الحاظوي
01-07-2005, 01:12 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فقد تأملت في هذه العادة المعروفة بـ(الإجازة) بين الناس، وفهم الناس – وأنا منهم- لها من خلال المنهج العملي، فأحببت تقييد الآتي:
أولا: لفظ الإجازة في أصله اللغوي إجوازة؛ لأنه من الجواز، فتحركت الجيم، وانقلبت الواو ألفا، وحذفت أحد الألفين، فأصبحت إجازة.
ثانيا: الإجازة في العرف المشهور عند المتقدمين، هي طلب الإذن من الشيخ في رواية مروياته(أحاديثه) التي لم يتحملها منه سماعا أو قراءة. ولم أجد معنى الإجازة بالمعنى المتبادر إلى المعاصرين عند المتقدمين، بل كان المذكور على الألسن: النزهة، والكلام عنها قليل، وفي نوادر الأصول: "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمر بقطع المراجيح"، مَرجح ومِرجاح لغتان، فمرجح: جمعه مراجح، ومرجاح: جمعه مراجيح، كمفتح ومفاتح ومفتاح ومفاتيح، (وهو لهو ولعب إنما كان يفعله العجم في أيام النيروز تفرجا وتلهيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب)، وقد تأدت الى العرب سنتها والمؤمن قد تعتوره الأحزان والغموم لا محالة فمحال أن ينفك عنه غموم الذنوب وأحزان مشيئة الله تعالى فيه هذا حال المقتصدة، فأما أهل المعرفة وهم المقربون فغمومهم من البقاء في الدنيا فإن الدنيا مطبق المقربين ينتظرون متى الراحة منها وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن، وأما أحزانهم فمن ظماء الشوق إلى الله عز و جل فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم والأحزان وسائرهم مخلطون بطالون لعمرهم غافلون عن الآخرة سكارى حيارى سكارى عن وعده ووعيده حيارى في سيرهم إليه وركض الليل والنهار بهم إلى الله تعالى فهم الذين يفزعون من غموم الدنيا ورين الذنوب المعذبة لقلوبهم في ظلمات سجون المعاصي إلى المرجاح تلهيا وتلعبا يتفرجون ويتنشطون ويتلبسون ويلتمسون النزهة ونسيمها ولا يعلمون أن النزهة في نزاهة القلوب وتطهيرها من آفات النفس وخدعها ورين الذنوب حتى يجدوا نسيم الملكوت وروح قرب الله تعالى على قلوبهم في عاجل دنياهم..." ثم قال: "وأما القلوب التي تعتورها ظلمات المعاصي فهي قلوب معذبة ونفوس لقسة وجوارح كسلة يريدون أن يستروحوا إلى مثل هذه الأشياء من الملاهي ويتنفسوا في فسيح النزهات وقد أخذت غموم النفس بأنفاسهم وجرعتهم الغيظ في أنهم لا يصلون إلى مناهم على الصفاء، فالملوك تخوف الغدر والبيات معهم والأمراء خوف العزل معهم ...".
ثالثا: نلاحظ أن الناس في الإجازة يكثرون من اللهو واللعب والسفر إلى الداخل والخارج، والدخول في المنتزهات الصناعية والطبيعية، ويقضون الشهر أو الشهرين على تلك الحال، هذا هو غالب حال الناس، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله. وأما من مضى من السلف، فقد كانوا يقطعون الفيافي والقفار من أجل العلم والصلة والتقرب إلى الله بالصلاة في أحد المساجد الثلاثة، أو العمرة والحج. ولم يكن هواة الصيد والقنص في ذلك العصر سوى من الأمراء والحاشية القريبة منهم، ولا تجد مثل هذا عند غالب الناس في الماضي، ومن ثم نسأل أنفسنا عن الإجازة في فهمهم وحياتهم.
رابعا: الإجازة هي فترة انقطاع عن روتين العمل الممل في نظر غالب الناس، وهنا تبدأ سلسلة المفاهيم المغلوطة عند الناس لمعنى الإجازة والعمل، فالعمل يمكن تحويله إلى قربة إلى الله بإخلاص النية وتحقيق الكفاية المعيشية للعامل ولمن يعول. وغالب الناس لا يتنبه لهذا الأمر وهو النظر إلى العمل من جهة التقرب به إلى الله، ولعل اختلاط العمل الصالح بالطالح أحد أسباب تلك الغفلة عن هذا النظر.
خامسا: حياة المسلم الحق المذكور في القرآن بالثناء والقبول تسير وفق قول الحق سبحانه وتعالى: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين..." الآية، فحياة المسلم كلها لله، وكل عمل منه يتقرب به إلى الله، وينظر فيه إلى ما يرضي الله، ويتجنب في حياته كل ما يسخط الله؛ لأنه دائم النظر في القرآن، فيجد فيه قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا"، وقوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى* وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها..." الآية.
ولا أحد يشك في أن النبي لم يكن يعرف الإجازة بالمعنى المتوسع فيه عندنا، بل كان يدخل إلى الحائط(البستان) فيشرب من ماء البئر، وهو على ذكر وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولو كان في ذلك الحائط نساء بعباءاتهم المخصرة والكتفية وجولات الكاميرا لما دخل ذلك الحائط صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك لو كان ذلك الحائط فيه لغط واضطراب أصوات في لهو مشغل عن ذكر الله ومستبدل فيه الذكر بالسب واللعن، لما دخل ذلك الحائط، ومن تأمل حياته وحياة أصحابه ومن تبعهم بإحسان يجد انشغالهم بما يقربهم إلى الله والبعد عن كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
سادسا: سيقول البعض عني فهمك للحياة خاطئ، وقد يتهمني البعض بالانطوائية ناقلا عن بعض كتب علم النفس ما يؤيد به دليله في ذلك، فأقول: وهذا مسلك آخر وقع الناس في ظلماته، فهو يشبه الضحك على من يطيل لحيته إلى سرته، أو يقصر من ثوبه إلى نصف ساقه، وهي أمور أصبحت غريبة في نظر الناس، وغالب الناس لم تعد تآلف إلا حالق لحية أو مطلق إزار إلى الكعبين أو إلى ما تحت الكعبين. وكل ما خالف المألوف يستنكر، ومن هذا المنطلق اتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والشعر والكهانة من قبل قريش؛ لما جاءهم بما يخالف ما ألفوا عليه. وعلى هذا يجب أن نحكم العقول المجردة من الهوى حال النظر في قضية من القضايا، ومعنى تحكيم العقل هنا توجيهه إلى التأمل الدقيق في منهج الحياة الذي رسمه القرآن الكريم والسنة المطهرة، كما سيأتي.
سابعا: يجب على العاقل أن يكثر من النظر في أهم القضايا المتعلقة به في هذا الوجود، وهي قضية الموت، تلكم الحقيقة التي لا مفر منها، ولا نجاة من مخالبها، ننظر فيها ونتأمل كثيرا ارتباطها بالحي، واختلاف المدة التي يقضيها الحي في الحياة من كائن لآخر، واختلاف أحوال الناس فيها، سيجد أن ثمة غاية محكمة وهدف أعلى ومطلب يجب البحث عنه، ألأ وهو الحكمة من هذا الخلق، تلك الحكمة التي بينتها الشرائع وأوضحها القرآن في قوله: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، إذن الحكمة من خلقي وخلقك هي العبادة، ولا تتحقق إلا باتباع الرسول الموحى إليه من خالق الخلق والعالم بما يصلح لهم وما لا يصلح لهم. تأمل هذا كثيرا ونزله على حياتك وما قدمته فيها، أتُراك قد حققت هذه الحكمة كما ينبغي، والجواب لا، والسبب الفهم المغلوط لهذه الحياة والغفلة عن تلك الحكمة واتباع الهوى والشيطان فيما يمليانه عليك.
ثامنا: لا زال كثير من الناس يحاول اتهامي بالجنون والمرض النفسي بدعوى السعي نحو تحريم الإجازة، وهذا تسرع من ذلك المتهم، فالنزهة ليست محرمة بل هي فتنة،" لنفتنهم فيه"، واسأل نفسك عن عدد اللحظات التي قضيتها في غفلة عن ذكر الله في تلك النزهة، واسأل نفسك عن النظرات المحرمة التي أرسلتها إلى النساء الكاسيات العاريات( لابسات العبايا الضيقة المحجمة لأجسامهن، والمطرزة بكل ما يلفت النظر، فضلا عن العطور الباريسية وغيرها)، واسأل نفسك عن تلك الكلمات التي تكلمت بها من سخط الله( اللعن والسب والغيبة والكذب)، واسأل نفسك عن الصلوات التي أخرتها أو لم تصلها مع جماعة المسلمين في المساجد، واسأل نفسك عن مدى رعايتك الحقيقية لأسرتك في هذه الإجازة ومدى تحقيقك لقول الحق سبحانه: " قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة". واسأل نفسك واسأل نفسك ...الخ. ستجد هذا حال كثير من أهل الإجازة، فأخبرني هل مثل هذه الإجازة مما يحب الله!!!!!؟
تاسعا: لا زلت أجد بعض ضحايا الضغوط النفسية في الحياة يكيل لي التهم ويقول لي: اتق الله ولا تحرم ما أحل الله، وهي سيمفونية مبتذلة عند كثير من الناس، يطلقها عندما يجد مخالفا له في هواه، ولي معه وقفة: فهذه الضغوط النفسية من أين جاءت؟؟؟ وهل كان السابقون لنا، الذين لا يعرفون الإجازة كما نعرفها، يجدون مثل تلك الضغوط النفسية؟؟؟؟ والجواب: لا، وعن قناعة تامة، فالمسلم لا يعرف ما نسميه نحن بالضغوط النفسية، وإنما يعرف هم الدعوة إلى الله، وهم إخوانه المسلمين في المشارق والمغارب، ولذا لم يشعر بتلك الضغوط النفسية التي تجبره على الهروب إلى الإجازة للتخفيف من وطأتها. وأما نحن فهمنا تحقيق رغباتنا وملأ بطوننا بمختلف أنواع الأكل وتتبع كل جديد من الأكل واللباس، فكثرت همومنا وزادت مشاكلنا مع أهلنا وانفرط العقد، فاكتظت النفس بالهموم والغموم، فأقدمنا على الحد منها عن طريق ما نسميه الإجازة، أو اللعب، أو قضاء غالب الوقت في شبكة العناكب بحثا عن متع النفس، فاليد منا أوكت والفم نفخ، ولن نجني من الشوك العنب.
عاشرا: هل يجب أن تكون الحياة خالية من المشاكل والهموم؟ والجواب: لا، ولكن الاختلاف بين الناس في نوع تلك الهموم التي يحملونها، وقد سبق التلميح لها، ولنعلم جميعا أن من الحقائق المستقرة في فكر كل مسلم متبع لسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم: وجوب الصبر والتحلي به وترك الإقبال على الدنيا وزهرتها؛ لأن الحياة الحقيقية في نظر المسلم هي الدار الآخرة، فهو يطمح لبلوغ أعالي الجنان والفوز بسلعة الرحمن، ولذا تجده يقدم لها كل غال ونفيس، ويترك كل متعة ولهو ولعب في هذه الحياة ليستغل مكان ذلك كل ما يرضي خالقه عنه، ليتقبله في الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ومن كان هذا حاله لم يفهم الإجازة كما نفهمها نحن، بل يرى الإجازة الحقيقية في الجنة، دار كل متعة للنفس، كشرب الخمر حتى الثمالة، هناك في الجنة يحظى بما تشتهيه الأنفس وتلذ به، من مأكل وملبس وكافور وزنجبيل وطير وحور عين وغير ذلك. نعم عندما يفهم المسلم معنى الحياة والهدف منها ينشغل بما يرضي خالقه سبحانه، ويعلن بعد ذلك عدم خوفه من الموت بل يقول: " مرحبا بالموت عند ذلك وحيهلا به في أي وقت"، وأما العاصي وعبد هواه في الإجازة، فسيجد الموت كابوسا لا يطرب لسماعه بل يحذر من ذكره ويدعو إلى ذلك محتجا بحجة كل عاص أو كافر، وهو أن الإكثار من ذكر الموت يحول حياة الإنسان إلى بؤس وشقاء وعدم عمل، ومثل هذا يستحق الدعاء له بالصلاح والهدى وأن يريه الباري الحق حقا ويرزقه اتباعه والباطل باطلا ويرزقه اجتنابه، والسلام. :ciao:
فقد تأملت في هذه العادة المعروفة بـ(الإجازة) بين الناس، وفهم الناس – وأنا منهم- لها من خلال المنهج العملي، فأحببت تقييد الآتي:
أولا: لفظ الإجازة في أصله اللغوي إجوازة؛ لأنه من الجواز، فتحركت الجيم، وانقلبت الواو ألفا، وحذفت أحد الألفين، فأصبحت إجازة.
ثانيا: الإجازة في العرف المشهور عند المتقدمين، هي طلب الإذن من الشيخ في رواية مروياته(أحاديثه) التي لم يتحملها منه سماعا أو قراءة. ولم أجد معنى الإجازة بالمعنى المتبادر إلى المعاصرين عند المتقدمين، بل كان المذكور على الألسن: النزهة، والكلام عنها قليل، وفي نوادر الأصول: "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمر بقطع المراجيح"، مَرجح ومِرجاح لغتان، فمرجح: جمعه مراجح، ومرجاح: جمعه مراجيح، كمفتح ومفاتح ومفتاح ومفاتيح، (وهو لهو ولعب إنما كان يفعله العجم في أيام النيروز تفرجا وتلهيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب)، وقد تأدت الى العرب سنتها والمؤمن قد تعتوره الأحزان والغموم لا محالة فمحال أن ينفك عنه غموم الذنوب وأحزان مشيئة الله تعالى فيه هذا حال المقتصدة، فأما أهل المعرفة وهم المقربون فغمومهم من البقاء في الدنيا فإن الدنيا مطبق المقربين ينتظرون متى الراحة منها وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن، وأما أحزانهم فمن ظماء الشوق إلى الله عز و جل فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم والأحزان وسائرهم مخلطون بطالون لعمرهم غافلون عن الآخرة سكارى حيارى سكارى عن وعده ووعيده حيارى في سيرهم إليه وركض الليل والنهار بهم إلى الله تعالى فهم الذين يفزعون من غموم الدنيا ورين الذنوب المعذبة لقلوبهم في ظلمات سجون المعاصي إلى المرجاح تلهيا وتلعبا يتفرجون ويتنشطون ويتلبسون ويلتمسون النزهة ونسيمها ولا يعلمون أن النزهة في نزاهة القلوب وتطهيرها من آفات النفس وخدعها ورين الذنوب حتى يجدوا نسيم الملكوت وروح قرب الله تعالى على قلوبهم في عاجل دنياهم..." ثم قال: "وأما القلوب التي تعتورها ظلمات المعاصي فهي قلوب معذبة ونفوس لقسة وجوارح كسلة يريدون أن يستروحوا إلى مثل هذه الأشياء من الملاهي ويتنفسوا في فسيح النزهات وقد أخذت غموم النفس بأنفاسهم وجرعتهم الغيظ في أنهم لا يصلون إلى مناهم على الصفاء، فالملوك تخوف الغدر والبيات معهم والأمراء خوف العزل معهم ...".
ثالثا: نلاحظ أن الناس في الإجازة يكثرون من اللهو واللعب والسفر إلى الداخل والخارج، والدخول في المنتزهات الصناعية والطبيعية، ويقضون الشهر أو الشهرين على تلك الحال، هذا هو غالب حال الناس، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله. وأما من مضى من السلف، فقد كانوا يقطعون الفيافي والقفار من أجل العلم والصلة والتقرب إلى الله بالصلاة في أحد المساجد الثلاثة، أو العمرة والحج. ولم يكن هواة الصيد والقنص في ذلك العصر سوى من الأمراء والحاشية القريبة منهم، ولا تجد مثل هذا عند غالب الناس في الماضي، ومن ثم نسأل أنفسنا عن الإجازة في فهمهم وحياتهم.
رابعا: الإجازة هي فترة انقطاع عن روتين العمل الممل في نظر غالب الناس، وهنا تبدأ سلسلة المفاهيم المغلوطة عند الناس لمعنى الإجازة والعمل، فالعمل يمكن تحويله إلى قربة إلى الله بإخلاص النية وتحقيق الكفاية المعيشية للعامل ولمن يعول. وغالب الناس لا يتنبه لهذا الأمر وهو النظر إلى العمل من جهة التقرب به إلى الله، ولعل اختلاط العمل الصالح بالطالح أحد أسباب تلك الغفلة عن هذا النظر.
خامسا: حياة المسلم الحق المذكور في القرآن بالثناء والقبول تسير وفق قول الحق سبحانه وتعالى: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين..." الآية، فحياة المسلم كلها لله، وكل عمل منه يتقرب به إلى الله، وينظر فيه إلى ما يرضي الله، ويتجنب في حياته كل ما يسخط الله؛ لأنه دائم النظر في القرآن، فيجد فيه قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا"، وقوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى* وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها..." الآية.
ولا أحد يشك في أن النبي لم يكن يعرف الإجازة بالمعنى المتوسع فيه عندنا، بل كان يدخل إلى الحائط(البستان) فيشرب من ماء البئر، وهو على ذكر وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولو كان في ذلك الحائط نساء بعباءاتهم المخصرة والكتفية وجولات الكاميرا لما دخل ذلك الحائط صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك لو كان ذلك الحائط فيه لغط واضطراب أصوات في لهو مشغل عن ذكر الله ومستبدل فيه الذكر بالسب واللعن، لما دخل ذلك الحائط، ومن تأمل حياته وحياة أصحابه ومن تبعهم بإحسان يجد انشغالهم بما يقربهم إلى الله والبعد عن كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
سادسا: سيقول البعض عني فهمك للحياة خاطئ، وقد يتهمني البعض بالانطوائية ناقلا عن بعض كتب علم النفس ما يؤيد به دليله في ذلك، فأقول: وهذا مسلك آخر وقع الناس في ظلماته، فهو يشبه الضحك على من يطيل لحيته إلى سرته، أو يقصر من ثوبه إلى نصف ساقه، وهي أمور أصبحت غريبة في نظر الناس، وغالب الناس لم تعد تآلف إلا حالق لحية أو مطلق إزار إلى الكعبين أو إلى ما تحت الكعبين. وكل ما خالف المألوف يستنكر، ومن هذا المنطلق اتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والشعر والكهانة من قبل قريش؛ لما جاءهم بما يخالف ما ألفوا عليه. وعلى هذا يجب أن نحكم العقول المجردة من الهوى حال النظر في قضية من القضايا، ومعنى تحكيم العقل هنا توجيهه إلى التأمل الدقيق في منهج الحياة الذي رسمه القرآن الكريم والسنة المطهرة، كما سيأتي.
سابعا: يجب على العاقل أن يكثر من النظر في أهم القضايا المتعلقة به في هذا الوجود، وهي قضية الموت، تلكم الحقيقة التي لا مفر منها، ولا نجاة من مخالبها، ننظر فيها ونتأمل كثيرا ارتباطها بالحي، واختلاف المدة التي يقضيها الحي في الحياة من كائن لآخر، واختلاف أحوال الناس فيها، سيجد أن ثمة غاية محكمة وهدف أعلى ومطلب يجب البحث عنه، ألأ وهو الحكمة من هذا الخلق، تلك الحكمة التي بينتها الشرائع وأوضحها القرآن في قوله: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، إذن الحكمة من خلقي وخلقك هي العبادة، ولا تتحقق إلا باتباع الرسول الموحى إليه من خالق الخلق والعالم بما يصلح لهم وما لا يصلح لهم. تأمل هذا كثيرا ونزله على حياتك وما قدمته فيها، أتُراك قد حققت هذه الحكمة كما ينبغي، والجواب لا، والسبب الفهم المغلوط لهذه الحياة والغفلة عن تلك الحكمة واتباع الهوى والشيطان فيما يمليانه عليك.
ثامنا: لا زال كثير من الناس يحاول اتهامي بالجنون والمرض النفسي بدعوى السعي نحو تحريم الإجازة، وهذا تسرع من ذلك المتهم، فالنزهة ليست محرمة بل هي فتنة،" لنفتنهم فيه"، واسأل نفسك عن عدد اللحظات التي قضيتها في غفلة عن ذكر الله في تلك النزهة، واسأل نفسك عن النظرات المحرمة التي أرسلتها إلى النساء الكاسيات العاريات( لابسات العبايا الضيقة المحجمة لأجسامهن، والمطرزة بكل ما يلفت النظر، فضلا عن العطور الباريسية وغيرها)، واسأل نفسك عن تلك الكلمات التي تكلمت بها من سخط الله( اللعن والسب والغيبة والكذب)، واسأل نفسك عن الصلوات التي أخرتها أو لم تصلها مع جماعة المسلمين في المساجد، واسأل نفسك عن مدى رعايتك الحقيقية لأسرتك في هذه الإجازة ومدى تحقيقك لقول الحق سبحانه: " قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة". واسأل نفسك واسأل نفسك ...الخ. ستجد هذا حال كثير من أهل الإجازة، فأخبرني هل مثل هذه الإجازة مما يحب الله!!!!!؟
تاسعا: لا زلت أجد بعض ضحايا الضغوط النفسية في الحياة يكيل لي التهم ويقول لي: اتق الله ولا تحرم ما أحل الله، وهي سيمفونية مبتذلة عند كثير من الناس، يطلقها عندما يجد مخالفا له في هواه، ولي معه وقفة: فهذه الضغوط النفسية من أين جاءت؟؟؟ وهل كان السابقون لنا، الذين لا يعرفون الإجازة كما نعرفها، يجدون مثل تلك الضغوط النفسية؟؟؟؟ والجواب: لا، وعن قناعة تامة، فالمسلم لا يعرف ما نسميه نحن بالضغوط النفسية، وإنما يعرف هم الدعوة إلى الله، وهم إخوانه المسلمين في المشارق والمغارب، ولذا لم يشعر بتلك الضغوط النفسية التي تجبره على الهروب إلى الإجازة للتخفيف من وطأتها. وأما نحن فهمنا تحقيق رغباتنا وملأ بطوننا بمختلف أنواع الأكل وتتبع كل جديد من الأكل واللباس، فكثرت همومنا وزادت مشاكلنا مع أهلنا وانفرط العقد، فاكتظت النفس بالهموم والغموم، فأقدمنا على الحد منها عن طريق ما نسميه الإجازة، أو اللعب، أو قضاء غالب الوقت في شبكة العناكب بحثا عن متع النفس، فاليد منا أوكت والفم نفخ، ولن نجني من الشوك العنب.
عاشرا: هل يجب أن تكون الحياة خالية من المشاكل والهموم؟ والجواب: لا، ولكن الاختلاف بين الناس في نوع تلك الهموم التي يحملونها، وقد سبق التلميح لها، ولنعلم جميعا أن من الحقائق المستقرة في فكر كل مسلم متبع لسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم: وجوب الصبر والتحلي به وترك الإقبال على الدنيا وزهرتها؛ لأن الحياة الحقيقية في نظر المسلم هي الدار الآخرة، فهو يطمح لبلوغ أعالي الجنان والفوز بسلعة الرحمن، ولذا تجده يقدم لها كل غال ونفيس، ويترك كل متعة ولهو ولعب في هذه الحياة ليستغل مكان ذلك كل ما يرضي خالقه عنه، ليتقبله في الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ومن كان هذا حاله لم يفهم الإجازة كما نفهمها نحن، بل يرى الإجازة الحقيقية في الجنة، دار كل متعة للنفس، كشرب الخمر حتى الثمالة، هناك في الجنة يحظى بما تشتهيه الأنفس وتلذ به، من مأكل وملبس وكافور وزنجبيل وطير وحور عين وغير ذلك. نعم عندما يفهم المسلم معنى الحياة والهدف منها ينشغل بما يرضي خالقه سبحانه، ويعلن بعد ذلك عدم خوفه من الموت بل يقول: " مرحبا بالموت عند ذلك وحيهلا به في أي وقت"، وأما العاصي وعبد هواه في الإجازة، فسيجد الموت كابوسا لا يطرب لسماعه بل يحذر من ذكره ويدعو إلى ذلك محتجا بحجة كل عاص أو كافر، وهو أن الإكثار من ذكر الموت يحول حياة الإنسان إلى بؤس وشقاء وعدم عمل، ومثل هذا يستحق الدعاء له بالصلاح والهدى وأن يريه الباري الحق حقا ويرزقه اتباعه والباطل باطلا ويرزقه اجتنابه، والسلام. :ciao: