضاء ألرحب، فبدت ألدنيا عزيزة، عزيزة إلى حد ألجنون. وأصبح مذاقها في ظل شبح ألموت ألمسيطر على عقلي نابضا بعمق حيوي نشيط، لا يفتأ يحمل في جنباته صورا رائعة مضيئة لكل شيء. حتى ألمآسي ظهرت أمامي وهي ترتدي زخرفا من ضياء خلاق، يخلب ألعقول، وينير ظلمات ألمجهول، ألموت، ما أقسى هذه ألكلمة حين تستحيل في عقلك إلى كائن حي يمسك بتلابيب دماغك ليجرك نحوه بكل ما يملك من عناد وتصخر نحو هاويته ألعاجة بسواد ممعن في عمق لا نهائي.

فتقفز في عقلك ألتساؤلات مثل مخالب فولاذية تدميه بإنغراساتها الحادة:- كيف أفارق هذه ألدنيا؟ هل أترك كل شيء ورائي هكذا؟ أأترك هذه الجبال وتلك السهول؟ وكيف أخلف خلفي تزاحم الأقدام في الشوارع؟ وأصوات الباعة وطعم البرتقال؟ ولذة التدخين؟ كيف لا أفيق مبكرا على هدير الحياة ولا أهجع مع هجوع الليل؟.

أمي, أبي, أخواتي, زوجتي, أبنائي, زملائي، أصدقائي، كيف أفارق هؤلاء جميعا، هكذا ببساطه، وبلا أي معني واضح في عقلي عنهم. فالسنين التي عشتها معهم لم تكن كافيه بكل ما في ثوانيها من زخم لأن أكون معنى واضحا عن أي فرد فيهم. إنني الآن في ظل لحظة هبوط شبح الموت على نفسي, أنظر إليهم بصورة مختلفة عن نظرتي السابقة. الآن، أجلوهم بكل طاقة عقلي ونفسي معا فأشعر بوهن عارم يظلل صورهم وحركاتهم, وأحس أثناء محاولة استعادة صورهم بضعف شديد قاتل. وأغرق في بحر مشاعري المستفزة القلقة، مثل غريق يقاوم حواما لا أمل للنجاة منه, لكنه يضرب، بيديه وقدميه, بكل ذرة من ذرات جسده, بعنف, بقلق مضطرب معذب, لكن ألحوام يشده للأسفل وفي عينيه تتبدى نظرات هائلة, مروعه, حيرى, نحو الشاطىء, نحو الرمل, نحو الحياة.

أمانيً, أمالي, طموحاتي, مشاريع حياتي, خطط المستقبل, كيف تنتهي دون أن أكمل شوطي فيها. الموت, الموت سيبترها، يتركها ناقصة شوهاء, تسير على قدمين ولكن دون جذع, دون رأس.

مشاعري, نار عملاقه مستعرة, وأحاسيسي دخان اسود كثيف, فتلك تكويني، وهذه تعوم في صدري وعقلي, ولا أستطيع بين الاثنتين إلا الهروب من ذاتي إلى ممرض أرجوه وأتوسل إليه أن يمنحني شيئا يدفعني لقبو النوم المعتم, الذي لا حياة فيه للعقل، ولا رؤى للمشاعر, وأسلم نفسي كارها لسرير وغطاء هما في مثل هذه اللحظات, أوفى وأعز الأصدقاء.

وأفيق مشدوها, تلاحقني كوابيس متداخلة, غير منتظمة, ألوان كثيرة حادة فاقعة تتداخل ببعضها وتتشابك ثم تنعقد, عقدا شيطانية متنافرة لا تظهر بدايتها ولا نهايتها، فأحس رأسي ثقيلا, تنوء كتفاي بحمله, وصدري تعوم فيه أختلاطات عشوائية وأمتليء رعبا خانقا فوارا من جديد، فأفر من بين خيوط وحدتي لأنزلق بين جماعات المرضى الضاحكين، والذين لا معرفه لي بهم ولا صلة, أجلس بينهم أستل من صدري ابتسامة ضبابية لأعلقها على قسمات وجهي وفوق شفتي.

ومن بين هذه الجماعات كنت أنحدر نحو السلوى ببطء شديد وأغرق معهم في عوالم متنوعة مختلفة, كل عالم لا صلة له بالعالم الذي قبله, وكل ضحكه ترن وتدوي في أرجاء الصالة لا داعي لها، ومع ذلك أغرق في عوالمهم المفتوحة, وتدوي ضحكاتي في مساحات الجدران وإشعاعات المصابيح المتدلية من السقف, وتغرق عيناي بدموع قهقهات عالية ينحني جذعي معها مرات متلاحقة وسريعة كحرذون يؤدي صلاته وقت الظهيرة.

وحين كان يقذف الليل سدف ظلمته على الكون, كنت أنسل من فراشي للاستراحة, أتأمل الأفق وهو يتبقع بدماء الشمس, بقعا فاترة الحمرة هنا وهناك, ثم تندمج هذه البقع مرة واحده لتطلي الأفق على امتداده بحمرة قانية نزفتها الشمس قبل دخولها بأعماق الأفق البعيد عن العين أو قبل غطوسها بأعماق البحر لتغتسل من أعباء نهار مضن وشاق.

كنت إذ ذاك أشعل سيجارة من أخرى, ليس حبا في التدخين، إنما بحركة أليه اعتيادية, وما أن تتلفع الأرض بتلك السدف تلفعا تاما, حتى تجدني جالسا كتمثال شمعي غارقا ببحر أفكار صاخبة عاتية الموج.

وذات ليله, وفيما أنا غارق في أفكاري, أحسست حركة بجانبي, وحين رفعت رأسي وجدتها جالسة بمحاذاتي تماما, يداها منتصبتان على رجليها, وجهها متكيء على كفيها المفتوحتين لاحتضان الوجه من الذقن وحتى الأذنين.

ذهبية الشعر, وجهها أقرب إلى لون سنابل القمح, يتوسطه أنف صغير مستدق الرأس، وفم حين يفتح تظنه ما زال مغلقا, وعينان حائرتان ينبعث منهما بريق متألق, لكن سرعان ما ينكسر فور خروجه منها.

تطلعت إليها دون مبالاة, وبحركة لا شعورية, وكأنني انظر ببلاهة في الفراغ, إلا أنني أمام إصرار نظراتها وعمقها أحسست برعدة تسري في جسدي كرعدة برد مفاجئة أمام شمس متألقة, حدقت بعينها, فأيقنت عندها بأنها تضرب أعماقي، تسبرها, تغوص فيها منقبة, إلا أنها أمام امتداد نصل نظراتي وبريقه اضطرت للتراجع، وكان تراجعها ثقيلا, يزحف في عينيها زحفا حلزونيا، وأضحت لفترة غير بسيطة،

كأنها تنسحب من عالم إلى عالم, الأمر الذي حيرني ودفعني للتساؤل: أن كانت تحس بوجودي بمحاذاتها أم لا؟ ولم تلبث أن أطلقت تنهيدة حادة ارتفع على أثرها صدرها وهبط بقوة, فأحسست تلك التنهيدة تغوص في صدري مثل دبوس يخترق اللحم بقوة خاطفة وسريعة.

مددت يدي بحركة تلقائية نحو كوب الشاي الفارغ, في محاولة صبيانية للهرب من الموقف, لكنها تنبهت لحركتي بسرعة، فانتصبت لتأخذ الكأس من يدي وتغادر الغرفة دون أن تنبس بحرف واحد. وما هي إلا لحظات حتى عادت وكوب الشاي بيدها مملوء حتى شفته العليا, وضعته على الطاولة وعادت لجلستها من جديد دون أن تنبس بكلمة واحدة مرة أخرى, وكان علي، من باب الأدب, الأدب فقط، أن أشكرها, ولكن بحذر شديد لا يفتح لها مجالا لدخول عالمي بأي ثمن مهما بهظ, لأني لا أريد أن أضع على كاهلي عبئا جديدا، يكفيني إحساسي المتلاحق بقبضات الموت في عقلي.

-أشكرك على الشاي.

حدقت في من جديد, كانت عيناها تطفحان بالرعب, بالمجهول, وفوق جفونها ظلال زرقاء مشربة بصفرة باهتة, يبدو الألم والحزن عليها واضحا بكل عمق وقوة. وحبات من دموع تقف على الجفن، مثل زجاج شفاف مصقول, إلا أنه مشعور من الجهة اليمنى ومخدوش في الوسط, غامت الدنيا بعينيها، ولم تغب قليلا حتى أنهلت مطرا شديدا وحارقا, إلا أنه صامت. صمت المقابر وسط الليل, وانساحت الدموع على خديها غزيرة فياضة، كجدول فضي على أديم من ذهب خالص.

نفرت أعصابي بقوة، أطلت برأسها من هجعة سلوى قصيرة، كالأفعى حين تطل برأسها من جحرها، حذرة متوترة، لكنها دائبة ألأهتزاز. أردت أن أبكي، أصرخ، أحطم زجاج ألنوافذ بيدي، أضمها لصدري، أحفر فيه ملجأ أخبئها فيه، أرفسها برجلي، أركلها خارج ألاستراحة، أقذف نفسي خارج ألأستراحة، أمسح دموعها، أفعل أي شيء. إلا أنني ظللت مكاني، كما أنا عاجزا، مشلولا، لا أنفع لشيء على ألإطلاق.

- زوجي سيموت بعد شهر.

وجمدت مكاني، مثل قالب ثلج، تيبست أحشائي، واندفعت برودة عنيفة في عمودي ألفقري، مثل برودة ألبنج في ألوريد، ورقصت معدتي مكانها. ألموت، ألموت مرة أخرى. أنا لا أعرف كيف مرت تلك ألكلمة مثل ألسهم كي تستقر في دماغي. ثم لأرى نفسي مبطوحا فوق دكة ألغسل والناس تغرق فوق جلدي أباريق ألماء وهم يدمدمون بحلاوة ألأجاص، ونكهة ألتفاح، ومذاق ألعسل.

- س... يمو... ت... بع...د...شهر.

خرجت ألكلمات من فمي، كل كلمة مولود، مولود له ألام مخاضه، وضعتها بعد جهد، والعرق يتفصد من جسدي كله، وشيء يهز قلبي والأعماق بوحشية قاتلة، لا رحمة فيها أبدا.

- نعم هكذا أخبر ألأطباء.

- لكن ألموت بيد ألله.

- أنه مصابا بالسرطان.. سرطان ألدماغ.

- قد يشفى.

- فات ألأوان.

- وكيف تعرفين؟

- دعني أحدثك ألقصة من أولها.

ودون أن تسمع إجابتي بدأت تحدث: أتته ألحالة مرة واحدة. صداع دائم في ألرأس وزغللة في ألعينين. ألم عارض، كثيرا ما يحدث مع ألناس. وتركناه، لم نكن ندري آنذاك بأننا لا نتركه ليأخذ حده ومن ثم ينتهي. من أين لنا ألعلم بأننا كنا نحفر ألنهاية في لوح ألأبدية بأيدينا، بضحكاتنا وسرورنا. وتركنا ذلك الورم يعشش في دماغه، يفرخ، ويبني أعشاشا لفراخه، من أين لنا أن نعلم هذا؟

وحين أشتد ألألم، عرضناه على الطبيب. الطبيب زميله، فزوجي أيضا طبيب، لكنه طبيب نفسي، أخبرنا بالحقيقة. صفعنا بها صفعة مروعة. لكنه أستدرك: هناك أمل، لا بد من إجراء عملية جراحيه. ولكن ليس هنا، إنما في لندن.

وكان يجب أن يسافر، بأي ثمن، ومهما كانت ألظروف. ألعمليه يجب أن تجرى، بدون تأخير، وبأقصى سرعة. ويفضل ألسفر على بساط ألريح. ألوقت ثمين، ألساعة، لا، بل رمشة ألعين، إما أن تكون حياة، أوتكون موت. من ألذي سيقوم برعايتي أنا؟ لا، ليس أنا، أبنه محمد، لا، بل أبنته آية. من سيمسك بذراعها يوم زفافها؟ أي ذراع غير ذراعه ستكون ذراعا ميتة، ينخل فيها ألزيف، ألتصنع، الرياء، ألعفن، من سيعود في المساء ليحملهم على ساعده، ويدور بهم أرجاء ألبيت وضحكتهم ترن كأجراس ألملائكة في قلب ألنسيم والهواء.

والسفر يعني ألافا مؤلفة، أكداسا مكدسه من ورق ألنقد، تملؤ في حقائب ألسفر بدلا من ألملابس، لا يهم، ألنقود يمكن أن تدبر، نبيع ألبيت بكل محتوياته، حتى كرسي محمد، وسرير آية، ثم نبيع ملابسنا، كل هذا لا يهم، ألمهم أن نسافر، أن تتم ألعملية بأسرع وقت ممكن.

كان وجهها وهي تتحدث ينتفخ رويدا رويدا، والدم يتصاعد من كل جسدها ليستقر فيه فيبدو مثل جمرة متقدة تحت نار مستعرة، يذوب على وجنتيها ألحديد، وصدرها كان يعلو ويهبط كسرير هزاز حين يضرب بقوة، فتسمع قعقعة ألقلب وهي تنازع ألعظم وتدفع ألرئتين. وتجمرت عيناها، فبدت وكأنها مغطسة بدم نازف للتو، شبحية، تضيء، تتوهج وتنطفىء فتبعث في ألقلب رعبا مجهولا غامضا، لكنه رعب ينقر ألقلب من سويدائه، فيجيء إثر نقرته غثيان، زوفان في ألمعده. فترتج ألأحشاء. أصابعها كانت تتشنج حين تشير بها لترافق كلماتها بالحركة. وتنثني بجسدها فينتابني إحساس بأنها شلت، تليفت، ولن تعود للحركة من جديد. وجسدها، جسدها كان يرتعش، يهتز بقوة ضارية وكأنه معرى أمام عاصفة جليدية، تنخر ألعظم وتفتته، دون عناء، دون جهد.

أما أنا فقد كنت تائها بصحراء الذهول التي لا أثر للسراب فيها. كنت أرفع نفسي عن ألكرسي وأعاود ألجلوس، لماذا؟ هكذا دون سبب، دون وعي، دون إرادة. أفتح فمي وأغلقه، دون سبب، دون وعي، دون إرادة أيضا. دماغي أصبح كسيحا لا يعمل. شل تماما. أما عيناي فقد كنت أحدق بهما لوجهها، ولكن دون أن أراه. كنت قد تحولت لأذنين فقط. ولو نظر ألناس إلي ساعتئذ لامتلأت قلوبهم هلعا ورعبا، لقذفوا أنفسهم من زجاج ألنوافذ، لأنهم لن يروا سوى إنسان كله أذنين فقط.

وسافرنا، بعنا ما نملك، وسافرنا، غرباء في أرض غريبة. ورأس زوجي يتضخم، يكبر، يتساقط ألشعر عنه، وأضحى غريبا عن جسد صاحبه، وعني. ودخل معنا أرض ألغربه وفي جوفه مخلوق صغير صغير لا تراه ألعين، أدق من رأس ألإبرة بملايين ملايين ألمرات، لكنه قلب حياتنا وبدل أوضاعنا، غير أجسادنا، نقل ألقلب مكان العين، وزرع العين مكان القلب، فأضحت وجوهنا خافقة وأعماقنا باكيه. وتمت ألفحوصات ألأولية. والنتائج، آه ما أقساها. أنه هو، هو، دون شك، ذلك ألكائن ألغريب يتوسط ألدماغ، ينمو، وينمو، حتى أصبح بحجم ألبيضه، والعملية لا بد من أجرائها، وحدد ألموعد بعد ثلاثة أيام من وصولنا.

والمستشفى كبير، كبير، متطاول في ألأفق، يرنو للسماء، ومظهره جميل، متناسق، يشيع البهجة في النفس. لكنه كأي شيء غيره، لا تراه على حقيقته إلا إذا ولجت بكيانك إلى داخله. قلت أنه جميل، يشيع ألبهجة بالنفس، لكن من ألخارج فقط. أما حين تلج بقدماك بابه، فأنه يصبح مدهشا للعقول. هو مخزن آلام ألبشر وصندوق عذاباتهم وتنهداتهم. فيه تصبح الدموع كاوية، تنزل على ألوجنات فتذيبها كحامض مركز. وفيه ترحل كل يوم أرواح عن أجسادها، رحلة طويلة، طويلة مجهولة لا معالم لها ولا حدود. ومن خلف ألأرواح تلك، تنخلع قلوب من صدورها لتسكن عمق ألألم وقلب ألعذاب.

harleydavld son
29-06-2005, 08:15 PM
ومرت ألأيام ألثلاثة، استغرقت مسيرتها ثلاثين دهرا. وأتو إليه، يحملون مريولا أبيض مفتوحا من ألخلف، يتدلى من جانبيه حزام من نفس أللون، وزرقوا ألإبرة في ألعضل بعدما ألبسوه ألمريول وساقوه أمامهم وهو مستلق على ألسرير. وسرت معهم حتى باب غرفة ألعمليات. وهناك كانت أليافطة تجحظ بعينيها (ممنوع ألدخول). فتسمرت كعمود ثلج في جبل جليدي.



وغزتني ألغربة من جديد، اقتحمت قلبي كزلزال مروع، وأحسست صورهم أمامي "محمد وآيه" وهم يدورون بين ألأشجار كأغصان نضرة، يلهون، يمرحون، ينطنطون مثل فراشات حمراء مزخرفة بألوان زاهية. وبكيت، وبكيت0 كنت ظمأى لصدر حنون، أرمي رأسي عليه، أمسح دموعي بجلده0 لصدر أمي، أبي، أختي، أخي، أو حتى صدر محمد أو أيه ألصغيرين أللذين لا تتحمل صدريهما حر أي دمعة 0أو أي صدر عربي، يشعر جلده بحرارة دموعي، ويقفز قلبه مع شهقاتي وأناتي0 لكني وحيده، دموعي، شهقاتي، أناتي وأحاسيسي كلها وحيده0



والدقائق ثقيلة، تزحف كسلحفاة هرمه أعياها التعب وأضناها ألمرض0 والباب مغلق، ورأس زوجي مفتوح، ينز دما، وجسده لا يشعر، ومبضع ألجراح يجول بدماغه، يبتر منه جزءا تلو جزء0 وأنا أقف وحيدة، وعقرب ألثواني يدق في رأسي فيدوي صوته كالرعد، وأحس بالخوف ألشديد، بالفزع القاتل من مبضع ألجراح أن يصل ألجزء ألذي فيه محمد وآيه، أو ألجزء ألذي أنا فيه فيبتره0 صارعت ألفكره، ألغربة، صوت ألرعد في رأسي، صورة محمد، طيف آيه، ولكني إنسانة، فسقطت0 وكان أخر ما سمعت صوت رأسي وهو يصطدم برخام ألأرض0



وأفقت، لا أدري كيف؟ كنت مسجاة على سرير بجانب سريره0 وكان سريره لا يزال فارغا0 نهضت، لا، حاولت ألنهوض0 لكن جسمي كان ثقيلا، ثقيلا، لأول مرة أحس بمثل هذا الثقل، فلم أستطع0 أدرت وجهي للنافذة، فبدت ألشوارع أمام عيني وهي تنبض بالحياة، تزخر بالناس وهي ذاهبة آتية، والسيارات، ألحافلات0 وهناك من خلال ألنافذة، رأيت رجلا يجلس بجانب امرأة يلف كتفها بذراعه وبكفة يده يداعب خصلات شعرها ألأمامية، وأمامهما طفل وفتاة صغيران، يدوران كفراشات حمراء مزخرفة بألوان زاهية0 وحين يقفزان بحضن أبيهما، ينهض والفرحة تتشقق من وجهه نورا قدسيا0 فيحمل كلا منهما على ساعد ثم يبدأ بالدوران وضحكتهم ترن في أذنيً رغم البعد ورغم ألحاجز ألزجاجي، مثل أجراس ألملائكة0 فتحجرت ألدموع بعيني0 زوجي لا يزال هناك، ومبضع ألجراح لا يزال يتجول بتمهل في دماغه0 يبتر جزءا من هنا وجزءا من هناك، والناس خلف النافذة تلهو، تضحك، ولا أحد منهم يعلم بأن زوجي مسجى على سرير قد لا ينهض عنه أبدا0 وليس فيهم من يستطيع أن يحس بالنار ألمتقدة بأعماقي، بكياني كله0 وأنا لا أزال أبحث عن صدر حنون0 صدر عربي، أرمي رأسي عليه وأغسل دموعي بجلده، ولكن دون جدوى0 ورأسي يثقل، فأدخل ألنوم دون حاجة إليه، دون إحساس به0



وأخرجوه أخيرا، ملفوف ألرأس، لا يبدو منه غير عينيه، جثة هامدة، لكنها تتنفس0 سجوه على سريره وذهبوا0 تركوني معه ذاهلة، مقصوفة ألإحساس، حائرة ألمشاعر0 تنساب ألدموع، لكنها لا تخرج0 تبقى في ألعينين تكويهما بلظاها0 أقف لا أدري ماذا أفعل، أبكي، أضحك، أصرخ، أضرب رأسي بالحائط، أحتضنه، ولا أفعل شيئا0 أظل واقفة والصدر ألحنون لا يزال حلمي ألوحيد في تلك أللحظات0



ومضت ألأيام، كلما ذهب يوم ظهر جسده أفضل من سابقه0 وبدأ رأسه يعود لحجمه ألطبيعي ببطء0 بشائر خير، روح تعود للجسد0 ذلك ألكائن ألغريب يتضاءل أثره، فنشعر بالنشوة، بالفرح0 وتراخى شعور ألغربة، تضاءل حتى لم أعد أحسه0 دفنت رأسي بصدره وأجهشت بالبكاء والقهقهة في آن واحد، وغسلت دموعي بجلد صدره0 وضممت رأسه بين كفي برفق ولطف، وهمست بدماغه بصوت ناعم خفيف "محمد، آيه"0 فانتعش ألدماغ وتوردت ألحياة فيه، وتوهجت بسراديبه أنوار ألذكرى، وتمدد بسرعة حذرة ليسد الفراغ ألذي تركه مبضع ألجراح0 ربت على كتفيه، هدهدت جفونه بأناملي، فاستولى عليهما ألنعاس، وتكثف لحظة وراء لحظة كغمامة نقية، حبلى بالغيث0 ثم سقط النوم عليه صافيا مثل دموع ألسماء0 فتألق بريق وجهه ونما حتى أكتسى به ألجسد كله0 تركته وخرجت0 ألجذل يسير معي، والبهجة تطفح في نفسي حتى أصبحت خفيفة خفة ريشة دوري يتوسط أشجار ألربيع وزهوره0 وصعدت دون قصد للطابق ألعلوي، فأدهشتني ألمفاجأة0 صدقني، فرق هائل واضح بين هذا الطابق والطابق ألذي نحن فيه0



طابقنا فخم رائع، لكن هذا ألطابق يعج بالفخامة، ويفيض روعة0 فالسجاد المفروش على أرضه، بلونه العنابي الزاهي، الذي يخلب العقل سميك جدا0 تغوص فيه ألقدم حتى ألجوزتين، فتشعر نعومته ألعذبة تدغدغ أقدامك بملمسها ألحنون0 وجدرانه مطلية بلون أبيض حليبي ناصع، شديدة النظافة، يتوسطها لوحات فنية زيتية لفنانين متعددين، لكنها متوحدة المضمون0 تعج بالحياة وتزخر بالملائكة والجنة0 لكنها آية في ألروعة0 دفقة إنسانية أمام إغراء ألحياة وسعادة ألأخره0 مضمون متوحد، لكنه متنافر، ألحياة، ألموت0 أو بمعنى آخر، ألدنيا، ألآخرة0 وفي الصالات توزعت ألأرائك والطاولات ألفخمة بأسلوب رفيع ينم عن ذوق عالي الحساسية، والأسرة الخضراء الناعمة الملس كريش النعام، كانت عريضة بحواف مستديرة، فيبدو ألنائم عليها وكأنه يغوص ببساط ربيعي شديد الكثافه0 وفي كل غرفه خزانة محفور خشبها بتشكيلات هندسية غاية في التعقيد، لكنها غاية في الجمال ايضا0 وعلى كل هذا الجلال، كانت تنسحب أصداء موسيقية عذبة، هادئة، تسري بالأوردة والأعصاب، وتدخل مسارب ألروح، فتحلق بها نحو أعالي ألطمأنينة والوقار0 وفي هذا الطابق كان الأمر الملفت للنظر، أن المريض ما عليه سوى التمني، وما على المستشفى إلا أن يلبي، وحين سألت إحدى الممرضات عن هذا الطابق، أجابت انه مخصص لمن ينتظرون اجلهم بعد وقت قصير0



وبدأت بالتردد اليومي على ذلك الطابق0 فاكتشفت معنى التناقض، عرفته عن قرب، كان واضحا جليا في الوجوه التي تنتظر نهايتها، وهي تدرك انه لم يتبق لها على هذه ألأرض سوى أيام أو شهور0 وبعدها تذهب للأرض، للدود، للتحلل، فتبدو ساهمة حزينه0 وبعد لحظات تضج في ملامحها القهقهة العالية النابعة من القلب، وبعد لحظات تنهال الدموع غزيرة مع أنات تملؤها الحسرة، وعيون تتشبث بالدنيا0 وما هي إلا دقائق حتى يدخل أولئك الذين كانت الدموع تملؤ عيونهم في حديث ساخن عن المستقبل وضرورة تغييره نحو ألأفضل، ومحاولة التكيف مع ما يحمل من صعوبات وعقبات0 وكنت أتساءل بيني وبين نفسي: أي مشاعر يحياها هؤلاء؟ وكيف يغيب الموت عن عيونهم ولو للحظة، ما داموا يجلسون هنا فقط من اجل انتظاره؟ وما الفائدة من الكتاب الذي يحمله بعضهم في يديه، يتأمل كلماته، وكيف يستعذب هذه الكلمات وعضة الموت في حلقه؟



وظللت على حالي هذا حتى أعلن المشفى ذات يوم أننا قادرون على العودة إلى بلادنا، ولكن بجب أن تؤخذ صورة طبقية للدماغ بعد ثلاثة أشهر، من أجل ألاطمئنان فقط، وموافاة المشفى بالنتيجة مباشرة0 ولم يمض على القرار يومين حتى وجدنا أنفسنا على مقعدين في الطائرة المغادرة لندن إلى عمان0



قضينا ألأشهر الثلاثة سعادة، نهلنا من الحياة، وشربنا من كأسها حتى ألثماله0 وجاء اليوم ألأخير من الشهر الثالث، فكانت الصورة الطبقية تقول: أن ورما جديدا بحجم ألبيضه قد تشكل مرة أخرى بالدماغ0 وجاء صوت الطبيب: يجب السفر إلى لندن بأقصى سرعة ممكنه، وعلى بساط الريح أن امكن0 قالها وسكت0 انصرف لمريض اخر0 وانصرفنا نحن نبحث عن شيء يمكن آن يكون قد تبقى لنبيعه، ولكن لم يتبق سوى أحدهم يمكن أن يباع "محمد وآيه"0 عرضناهم، لكن أحدا لم يتقدم لشرائهم ابدا0 وتدبر ألأهل أمر ألمال0



وسافرنا لنعود بعد أسبوع بجملة واحدة لا أمل في شفائه، ليكن ألله بعونكم



عزيزي يوسف:-



كل ما كتبته أنفا كان نقلا، لم أشاهد أي شيء منه على ألإطلاق، ولكني نقلته لك بأمانة ألحرف والكلمة، لم أزد عليه شيء ولم أنقص منه شيء



لكني اليوم رأيته، نعم رأيته، كان رأسه متضخما بشكل ملفت للنظر، ووجهه كان متورما تورما قبيحا يبعث القشعريرة في ألبدن، ذو بطن منتفخ كطبل فارغ مبعوج من ألوسط، متهدل ألأطراف، وشعر رأسه متساقط تساقطا متفرقا، بقع صلع متفرقة بين بقع شعر متبقيةلا يستطيع الوقوف على قدميه، لذا فزوجته تجره في جولات متفرقة أثناء النهار على كرسي متحركلا يتكلم، وإن حاول ذلك فإنه بعد جهاد عنيف يصدر صرصرة منفرة غير مفهومهوكل ما فيه، إن كان لنا أن نقسم ألإنسان إلى أجزاء، عينان تدوران في المحاجر، يرى من خلالهما ألناس والحياة، ولكن تتوسط هذه ألرؤية صورة الموت وهو يطوي مسافات السماء والفضاء قادما إليه



كان ابنه محمد يتسلق الكرسي ليجلس بحضنه، فيطوقه والده بذراعيه تطويقة غير مكتملة لعجز جزئي في يديه على ما يبدووحين كان يدخل الغيبوبة، كان أهله يقفون فوق رأسه، ينظرون إليه والدموع تتفجر تفجرا من عيونهم، كنت أسمع صداها كصاروخ متفجر0 ورحمة ألله فوق كل شيء، أنه لم ير هذه الدموع وهي تتفجر هكذرحمة ألله أنه لم يكن يخرج من غيبوبته وهم على مثل هذا ألأمر0 كان يسير نحو الموت بخطى سريعة، وكان يعرف هذا ألأمر، وكذلك أهله0 كانت زوجته تعاني، تتألم، لكن بصمت0 لم يحدث أن خرجت عن طورها بعد أن أيقنت بمصيره، إلا تلك الليلة ألتي حدثتني فيها قصتها – هكذا عرفت فيما بعد – حتى حين كانت تجلس وقت الغداء تطعمه في يديها بهدوء وبطء، وفجأة، يتجشأ كل الطعام الذي أكله والشراب الذي شربه بقوة عليها، كان تجشؤه مخيفا، مقرفا، رغم شعور التعاطف ألذي يحمله له ألإنسان كمريض يسير نحو ألهاويه0 كان يقذف الطعام من جوفه على دفعات، وبقوة داخليه، فيتناثر عليها وخاصة وجهها الذي يكون مقابلا لوجهه تماما0



بهدوء غريب كانت تنهض، تبدأ بغسل وجهه وتنظيف الرذاذ الذي تساقط على صدره وقدميه، ثم تساعده بالصعود إلى السرير، ومن ثم تدخل الحمام لتنظيف نفسها وتبديل ملابسها0 كان هذا حدثا يوميا، وقد يتكرر مرتين في اليوم0 وحين يخيم الظلام تذهب لبيتها، فيأتي والده مكانها0 يغلق الغرفة عليه وولده، ويجلس قرب رأسه يتلو آيات من القرآن الكريم بصوت منخفض غير مسموع بوضوح، ويبقى على حالته هذه إلى أن تنفرج أصابع الليل عند انبلاج الصباح0



حتى المرضى النفسيين الذين كان يعالجهم هذا الطبيب وهم في نفس المشفى، كانوا يتسللون في الصباح الباكر فرادى وجماعات ليأتوا إليه، وكانت الغرفة تغص بهم وبهديرهم، ونواحهم، ومن أفواههم تتعالى الدعوات متضرعة لله أن يمُن على طبيبهم بالشفاء، كان صوت بكائهم يتناهى لمسامعنا حادا، ملوًعا، ممزقا0 دموعهم يملؤها ألصدق، وتضرعاتهم محشوة بالحسرة، معبأة بالأمل، لكن الموت لا يسمع، ويسير وهو يضع في أذنيه حشوات من رصاص مذاب، كالرصاص المذاب في صدور هؤلاء المرضى الذين يتحرقون ألما على طبيبهم الذي أحبوه0



وأخيرا أجريت العملية، تمددت على سرير السلخ وتحت الكشاف الوقح، وخرجت سليما معافى لا من مرضي الذي أعانيه0 بل من فكرة الموت، وقضيت ساعات هائلة وأنا تحت تأثير البنج، هاجمتني كوابيس متلاحقة لفترة طويله0 كنت أغمض عينًي من شدة ألألم فأرى أمي، وحين افتحهما وأمد رقبتي للأمام محدقا باحثا عنها، لا أجدها0 وأغمض عينًي من جديد، فارى أبي وهو يبتسم ابتسامته الحانية، وفي عينيه بريق رجاء، وحين افتحهما يطير طيفه مع ابتسامته الحانية وبريق الرجاء الذي بعينيه0 واغمضهما من جديد فأرى أمامي أختي، وأخي، ابنائهما، ولكن لا تلبث هذه الأطياف أن تطير حين افتحهما من جديد0



قضيت بضعة أيام في المشفى للتأكد من عدم وجود التهاب في الجروح التي شقوها في يدي ورجلي، ثم حصلت على ألإذن بالخروج0 بدأت تجهيز أوراقي مباشرة ولففت متاعي، ولكني لم ألف أي هدية، لاعلبة حلوى، ولا كيس تفاح، ولا باقة ورد مكتوب عليها: " مع تمنياتنا بالشفاء العاجل " فقط منامتي وبعض ألكتب، كانا كل ما أملك، فلا أهل لي في أرض ألغربة ولا أقارب يأتوني بتلك الباقة من الورد وعليها تلك ألجملة0 وقبل أن أغادر ودعت المرأة ألذهبية ألوجه وأنا مشفق عليها، أمتلىء حسرة على تنهداتها وتأوهاتها، ووعدتها بالاتصال بين فترة وأخرى0 وخرجت، وحيدا أحمل يدي على عنقي بعلاقة خاصة، وأجر جرحا طويلا بقدمي، وليس على الباب من يقف ليقول لي ولو مجاملة محضة " ألحمد لله على سلامتك "0



وبعد أسبوع اتصلت بالمشفى هاتفيا وطلبت تلك المرأة، فرد علي الصوت مستفسرا " زوجة الدكتور مجدي؟" فأجبت : "نعم"، وجاء الصوت من جديد " البقية في حياتك، لقد توفي الدكتور 0" وأغلق الخط0



وفي عينًي كانت آيه وهي ترتدي ثوب زفاف أبيض، وحيدة، ليس هناك من يمسك ذراعها0 وفي عينًي أمها،

moneeeb
29-06-2005, 11:05 PM
thank you for the story...but its very long:bigeyes: :09:

مدربة كمبيوتر
30-06-2005, 12:07 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القصة جدا رائعة ، ومؤثرة والكلمات ما شاء الله منمقة ومنسقة .