مشاهدة النسخة كاملة : نداء حار إلى المسلمين
rajaab
06-07-2005, 05:13 PM
أيها المسلمون
لا يرتاب أحد أنكم وصلتم إلى الحضيض في الهبوط الروحي، والتخلف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي. ولا يشك أحد أن العلاقات الإسلامية في مجتمعكم قد دُمرت تدميراً تاماً، وحلت محلها العلاقات الرأسمالية، أي علاقات أنظمة الكفر. ولا يمتري إنسان أن روابط الأخوّة الإسلامية بين الشعوب المسلمة قد تقطعت، وحلت محلها روابط القومية، أي روابط العصبية القبلية، وأن هذه الأخوّة الإسلامية سائرة في طريق تقطيع روابطها في القطر الواحد فضلاً عن الشعب الواحد، لتحل محلها روابط الأرض المسماة بالوطنية. ولم يبق بين أيديكم من أفكار الإسلام إلاّ أحكام العبادات، ومن المشاعر الإسلامية سوى المشاعر الكهنوتية. وهذا كله صار واضحاً لكم وضوح الشمس، تدركونه أنتم كما يدركه فيكم غيركم من أبناء الأمم الأخرى. ولكن الذي لا تدركونه أنتم ويدركه عدوكم هو ما أنتم مشرفون عليه من خطر انقراض هذه الأمّة الإسلامية العريقة، انقراضاً تمحي فيه سيماها المميزة، وتدمَّر نتيجة له فضائلها الخاصة، وتنعدم من جرائه نفسيتها الخيّرة، وتنحرف بسببه عقليتها النيرة، وتذوب منه شخصيتها الإسلامية، لا سيما وأن المسلمين الذين يرتفع ولاؤهم للإسلام على كل ولاء قد قلّت نسبتهم في الأمّة، وأن المؤمنين الذين يجعلون الله ورسوله والجهاد في سبيله في رأس سلّم القِيَم قد صاروا أندر من الكبريت الأحمر، وأن الشعور بمرارة هزيمة المسلمين أمام الكفار قد مات ولم يعد يحس به إلاّ القليل ممن لا يؤثّرون في سير الحياة.
لقد ظل الصراع بين الأمّة الإسلامية كأمّة وبين الكفار كشعوب وأمم ثلاثة عشر قرناً متوالية، وظل الكفاح بين الإسلام كدين وكطريقة معينة في الحياة وبين الكفر هذه طوال الثلاثة عشر قرناً الماضية، حتى إذا كان القرن الثالث عشر الهجري -التاسع عشر الميلادي- تحدى النظام الرأسمالي -وهو نظام كفر- نظام الإسلام في أفكاره ومشاعره. وما هي إلاّ جولة قصيرة حتى هُزم المسلمون أمامه هزيمة فكرية، أعقبتها الهزيمة السياسية المدمرة. ولكن الإسلام لم يُهزم ولن يُهزم لأنه وحده الحق. ولكن أنى له أن يبقى في حلبة الكفاح وقد هُزم أهله، ولم يدرِكوا موقعه في الكفاح؟
أما هذا التحدي للإسلام في أفكاره فقد كان الهجوم على الأفكار الإسلامية يوسعونها نقداً وتزييفاً، وكان في تحديه له أن يوجِد حلولاً للمشاكل المتجددة والمتعددة فيبيّن حكمها وكيفية معالجتها. فكان موقف المسلمين من هذين الأمرين في منتهى الضعف، فحاولوا المقاومة محاولات فاشلة عوجاء، ثم انهزموا لا يلوون على شيء.
لقد هاجم النظام الراسمالي تعدد الزوجات فقال هذه همجية، يتزوج الرجل النساء واحدة واثنتين وثلاثاً وأربعاً، فما هذا إلاّ إهانة لكرامة المرأة. وهاجم الطلاق، فقال إنه غدرٌ بالمرأة وتقويض للبيت، كيف يباح للرجل أن يطلق المرأة متى شاء وقد رُبط بينهما برباط أبدي؟ وهاجم الخلافة فقال إنها دكتاتورية، وكيف يسلَّم الحكم وجميع صلاحياته لرجل واحد عُرضة للخطأ وعُرضة للاستبداد؟ وزعموا أن له قداسة دينية ترفعه عن النقد والمحاسبة. وهاجم الجهاد فقال إنه عدوان على الشعوب، وسفك لدماء الناس، وهو وحشية ما بعدها وحشية. وهاجم القضاء والقدر، فقال إن هذا استسلام لحوادث الزمان، وتثبيط عن النهوض بأعباء الحياة.
وهكذا أخذ يبحث عن الأحكام الشرعية، وعن الأفكار الإسلامية، ويتتبعها، ثم يوسعها نقداً وتجريحاً، ويبين أنها أفكار فاسدة تناقض الحق، وتعالج المشاكل معالجة سيئة. وأخذ إلى جانب ذلك يعرض حلولاً لمشاكل، ويتساءل ما هو رأي الإسلام فيها؟ وهل هو قادر على أن يوجِد حلولها لها؟ فيسأل عن السكورتاه أي التأمين ما حكمها؟ ويسأل عن العلاقات التجارية بين الدول ما هو الحكم الشرعي فيها: هل يقول بحرية المبادلة أم يقول بالحماية التجارية؟ ويسأل عن النظام النيابي والانتخابات الحرة: ما هو موقف الإسلام منها؟ ويسأل عن النزعات في التشريع: هل يقول الإسلام بالنزعة المادية أم بالنزعة النفسية؟ وهل يعتبر روح النص أم يعتبر النص وحده؟ ويسأل عن الحريات العامة كالحرية الشخصية وحرية الرأي والحرية الدينية، هل جاء الإسلام بشيء منها؟ ويسأل عن الناحية الروحية هل هي التفكير والفكر، أم هي الأخلاق والفاضل، أم هي ما يقوله القدماء: الروح المقابلة للجسم وأن الإنسان مركب من جسم روح؟
وهكذا يتتبع المشاكل التي حدثت وتحدث للإنسان، والمشاكل التي تحصل في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي ولا توجد في مجتمع كالمجتمع الإسلامي، فيسأل عن حلول لها سؤال استنكار بأن الإسلام قاصر عنها فهو لم يتضمن حلولاً لها، وليس فيه قابلية أن توجَد فيه هذه الحلول.
ثم لم يكتف بذلك، بل هاجم المشاعر الإسلامية، فهاجم التمسك بأحكام الإسلام، وقال هذه عصبية مذهبية وتعصّب ممقوت يجب أن يُترفع عنه. وهاجم بُغض المسلمين للكفر والكفار وحبهم للإسلام والمسلمين، وقال هذه عصبية دينية، فالإنسان أخ الإنسان أحبّ أم كره، فلا فرق بين مسلم ويهودي وقال: لكل دينه ولكل رأيه وكلها آراء، فعلام هذا التفريق بين الأديان وبين البشر في الحب والبُغض. وأحيا بجانب ذلك المشاعر القومية فأثار في التُرك مشاعر السيادة وحرّضهم على العرب، وأثار في العرب مشاعر السيادة وحرّضهم على التُرك، وهاجم الحميّة الإسلامية التي تغضب لحرمات الله، وقال عنها إنها تعصب ديني، وصار يبعث الرضى بترك الإسلام وترك التقيد بأحكامه. ودعا ذلك بالتسامح، وهاجم السخط من نقد القرآن ومن ذم النبي عليه السلام، ومن قدح الصحابة عليهم رضوان الله وقال إن ذلك بحث علمي، فالقرآن يحكي قصة إبراهيم ولا يوجد في التاريخ شخص اسمه إبراهيم هذه قصته، ومحمد يقول إن القرآن من عند الله مع أن هذا القرآن جاء به محمد من عنده بعبقريته وادّعى أنه من عند الله ليقبله الناس. ويقولون أكثر من ذلك ثم يطلبون من المسلم أن لا يغضب من هذا الافتراء وأن يرضى بهذا التجديف باسم البحث العلمي!
وهكذا أخذوا يتتبعون المشاعر التي تعيّنها أفكار الإسلام من سرور وغضب، ومن سخط ورضى، ومن حب وبُغض، فيغيّرون دوافعها حتى تفقد كونها مشاعر إسلامية.
فكان هذا الهجوم على الإسلام بالهجوم على أفكاره وأحكامه، والهجوم على مشاعره، تحدياً صارخاً له. وكان الأمر الطبيعي بل الأمر الحتمي أن يقبل المسلمون هذا التحدي ويخوضوا معهم المعارك الفكرية، بل كان الواجب عليهم أن يبدأوا هم بتحدي الكفر والكفار، لأنهم حملة دعوة وأصحاب رسالة. ولكن الواقع أن المسلمين تخاذلوا أمام هذا التحدي بشكل يبعث السخرية، ويسربَل بالخزي والعار. فانتحلوا العذر للإسلام في قوله بتعدد الزوجات، وصاروا يدافعون عنه بأنه لا يقول بتعدد الزوجات إلاّ في حال العدل. وتهرّبوا من إباحة الطلاق في الإسلام، وقالوا إنه لا يقول بذلك إلاّ ضمن شروط. وقبلوا تهمة الخلافة الإسلامية وسكتوا عنها، وحاولوا في أواخر العثمانيين تحويل نظامها، وبعد إلغائها صاروا يتهربون من ذِكرها، أو لا يجدون الجرأة على الجهر بها. وتراجعوا أمامهم في الجهاد فاعتبروه تهمة يُتهم بها الإسلام، وردوا عليها بأنه –أي الجهاد- حرب دفاعية لا حرباً هجومية، وتنصّلوا من أن يكون الجهاد بدءْ الكفار بالقتال لأنهم كفار. ودافعوا عن القضاء والقدر بأن الإسلام أمرنا أن لا نبحثه وأوّلوه بما يُثبت فيه الخمود والاستسلام.
وهكذا سلّموا للكفار بما قالوه وقَبِلوا أن يكون الإسلام متهماً، وصاروا يدافعون عنه بما يُعتبر هزيمة منكرة أمام تحدي الكفار الصارخ. ولذلك لم يلبثوا إلاّ فترة حتى كانت جميع الأحكام التي هوجمت قد تُركت، وأَخذت أحكام الرأسماليين وأفكارهم تحل محلها.
أمّا المسائل الجديدة والمشاكل التي لا تقع إلاّ في المجتمع الرأسمالي، فقد أوّلوا الإسلام وحرّفوه بالنسبة لها، فقالوا إنه يقول بالمصالح المرسَلة فأينما تكون المصلحة فثَمّ شرع الله، وقالوا الحكمة ضالة المؤمن التقطها أنّى وجدها. وبناء على ذلك حاولوا التوفيق بين المعالجة التي أتى بها النظام الرأسمالي وبين الإسلام، فأخذوها على اعتبار أنها إسلام، وما هي من الإسلام في شيء. فقالوا إن السكورتاه أي التأمين لا يمنعه الإسلام، فبعضهم قال لأنها عقد من العقود، وآخرون قالوا إنه لم يَرِد نهي عنها فهي مباحة والأصل في الأشياء الإباحة، ومنهم من قال إنها ضمانة جائزة قد أجازها الإسلام. وقالوا عن التجارة الخارجية إنها حسب المصلحة، فتسيّرها الدولة حسب المصلحة عملاً بالمصالح المرسَلة. وأجازوا أخذ النظام النيابي على أنه شورى، والشورى قد أجازها الإسلام. واتّبعوا ما يقوله النظام المدني الفرنسي في النزعة النفسية في التشريع فقالوا العبرة بروح النص والمسألة معلقة بالنيّة، وادّعوا على الإسلام بأنه يقول العبرة بالعقود في المقاصد والمعاني لا في الألفاظ والمباني، واستدلوا على ذلك بقول الرسول عليه السلام: (إنّما الأعمال بالنيّات). وزعموا أن الإسلام جاء بالحريات العامة وأمر بها، وأن الإسلام دين الحرية. وساروا على ما سار عليه النصارى بأن الناحية الروحية هي الروح المقابلة للجسم، وأن الإنسان مركب من مادة وروح فلا يغلب الروح على الجسم ولا الجسم على الروح.
وهكذا أُسقط في أيديهم أمام تحدي الكفار فلم يدرسوا المشاكل ليستنبِطوا لها حلولاً أو ليبحثوا عن أحكامها في الكتاب والسنّة، وإنّما أخذوا حلول الغرب لهذه المشاكل كما هي واعتبروا أن هذه حلول إسلامية على أساس أن الإسلام لا يمنعها، أو على أساس ما جاء به بعض الأئمة من المصالح المرسلة لا ما جاء به القرآن والحديث. ولهذا دخلت هذه الأحكام الرأسمالية على اعتبار أنها من الإسلام، ثم ما لبثت أن صارت قوانين في المجتمع ومعاملات للمسلمين دون نظر إلى أنها إسلامية أو غير إسلامية. فثبتت الأحكام الرأسمالية وتنوسي الإسلام. ولهذا سهل قبول تغيير المشاعر ما دام قد سهل تغيير الأفكار، ففشا النفور من التمسك بأحكام الإسلام تمسكاً شديداً باعتباره تعصباً دينياً ممقوتاً، وصار ينفر من التفريق بين المسلمين والكفار وبين الإسلام وسائر أديان الكفر، وأصبحت كلمة القومية تهز المشاعر، ودُفنت الحمية الإسلامية. وصار يُعتبر السخط من مهاجمة القرآن تأخراً وانحطاطاً لأن هذا الهجوم عندهم نقد علمي نزيه.
وبذلك انمحت المشاعر الإسلامية، ولم يبق منها إلاّ المشاعر الكهنوتية، مشاعر العبادة. فكان هذا كله هو الهزيمة المنكَرة التي هُزِمَها المسلمون أمام تحدي النظام الرأسمالي للإسلام.
وكاد يكون هذا هزيمة للإسلام لو كانت الأفكار الإسلامية التي هوجمت ليست حقاً وصدقاً بأن كانت باطلاً كما وصفها المهاجمون، وكانت الأفكار الرأسمالية المهاجِمة ليست باطلاً وكذباً بأن كانت حقيقة مطابِقة للواقع، ولو كانت المشاعر الإسلامية التي هوجمت مشاعر غير جديرة بالإنسان بأن كانت مشاعر تتنافى مع القِيَم الرفيعة ومع فطرة الإنسان. ولو كان الأمر كذلك لَما اقتصرت الهزيمة على المسلمين في أفكارهم التي يحملونها، وعلاقاتهم التي يتعاملون بحسبها، ووضعهم السياسي فحسب، بل لأدت هذه الهزيمة إلى محو الإسلام من الوجود الفكري والوجود النفسي كما مُحي من الوجود السياسي.
ولكن الواقع كان غير ذلك، ولهذا كانت الهزيمة في تحدي النظام الرأسمالي للإسلام هزيمة للمسلمين وليست هزيمة للإسلام، ولذلك فإن عوامل إعادة الكرّة على النظام الرأسمالي وعلى الكفر كله لا تزال موجودة كما هي يوم هَزمت الكفر والكفار ألا وهي فكر الإسلام ومشاعره، وهذا ما يبعث الأمل ويذكِّر بأيام النصر، ويحفّز على النهضة، ويحرّك الفطرة الإنسانية، ويجعل العودة إلى حمل الدعوة الإسلامية للعالم إرادة جبارة لا مجرد رغبة وشوق.
أمّا كون أفكار الإسلام هي وحدها الأفكار الحقّة الصادقة والأفكار الرأسمالية المهاجِمة هي الأفكار الباطلة الكاذبة، فذلك ثابت من واقع الأفكار نفسها. فالافكار الرأسمالية التي تَعتبر تعدد الزوجات خطأ وتعتبر الصواب تقييد الرجل بزوجة واحدة هي معالجات لواقع الإنسان لا لفروض منطقية. فأي مجتمع في الدنيا لا تتعدد النساء فيه للرجل الواحد؟ إنه لا يوجد في العالم مجتمع إلاّ وفيه بعض الرجال لهم أكثر من امرأة، إلاّ أن بعضهم يسمّيهن مَحظِيّات، وبعضهم يسميهن خليلات، وبعضهم يسميهن زوجات؟ فهل الأحكام التي تجعل هذا التعدد للنساء مباحاً له أن يفعله وله أن يتركه، فيجعل الثانية والثالثة والرابعة زوجة شرعية لا محظية ولا خليلة، هل هذه الأحكام توافق الفطرة وتعالِج المشكلة أم الأحكام التي تمنع هذا التعدد وتسكت عنه إذا لم يتم بحسبها، أي إذا كان غير مشروع؟ أو هل جعْل العِشرة بين الزوجين عِشرة صُحبة اختيارية: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أن يمسكها إن كانت العِِشرة مسعِدة للزوجين ويطلّقها إن كانت سبباً لشقائهما، يتفق مع سعادة الزوجين وطمأنينتهما، أم جعلها عِشرة مفروضة فرضاً لا تُفسخ عُراها ولو جَلبت أشد أنواع الشقاء؟
أمّا الحكم فإن واقعه في الدنيا أنه من حيث السلطان هو للأمّة تعطيه لمن تشاء، ومن حيث المباشرة للسلطان فإنه لا يمكن أن تكون إلاّ لواحد ولن تكون لاثنين فأكثر على الحقيقة مطلقاً. إلاّ أن الواحد إنّما يقيَّد بمنهج معين يعتقد صحته لا يحل له أن يتعداه. والمهيمن على هذا الحاكم الواحد إلى جانب دوافع اعتقاده بالنظام الذي يقيَّد به أي إلى جانب تقواه أو ما يسمونه بضميره، محاسبة الأمّة التي يحكمها بالقول إن أساء التطبيق، وبالسيف إن خان النظام، على أن لا تعصيه فيما يأمر به من فرض أو مندوب أو مباح، ولا تطيعه في معصية من المعاصي المحرَّمة. فهذا هو واقع الخلافة، فأيهما المنطبق على الواقع الصادق في التطبيق: نظام الإسلام أم النظام الديمقراطي الذي يقول إن الأمّة هي التي تباشر الحكم، وهذا من المستحيلات؟ ولذلك كان كاذباً ولم يكن فيه المباشر إلاّ رئيس الحكومة يعاونه الوزراء.
http://www.4uarab.com/vb/images/statusicon/user_offline.gif
rajaab
06-07-2005, 05:17 PM
وأمّا الجهاد فإنه من الكذب على الإسلام أن يقال إنه حرب دفاعية، وهو فوق كونه يخالف واقع ما كان عليه الجهاد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر الدولة الإسلامية من أن المسلمين كانوا هم يبدأون الكفار بالقتال ويتخذونه طريقة لنشر الإسلام، فإنه كذب على القرآن في صريح آياته، قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتِلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غِلظة)، وقال: (يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال). فالجهاد هو قتال الكفار قتالاً مادياً من أجل إقامة حكم الإسلام، وسببه كون الذين نقاتلهم كفاراً رفضوا الإسلام بعد عرضه عليهم عرضاً يلفت النظر. أي أن توجَد الحالة التي يُعرض فيها الإسلام عرضاً يلفت النظر ثم يحصل الجهاد. وهذا هو ما يمليه أي مبدأ تعتقده أية أمّة، فإنها تهيئ القوة المادية وتكون لديها الروح العسكرية القوية إلى جانب القوة المادية، وبناء على هذه القوة تبدأ المعارك السياسية والمناورات الدبلوماسية، فتوجَد الحالة التي تُبلَّغ بواسطتها الدعوة وترتفع شخصية الدولة السياسية، فإذا حصل الاحتكاك المادي كان القتال الذي لا مفر منه. وما الحرب الباردة في العالم اليوم إلاّ الحالة التي يحاول كل من المعسكرين إيجادها لنشر مبدئه، وما القوات العسكرية الجاهزة إلاّ استعداداً للقتال الذي لا بد أن يأتي. وكذلك كانت الحال قبل الحرب العالمية الثانية بين النازية وما يسمى بالعالم الحر، وقبله كان بين الإسلام والرأسمالية، وهكذا. فواقع الحياة أنها أفكار تتباين فتتجسد في دول وتُستعمل القوة المادية لنشرها والدفاع عنها بأساليب سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية. وهذا هو واقع الجهاد، قتال بالقوة المادية من أجل الفكر بعد استنفاد الأساليب السياسية والثقافية. إلاّ أن العسكرية الإسلامية أو روح الجهاد ليست كالعسكرية الالمانية قوة عسكرية لجعل الشعب فوق جميع الشعوب، بل هي القوة العسكرية التي تزيل الحواجز المادية من أمام الدعوة الإسلامية لجعل الشعوب تعتنق الإسلام وتكون مع سائر المسلمين أمّة واحدة لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى.
أمّا القضاء والقدر، فإنه بمفهوم هاتين الكلمتين معاً إنّما هو الأعمال التي تقع في الدائرة التي تسيطر على الإنسان أي تقع جبراً عنه والخواص التي في الأشياء. وبمفهوم كلمة القدر وحدها هو علم الله. وهذا لا دخل له في أفعال الإنسان الاختيارية التي يحاسَب عليها من الله كما يحاسَب عليها في الدنيا من الدولة أو الأبوين أو المربّي، فأي استسلام في هذا؟ وأين كان الاستسلام حين فتح المسلمون بهذا المفهوم الدنيا ودوّخوا الأمم؟ ثم إن النظرة للفعل قبل وقوعه نظرة تفحص ودراسة وتقدير لمغبة الإقدام عليه ولنتائجه مما يترتب عليه اللوم والمحاسبة، والنظرة إلى الفعل بعد وقوعه باختياره أو جبراً عنه بأنه قد وقع وانتهى فلا بد من التسليم بأنه وقع، لا بما وقع، حتى يعالج ما وقع. أي أن الأمر الذي وقع قدراً حسب علم الله يجب أن يسلَّم بأنه وقع وانتهى فلا يوقَف عند حد التأثر والانزعاج، ولكن لا يسلّم بوقوعه وبتركه من غير علاج، بل لا بد من عدم التسليم بالوضع الذي صار بعد الوقوع، وذلك لأجل معالجته بعد وقوعه.
هاتان النظرتان لا بد منهما معاً حتى تظل الحياة سائرة بحيوية وبقوة وبصورة عملية واقعية حسب القِيَم الرفيعة. فكون الأعمال الاختيارية يحاسَب عليها، وكون الأعمال غير الاختيارية لا يلام عليها لأنه ليس في مقدوره دفعها، وكون كل فعل وقع فإنه لم يقع إلاّ وكان وقوعه وفق علم الله، كل ذلك يضمن وجود هاتين النظرتين، أو بعبارة أخرى يجعل الإنسان يسير في أفعاله ليس على الخيال والفروض النظرية، وليس حسب ما تمليه الشهوات، وليس مربوطاً بسلاسل الأسى والحزن على ما فات، وإنّما ينطلق بقوة بشكل واقعي عملي حسب القِيَم الرفيعة التي تتطلبها حياة الإنسان. ولهذا فإن القول بالقدر وحده، وبالقضاء والقدر معاً، يثير الإنسان وينشطه ويحُول بينه وبين اليأس والأسى، كما يحُول بينه وبين الكسل والخمول. والمسألة كلها ليست في شأن العمل الاختياري قبل القيام به، وإنّما هي في العمل بعد القيام به، وفي العمل الذي يقع جبراً عن الإنسان، لأنهما قد وقعا وانتهى الأمر فيجب أن لا يأخذ الأسى من النفس مأخذاً عظيماً يمضها به الألم ويحوّلها عن مقصدها الأسمى في الحياة ومن خوض معارك الحياة. فأين هذا مما عند الرأسماليين من الألم الممض والأسى المفجع الذي يصيب المخفِقين والذي يجعل كلمة الحظ تلعب دوراً كبيراً في الحياة؟
ومن هنا كان الإيمان بالقدر والإيمان بالقضاء والقدر نعمة من النعم الكبرى للنفس وحافزاً من أعظم الحوافز على خوض معترك الحياة بشجاعة ونبل، لأنه يعني أن الإنسان في الدائرة التي يسيطر عليها مسؤول عن جميع أعماله الاختيارية فيجب أن يضطلع بها ويتحمل مسؤوليتها، فإذا وقع الخطأ أو الضلال فإنه يتحمل ما يترتب عليه، ولكن عليه أن يدرك أن ما وقع إن كان خطأ أو صواباً إنّما وقع على علم من الله وإحاطة به، فهو قد كان لا بد أن يقع، فلا يجوز له أن يقف عنده مشغولاً به، بل ينتقل إلى غيره، أي يظل يسير سيراً متواصلاً يدأب في هذه الحياة.
وأمّا الدائرة التي تسيطر عليه وتقع فيها الأعمال جبراً عنه فإنه غير مسؤول عنها فلا يتحمل ما يترتب عليها، وفوق ذلك فإنها وقعت على علم من الله وإحاطة منه بها، فهو قد كان ولا بد أن يقع، فلا يجوز له أن يقف عنده منشغلاً به، بل ينتقل إلى غيره. وهذا كله من أروع ما يتحلى به إنسان في هذه الحياة.
هذه هي حقيقة بعض الأفكار الإسلامية التي هاجمها الكفار الرأسماليون، وهذه هي حقيقة الأفكار الرأسمالية التي هوجمت بها الأفكار الإسلامية، ومنها يتبين أن الأفكار التي هوجمت هي الحق، والأفكار التي هاجمت هي الباطل. وضعْف حَمَلة الفكر الحق في إدراكه لا يعني أنه ليس بحق لأن صاحبه لم يستطع شرحه، أو قَبِل أن يكون متهَماً. كما أن قوة بيان حَمَلة الفكر الباطل لا يعني أنه ليس بباطل لأن صاحبه استطاع أن يصوره بصورة الحق، بل الفكر الحق هو ما طابق الواقع الذي يدل عليه، أو الفطرة التي فُطر عليها الإنسان. أي الحق ما طابق الحقيقة، والباطل ما لم يكن كذلك. فالعبرة بحقيقة الفكر وواقعه لا بحامله ولا بالقدرة على بيانه أو عدم القدرة على ذلك.
فمثلاً الشيوعيون يقولون إن العقل هو انعكاس المادة على الدماغ، وهذا يعني أن إدراك الأمور هو انطباع الواقع على الدماغ فيحصل من ذلك الإدراك. فهذا الفكر إن كان حقاً فإنه ينطبق على الواقع، وإن كان باطلاً يتبين عدم انطباقه، فإذا هوجم من أي إنسان ونُقِد، فإنه لا يُنظر في كونه حقاً أو باطلاً إلى فصاحة المهاجِم وبلاغته في البيان، ولا إلى عيّه وضعفه في البيان، بل يُنظر إلى حقيقة الفكر الذي يهاجِم به. وقد هاجمه حزب التحرير فقال إن هذا التعريف للفكر خطأ من وجهين: الأول أنه لا يحصل انعكاس بين المادة والدماغ مطلقاً لأن الانعكاس في الضوء مثلاً هو أن يرتد الضوء عن المادة فينعكس عليها كانعكاس نور المصباح على الحائط، وهكذا. والمادة لا يحصل منها شيء من ذلك، فلا يوجد انعكاس لا من المادة على الدماغ ولا من الدماغ على المادة، وإنّما الذي يوجَد هو إحساس بالمادة بإحدى الحواس. فالمسألة مسألة حس لا مسألة انعكاس، وهذا ظاهر في اللمس والشم والذوق والسمع، أمّا الإبصار بالعين الذي هو موضع الشبهة فإن الذي يحصل فيه هو انكسار وليس انعكاساً، فإن الضوء ينكسر في العين وتستقر صورة المادة على الشبكة ولا ترتد إلى الخارج، وهو عملية حس لا عملية انعكاس. فهذا يدل على أن ما يقوله الشيوعيون في تعريف العقل خطأ. ولذلك يُهزم فكر الشيوعيين هذا أمام هذا الهجوم الحق.
أمّا الوجه الثاني فإن مجرد الإحساس بالمادة لا يُحدث إدراكاً وإنّما يُحدث حساً فقط مهما تعدد نوع الإحساس، ولأجل أن يحصل الفكر
لا بد من معلومات سابقة تفسر هذا الواقع، أي هذه المادة، ودون وجود معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل إدراك وإنّما يحدث حس ليس غير. أمّا كون الشخص يحصل له من الحس أن يعيّن موقفه تجاه الواقع الذي أحسّه فإن هذا لا يدل على أنه أدركه، لأنه لا يستطيع أن يعيّن موقفه تجاهه إلاّ فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، أو فيما يتعلق بتغير شكل الواقع. أمّا ما عداها من حيث معرفة حقيقته فلا يمكن أن يعيّن موقفه مطلقاً. فالإنسان يستطيع من تجربته للشيء في تعدد إحساسه به أو تنوع الإحساس أن يعرف أنه يؤكل أو لا يؤكل، يؤلم أو يَسُر، ويعرف تغير شكله. وهذا كله يحصل للحيوان كما يحصل للإنسان، وكله لا يسمى إدراكاً –أي فكراً- بل هو حس ليس غير، ولذلك إذا لم يكن هذا الشيء متعلقاً بالغرائز، كحجر مثلاً، فإنه مهما تعدد الإحساس لا يدرك كنهه، وإنّما يدرك تغير أشكاله، فإذا أُعطي معلومات مع الإحساس فإنه يحصل حينئذ الإدراك أي الفكر. وأبسط دليل على ذلك المخترَعات، فإنها تحصل من تجارب مضافاً إليها معلومات سابقة. فإذا لم تكن هناك معلومات لا يمكن أن يحصل الاختراع. ولا يعني وجود المعلومات، المعلومات عن الواقع، بل معلومات أي معلومات يستطيع بواسطتها أن يفسر الواقع. وعليه فإن تعريف الشيوعيين من هذه الجهة أيضاً خطأ. وبذلك يُهزم هذا الفكر، ويتبين أنه باطل لمخالفته للواقع.
ولهذا جاء حزب التحرير بعد أن بين بطلان الفكر الشيوعي عرّف العقل بأنه نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات سابقة تفسِّر هذا الواقع. أي لا بد من دماغ وحس وواقع ومعلومات سابقة حتى يحصل الإدراك أي الفكر، أي حتى يوجَد عقل. وبهذا يكون الفكر قد هوجم وهُزم لأن حقيقته ظهرت أنها غير مطابقة للواقع، وتبين أن الفكر الذي هوجم به حق لأنه مطابق للواقع، فيكون فكر حزب التحرير في هذه المسألة قد هزم الفكر الشيوعي.
ومثلاً النظام الرأسمالي يعرّف المجتمع بأنه مكوّن من أفراد، أي أن فرداً وفرداً وفرداً.. الخ، يكوّنون مجتمعاً، فالمجتمع عندهم هو مجموعة أفراد مع بعضهم. فهذا الفكر إن كان حقاً فإنه ينطبق على الواقع، وإن كان باطلاً يتبين عدم انطباقه على الواقع، فإذا نُقد وهوجم فإنّما يُنقَد على هذا الأساس. وقد هاجمه حزب التحرير فقال إن هذا التعريف خطأ لأن فرداً وفرداً وفرداً يكوّنون جماعة فقط ولا يكوّنون مجتمعاً. فإذا نشأت بينهم علاقات دائمية صاروا مجتمعاً، وإذا لم توجد بينهم علاقات دائمية لا يشكلون مجتمعاً، بدليل أن ركاب أكبر باخرة ولو كان عددهم بالآلاف لا يشكلون مجتمعاً، إذ ما هم إلاّ رفاق طريق يذهب كل منهم إلى الميناء التي يقصدها. ولكن سكان قرية من مئتي نسمة مثلاً يشكلون مجتمعاً لأن بينهم علاقات دائمية. وعليه فتعريف الرأسماليين خطأ محض، لأن مجموعة الأفراد إذا لم تنشأ بينهم علاقات دائمية لا يمكن أن يكونوا مجتمعاً ولا بوجه من الوجوه. وبهذا يُهزم الفكر الرأسمالي في تعريف المجتمع ويتبين أنه باطل لمخالفته للواقع.
ولأجل أن يدرَك تعريف المجتمع إدراكاً حقيقياً لا بد من التعمق في دراسته، فالعلاقات إنّما تنشأ بين الأفراد بناء على مصالحهم. فالمصالح التي للأفراد هي التي أنشأت العلاقات. وهذه المصالح لا بد أن تتحد أفكار الأفراد عليها بأنها مصلحة أو ليست مصلحة حتى تنشأ العلاقة، ولا بد أن يتحد رضاهم وغضبهم وسرورهم وحزنهم بالنسبة لها، أي لا بد أن تتحد مشاعرهم حتى توجد العلاقة، ولا بد أن يتحد النظام الذي يعالِجون به هذه المصلحة حتى توجد العلاقة، فإذا اختلفت الأفكار على المصلحة: أحدهم يعتبرها مصلحة والآخر لا يعتبرها مصلحة، أو اختلفت المشاعر: هذا يفرح بها وذاك يسخط لها، أو اختلفت الأنظمة: هذا يريد أن يعالجها بنظام معين وذاك يريد أن يعالجها بنظام آخر، إذا اختلف أي واحد من الأفكار والمشاعر والأنظمة بين الأفراد على المصلحة فإنه لا توجد بينهم علاقة أي لا يوجد مجتمع. ولذلك جاء حزب التحرير بعد أن بيّن بطلان الفكر الرأسمالي في تعريف المجتمع عرّف المجتمع بأنه مجموع من الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة، أي اتحاد الأفكار والمشاعر والأنظمة في أفراد الناس عن المصلحة يكوّن علاقات فيكون المجتمع.
وبهذا يكون الفكر الرأسمالي قد هوجم وهُزم لأن حقيقته ظهرت أنها غير مطابِقة للواقع، وتبين أن الفكر الذي هوجم به حق لأنه مطابِق للواقع، فيكون فكر حزب التحرير في هذه المسألة قد هَزم الفكر الرأسمالي.
وهكذا، فلو كان الفكر الذي هاجم الإسلام به الرأسماليون وتحدّوه صحيحاً لكان الذي هُزم هو الإسلام وليس المسلمين، ولكن لمّا كان الفكر الذي هاجموا به الإسلام غير مطابق للواقع في حقيقته، وكان الفكر الإسلامي الذي هوجم هو المطابق للواقع في حقيقته، لذلك كان الفكر الإسلامي الحق قد تحداه فكر باطل، ولكن حَمَلَته لم يكونوا واعين عليه، مع ضعف في الإيمان به، ولذلك هُزموا تلك الهزيمة المنكَرة.
هذا بالنسبة لأفكار الإسلام وأحكامه التي هوجمت بأفكار وأحكام رأسمالية، أمّا بالنسبة لمهاجمة الشريعة الإسلامية بالمسائل الجديدة وبالمسائل التي لا توجد إلاّ في المجتمع الرأسمالي للوصول إلى أنها –أي الشريعة الإسلامية- غير قادرة على معالجة المشاكل المتجددة، فإن الصعيد الذي وضعه الغربيون ليجري البحث على أساسه هو إعطاء رأي النظام الرأسمالي في المشكلة، ومهاجمة الإسلام بأنه لا يوجد فيه مثل هذا الرأي، وبأنه لا يقول بمثل هذا القول، ووصلوا من ذلك إلى أن الإسلام تشريع جامد لا يستطيع أن يساير الزمن، ولا أن يعطي الحلول التي تتطلبها مشاكل كل عصر، فهو حين يقصر عن إيجاد إباحة للربا وقد صار العصر يتطلبه، وحين لا يقدر أن يبين حكم التأمين مع أن التجارة والصناعة التي وُجدت في هذا العصر تقتضيه، وحين لا تجد فيه بياناً للعلاقات التجارية بين الدول حسب ما يتطلبها العصر، فإنه لا يصلح أن يكون تشريع أمّة أو نظام دولة في هذا العصر الحديث وفي العصور المتجددة التي تتجدد فيها المشاكل والحوادث بما يتطلبها العصر.
هذا هو صعيد البحث الذي وضعه الغربيون وأجروا البحث مع المسلمين على أساسه، وتحدّوا نظام الإسلام عليه. فجرى المسلمون معهم على هذا الصعيد، ولذلك حصل لديهم الاضطراب لعدم جواز إجراء البحث على هذا الصعيد، بل لعدم إمكانية إجرائه عليه مع بقائه بحثاً منسجماً مع أصوله وفروعه. فإن صعيد البحث متى اختلف فقد اضطرب البحث، فصعيد البحث هنا هو هل الشريعة الإسلامية تصلح لأن تكون ميداناً للتفكير فيمكن استنباط جميع أنواع العلاقات بين الإنسان من أدلتها؟ وهل يفسح فيها مجال واسع للتعميم فيمكن بمنطوق أدلتها ومفهومها أن تشمل الحوادث المتجددة والمتعددة لتنجر أحكامها عليها؟ وهل هي تربة خصبة لإنبات القواعد الكلية والأفكار العامة؟ وهل فيها قابلية لأن تعالج مشاكل الشعوب المختلفة البيئات والجنسيات؟ فإذا كانت كذلك كانت شريعة صالحة، وإلاّ فلا.
وللاستدلال على هذا تُعرض المسائل الجديدة عليها ويُطلب رأيها فيها وتُبحث فيها نصوصاً من حيث إمكانية الاستنباط للأحكام والقواعد، وإمكانية اندراج المسائل المتعددة تحتها. وهذا هو صعيد البحث. أمّا طلب إعطاء الرأي الذي يقوله النظام الرأسمالي، أو يسود في العصر، أو تقول به الأكثرية، فهذا ليس صعيداً للبحث ولا يجوز أن يكون، لأن الموضوع هو صلاحية الشريعة للعصر ولكل عصر وليس إخضاعها لأن تكون قابلة لتعطي رأياً معيناً. وعلى هذا يُبحث في أصل التشريع الغربي والأساس الذي يقوم عليه، ثم يُبحث في كونه صالحاً لأن يعالج مشاكل كل عصر ويبقى على ما هو عليه كما ورد في أساسه، أم غير صالح إلاّ بالتأويل والتفسير والبعد عن الأساس. ويُبحث في التشريع الإسلامي والأساس الذي يقوم عليه، ثم يُبحث في كونه صالحاً لأن يعالج مشاكل كل عصر ويبقى كما هو عليه كما ورد في أساسه من غير أي بعد عن الأساس.
وبهذا يتبين واقع التشريع الحق من واقع التشريع الباطل. فالتشريع الحق هو الذي يكون أساسه حقاً مطابقاً للواقع وللفطرة، ويكون هذا الأساس يقينياً مقطوعاً به لا ظنياً فيه قابلية الخطأ والصواب. وأمّا صلاحيته لكل عصر ولكل شعب ولكل جيل فإنها تظهر بقدرته على إعطاء رأي في أي مشكلة تعرض للإنسان في أي زمن وفي أية بلاد، أي بكونه خطوطاً عريضة يُستنبط منها كل حل دون أن يَبعُد عن الأساس الذي قام عليه، بل دون أن يبتعد عن الخطوط العريضة نفسها المنبثق عنها هذا الحل. فإذا توفر في التشريع ذلك كان صالحاً لكل عصر، وإذا لم يكن قادراً على إعطاء الرأي إلاّ بالتفسير والتأويل والبعد عن الأساس وعن الخطوط العريضة فإنه يكون تشريعاً خاصاً بشعب معين وبوقت معين، ولا يصلح للإنسان، ولا يصلح حتى لهذا الشعب إلاّ لفترة معينة، ثم تنتهي صلاحيته فيُغيَّر ويؤتى بغيره. فكان ينبغي أن تُعرض المسائل المتجددة على الإسلام من حيث واقع المشكلة لا من حيث رأي النظام الرأسمالي فيها، فيُنظر حينئذ إذا كان يمكن أن يُستنبط حل لها من خطوطه العريضة ويبقى على الأساس الذي قام عليه الإسلام وعلى أساس الخطوط العريضة نفسها أم لا.
والناظر في التشريعين الغربي والاسلامي يجد أن التشريع الغربي باطل الأساس، فاسد المعالَجات، عاجز عن إعطاء الحلول للمشاكل الجديدة إلاّ بعد ترك الأساس والبعد عنه وإعطاء حل لا يمُت إليه بصلة بل يناقضه. والناظر في التشريع الإسلامي يجد أنه صحيح الأساس، وأن أساسه قطعي وليس بظني، وأن معالجاته حقة مطابقة للواقع ولفطرة الإنسان وأنه فيه القدرة على استنباط أي رأي لأية مشكلة دون أي بُعد عن الأساس الذي يقوم عليه، أو عن الخطوط العريضة التي تُستنبط منه.
أمّا بالنسبة للتشريع الغربي فإنه يقوم على أساس فهم الحق فهماً خاطئاً، ويبني على هذا الفهم جميع نظرياته التشريعية. فقد عرّف الحق لدى الغربيين "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون". فهذا الفهم للحق خطأ، ولذلك كانت جميع التشريعات التي بنيت عليه فاسدة. أمّا وجه الخطأ فيه فإن واقع الحق ليس مصلحة ذات قيمة مالية، بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية، وقد لا تكون ذات قيمة مالية. فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين: أحدهما، أنه لا يشمل المصلحة التي ليست ذات قمية مالية كالزواج والطلاق ونحوهما مما تتضمنه الحقوق الزوجية، وكحقوق الأسرة جميعها. ولا يشمل كذلك المصالح ذات القيمة المعنوية مثل المحافظة على الشرف والكرامة مما هو حق الإنسان لأنه لا قيمة مالية لها ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية تقديراً حقيقياً على الإطلاق. وثانيهما، أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير. والحق هو ذاته أساس ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته. ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.
وأيضاً فإن الغربيين قد قُسم الحق لديهم إلى قسمين رئيسيين: حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى الحق الشخصي، وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى الحق العيني. والحق الشخصي في نظرهم هو رابطة بين شخصين دائن ومدين. وقد عرّفوه "بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو القيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات التي يسمونها المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة والصلح والإجارة والعارية والوكالة والوديعة والرهان والكفالة. أمّا الحق العيني فهو ليس علاقة في نظرهم وإنّما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وقد عرّفوه "بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين". والحق العيني متعلق بالمال لا بالشخص. وعلى أساس الحق العيني عولجت المعاملات التي يسمونها المعاملات العينية مثل حق الملكية وأسباب كسب الملكية والرهن العقاري والتأمين على الحياة وحقوق الامتياز.
فهذا التقسيم للحق لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق في المعاملات التي فرّعوها عليهما. فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جُعلت الإجارة من الحق الشخصي وجُعل رهن العقار من الحق العيني، مع أن كلاً منهما علاقة بين شخصين موضوعها المال؟
على أن التعريف فرضي مبني على فروض منطقية وليس هو وصف واقع ولا حكماً على واقع، فحين عرّفوا الحق العيني بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين، فإن هذا التعريف يعني حسب مدلوله أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء وليست بين شخص وشخص، ولكن الواقع أن العلاقة ليست ناشئة بين الشخص والشيء بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء. والمعاملات التي أدخلوها تحت مدلول الحق العيني من مثل أسباب التملك ورهن المنقول ورهن العقار والتأمين على الحياة كلها تدل صراحة على ذلك ولا تدل على غيره، أي هي علاقة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، وليست هي علاقة بين الشخص والشيء.
rajaab
06-07-2005, 05:20 PM
وكذلك حين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوَّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، فإن هذا التعريف يعني حسب مدلوله أن الحق هو رابطة بين شخصين سواء وُجد شيء أم لم يوجد، لكن الواقع أن العلاقة لا توجد بين شخصين وجوداً يتكون منه الحق إلاّ إذا وُجد شيء تتعلق به العلاقة. فالشيء هو موضوع العلاقة، بل هو أساس العلاقة. ثم إن هذه العلاقة التي سموها رابطة لا تخوِّل أحد الشخصين مطالبة الآخر حتى يقال تخوِّل الدائن مطالبة المدين، بل تخوِّل كل واحد من الشخصين مطالبة الآخر. والمعاملات التي أدخلوها تحت مدلول الحق الشخصي من مثل البيع والإجارة والصلح، كلها تدل بصراحة على أن الشيء هو أساس العلاقة ولولاه لَما وُجدت العلاقة ولَما وُجد الحق، وتدل كذلك على أن كلاً من الشخصين تخوّله العلاقة مطالبة الآخر، إلاّ أن نوع المطالبة يختلف، فالبائع يطالب بالثمن والمشتري يطالب بالسلعة، وهكذا.
على أن تقسيم الحق إلى شخصي وعيني لا معنى له في الواقع ونفس الأمر، لأن القضية تتعلق بعلاقة الشخص سواء أكانت مع شخص آخر ومعه شيء كالبيع، أو كانت مع شي ومعه شخص كالهبة، أو مع شيء فقط كالوقف الخيري. ولذلك لا يوجد فرق بين القسم الأول المتعلق بما سموه بالحق الشخصي، ولا بين القسم الثاني المتعلق بما سموه بالحق العيني، إذ لا فرق بين الرهن وحقوق الامتياز وما شاكلها مما ذُكر في الحق العيني وبين الحوالة والبيع والشركة والإجارة والوكالة وما شاكلها مما ذُكر في الحق الشخصي، لأن الموضوع علاقة من الإنسان تتعلق إما بالشخص وموضوعها المال، وإما بالمال مضافاً إلى الشخص، وإما بالمال فقط، وهذه الثلاث كلها شيء واحد هو تنظيم علاقة الإنسان. ولهذا كان تقسيم الحق من حيث هو وتقسيمه هذا التقسيم بالذات فاسداً.
وأيضاً فإن التشريع الغربي يبرز فيه ما يسمى بالقانون المدني أي التشريع المتعلق بجميع المعاملات سواء التي تنظم علاقة الفرد بأسرته أو التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال. والهجوم على التشريع الإسلامي إنّما كان بالقانون المدني. فهذا القانون المدني قد خلص الغرب إليه من تقسيم الحق إلى شخصي وعيني. فقد جعلوا الحق الشخصي هو الالتزام، وعلى هذا الأساس وُضعت نظرية الالتزام، وكانت هي الأصل الفقهي لجميع القوانين الغربية سواء التقنينات اللاتينية أو الجرمانية.
فإنها كلها تقوم على نظرية الالتزام. وقد عُرّف الالتزام عدة تعاريف وكلها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل. فقد عُرّف الالتزام "بأنه اتفاق يلتزم بمقضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، وعُرفّ "بأنه حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل". وإذا قُرنت هذه التعاريف بتعريفهم للحق الشخصي "بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوَّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، يبرز أن نظرية الالتزام هي عينها الحق الشخصي. فكانت الخطوة الثالثة من أسس التشريع، إذ عرّفوا الحق، ثم قسّموا الحق إلى قسمين عيني وشخصي، ثم أقاموا على الحق الشخصي نظرية الالتزام وجعلوها أساس القوانين المدنية كلها في الغرب.
وتعتبر هذه النظرية أهم النظريات في التقنينات الغربية جميعها. والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات الغربية جميعها يُستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني عندهم، بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم. فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحيتها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات الغربية، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها. وبذلك تبرز الغرابة والدهشة من مهاجمة الغرب بمعالجات هذه القوانين الفاسدة أحكام الإسلام، وتحديه بهذا التشريع الباطل تشريع الإسلام الحق، ثم يُهزم أمامه المسلمون.
ولنرجع إلى نظرية الالتزام أو الحق الشخصي، فنقول إن الالتزام عندهم أو الحق الشخصي يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وهذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام هي في نظرهم سلطة تُعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله، وهذا هو الذي يميز عندهم بين الحق العيني والحق الشخصي، فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تُعطى للشخص على شخص آخر. وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها الإعدام وحق الاسترقاق وحق التصرف. وبناء على قيام هذه النظرية على حرية الفرد فإنها كذلك تقضي بترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غُبن في ذلك، فهو حر في الالتزام، فإذا التزم كان عليه جبراً الوفاء بما التزم به. وقد جعلوا للالتزام مصادر وحاولوا أكثر من مرة ترتيب مصادر الالتزام.
والناظر في نظرية الالتزام أو الحق الشخصي يمكنه أن يتبين فسادها رأساً من بطلان تعريف الحق وحده لأنها انبثقت عنه، ويتبين له فسادها من تقسيم الحق إلى عيني وشخصي لأنها نتيجة لهذا التقسيم وجزء منه. ولكن لأجل أن يضع المرء اصبعه على المعاملات الفاسدة التي نشأت عن هذه النظرية حتى يحس ويلمس فساد التشريع الغربي، نعرض لبعض ما في هذه النظرية من خطأ وفساد.
فتعريف النظرية بأنها "اتفاق يلزم بمقتضاه.. الخ"، يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وعلى ذلك فإنه لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق كالهبة مثلاً مع أنها عندهم من الحق الشخصي، وتخرج عنه المعاملات التي تصدر عندهم من شخص واحد ولا تتوقف على غيره كالمعاملات التي يسمونها بالإرادة المنفردة، مثل شركات المساهمة والجمعيات التعاونية وكالوصية والوعد بجائزة، مع أنهم جعلوها داخلة تحت نظرية الالتزام وتشكل مصدراً من مصادره. فضلاً عن أن هناك معاملات أخرى تحصل عند البشر ولا يشملها هذا التعريف مثل الوقف الخيري، وإعطاء الزكاة والصدقات وما شاكل ذلك. وهذا يدل على فساد التعريف. وبما أنه وصفٌ لواقع، فيكون الواقع الذي وصفه فاسداً أو يكون التعريف نفسه فاسداً، فلا بد من التدقيق في هذا الواقع لإعادة تعريفه. وأيضاً تعريف النظرية بأنها "حالة قانونية بمقتضاها.. الخ"، يعني جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرها القانون وليس حالة قانونية فحسب. فمثلاً أمْر الدولة الناس أن لا يقطعوا أحراشاً معينة أو الاحراش بشكل عام هو حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن يمتنع عن عمل. وعلى هذا تكون هذه الحالة حسب التعريف من القانون المدني مع أنها ليست منه، أي تكون من الالتزام مع أنه لا صلة لها بالالتزام. وبهذا يتبين فساد هذا التعريف أيضاً.
أمّا قولهم إن الإلزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، فهو خطأ، سواء قيل عنها رابطة شخصية أو رابطة مادية، لأنها ليست رابطة وإنّما هي علاقة للإنسان وُجدت من جراء محاولته إشباع حاجاته العضوية وغرائزه، ومن جراء عيشه مع غيره من بني الإنسان. ولذلك قد تكون علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون علاقة من شخص واحد مثل إنشاء الطلاق والوصية والوقف. فليس المقصود هو وجود شخصين، ولا وجود شخص وشيء، وإنّما المقصود هو معالجة مشكلة للإنسان علاجاً ينظم غرائزه وحاجاته العضوية وينظم علاقاته.
على أن الحقيقة التي يدل عليها واقع حياة الإنسان بوصفه إنساناً هي أن الالتزام من حيث هو غير موجود، وأن القضية هي علاقة بين إنسان وإنسان موضوعها المصلحة التي يقررها القانون، وهذه العلاقة ينظمها القانون. وأن الوقائع أو المسائل أو المشاكل التي تحدث من الإنسان هي المصدر لهذه العلاقة، والقانون هو الذي يقرر اعتبار هذه العلاقة، ولا يوجد شيء غير ذلك. ولا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين، ولا توجد هذه الرابطة مطلقاً ولا هي رابطة بين شخص ومال، أو سلطة لشخص على مال. وإنّما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ. وهذه العلاقة توجدها المصلحة أي جلب منفعة أو دفع مضرة، وينظمها القانون. فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال. ويتلخص كذلك أنه توجد إلى جانب العلاقة بين شخصين علاقة ناشئة عن المال فقط مثل الوقف الخيري، وإعطاء الزكاة والصدقات، وإقامة المعابد، وإنشاء السبيل العام من مراعٍ ومياه للشرب والسقي وما شابه ذلك.
وعلى ذلك فإن الالتزام بالمفهوم الذي ذكره التشريع الغربي وبُني عليه جميع القوانين الغربية غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي. والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية أيضاً غير موجود، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة بين شخصين، وإنّما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرها القانون. وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجارة، أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل أي الجُعل، كما ينطبق على المعاملات التي تصدر من شخص واحد كالوصية والطلاق والوقف وما شابه ذلك. وعليه فنظرية الالتزام نظرية مغلوطة. وعلى ذلك تكون جميع الاجتهادات الفقهية التي بنيت على أساسها أو انبثقت عنها مغلوطة مهما تفرعت وتنوعت لأنها جميعها فروع لأساس فاسد.
ومما يجعل المرء يلمس ويحس مادياً فساد نظرية الالتزام هذه هو استعراض موقفها حين عرضت لها المشاكل المتجددة والمتعددة في المجتمع مع سير الزمن، فإنها لم تَثبُت لهذه المشاكل ولم يستطع أصحابها الصمود عليها، مما اضطرهم إلى التأويل والتفسير والبُعد عنها حتى استطاعوا إيجاد حلول للمشاكل المتجددة. فهذه النظرية كانت منذ عهد الرومان، وجميع التقنينات الغربية نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يُذكر. لكن لمّا بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها، وبرز لهم عدم صلاحيتها، فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات وليس لكونها باطلة. وأخذوا يغيّرونها زاعمين أنها تتطور. أي أخذوا يبتعدون عنها ويغيرون أصولها بحجة التطوير أي الانتقال من حال إلى حال، وبحجة المرونة أي قابلية التفسير.
والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوروبا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام. فعقد العمل قد أُدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن من قبل، كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب. ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد ولا يبيح مثل هذه الحقوق. ونظرية العقد ذاتها التي تقول إنها تَوافُق إرادتين على إنشاء التزام، كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.
وهذه نظرية الغُبن لم تكن موجودة بل لم تكن نظرية الالتزام تجيزها. فقد كانت النظريات الفردية تقضي بوجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غُبن في ذلك. ولمّا تبين فساد هذه النظريات الفردية وفساد نظرية الالتزام أُدخلت نظرية الغُبن على بعض العقود ثم أخذت تتسع حتى أصبحت في القوانين الحديثة نظرية عامة تنطبق على جميع العقود.
وهكذا كان لنشوء أفكار عن الحياة تخالف الأفكار القديمة، وظهور فساد الأفكار القديمة، أثر على نظرية الالتزام فأبرز فسادها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان استعمال مختلف الآلات الميكانيكية وتقدم الصناعة ووجود حروب عالمية قد أوجد مسائل عملية تُبرز فساد نظرية الالتزام. إذ أن استعمال الآلات اقترن بمخاطرة جمة يستهدف لها الناس، ولم تكن نظرية الالتزام تجعل المسؤولية إلاّ على الشخص، فظهر عدم صلاحيتها وُوضع المسؤولية على الخطأ المفروض. فبعد أن كان الشخص لا يدفع تعويضاً عن الضرر الذي يحدث لشخص آخر إلاّ إذا قام هو بالعمل الضار متعمداً الأضرار بالغير، صار يدفع تعويضاً كذلك عن الضرر إذا صدر هذا الضرر عن الأشياء التي يملكها الشخص، أي صار يُلزِم من فُرض أنه ارتكب الخطأ بتعويض الضرر، وصار إلحاق أي أذى في العامل يُلزِم صاحب العمل بالتعويض. وهذا لا تقضي به نظرية الالتزام.
وصار عقد التأمين في القوانين الغربية لا يقتصر على الشخص بل يشمل الغير، فوُجدت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير، كما إذا أمّن شخص على حياته لمصلحة أولاده سواء أكان له أولاد وقت التأمين أم لم يكن له أولاد حين التأمين. وهذا يخالف نظرية الالتزام لأنها رابطة بين شخصين، والأولاد الذين لم يوجَدوا بعد لا يدخلون في هذه الرابطة، مع أن العقد في القوانين الغربية أصبح يُدخلهم.
وعلاوة على ذلك فإن نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها، وفي التسعير الجبري للسلع، والتقدير الجبري للأجر، وفي عقود التزام المرافق العامة، ما يناقض نظرية الالتزام، ومع ذلك أُدخل في القوانين الحديثة. وهي تدل على فساد نظرية الالتزام وعدم صلاحها.
وزيادة على ذلك فإن النظرية التي تقضي بأن الغش يفسِد العقد، والقاعدة القائلة بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، والالتزام بوجوب الامتناع عن الإضرار بالغير دون حق، كما إذا رعت دابة زرع آخر بسبب إهمال صاحبها، والإثراء بلا سبب الذي يمنع الشخص من أن ينتفع على حساب غيره كمن يقيم بناء على أرض الغير أو يدفع ديْناً غير موجود، أي العمل الفضولي، كل ذلك يخالف نظرية الالتزام، ويدل على فسادها، لأنها تقييد وليست حرية، وهي تناقض الحق الشخصي وتهدمه على اعتبار أنه حق مطلق غير مقيد.
على أن الالتزام من حيث هو عندهم يقوم على رابطة قانونية بين الدائن والمدين توجِب على الشخص أن ينقل حقاً. وهذا يعني عدم اشتراط الرضا بالحوالة، أي توجد الحوالة دون رضا المحال عليه بحوالة الحق، وعدم اشتراط رضا الدائن بحوالة الدين، لأن الحالة القانونية تلزم الشخص بنقل الحق عيناً أو ديناً. وهذا لا يضمن تحقيق العدل، ولذلك ظهر فساده، فمجرد تبليغ المحال عليه لا يكفي، بل لا بد من قبوله، لأن العقد في الحوالة كما في غيرها يجب أن يكون برضا أطراف العقد.
هذا إجمال لبعض المشاكل المتجددة التي عرضت لنظرية الالتزام، ومنه يتبين أنها لا تصلح ميداناً للتفكير، لأن كثيراً من أنواع العلاقات بين بني الإنسان لا يمكن استنباطها منها، مثل كون الغش يفسد العقد، وهي لا تصلح لأن تكون مجالاً للتعميم، لأن المسؤولية على الخطأ المفروض كالأذى الناتج عن الآلة وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير مثل التأمين على الأولاد الذين لم يولدوا، والإرادة المنفردة مثل الوقف الخيري بل مثل شركة المساهمة في النظام الرأسمالي، وما شابه ذلك من العقود والمعاملات لا يمكن أن تشملها لا بمنطوق ولا بمفهوم. ولذلك فهي قاصرة، وهي كذلك لا تصلح لإثبات كثير من القواعد العامة مثل قاعدة عدم جواز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، ومثل نظرية الغُبن في العقود. وليس فيها قابلية لتوحيد مختلف الشعوب والبيئات في تشريع واحد، بدليل ظهور قصورها حين ظهرت النظريات الاشتراكية وحين تقدمت الصناعة. وهي من أساسها خاطئة لأنها تقوم على حرية الملكية والحرية الشخصية، وهذه الحرية للشخص وفي الملك هي التي تسبب الفساد بين الناس، وهي التي تمكّن من الاستغلال والاستعمار، لأن إعطاء الحرية في التملك وإعطاء الحرية الشخصية يحميه القانون حين بُني على نظرية الالتزام، وفي ذلك الفساد والشقاء.
هذا هو واقع التشريع الغربي الذي تحدى التشريع الإسلامي، أو بعبارة أخرى هذا هو واقع النظام الرأسمالي الذي تحدى نظام الإسلام. أمّا التشريع الإسلامي الذي أوسعه الغربيون هجوماً ونقداً فهو ليست نظريات ظنية تنبثق عنها الأحكام والمعالجات كما هي الحال في التشريع الغربي، وإنّما هو منبثق عن عقيدة عقلية قطعية لا يتطرق إليها ارتياب. فليس أصله نظرية في الحق، ولا هو منبثق عن نظرية الحق الشخصي أو الحق العيني، وإنّما أصله عقيدة جازمة توصّل إليها العقل وقطع يقينياً بها. فما انبثق عن هذه العقيدة فهو تشريع إسلامي، وما لم ينبثق عنها فليس بتشريع إسلامي. فأيهما التشريع الحق: التشريع المنبثق عن عقيدة عقلية لا يتطرق إليها ارتياب أم التشريع المنبثق عن نظريات ظنية، ولا سيما إذا كانت نظريات ظهر فسادها من حوادث الزمن وبرهن تعريفهم لها على عدم مطابقتها للحقيقة والواقع؟
التشريع الإسلامي منبثق عن العقيدة الإسلامية أي عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبعبارة أخرى منبثق عن الكتاب والسنّة المقطوع عقلاً بأنهما وحي من الله، فما فُهم منهما من أدلة وقواعد وأحكام هو التشريع الإسلامي. وعليه فإنه حين يُبحث التشريع الإسلامي أو يُبحث الإسلام من حيث هو إنّما يُبحث على أنه وحي من الله وليس من وضع البشر. وهذا هو أساس القضية في بحث الإسلام، وأساس النظرة إلى الإسلام. ولذلك يجب أن يقوم البرهان العقلي اليقيني أولاً على أن الإسلام وحي من الله، ثم يؤخذ التشريع مما جاء به الوحي أي من هذا الذي قام البرهان العقلي اليقيني على أن الله أوحى به نظاماً لبني الإنسان.
أمّا كون الإسلام وحياً من الله، فإن الإسلام هو ما جاء به القرآن وحديث الرسول. فأمّا القرآن فقد ثبت بالدليل القطعي أنه كلام الله، وذلك أن القرآن كتاب عربي جاء به محمد وقال إنه من عند الله. فهو إما أن يكون من العرب ونَقَلَه محمد عنهم، وإما أن يكون من محمد هو الذي قاله وادّعى أنه من عند الله، وإما أن يكون من الله حقاً وصدقاً. ولا يمكن أن يكون من غير واحد من هؤلاء الثلاثة لأنه عربي اللغة والأسلوب.
أما أنه من عند العرب فباطل لأنه تحداهم جميعاً أن يأتوا بمثله (قل فأتوا بسورة من مثله) (قل فأتوا بسورة مثله) (قل فأتوا بعشر سور مثله)، وقد حاولوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عن ذلك، فهو إذن ليس من كلامهم لعجزهم عن الإتيان بمثله مع تحديه لهم ومحاولتهم الإتيان بمثله. وأمّا أنه من محمد فباطل لأن محمداً عربي من العرب، ومهما حاول العبقري فهو من البشر وواحد من مجتمعه وأمّته، وما دام العرب لم يأتوا بمثله فيصدق على محمد العربي أنها لا يأتي بمثله، فهو ليس منه. علاوة أن لمحمد أحاديث صحيحة وأخرى رُويت عن طريق التواتر الذي يستحيل معه إلاّ الصدق، وإذا قورن أي حديث بأي آية، لا يوجد بينهما تشابه في الأسلوب، وكان يتلوا الآية المنزلة ويقول الحديث في وقت واحد وبينهما اختلاف في الأسلوب. وكلام الرجل مهما حاول أن ينوعه فإنه يتشابه في الأسلوب لأنه جزء منه، وبما أنه لا يوجد أي تشابه بين الحديث والآية في الأسلوب، فلا يكون القرآن كلام محمد مطلقاً للاختلاف الواضح الصريح بينه وبين كلام محمد. وإذا كان الرجل لا يستطيع أن يخرج عن عصره فلا يملك أن يقول كلاماً غير كلام أهل عصره مهما حاول أن يقلد، فلا يمكن أن يخرج عن ذاته، أي لا يمكن أن يقول كلاماً غير كلام ذاته في المعاني والأسلوب من باب أوْلى. والنقاد للكلام قد أخرجوا الشعر المنسوب للعصر الجاهلي وقيل بعده بأنه ليس بجاهلي، وميّزوا الكلام بأنه قيل في عصر كذا، أي في العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي، مما يقطع بأن المرء لا يخرج عن كلام عصره ولا يخرج عن كلام نفسه، ولمغايرة القرآن أسلوباً لحديث محمد، فإن القرآن ليس كلام محمد. وبما أنه ثبت أن القرآن ليس كلام العرب، ولا كلام محمد، فيكون كلام الله قطعاً، ويكون معجزة لمن أتى به.
وأمّا كون حديث الرسول وحياً من الله فإنه يدل عليه كونه رسول الله، فالحديث كالقرآن هو رسالته التي أوحى الله له بها، وبما أنه ثبت أن محمداً رسول الله لأنه هو الذي أتى بالقرآن وهو كلام الله وشريعته، ولا يأتي بشريعة الله إلاّ الأنبياء، فهو قطعاً رسول ونبي. لذلك فإن حديثه وحي من الله لأنه حديث رسولٍ أرسله الله. على أن القرآن الذي ثبت قطعاً أنه كلام الله ينطق بصراحة على أن حديث الرسول وحي من الله، قال تعالى: (إن أتّبِعُ إلاّ ما يوحى إليّ) وقال: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وقال: (قل إنما أنذركم بالوحي).
rajaab
06-07-2005, 05:24 PM
وبهذا يكون قد قام البرهان العقلي اليقيني أن الكتاب والسنّة وحي من الله، وبما أنهما هما وحدهما الشريعة الإسلامية فإنه يكون قد ثبت بالدليل العقلي اليقيني على أن الشريعة الإسلامية وحي من الله. فلا بد أن يكون كل فكر ورد في الكتاب والسنّة وحياً من الله، وبالتالي لا بد أن يكون كل ما يُستنبط من الكتاب والسنّة هو من الوحي. وبذلك يتبين أن الشريعة الإسلامية ليست نظريات ظنية تطبق على الوقائع المتجددة، وإنّما هي معانٍ عامة جاء بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحياً من عند الله، وهذه المعاني العامة تطبق على الوقائع المتجددة ويُستنبط من تطبيقها هذا أحكامُ هذه الوقائع، وهذه الأحكام نفسها المستنبَطة تعتبر من الوحي، ولذلك عرّف العلماء الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، أي هو عينه ما خاطب به الله الرسول ليبلغه للناس، لأنه أُخذ من لفظ الخطاب أو من معناه.
هذا هو الأساس الذي يجب أن يُبنى البحث في الشريعة الإسلامية عليه، وهي أنها وحي من الله. وهذه هي النظرة التي يجب أن يُحصر الاتجاه بها، وهي نظرة إلى شريعة جاءت من الله. فإذا ثبت أنها جاءت من الله فيُبحث فيها على هذا الاعتبار، أي اعتبار أنه يُبحث في شريعة الله، وحين يُستنبط الحكم يُستنبط على أنه مأخوذ من شريعة الله، وحين يُنظر لنوع معالجاته للمشكلة يُنظر إليه على أنه علاج من الله فيُتخذ مقياسه من حيث الأصل الذي انثبق عنه لا من حيث موافقته لذوق المعالج له أو عدم موافقته، ولا من حيث اتفاقه مع ما يسود في العصر أو اختلافه معه، لأن القصد من العلاج أن يكون علاجاً حقاً، والحق هو ما جاء من عند الله.
فالقضية في الشريعة الإسلامية حتى يتبين صحتها وكونها شريعة صالحة للناس في كل عصر وفي كل جيل يجب أن يُبحث هل هي من عند الله أوحى بها شريعة للناس، فإذا ثبت هذا كانت قطعاً هي شريعة الحق، لأن من صفات الإله التي تقتضيها الألوهية الاتصاف بصفات الكمال المطلق والتنزه عن صفات النقص، فإذا ثبت أن هذه شريعته كانت صحيحة وصالحة على الوجه الذي جاءت عليه. وإذا ثبت أنها جاءت للناس جميعاً في كل عصر وفي كل جيل (إنا أرسلناك كافة للناس) (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، كان من المحتم أن تكون ميداناً للتفكير تُستنبط منها جميع علاقات الإنسان وكان فيها المجال الواسع للتعميم فتشمل جميع الحوادث المتجددة والمتعددة، وتكون بالتأكيد تربة خصبة لإثبات القواعد الكلية والأفكار العامة. وما دامت للإنسان من حيث هو إنسان فإنها ولا شك تعالج مشاكل جميع الشعوب مهما اختلفت جنسياتها وبيئاتها. وهذا كله يحتمه كونها شريعة من عند الله أوحى بها لنبيّه ليبلغها للناس ليعملوا بها.
هذه هي القضية في الشريعة الإسلامية وهي كونها خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، أي كونها علاجاً للمشاكل أوحى به الله. فإذا حرم الربا فإنه لا يُسأل هل هذا التحريم موافق للعصر أو غير موافق، أو يتفق مع المدنية الحديثة أم لا، وإنّما يُسأل هل هذا التحريم استُنبط مما جاء به الوحي من الله؟ فإذا كان كذلك كان حكماً صحيحاً وإلاّ فلا. ولا يقال إن هذا التحريم يعطل المعاملات التجارية، ويقطع العلاقات الاقتصادية مع الخارج، ويجعل البلاد في عزلة. لا يقال ذلك لأن الأساس الذي بُنيت وجهة النظر في الحياة عليه هو جعل الشرع مقياس الأعمال، فيجب أن يُحكَّم الشرع وحده، أي أن المقياس هو الحلال والحرام فقط. ولذلك لا يعتبر غيره مقياساً ويُرمى به عرض الحائط.
وكذلك إذا أوجب الله على الزوج نفقة زوجته بالمعروف لمثلها على مثله ولو كانت غنية، لا يُسأل هل هذا الإيجاب متفق مع العصر الحديث أم لا، ولا يقال إن الزوجين يتعاونان على الحياة فيجب أن يتعاونا بنفقة البيت، أو أن النفقة للفقير وهذه غنية، لا يُسأل مثل هذا ولا يقال مثل ذلك، وإنّما يُسأل فقط هل هذا الفرض قد استُنبط مما جاء به الوحي من عند الله؟ فإذا كان كذلك كان حكماً صحيحاً وإلاّ فلا.
وكذلك إذا أباح الله للإنسان أن ينفق من ماله على غير المحرّمات ما شاء كيف شاء، فاشترى لزوجته بنصف مليون دينار حلياً وجواهر وبمليون دينار جهز ملاعب متنوعة خصصها لأولاده يلعبون بها واشترى لكل ولد من أولاده العشرة سبع سيارات يستعمل كل يوم واحدة، لا يقال إذا أباح الله ذلك للإنسان بأن هذا يخالف المصلحة الاقتصادية أو لا يتفق مع مصلحة الشخص، أو لا يرضاه العقل. لا يقال ذلك مطلقاً بل يُسأل فقط هل هذه الإباحة قد استُنبطت مما جاء به الوحي من عند الله؟ فإن كانت كذلك كان حكمها حكماً صحيحاً، وهكذا. فمَلاك الأمر هو قياس صحة الحكم وعدم صحته من كونه مأخوذاً مما جاء به الوحي من عند الله، فإن أُخذ مما جاء به الوحي كان صحيحاً وإلاّ فلا، ولا قيمة لأي اعتبار آخر مطلقاً.
هذا من حيث أساس الإسلام، أمّا من حيث واقع الإسلام نفسه، فإن الإسلام أفكار، والفكر هو الحكم على واقع، فالإسلام هو أحكام على وقائع، ولذلك لا بد أن تجرى العملية العقلية في كل ما جاء به، فلا بد أن يكون ما جاء به يدرك العقل وجوده إدراكاً حسياً أو يدرك العقل أصله الذي جاء به، ولذلك لا بد أن يفهم العقل النص الذي حوى ما جاء به، سواء كان لفظه ومعناه من الله، أو كان معناه من الله ولفظه من الرسول، وليس فيه شيء غير ذلك مطلقاً. فليس فيه شيء لا يدرك العقل وجوده أو وجود أصله، وليس فيه نص لا يفهمه العقل. فالإسلام باعتباره أفكاراً أساسه العقل والأداة التي تفهمه هي العقل. ومن هنا كان العقل وحده هو الأساس الذي يقوم عليه الإسلام، والأساس الذي نفهم به نصوص الإسلام، فالإيمان به متوقف على العقل، وفهْم ما جاء به متوقف على العقل. وهو كأي فكر من الأفكار الموجودة في أي بحث لا بد أن يُدرَك وجود واقعها بالعقل، أو يدرَك وجود واقع أصلها الذي نبحث عنه بالعقل، ولا بد في نفس الوقت أن يكون نصها الذي حوى أفكارها مما يفهمه العقل ويدرك معانيه. فليس في نصوص الإسلام طلاسم الله أعلم بها، لا في القرآن ولا في الحديث (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)، فحين يقال إن الإسلام خاضع للعقل فهذا القول صحيح، وكذلك حين يقال إن الإسلام مقياسه العقل فهذا القول أيضاً صحيح لأن العقل هو أساس الإسلام، والأداة التي يتوفف فهمه والعمل به على وجودها في هذا الفهم والعمل.
إلاّ أن العقل له واقع، فلا بد أن يُستعمل العقل حسب واقعه حتى ينطبق على العملية بأنها عملية عقلية. ومن واقع العقل أنه لا بد من وجود واقع محسوس حتى يحصل للعقل وجود، فإذا لم يكن هناك واقع محسوس فلا تحصل العملية العقلية، أي لا يوجد عقل. فلا يوجد إدراك إلاّ إذا كان هناك واقع محسوس، ولا يحصل فكر إلاّ إذا كان هناك واقع محسوس. فإذا لم يكن هنالك واقع محسوس فإن المسألة تكون تخيلاً وتخريفاً ولا تكون عقلاً أو فكراً أو إدراكاً. وعلى ذلك لا يُطلب من العقل أن يدرِك واقعاً غير محسوس لأنه يستحيل أن يدركه، أي يستحيل أن تحصل العملية العقلية، فعليه حينئذ أن يسلّم بوجوده لا بحقيقته إن ثبت وجوده ثبوتاً قطعياً، أو أن يرفضه رفضاً باتاً إن لم يثبت وجوده ثبوتاً قطعياً. وعلى ذلك لا يُطلب من العقل أن يدرك ذات الله لأنها واقع غير محسوس فيستحيل إدراكها، وإنّما أُدرك من واقع المخلوقات أن لها خالقاً يقيناً، فأُدرك بذلك وجود الله إدراكاً حسياً، لأن هذا الموجود له واقع دل عليه وجود المخلوقات. فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة موجودة أمر قطعي، لأنها مشاهَدة بالحس. وكون الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة إلى غيرها، أي لها وصف الاحتياج، أمر قطعي أيضاً، لأنها بالمشاهَدة لا تستطيع التصرف ولا الانتقال من حال إلى حال إلاّ بغيرها، فالنار تحرق إذا كانت المادة الأخرى فيها قابلية الاحتراق، وإذا لم تكن فيها قابلية الاحتراق لا تحرقها، وبعض الأحماض تذيب بعض العناصر ولا تذيب غيرها، وبعض العناصر تتحد مع عناصر أخرى وتتفاعل معها ولا تتفاعل مع غيرها، وذرّتان من الهيدروجين مع ذرة من الأوكسجين تنتج ماء، ولكن ذرتين من الهيدروجين مع ذرتين من الأوكسجين تنتج الماء الثقيل وهو مادة غير صالحة لحفظ استمرار الحياة. فهذه الأشياء لم تستطع أن تتصرف في كل شيء، ولا أن تنتقل من حالة إلى أية حالة أخرى إلاّ ضمن وضع قاصر على حالات معينة، ولا تستطيع سواها إلاّ بإحداث تغيير فيها أو في سواها، أو بعامل آخر، فهي إذن محتاجة حتى لو فُرض أنها محتاجة إلى هذه العوامل وهذه الحالات. فالنار لم تستطع أن تحرق إلاّ بوجود مادة قابلة للاحتراق، فهي حتى تحرق محتاجة إلى المادة القابلة للاحتراق. والأحماض لم تستطع أن تذيب إلاّ عناصر معينة فيها قابلية الذوبان، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية الذوبان حتى تستطيع أن تُحدِث الإذابة. والعناصر لا تستطيع الاتحاد والتفاعل إلاّ بوجود عناصر فيها قابلية التفاعل والاتحاد، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية التفاعل والاتحاد حتى تستطيع الاتحاد والتفاعل. والماء حتى يتحول إلى ماء ثقيل محتاج إلى من يضيف إليه ذرة أخرى من الأوكسجين إلى كل ذرتين من الهيدروجين حتى يتحول إلى الماء الثقيل. ولا يقال احتاج إلى ما هو فيه، بل احتاج إلى زيادة كمية إلى ما هو فيه، واحتاج إلى من يوجِد له هذه الكمية، فهو محتاج.
ولا يقال إن الأشياء التي في الكون احتاجت لبعضها ولكنها في مجموعها مستغنية عن غيرها. لا يقال ذلك، لأن الحاجة إنّما تبين وتوضح للشيء الواحد، وتُلمس لمساً ولا تُفرض فرضاً نظرياً لشيء غير موجود، فيُفرض وجوده. فلا يقال إن النار احتاجت لجسم فيه قابلية الاحتراق فلو اجتمعا معاً لاستغنيا ولم يحتاجا إلى غيرهما، لأن هذا فرض نظري. فالحاجة للنار وللجسم القابل للاحتراق، هي حاجة لشيء موجود حساً محسوس بإحدى الحواس أو مدرَك عقلاً، وهو بالطبع مما يقع الحس على مدلوله حتى يتأتى إدراكه عقلاً، فالحاجة لشيء موجود والنار والجسم لا يوجد من اجتماعهما شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة، وكذلك الأشياء التي في الكون لا يحصل من اجتماعها شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة. فالحاجة والاستغناء متمثلة في الجسم الواحد ولا يوجد شيء يتكون من مجموع ما في الكون حتى يوصف بأنه مستغنٍ أو محتاج. فإذا قيل إن مجموع الأشياء التي في الكون مستغنٍ أو محتاج فإنه يكون وصفاً لشيء متخيَّل الوجود لا لشيء موجود. والبرهان يقوم على حاجة شيء معين موجود في الكون لا مجموعة أشياء يُتخيّل لها اجتماع يتكون منه شيء ويُعطى له وصف الحاجة أو الاستغناء. ولذلك لا يَرِد هذا السؤال، لأنه سؤال فرضي تخيلي وليس هو واقعياً حتى ولا فرضاً نظرياً.
ولا يقال إن الأشياء احتاجت لبعضها فلا يكون دليلاً على أنها محتاجة لخالق. فإن البرهان على إثبات مجرد الاحتياج لا الاحتياج إلى خالق، فمجرد وجود الاحتياج في كل شيء يُثبِت الاحتياج في كل شيء.
ولا يقال إن كل جزء محتاج إلى جزء آخر فالأجزاء جميعها محتاج بعضها لبعض، فالثابت هو أن كل شيء محتاج إلى شيء آخر، وهذا لا يثبِت أن الأشياء محتاجة مطلقاً. لا يقال ذلك، لأن احتياج الشيء ولو إلى شيء واحد في الدنيا يثبت أنه لا يوجد في الكون شيء يستغني الاستغناء المطلق، يعني أنه محتاج ولو لشيء واحد في الوجود، أي ثبت له وصف الاحتياج كمن يمشي خطوة واحدة فقد ثبت له وصف المشي، وكمن يتكلم كلمة واحدة ثبت له وصف التكلم. فالاحتياج والمشي والتكلم وغير ذلك مما يدل على الجنس أي مما يدل على الماهية، فإن ثبوت المرة الواحدة فيه يُثبِت الوصف لماهيته. فمجرد ثبوت الاحتياج إلى شيء واحد، والاحتياج مما يدل على الجنس أي على الماهية، يثبِت وصف الاحتياج لكل شيء في الكون، ولذلك فإن احتياج كل جزء إلى جزء آخر يثبِت له قطعاً وصف الاحتياج. وهذا كله ملموس محسوس بالنسبة إلى جميع الأشياء الموجودة على سطح الأرض.
rajaab
06-07-2005, 05:28 PM
أمّا بالنسبة للكون والإنسان والحياة، فإن الكون مجموعة أجرام وكل جرم منها يسير بنظام مخصوص لا يملك أن يغيره، وهذا النظام إما أن يكون جزءاً منه أو خاصة من خواصه أو شيئاً آخر غيره، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة مطلقاً. أمّا كونه جزءاً منه فباطل، لأن سير الكواكب يكون في مدار معين لا يتعداه، والمدار كالطريق هو غير السائر، والنظام الذي يسير به ليس مجرد سيره فقط، بل تقييده بالسير في هذا المدار. ولذلك لا يمكن أن يكون هذا النظام جزءاً منه. وأيضاً فإن السير نفسه ليس جزءاً من ماهية الكوكب، بل هو عمل له. ولذلك لا يمكن أن يكون جزءاً منه. وأمّا كونه خاصية من خواصه فباطل، لأن النظام ليس هو سير الكوكب فحسب، بل سيره في مدار معين. فالموضوع ليس السير وحده، بل السير في وضع معين. فهو ليس كالرؤية في العين من خواصها بل هو كون الرؤية في العين لا تكون إلاّ بوضع مخصوص. ومثل كون تحوّل الماء من ماء إلى بخار لا يتأتى إلاّ بنسبة معينة. فالموضوع ليس سير الكوكب، أو رؤية العين، أو تحوّل الماء، بل الموضوع هو سير الكوكب في مدار مخصوص، ورؤية العين في أحوال مخصوصة، وتحوّل الماء بنسبة معينة. هذا الوضع المفروض على الكوكب، وعلى العين، وعلى الماء، هو النظام. وهو وإن كان السير من خواصه، فإن كون السير لا يكون إلاّ بوضع معين، ليس من خواصه، وإلاّ لكان من خواصه أن ينظم سير نفسه. وحينئذ يستطيع أن ينظم نظاماً آخر ما دام من خواصه التنظيم، والواقع أنه لا يستطيع ذلك، ولهذا لا يمكن أن يكون من خواصه. وما دام ليس جزءاً منه وليس من خواصه، فهو غيره قطعاً. فيكون قد احتاج إلى غيره، أي احتاج الكون إلى النظام.
ولا يقال إن كونه يسير في مدار معين هو خاصية ناتجة عن اجتماع الكواكب مع بعضها فنتج عن اجتماعها خاصية كون السير في مدار معين، كالهيدروجين وحده له خاصية، والأوكسجين وحده له خاصية، فإذا اجتمعا معاً صارت لهما خاصية أخرى، وكذلك الكواكب. لا يقال ذلك لأن الهيدروجين والأوكسجين حين اجتمعا كوّنا جسماً آخر، فصارت له خاصية أخرى، فهي خاصية جسم لا خاصية وجودهما في الكون، بخلاف الكواكب فإن الكوكبين أو الكواكب لم تكن لكل منهما خاصية وهي منفردة ثم صارت له خاصية بالاجتماع، بل ظلت هذه الخاصية خاصية لكل كوكب بمفرده خاصية له وحده ولم يجتمعا ولم يكوّنا جسماً واحداً قط، ولذلك تكون الخاصية للكوكب ولا تكون لاجتماع كوكبين أو لاجتماع الكواكب، لأن الاجتماع الذي يشكل جسماً آخر لم يحصل.
وكذلك لا يقال إن هذه هي خاصية الجاذبية. فإن الجاذبية هي الدافع للحركة، كالحياة في الإنسان فإن المشي في الإنسان لأنه حي، ولكن المشي ليس من خواص الحياة، وسير الكواكب لأن فيه جاذبية، ولكن السير ليس من خواص الجاذبية، فمن باب أوْلى أن لا يكون السير في مدار معين من خواص الجاذبية، ففي السير خاصية الكوكب والسير في مدار معين هو النظام، وأمّا الحياة فإن احتياجها إلى الماء وإلى الهواء ملموس محسوس. وأمّا الإنسان فإن احتياجه إلى الحياة ثم إلى الطعام وغير ذلك، ملموس محسوس، وعليه فإن الكون والإنسان والحياة محتاجة.
ولا يقال إن ما في الكون من أشياء احتاجت لبعضها هي أشكال لشيء واحد، فهي كله مادة تشكلت بأشكال مختلفة، ولكنها في الحقيقة شيء واحد هو المادة. فالمادة احتاجت لنفسها ولم تحتج إلى غيرها، فهي غير محتاجة. لا يقال ذلك لأن المادة حتى تتشكل بأشكال مختلفة لا تستطيع أن تتشكل إلاّ بنسبة معينة مفروضة عليها فرضاً من غيرها. فالماء حتى يتحول إلى بخار يحتاج إلى نسبة معينة حتى يتحول، والبيضة حتى تتحول إلى كتكوت تحتاج إلى نسبة معينة من الحرارة، وهكذا. فتشكُّل المادة لا يمكن إلاّ بنسبة معينة أو وضع معين. وهذه النسبة أو هذا الوضع ليس من المادة، وإلاّ لاستطاعت أن توجِدها كما تشاء، ولَما فُرضت عليها، فكونها مفروضة عليها فرضاً معناه أنها جاءت من غيرها، فهي محتاجة إلى هذه النسبة أو هذا الوضع حتى يتم التشكل، ومحتاجة إلى من يوجِد لها هذه النسبة حتى يتم التشكل. وعليه فهي محتاجة إلى غيرها أي ثبت لها وصف الاحتياج.
ومدلول كلمة محتاج يعني أنه مخلوق، لأن مجرد حاجته تعني أنه عاجز عن إيجاد شيء ما من العدم، أي عاجز عن إيجاد ما احتاج إليه، فهو ليس خالقاً. وما دام ليس خالقاً فهو مخلوق، لأن الوجود كله لا يخرج عن خالق ومخلوق، ولا ثالث لهما. وأيضاً فإن المحتاج لا يمكن أن يكون أزلياً، لأن مدلول كلمة أزلي تعني أن لا يستند إلى شيء، لأنه إذا كان في تصرفه وتحوله يحتاج إلى غيره، يكون احتياجه لغيره في وجوده من باب أوْلى. ولأنه لو احتاج في وجوده إلى غيره لكان ذلك الغير موجوداً قبله، فلا يكون أزلياً. فمدلول الأزلي أنه لا يستند إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء. وما دام المحتاج ليس أزلياً، فهو مخلوق قطعاً. وعلى هذا فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة أمر قطعي، وهذا يعني أن كونها مخلوقة لخالق أمر قطعي أيضاً، فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة مخلوقة لخالق يدل على وجود الخالق قطعاً.
وهذا الخالق لا بد أن يكون غير مخلوق، ولا بد أن يكون أزلياً. أمّا كونه غير مخلوق فلأنه لو كان مخلوقاً لَما كان خالقاً، لأنه لا يوجد إلاّ خالق ومخلوق، وهما شيئان متباينان، فأحدهما غير الآخر قطعاً. ولذلك فإن من صفات الخاق كونه غير مخلوق، فكل ما ليس بمخلوق هو الخالق. ولا يقال إنه خالق لشيء ومخلوق لشيء آخر، لأنه ليس البحث عن شيء معين كالإنسان أو الآلة، بل البحث عن المخلوق من حيث هو مخلوق لا عن مخلوق معين، وعن الخالق من حيث وصفه بالإيجاد من عدم، فلا يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في وقت واحد، فالخالق هو ما سوى المخلوقات. وأمّا كونه أزلياً أي لا أول له فلأنه إذا كان له أول كان مخلوقاً، إذ قد بُدئ وجوده من حد معين، فكونه خالقاً يقضي بأن يكون أزلياً. إذ الأزلي تستند إليه الأشياء ولا يستند إلى شيء. وهذا الأزلي الخالق هو مدلول كلمة الله أي هو الله تعالى، وأيضاً فإن الأشياء التي يدركها العقل هي الإنسان والحياة والكون. وهذه الأشياء محدودة، فهي مخلوقة. فالإنسان محدود، لأنه ينمو في كل شيء إلى حد ما لا يتجاوزه، فهو محدود. ولأن الإنسان جنس متمثل تمثلاً كلياً في كل فرد من أفراده. فكل فرد إنسان، ولا يوجد أي فرق بين فرد وفرد في الخواص الإنسانية، فما يصدُق على فرد من الإنسان يصدُق على الآخر، كأي جنس من الأجناس كالذهب في قطعه الصافية وكالأسد في الحيوان وكحبة التفاح في جنسها من الفواكه، وهكذا. فالجنس، أي جنس، ينطبق عليه كله ما ينطبق على كل فرد من أفراده. وأبسط ما يشاهَد أن الفرد يموت وأن الإنسان يموت. فجنس الإنسان قطعاً يموت، وهذا يعني أن هذا الجنس محدود قطعاً. ومجرد التسليم بأن الإنسان يموت معناه التسليم بأن الإنسان محدود.
ولا يقال إن الإنسان الفرد هو الذي يموت، ولكن جنس الإنسان لا يموت، بدليل أنه في كل عصر يموت الملايين ومع ذلك فإن في العصر الذي بعده بدل أن يفنى الإنسان مع الزمن نراه بالمشاهدة يكثر، فهو إذن لا يموت كجنس بل يموت كفرد. لا يقال ذلك، لأن جنس الإنسان ليس مركباً من مجموع أفراد حتى يقال إن الفرد يموت والمجموع لا يموت، فيوصَل من ذلك إلى أن الجنس لا يموت. بل الإنسان هو ماهية معينة تتمثل في أفراد تمثلاً كلياً دون فرق بين فرد وفرد، وذلك كالماء وكالبترول وكالقمح وككل جنس. ولذلك فإن الحكم عليه لا يجوز أن ينصب على مجموعه، لأن جنسه ليس مركباً من مجموعه، وإنّما الحكم عليه ينصب على ماهيته، أي على جنسه. فما يصدُق على الماهية في فرد يصدُق على الجنس كله مهما تعددت أفراده. وبما أن الماهية متحققة كلها في الفرد الواحد، وفي كل فرد، والفرد الواحد يموت، معناه جنس الإنسان يموت. أمّا المشاهَدة فإنه لا يجوز أن تُحكَّم لأنها مشاهَدة لغير المطلوب البرهان عليه، فهي مشاهَدة للمجموع وهو غير الجنس. فهي فوق كونها مشاهَدة ناقصة لا تحكَّم لأنها ليست الجنس. ألا ترى أن الماء في البحار لا تنفد مهما أخذتَ منها، وهذا يعني أنها ليست محدودة، وأن البترول لا ينفد مهما أخذتَ منه وهذا يعني أنه ليس محدوداً؟ ألا ترى أن القمح يتزايد مع الاستهلاك الكثير منه؟ فإذا نظرنا إلى مجموعه معناه لا ينفد، مع أن الواقع أن جنسه ينفد، ومعناه أنه ينفد. وجنس الإنسان المتمثل في الفرد الواحد يموت، معناه أن جنس الإنسان من حيث هو يموت، وعليه فإن الإنسان محدود.
والحياة محدودة لأن مظهرها فردي فقط، والمشاهَد بالحس أنها تنتهي في الفرد، فهي محدودة. إذ الحياة في الإنسان هي عين الحياة في الحيوان، وهي ليست خارج هذا الفرد بل فيه. وهي شيء يُحَس وإن كان لا يُلمس، ويفرّق بالحس بين الحي وبين الميت. فهذا الشيء المحسوس، والذي هو موجود في الكائن الحين، والذي من مظاهره النمو والحركة، هو ممثل كلياً وجزئياً في الفرد الواحد لا يرتبط بأي شيء غيره مطلقاً، وهو في كل فرد من أفراد الأحياء كالفرد الآخر سواء بسواء، فهو جنس متمثل بأفراد كالإنسان. وما دامت تنتهي هذه الحياة في الفرد الواحد فمعناه أن جنس الحياة ينتهي، فهي محدودة.
والكون محدود لأنه مجموع أجرام، وكل جرم منها محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة. وذلك لأن كل جرم منها له أول وله آخر، فمهما تعددت هذه الأجرام فإنها تظل تنتهي بمحدود. فالمحدودية ليست بعدد الأجرام، بل هي بكون لها أول ولها آخر، بل تثبُت بمجرد وجود الأول ومجرد أن قيل أكثر من واحد يحتم حينئذ المحدودية، لأن الذي يزيد شيء محدود، فتظل الزيادة حاصلة بمحدود لمحدود، فيظل الجميع محدوداً. وعليه فالكون محدود. وعلى ذلك فالإنسان والحياة والكون محدودة قطعاً.
وحين ننظر إلى المحدود نجده ليس أزلياً، وإلاّ لَما كان محدوداً، لأن هذا المدرَك المحسوس إما أن يكون له أول فيكون ليس أزلياً، وإما أن يكون لا أول له فيكون أزلياً. وثبت أن المحدود له أول فلا يكون أزلياً، لأن مدلول الأزلي أن لا أول له، وما لا أول له لا آخر له قطعاً، لأن وجود آخر يقتضي وجود أول، لأن مجرد البدء لا يكون إلاّ من نقطة، وهذا يعني أن النهاية لا بد منها ما دام قد حصل البدء من نقطة، سواء أكان ذلك في الزمان أم المكان أم الأشياء أم غير ذلك. وهذا حتمي في الحسيات، وكذلك حتمي في المعقولات، لأن المعقولات هي حسيات، وما لم تكن حسيات لا تكون معقولات. وعليه فكل ما له أول له آخر، فمدلول الأزلي أنه لا أول له ولا آخر له، فهو غير محدود. فالمحدود ليس أزلياً. فكون الكون والإنسان والحياة محدودة معناه ليست أزلية وإلاّ لَما كانت محدودة. وما دامت ليست أزلية فهي مخلوقة لغيرها. فالكون والإنسان والحياة لا بد أن تكون مخلوقة لغيرها. وهذا الغير هو خالقها أي هو خالق الكون والإنسان والحياة. فوجودها يدل على وجود خالق.
والخالق إما أن يكون مخلوقاً لغيره أو خالقاً لنفسه أو أزلياً، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة. أمّا أنه مخلوق لغيره فباطل لأنه يكون محدوداً، وثبت أن الخالق غير محدود. وأمّا أنه خالق لنفسه فباطل، لأنه يكون مخلوقاً لنفسه وخالقاً لنفسه في آن واحد، وهذا باطل أيضاً. فلا بد أن يكون أزلياً لا أول له، لا يستند إلى شيء والأشياء تستند إليه، وهو مدلول كلمة الله تعالى، أي هذا المسمى يعني هو الله تعالى. أي أن المتصف بهذه الصفات هو الخالق قطعاً وهو الله تعالى. فإدراك هذا الوجود حصل بالحس لأنه واقع محسوس، ولكن ذات الأزلي، أي ذات الله لا تُحس فلا يُطلب من العقل أن يدركها مطلقاً.
ولا يقال إن هذا إيمان بالمجهول. فإنه ليس مجهولاً بل هو معلوم بصفاته، فهو إيمان بمعلوم وليس بمجهول. ولا يقال كيف يمكن تصور الأزلي وهو ما لا أول له مع أن الأذهان لا يمكنها تصور غير المحدود؟ لا يقال هذا لأن الأذهان حقيقة لا تتصور الأزلي وإنّما تدرك وجوده فقط. ولا يقال كيف يجبَر الإنسان على الإيمان بما لا يستطيع تصوره؟ لأن الذي يجبَر على الإيمان به إدراك وجوده إدراكاً قطعياً، والإدراك أتى من وجود المحسوسات. ولهذا لا يُطلب من العقل إلاّ إدراك الواقع المحسوس ليس غير.
وكذلك لا يُطلب من العقل الوصول إلى نتيجة غير النتيجة التي توصِل إليها العملية العقلية التي يقوم بها، فإن ذلك يستحيل الحصول عليه من نفس العملية، بل لا بد لها من عملية أخرى. فلا يُطلب من عالم الذرّة وهو يقوم بعملية عقلية لتحطيم الذرّة أن يصل من هذه العملية إلى الإيمان بوجود الله، لأن العملية العقلية التي يقوم بها لا توصِل إلى هذه النتيجة، وإنّما تحتاج إلى عملية أخرى، ولذلك لا يستغرب المرء أن يشاهد عقلية جبارة تقوم بأدق الأعمال وتصل إلى أضخم النتائج كعالِم الذرّة مثلاً ثم نشاهد هذه العقلية نفسها تذهب إلى الكنيسة لتصلي إلى خشبة، وتعتقد أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، وأن المسيح ابن الله، أو ما شاكل ذلك. لا يُستغرب هذا لأن هذه العقلية لم تُستعمل للوصول إلى وجود الله وصفات الألوهية وإنّما استُعملت لتحطيم الذرّة وعُطلت فيما عدا ذلك. وكذلك لا يُستغرب أن يوجَد عالم يبحث في النبات ويشاهد دقة الخلق وحكمة الصنع ومع ذلك لا يصل إلى وجود الله بل يظل ملحداً ينرك وجود الله. لا يُستغرب ذلك لأن العملية العقلية التي كان يقوم بها وهو يشاهد النبات كانت للوصول إلى معلومات فقط. والوصول إلى أن هذه الدقة في الصنع لا تحصل صدفة، ولا تكون إلاّ من مبدع تحتاج إلى عملية أخرى لم يقم بها هذا العالم وظلت معطَّلة عند البحث في وجود الخالق. ولذلك كان عدم وصوله إلى الإيمان من العملية العلمية أمراً غير مستغرَب. وكذلك حين يُستعمل العقل لفهم نص تشريعي لا يتطلب في تلك العملية أن يصل إلى أن هذه المعالجة صحيحة أم لا، بل المطلوب منه فقط أن يصل اى ما يدل عليه هذا النص من معالجة، لا إلى كون هذه المعالجة صحيحة أم لا. والوصول إلى أن هذه المعالجة صحيحة أم لا يحتاج إلى عملية عقلية أخرى يكون العقل هو دليل المعالجة وليس النص، بغض النظر عن كون هذا النص تشريعاً من الله أو تشريعاً من الإنسان. فالعقل حين يبحث مادة في القانون المدني إنّما يُطلب منه الوصول إلى ما تدل عليه لا إلى كون ما تدل عليه صحيحاً أم لا، فإذا أريد معرفة ما تدل عليه صحيحاً أم لا يحتاج إلى عملية أخرى وهي البحث في المعنى الذي دلت عليه لا في النص الذي دل على المعنى هل هذا المعنى صحيح أم لا، وحينئذ يكون العقل هو الدليل على المعنى وليس النص، وفي حالة البحث في معنى النص يكون النص دليلاً على المعنى وليس العقل.
هذا هو الأمر الحتمي في استعمال العقل. وعليه فإن العقل حين يُستعمل في الإسلام للوصول إلى نتائج يجب أن يفرَّق بين استعماله في العقيدة للوصول إلى الإيمان، وبين استعماله في الأحكام الشرعية للوصول إلى فهم النصوص الشرعية. فحين يُستعمل العقل في العقيدة تكون النتيجة المطلوبة منه في هذه العملية هي الوصول إلى أن هذا الفكر صحيح أم خطأ، لأنه يكون العقل حينئذ دليلاً على صحة الفكر أو خطئه. أما حين يُستعمل العقل في الأحكام الشرعية فإن النتيجة المطلوبة منه في هذه العملية هي الوصول إلى معرفة الفكر الذي يدل عليه النص ما هو: هل هو فكر كذا أم فكر كذا أم ماذا؟ فالمطلوب منه ليس الحكم على الفكر الذي دل عليه النص بأنه خطأ أم صواب، بل المطلوب منه هو: ما هو الفكر الذي دل عليه هذا النص، وذلك لأن الدليل على الفكر في هذا هو النص وليس العقل. وعلى ذلك فإن وظيفة العقل في فهم النصوص الشرعية هي الفهم ليس غير. فلا يحكم بصحة الأحكام التي دلت عليها أو فسادها لأنه ليس دليلاً على الأحكام بل أدلتها هي النصوص الشرعية، وما دلت عليه النصوص الشرعية من أدلة، ولأن المطلوب منه هو فهم النص لا الحكم على صحة ما فيه أو خطئه.
http://www.4uarab.com/vb/images/statusicon/user_offline.gif
rajaab
06-07-2005, 05:32 PM
أمّا العقائد فإن وظيفة العقل فيها هي إدراك صحتها أو خطئها لأنه دليل على العقائد، ولأن المطلوب منه هو الحكم عليها هل هي صحيحة أم فاسدة.
هذه هي طريقة استعمال العقل في الإسلام، يُستعمل في العقائد دليلاً عليها ويُتخذ حَكَماً في صحتها أو فسادها، ويُستعمل في الأحكام الشرعية طريقة لفهم النصوص التي دلت عليها أي لفهم الأدلة التي دلت على أنها أحكام شرعية، لأنه في العقيدة من الأدلة مع الكتاب والسنّة، وأمّا في الأحكام الشرعية فليس من الأدلة بل أدلة الأحكام الشرعية هي النصوص الشرعية ليس غير، أي الكتاب والسنّة وما دل عليه الكتاب والسنّة من أدلة كإجماع الصحابة والقياس مثلاً.
والدليل الشرعي على فكر من العقائد لا بد أن يكون دليلاً قطعياً، بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجوز أن يكون دليلها دليلاً ظنياً. وذلك أنه لمّا كانت الأفكار التي هي عقائد، الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عند المسلم، ويقوم عليها الإسلام في الحياة، أوجب الإسلام أن يكون أخذها أخذاً يقينياً جازماً، وأوجب أن يكون برهانها برهاناً يقينياً جازماً. فالعقيدة في الإسلام هي التصديق الجازم المطابق للواقع عن يقين. فالتصديق غير الجازم لا يعتبر من العقيدة الإسلامية، والتصديق الجازم غير المطابق للواقع لا يعتبر من العقيدة الإسلامية، بل لا بد أن يجتمع في الفكر أمران اثنان: أحدهما الجزم في التصديق، والثاني مطابقته للواقع عن يقين، حتى يعتبر هذا الفكر من العقيدة الإسلامية. ولذلك جاء القرآن الكريم في صريح آياته يأمر أمراً جازماً بأن تكون العقائد عن يقين، ونهى نهياً جازماً عن أخذ العقائد من الدليل الظني، قال الله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليُسمّون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلاّ الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)، وقال تعالى: (إن هي إلاّ أسماء سمّيتُموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتّبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)، وقال عز وجل: (وإن تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله إن يتّبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يَخرُصون)، وقال جل شأنه: (وما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتّبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يَخرُصون)، فهذه الآيات دليل شرعي يثبِت أن العقائد لا تؤخذ إلاّ عن يقين ولا تؤخذ عن الظن.
أمّا وجه الاستدلال في هذه الآيات فهو أنها حُصرت في العقائد، فكان موضوعها العقائد فحسب، وأيضاً فإن الله ذم بها الذين يبنون عقائدهم على الظن، وقال ما هم إلاّ كاذبون، وذمه هذا نهي جازم عن بناء الاعتقاد على الظن. فقال عن الذين لا يؤمنون بالآخرة إنهم لم يبنوا اعتقادهم على العلم أي على اليقين القطعي، بل بنوه على الظن، وختم الآية بأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً. وقال عن الذين يعتقدون أن الملائكة إناث بأن اعتقادهم هذا لا يُبن على برهان بل اتبعوا فيه الظن وما تهواه نفوسهم، واعتبر الضلال هو الكفر أنه قد حصل من اتباع الظن، وأن هذا ما هو إلاّ كذب. وقال عن الذين يعبدون الأصنام بأنهم في عبادتهم الله واتخاذهم شركاء لله اعتقاداً منهم أنها تنفع إن يتبعون إلاّ الظن وما هم في ذلك إلاّ يكذبون.
فالآيات واضح فيها أنها محصورة في العقائد، وصريح فيها الذم لمن يبني عقيدته على الظن لا على الجزم واليقين بوصفه أنه يكذب وأنه يتبع الهوى وأن ما يتبعه لا يغني عن الحق شيئاً، وهذا كله أمر بوجوب بناء العقيدة على العلم، أي على اليقين الجازم المقطوع به. وهو في نفس الوقت نهي جازم عن بناء العقيدة على الظن، ويدل بشكل صريح واضح على أن الذين يبنون عقائدهم على الظن لا ينفعهم هذا الاعتقاد أمام الله لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، بل يجب أن يتحروا ويبحثوا حتى يكون اعتقادهم مبنياً على الجزم والقطع بحيث يكون الدليل دليلاً يقينياً، ولا يجوز أن يكون ظنياً مطلقاً.
فالفكر الذي هو من العقيدة يجب أن يثبُت بالدليل القطيع ولا يقبل أن يثبُت بالدليل الظني ولو كان دليلاً شرعياً. صحيح أن الذي يبني اعتقاده على دليل ظني لا يكفر لأن الله حين ذمه في الآيات لم يقل عنه إن ضل أو كفر، بل قل عنه إنْ هو إلاّ يكذب، وإنْ هو إلاّ يتبع ما تهوى الأنفس، وأن ما اتبعه لا يغني عن الحق شيئاً، وهذا لا يجعله يكفر ولكنه يأثم ويكون قد ارتكب حراماً في بناء اعتقاده على الظن، لأنه خالَف فرضاً فرضه الله عليه، فالله أوجب بناء العقيدة على اليقين فبناها هو على الظن، ولأنه فعل ما نهاه الله عنه نهياً جازماً فيكون قد ارتكب حراماً لأن الله نهى نهياً جازماً عن أن تُبنى العقائد على الظن فبناها هو على الظن. فيكون الإسلام قد حدد الكيفية التي يُتوصل بها إلى أخذ الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عند المسلم ويقوم عليه في الحياة تحديداً دقيقاً بشكل واضح.
أمّا ما هي الأدلة اليقينية التي تؤخذ العقيدة منها، فإنه مِن تتبُّع الأدلة الشرعية على الإسلام نجد الأدلة اليقينية محصورة في ثلاثة أدلة هي: العقل، والقرآن الكريم، والحديث المتواتر، وهو الذي ثبت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاله ثبوتاً قطعياً لا يتطرق إليه ارتياب. وما عدا هذه الأدلة الثلاثة لا تؤخذ منه العقيدة مطلقاً، ويحرم أخذ العقيدة من غيرها، لأنه ظن وليس بيقين.
أمّا الأحكام فإنه لا يُشترط لأخذها أن يكون دليلها دليلاً قطعياً بل يكفي أن يكون ظنياً. فإذا غلب على ظن المسلم أن هذا الحكم هو حكم الله في المسألة جاز أخذه، بل أصبح حكم الله في حقه. فالآية من القرآن إذا كانت تحتمل عدة معان فإن دلالتها على الحكم الشرعي دلالة ظنية، فقد يفهمها شخص على وجه ويفهمها شخص آخر على وجه آخر، وكل منهما حكم شرعي. وكذلك الحديث المتواتر إذا كان يحتمل عدة معاني فإن دلالته على الحكم الشرعي دلالة ظنية. وأيضاً الحديث غير المتواتر هو ظني وليس بقطعي، وهو دليل على الحكم الشرعي ودلالته هذه دلالة ظنية سواء أكانت ألفاظه لا تدل إلاّ على معنى واحد أو كانت تدل على عدة معان، فدلالته ظنية، فيجوز أخذ الحكم الذي يدل عليه. والدليل على أن الدلالة الظنية كافية لأخذ الحكم ما رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (لا يُصلِّيَنَّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرد منا ذلك. فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف أحداً منهم). فهذا صريح بأن الرسول قد أقر أخذ الحكم الشرعي بغلبة الظن. على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في وقت واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام، وكان كل رسول واحداً في الجهة التي أُرسِل إليها. فلو لم يكن تبليغ الدعوة واجب الاتباع بخبر الواحد لَما اكتفى الرسول بإرسال واحد لتبليغ الإسلام، فكان هذا دليلاً صريحاً من عمل الرسول على أن خبر الواحد حجة في التبليغ، وخبر الواحد ظني. وأيضاً كان الرسول يُرسل الكتب إلى الولاة على يد آحاد من الرسل ولم يخطر لواحد من ولاته ترك إنفاذ أمره لأن الرسول واحد، بل كان يلتزم بما جاء به الرسول من عند النبي عليه السلام من أحكام وأوامر، فكان ذلك دليلاً صريحاً من عمل الرسول على أن خبر الآحاد حجة في وجوب العمل في الأحكام الشرعية وفي أوامر الرسول ونواهيه، وإلاّ لَما اكتفى الرسول بإرسال واحد إلى الوالي، ومعلوم أن خبر الواحد ظني. فهذا كله دليل على أن الأحكام الشرعية يكفي لأخذها غلبة الظن.
فهذه الأحكام الشرعية هي معالَجات مشاكل الحياة، أي هي التشريع الإسلامي. وبعبارة أخرى هي أحكام أفعال الإنسان من حيث هو إنسان، فالبحث في التشريع الإسلامي إنّما هو بحث في الأحكام الشرعية.
والتشريع الإسلامي لا يسير على الطريقة التي سار عليها التشريع الغربي، فهو لا يجعل الحرية موضع بحث مطلقاً، لا في إثباتها ولا في نفيها، وإنّما يجعل موضع البحث الأساسي أفعال الإنسان. فالتشريع إنّما جاء لمعالجة أفعال الإنسان، ولم يأت ليقرر الحرية أو ينفيها. فهو لا ينظر إلى الإنسان من حيث قيامه بأفعاله على أساس الحرية أو عدمها، وإنّما ينظر على أساس أن هذه أفعال تصدر من الإنسان فما هو حكمها؟ ولذلك جاء إلى أفعال فأوجب القيام بها، ورتب عقاباً من الدولة على من لا يقوم بهذا الفرض. وجاء إلى أفعال فحرم القيام بها ورتب عقاباً من الدولة على من يقوم بهذه الأفعال، أي على من يأتي هذا الحرام، وأوعد بعقاب يوم القيامة لكل من يترك فرضاً أو يفعل حراماً. وجاء إلى أفعال فطلب القيام بها ولكنه لم يرتب أي عقاب من الدولة على تركها ولا جعل يوم القيامة عذاباً على تركها، وهو ما يقال له: المندوبات. وجاء إلى أفعال فطلب تركها ولكنه لم يرتب أي عقاب من الدولة على فعلها. وجاء إلى أفعال فخيّر في فِعلها أو تركها، أي أباحها.
فالقضية إذن في نظرة التشريع الإسلامي لأفعال الإنسان هي أنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فأوجب فعل بعضها وحرم فعل البعض الآخر، وأنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فرغّب في فعل بعضها مجرد ترغيب من غير أن يرتب أي عقاب على عدم الاستجابة لهذا الترغيب، أي على تركها. ونفّر مِن فِعل البعض الآخر مجرد تنفير من غير أن يرتب أي عقاب على عدم الاستجابة لهذا التنفير، أي على فِعلها. وأنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فأباح له فعلها وتركها. هذا هو موقف التشريع الإسلامي من الإنسان. وعلى ذلك فالحرية ليست ذات موضوع في بحث التشريع الإسلامي مطلقاً، لا نفياً ولا إثباتاً.
إلاّ أن تقسيم أحكام فعل الإنسان إلى فرض وحرام ومندوب ومكروه ومباح لا يعني أن التشريع الإسلامي حصر أفعالاً فأوجبها بعينها، وحصر أفعالاً أخرى فحرّمها بعينها، وحصر أفعالاً ثالثة معيَّنة فرغّب في فِعلها، وحصر أفعالاً رابعة معيّنة فنفّر مِن فِعلها، ثم أطلق باقي الأفعال فجعلها مباحة.
بل التشريع الإسلامي أوامر ونواهٍ من الله تعالى جاءت بمعانٍ عامة محددة الوصف كالبيع مثلاً غير محدود الكم يعني أي بيع. فهذه الأوامر والنواهي تفيد الطلب أو التخيير. والطلب الذي تفيده إما طلب فعل طلباً جازماً، أو طلب فعل طلباً غير جازم، وإما طلب ترك طلباً جازماً، أو طلب ترك طلباً غير جازم، فكان هذا الطلب أو التخيير هو حكم أفعال الإنسان. فالحكم هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال الإنسان، ونوع هذا الحكم من حيث لزوم القيام بالعمل أو عدم لزومه، أو لزوم ترك الفعل أو عدم لزومه، أو إباحة القيام به أو تركه، إنّما هو مستفاد من هذا الخطاب، أي مستفاد من الطلب أو التخيير، أو بعبارة أخرى مستفاد من الأوامر والنواهي.
وعليه فإن المخاطَب بالحكم هو الإنسان، ولكن محل الخطاب هو أفعال الإنسان. وهذا الحكم الذي خوطب به ليس إعطاءه الحرية يفعل ما يراه، ولا هو تقييد هذه الحرية، بل هو علاج كل مشكلة تقع له في هذه الحياة، أي هو بيان حكم كل فعل يصدر من الإنسان بوصفه إنساناً.
وعلى هذا الأساس جاءت نصوص الأحكام في القرآن الكريم والحديث الشريف، فآيات الأحكام كلها والأحاديث التي تضمنت أحكاماً جاءت بأوامر ونواهٍ من الله تعالى أوحى بها إلى نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إما لفظاً ومعنى، وهو القرآن، وإما معنى والرسول عبّر عنها بلفظ من عنده، وهو الحديث، فكانت هذه الأوامر والنواهي هي علاج كل مشكلة تقع للإنسان في هذه الحياة الدنيا، أي فيها بيان كل حكم لأي فعل يصدر من الإنسان بوصفه إنساناً سواء أكان حكم إباحة أم حكم تحريم، فالإباحة حكم يحتاج إلى دليل كالتحريم سواء بسواء.
والناظر في هذه الأوامر والنواهي أي في خطاب الشارع، يجد أنه متعلق بفعل الإنسان من حيث هو إنسان، ومتعلق بأفعال موصوفة وصفاً عاماً، أي جاء بمعانٍ عامة تنطبق على كل ما يندرج تحتها. فالطلب والتخيير حين أعطى حلول المشاكل أي أحكام الوقائع، جعل هذا الحكم خطاً عريضاً أي معنى عاماً. فهو قد أعطى حكم فعل ولكنه أعطى حكم جنس الفعل أو نوعه بوصف عام، لا حكم فعل واحد أو أفعال محدودة العدد، ولذلك كان منطبقاً على كل فعل من جنسه أو من نوعه، وعلى كل ما يدل عليه الوصف العام وما يندرج تحت المعنى العام إن كان الوصف غير معلَّل، وعلى كل ما ينطبق عليه الوصف العام أو يندرج تحت المعنى العام، مع كل ما تنطبق عليه علّة الحكم للوصف إن كان الوصف معلَّلاً. فهو يقول هذا حكم البيع أو هذا حكم خيار البيع أو هذا حكم الصرف، فيقول: (وأحل الله البيع)، ويقول: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ويقول: (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد)، ويقول: (والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مِثلاً بمِثل فما زاد فهو ربى)، وكذلك يقول: هذا حكم تقسيم الفيء، وهذه علامة على حكم تداول المال بين الأغنياء وحدهم. وهذا حكم مراعي الماشية، وهذه علامة حكم ما هو من مرافق الجماعة. أو هذا حكم إقطاع الدولة رعاياها مما ليس ملكاً لأحد، وهذه علامة حكم المعادن. فيقول في تقسيم الفيء على المهاجرين دون الأنصار: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم)، ويقول: (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، ويقول، أي النص: (عن عمر بن قيس التأربي قال: استقطعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح فأقطعنيه. فقيل: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العَدّ –يعني أنه لا ينقطع- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا، إذن). ولهذا فهو أي النص، ينطبق على أفعال الإنسان المتجددة والمتعددة مهما تنوعت واختلفت.
ومن هنا يأتي الاستنباط من هذه المعاني العامة لكل مشكلة من المشاكل المتجددة والمتعددة للإنسان، ولهذا لا توجد واقعة حدثت إلاّ ولها محل حكم، ولا حادثة تحدث إلاّ ولها أيضاً محل حكم، ولا مشكلة يمكن واقعياً لا فرضياً أن تقع إلاّ ولها كذلك محل حكم. وقد أعطى الشارع النص على هذا الوجه وترك للعقل البشري أن يجالد ويناضل ويبذل أقصى الجهد لاستنباط أحكام المسائل المتجددة والمتعددة من هذه النصوص، وجعل الاجتهاد ليس مباحاً فحسب بل جعله فرض كفاية لا يصح أن يخلو عصر منه، وإذا خلا عصر من مجتهدين فقد أثِم كل المسلمين.
هذا هو واقع التشريع الإسلامي وذاك هو واقع التشريع الغربي وهذا هو الفرق الشاسع بين التشريعين، بين تشريع مبني على أساس ظني باطل ويعطي معالجات فاسدة، وبين تشريع مبني على أساس قطعي حق ويعطي التشريعات الصحيحة بل التشريعات التي تعتبر وحدها هي الصحيحة. ولكن الواقع الذي حدث هو أن التشريع الغربي تحدى التشريع الإسلامي تحدياً صارخاً، وكان من نتيجة هذا التحدي أن هُزم المسلمون، ثم كان من نتيجة هذه الهزيمة أن دُمّروا سياسياً تدميراً تاماً ومُزّقوا شر مُمزَّق. وإن المرء ليأخذه العجب والدهشة حين يدرك بطلان التشريع الغربي وعجزه عن مواجهة مشاكل الإنسان، ثم يدرك صحة التشريع الإسلامي وقدرته على مواجهة كل مشكلة تعرض لإنسان وحلها الحل الصحيح، ويشاهِد هزيمة المسلمين أصحاب المبدأ الحق أمام تحدي المبدأ الباطل.
إن المسلمين حين هاجمهم الغربيون بالتشريع الغربي، وتحدوا بالنظام الرأسمالي نظام الإسلام كانوا مشدوهين بالانقلاب الصناعي الهائل الذي حصل في الغرب، فانساقوا في الرد على هذا التحدي على الصعيد الخاطئ الذي وضعوه لهم وهو أن النظام الغربي يعالج المشاكل بعلاج كذا وليس في الإسلام هذا العلاج ولا مثله، فربطوا في أنفسهم العلاج الرأسمالي للمشاكل بعظمة الاختراعات والصناعات، وصاروا يبحثون في الإسلام عن علاج لهذه المشكلة كما عالجها التشريع الغربي، وهنا حصل الخلل في البحث وحصل الخلل في التفكير، فكان من جرائه حصول الخلل في الثقة في أحكام الإسلام التي يخالف علاجها علاج أحكام الغرب وتشريعه.
إن التشريع الإسلامي منبثق عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو بعبارة أخرى منبثق عن الكتاب والسنّة المقطوع بأنهما وحي من الله، فما فُهم منها من أدلة إجمالية، أو قواعد عامة، أو تعاريف شرعية، أو أحكام كلية أو جزئية هو التشريع الإسلامي. فما يَرد من مشاكل يُعرض عليها ويُستنبط حكمه منها. وعلى ذلك فإن المسائل الجديدة والمسائل التي لا تقع إلاّ في المجتمع الرأسمالي حين يهاجَم بها الإسلام بأنه لا توجد فيه معالجات لها، يجب أن يُفهم واقع المشكلة وليس حكمها المعين. فإذا فُهم الواقع طُبق على هذا الواقع ما في الشريعة من نصوص أو قواعد أو تعاريف أو أحكام وأُعطي الرأي الإسلامي بها. أمّا حكمها المعيَّن سواء أكان صواباً أم خطأ فإنه ليس هو المسؤول عنه. فليس جعْل الشريعة الإسلامية تقول بما يقول به النظام الرأسمالي في شركات المساهمة والتأمين والتجارة الخارجية والبنوك وما شاكل ذلك هو المسؤول عنه بل المسؤولية عنه هو رأي الشريعة الإسلامية في هذه الوقائع، فإن أعطت رأيها هي في كل مشكلة متجددة فإنها تكون شريعة كاملة بغض النظر عن كون هذا الرأي وافق ما يقوله النظام الرأسمالي أم خالفه.
لكن المسلمين لم يبينوا فساد التشريع الغربي حتى يحكموا رأساً على فساد أحكام النظام الرأسمالي بل ربطوا في أنفسهم معالجاته مع عظمة الاختراعات والصناعة في الغرب. وكذلك لم يبينوا أن المسؤول عنه هو حكم الإسلام في واقع المشكلة وليس جعل الإسلام يقول بما يقوله التشريع الغربي في هذه المشكلة. فأخذوا يبحثون في الإسلام عن رأي يوافق ما يقوله النظام الرأسمالي أو لا يخالفه، حتى يبرهنوا على صلاحية الإسلام لمجاراة العصر، فكان هذا هو الهزيمة المنكَرة.
فمثلاً حين يُسأل المسلمون عن شركات المساهمة، لا يُسألون هل الإسلام قادر أن يقول بما يقوله النظام الرأسمالي في شركات المساهمة حتى يعتبر صالحاً لمجاراة العصر، وإنّما يُسأل المسلمون ما هو رأي الإسلام في شركات المساهمة؟ فيكون الجواب أن واقع المشكلة في شركات المساهمة هي شركة مكونة من شركاء يجهلهم الجمهور، والمؤسِّس في شركة المساهمة هو كل من وقع العقد الابتدائي للشركة، ويكون الاكتتاب في الشركة بالتزام الشخص بشراء سهم أو أكثر في مشروع الشركة مقابل قيمتها الاسمية. ويحصل عقد شركة المساهمة بإحدى وسيلتين: إحداهما أن يختص المؤسسون بأسهم الشركة ويوزعونها بينهم دون عرضها على الجمهور، وذلك بتحرير الصك المتضمن الشروط التي ستسير عليها الشركة ثم توقيعه من قِبلهم، فكل من يوقع الصك يعتبر مؤسساً للشركة ومساهماً فيها. فهذا الصك هو العقد وليس عقد شركة المساهمة إيجاباً وقبولاً. والوسيلة الثانية أن يقوم بضعة أشخاص بتأسيس شركة مساهمة ويضعون الصك المتضمن شروط الشركة ثم تُطرح الأسهم على الجمهور للاكتتاب العام فيها، وحين ينتهي أجل الاكتتاب في الشركة يجتمع المساهمون ويكوّنون جمعية تأسيسية، وينتخبون مجلس إدارة لإدارة الشركة، وتبدأ الشركة أعمالها.
وهذه الشركة أي شركة المساهمة هي في النظام الرأسمالي أي التشريع الغربي تصرف من جانب واحد أي من شخص واحد لا من شخصين، ويسمونها الإرادة المنفردة، ولذلك يقولون إن شركة المساهمة ضرب من ضروب التصرف بالإرادة المنفردة، إذ عندهم العقد تطابُق إرادتين ويجعلون معاملات معينة تدخل تحته كالبيع والإجارة، وعندهم الإرادة المنفردة وهي كل شخص التزم أمراً من جانبه كشركة المساهمة، والجمعيات التعاونية، والوصية. فالشريك في شركة المساهمة يلتزم من جانبه شراء كذا أسهم يدفع ثمنها كذا ديناراً، بغض النظر عن قبول أحد من المساهمين الآخرين أو رفضه، وبغض النظر عن رضاه أو سخطه، بل مجرد توقيعه للعقد أو شرائه للأسهم صار شريكاً. ولذلك تباع أسهم شركات المساهمة كما تباع السندات وكما تُتداول أوراق النقد، فمجرد دفع المشتري ثمن الأسهم يصبح شريكاً. وقد عرّف الغربيون شركات المساهمة بأنها "عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي بتقديم حصة من مال لاقتسام ما قد ينشأ من هذا المشروع من ربح أو خسارة".
هذا هو واقع شركة المساهمة، وبعرضها على التشريع الإسلامي يتبين أنها شركة باطلة وحرام الاشتراك فيها، لأن كل معاملة باطلة هي حرام شرعاً. أمّا بطلانها فلأن التشريع الإسلامي قد بين واقع الشركة وأحكامها، فتعريف الشركة في الإسلام هو أنها عقد بين اثنين فأكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح، فهي شرعاً ضرب من ضروب التصرف الجاري بين شخصين اثنين، وليست من قبيل التصرف الصادر من شخص واحد. فالشركة من حيث هي، أي جنس الشركة في الإسلام عقد، أياً كان نوعها، والعقد شرعاً يقتضي وجود الإيجاب والقبول فيه معاً في مجلس واحد، فلا بد أن يكون هناك طرفان في العقد أحدهما يتولى الإيجاب بأن يبدأ بعرض العقد كأن يقول: زوجتك أو بعتك أو أجّرتك أو شاركتك أو ما شاكل ذلك، والآخر يتولى القبول كأن يقول: قبلت أو رضيت أو ما شاكل ذلك. فإن خلا العقد من وجود طرفين، أو من الإيجاب والقبول، لم ينعقد وكان باطلاً، لا فرق في ذلك شرعاً بين البيع وبين الشركة. وشركة المساهمة هي حكم من أحكام التشريع الغربي، والتشريع الغربي يعتبرها من قبيل الإرادة المنفردة وليس من قبيل عقد البيع، فهي خالية من وجود طرفين، وإنّما الذي فيه طرف واحد متعدد التزم شيئاً ولم يتفق مع أحد على التزام شيء، والتشريع الإسلامي جعل الشركة من قبيل عقد البيع والإجارة والوكالة ونحوها ولم يجعلها من قبيل تصرف الوقف والوصية والجُعالة ونحوها، ولذلك فهي شرعاً باطلة لم تنعقد مطلقاً. ففي هذه المسألة طبّق واقع المسألة على التعريف الشرعي فأُعطي حكمه من التعريف الشرعي وأُعطي الرأي الإسلامي فيه. وبالطبع التعريف الشرعي مأخوذ من النصوص الشرعية. فإن واقع الشركة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها شريكان وكانت تتم بإيجاب وقبول، رُوي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما (أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردّوه)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجتُ من بينهما)، وقال عليه السلام: (الربح على ما شَرَط العاقدان والوضيعة على قدر المال)، ورُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشرك بين عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص. فمن هذه النصوص أُخذ أن الشركة عقد بين اثنين وليست تصرفاً من شخص واحد، وأُخذ تعريف الشركة.
http://www.4uarab.com/vb/images/statusicon/user_offline.gif
rajaab
06-07-2005, 05:36 PM
هذا رأي الإسلام في شركات المساهمة، سواء وافق النظام الرأسمالي أو خالفه، يجب أن يقال وأن يُعمل به وحده، ويحرم أن يُفترى على الإسلام غيره، ويحرم أن يُعمل بسواه. والآن المطلوب هو رأي الإسلام في شركة المساهمة وليس جعل الإسلام يقول رأي النظام الرأسمالي في شركة المساهمة.
ومثلاً حين يُسأل المسلمون عن التأمين "السكورتاه" لا يُسألون هل الإسلام قادر على أن يقول ما يقوله النظام الرأسمالي في التأمين حتى يصبح صالحاً لمجاراة العصر، وإنّما يُسأل ما هو رأي الإسلام في التأمين؟ فيكون الجواب أن واقع المشكلة في التأمين أنه ضمان من شركة التأمين للشخص أو السيارة أو البضاعة أو الممتلكات أو غير ذلك بأن تعطي المؤمَّن عين ما خسره أو ثمنه أو مبلغاً من المال حين حصول حادث ما يعيّنانه خلال مدة معينة مقابل مبلغ معين. هذا هو واقع التأمين، فهو ضمان، ولذلك يُطبَّق عليه حكم الإسلام في الضمان. والرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن في الحديث حكم الضمان، فقد روى أبو سعيد الخُدري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلمّا وُضعت قال: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم، درهمان. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال علي: هما عليّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على علي فقال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وفكّ رهانك كما فككتَ رهان أخيك). فهذا الحديث واضح فيه أنه ضم ذمة إلى ذمة، أي ضُمت ذمة علي لذمة المدين، وواضح فيه أنه ضمان حق ثابت في الذمة، وواضح فيه أن فيه ضامناً ومضموناً عنه وهو المدين ومضموناً له وهو الدائن، وواضح فيه أنه بدون عِوَض، ولذلك عُرّف الضمان شرعاً بأنه ضم ذمة إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق دون عِوَض، أي هو التزام حق في الذمة من غير معاوضة. فعلى هذا يكون الحكم الشرعي في التأمين أنه حرام لا يجوز. وذلك لأنه ليس فيه ضم ذمة إلى ذمة، لأن شركة التأمين لم تضم ذمتها إلى أحد، ولأنه لا يوجد فيه حق مالي للمؤمن عند أحد قد التزمته شركة التأمين، ولأنه لا يوجد فيه مضمون عنه، ولأنه جرى بمعاوَضة. فهو خالٍ من جميع شروط التأمين التي اشترطها الشارع، ولذلك كان باطلاً. والمعاملات الباطلة حرام فكان التأمين حراماً. هذا رأي الإسلام في التأمين سواء وافق النظام الرأسمالي أم خالفه. فكون الشريعة الإسلامية صالحة لمعالجة مشاكل العصر لا يعني أن تعالجها حسب ما يكون النظام السائد في العصر أو المشهور فيه، وإنّما أن تبين رأيها فيه مهما كان هذا الرأي.
ومثلاً التجارة الخارجية أو العلاقات التجارية مع الدول، لا يُسأل المسلمون هل يقول الإسلام بحرية المبادلة أم بالحماية التجارية أم بسياسة الاقتصاد القومي أم بسياسة الاكتفاء الذاتي؟ لا يُسأل هذا السؤال، وإنّما يُسأل ما هو رأي الإسلام في العلاقات التجارية؟ والجواب على ذلك هو أن الله سبحانه وتعالى حين قال: (وأحلّ الله البيع)، وحين قال: (إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) (إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم)، قد أباح البيع والتجارة بلفظ العموم فهو يشمل كل بيع وكل تجارة سواء أكانت داخل سلطان الدولة الإسلامية أم خارجها، وهذا يشمل كل من يحمل تابعية الدولة الإسلامية، مسلماً كان أو غير مسلم. أمّا من لا يحمل تابعة الدولة الإسلامية فهو حربي سواء أكان حربياً فعلاً وهو من تكون حالة الحرب قائمة بيننا وبين دولته كاسرائيل، أم حربياً حكماً بأن لم تكن هنالك حالة حرب بيننا وبينهم كألمانيا. والحربي لا يدخل البلاد إلاّ بإذن خاص له لكل سفرة إن لم تكن بيننا وبين دولته معاهدة، أو حسب نصوص المعاهدة إن كانت بيننا وبين دولته معاهدة. وهذا الحكم في حق الحربي هو نفسه الحكم في حق ماله أي في تجارته التي يملكها. وهذا يعني أن التجارة الخارجية مباحة لرعايا الدولة الإسلامية دون قيد إلاّ السلع التي يكون فيها ضرر محقق فتُمنع هذه السلع فقط ما دام يتحق فيها الضرر قطعاً. وأمّا لغير رعايا الدولة فإن للدولة أن تضع لها القيود التي تراها بمعاهدات أو غير ذلك حسب أحكام الحربيين. فهذا الحكم الشرعي لا يُسأل عنه أي يوافق العصر أم لا، أي لا يُسأل عنه هل يوافق ما يقوله التشريع السائد في العصر، وإنّما يُسأل عنه فقط حسب دليله، ويقال ما يدل عليه الدليل مهما كان هذا الرأي.
ومثلاً المصارف "البنوك" لا يُسأل المسلمون هل الإسلام قادر أن يقول فيها ما يقوله النظام الرأسمالي من تنظيمها وإباحة الربا فيها بفائدة معقولة، وإنّما يُسأل المسلمون ما هو رأي الإسلام في المصارف "البنوك"؟ فيكون الجواب أن واقع المشكلة في البنوك هو أن البنك يقوم عمله بصورة رئيسية على الربا في القروض الطويلة الأجل والقصيرة الأجل، والحساب الجاري والاعتمادات وما شابه ذلك، ويقوم كذلك بتوصيل المال من بلد إلى بلد وبحفظ الأمانات. أمّا توصيل المال وحفظ الأمانات فهو مباح شرعاً سواء أكان بأجرة أم بغيرة أجرة. وأمّا معاملات الربا كلها فإنها حرام قطعاً لأن الله يقول: (وحرّم الربا)، ويقول: (وإن تُبتم فلكم رؤوس أموالكم)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّما الربا في النسيئة)، ويقول: (والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مِثلاً بمِثل، فما زاد فهو ربا)، وكلمة الربا في القرآن والحديث جاءت عامة تشمل كل ربا لأنها اسم جنس محلى بالألف واللام فيشمل جميع أنواع الربا سواء أكان ربا الفضل أم ربا النسيئة، وسواء أكان رباً معروفاً في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أم كان غير ربا معروف وصار جديداً. ولهذا لا يوجد أي احتمال لحِل أي نوع من أنواع الربا لعموم اللفظ. والعام يبقى على عمومه ما لم يَرِد دليل التخصيص، وهنا لم يرد مخصص فيظل على عمومه. على أن قوله تعالى: (فلكم رؤوس أموالكم) وقول الرسول: (فما زاد فهو ربا) صريح في تحريم كل ما يزيد على رأس المال من ربا مهما قل، ومهما كان اسمه ومهما كان نوع معاملاته. فكان الربا كله حرام.
هذا هو رأي الإسلام في الربا سواء وافق النظام الرأسمالي أم خالفه وسواء وافق العصر أم خالفه، وافق المصلحة أم خالفها، وافق المجتمع أم خالفه، كل ذلك لا قيمة له ما دام الدليل الشرعي يدل على حرمته. فليس كون الشريعة الإسلامية صالحة لأنه لا يوجد فيها ما يُحلل الربا لموافقة العصر أو لمراعاة المصلحة أو للمحافظة على الوضع الاقتصادي، بل هي صالحة لأنها قادرة على أن تقول رأيها في المشكلة مهما كان هذا الرأي. والربا من المسائل التي لا توجد إلاّ في المجتمع الرأسمالي، فلا توجد في المجتمع الشيوعي ولا في المجتمع الإسلامي. فحين يُطلب رأي الإسلام فيه أو رأي الشيوعية، يُطلب الرأي في واقع المشكلة وليس الرأي الذي يوافق ما يقوله النظام الرأسمالي.
وهكذا جميع المسائل التي تحدى النظام الرأسمالي فيها نظام الإسلام وهاجم فيها التشريع الإسلامي لأنه لا يستطيع مجاراة العصر ولا توجد فيه حلول لمشاكل لم يكن رد المسلمين فيها ببيان رأي الإسلام كما دلت عليه الأدلة الشرعية التفصيلية، وإنّما كان بمحاولة إيجاد حلول في الإسلام تقول بما يقوله النظام الرأسمالي. وبالطبع لا يمكن أن توجد هذه الحلول للتناقض البيّن بين النظام الرأسمالي وبين الإسلام، لذلك كانوا ينهزمون ويحاولون تأويل الإسلام ليوافق النظام الرأسمالي والتشريع الغربي. وقد شاع هذا وذاع ووُجدت من جرائه مفاهيم مغلوطة هي على درجة كبيرة من الخطر على المسلمين وعلى الإسلام نفسه، فقد وُجد مفهوم "أن الإسلام مرن متطور" ومفهوم "لا بد للإسلام من مسايرة الزمن" ووُجد مفهوم "أن لا بد من إيجاد انسجام بين الإسلام وبين العالم الحديث"، وما شاكل ذلك من مفاهيم، وهي تعني أن الإسلام يمكن تأويله فيقول الرأي الذي يريده أي إنسان منه ولو ناقض أسس الإسلام وأحكامه، فهذا هو معنى مرونته وتطوره، ويعني أن الإسلام يقول الرأي الذي يتفق مع ما هو سائر بين الناس ولو ناقض أسس الإسلام وأحكامه، فهذه مسايرة الزمن. ويعني أننا لا يصح أن نسير بجهة والكفار بجهة لأنهم هم الذين يسودون في العالم الحديث فيجب أن نؤوِّل الإسلام ليوافق ما عليه الكفار حتى نوجِد انسجاماً بينه وبين العالم الحديث.
وهذه المفاهيم المغلوطة يعني الأخذ بها ترك الإسلام واتباع النظام الرأسمالي، لأن الإسلام يناقض النظام الرأسمالي ولا يمكن إيجاد توفيق أو انسجام بينهما. فكل دعوة للتوفيق أو الانسجام بين الإسلام والكفر هي دعوة لأخذ الكفر وترك الإسلام. وفي هذا ما فيه من خطر على المسلمين وعلى الإسلام. صحيح أن الإسلام جاء بخطوط عريضة أي معان عامة وتَرك للعقل البشري أن يستنبط من هذه المعاني العامة الأحكام الشرعية للمشاكل المتجددة كل يوم والمتعددة بتعدد الوقائع، ولكن ذلك لا يعني أن هذا مرونة وتطور فيمكن المرء أن يأخذ أي حكم يريده منها، لأنها لا تعطي إلاّ ما فيها مما دل عليه اللفظ أو المعنى الذي دل عليه معنى اللفظ ولا يعطي ما لا يُفهم دلالة في إحدى الدلالات المعتبَرة. وكذلك لا يعني أن هذه المعاني العامة تساير كل عصر وكل زمن بل يعني أن كل عصر وكل زمن يجد حلول المشاكل التي تحصل فيه في هذه الخطوط العريضة حسب وجهة النظر التي فيها وحسب ما يدل عليه منطوق جُملها أو مفهومها لا حسب العصر والزمن من وجهة نظر أو حسب ما يسود في العصر من معالجات وأحكام.
أمّا مفهوم إيجاد انسجام بين الإسلام وبين العالم الحديث، فإنه يعني ترك الدعوة الإسلامية ويعني فوق ذلك حمل أفكار الكفر للمسلمين ودعوتهم لأخذها. إن العالم الحديث ليس الصناعات والاختراعات ولا العلوم والاكتشافات، فإن هذه ليست محل نزاع بين العالم وليست في حاجة إلى إيجاد انسجام بينها وبين الإسلام، بل العالم الحديث الذي كانوا يدعون لإيجاد انسجام بين الإسلام وبينه هو ما يسود في العالم من مبادئ وأنظمة، وهو يعني بالنسبة لنا معاشر المسلمين طريقة الغرب في الحياة ونظام الغرب في معالجة المشاكل، أي على حد تعبيرهم "ايديولوجية الغرب". هذا هو العالم الحديث الذي كانوا يريدون أن يوجِدوا الانسجام بين الإسلام وبينه. وهذا العالم الحديث هو محل نزاع بيننا معاشر المسلمين وبين الغرب الكفار الرأسماليين. فالعالم الحديث يعني الرأسمالية ومعها الديمقراطية والقانون المدني وما شابه ذلك. وهذا كله في نظر الإسلام كفر لا بد من محاربته وإزالته وإقامة حكم الإسلام، أي جعْل طريقة الإسلام في الحياة هي السائدة، ونظام الإسلام في معالجة المشاكل هو الذي يتحكم في البشر، أي على حد تعبيرهم "ايديولوجية الإسلام" هي التي يجب أن تَحِل محل "ايديولوجية الغرب"، فكيف يمكن أن يفكر مسلم بأن يحاول إيجاد الانسجام بينه وبين هذا الكفر الذي يجب على المسلم محاربته لإزالته وإحلال الإسلام محله؟
هذا هو ما تُوصل إليه هذه المفاهيم، وهذا هو خطرها، ولكنها بكل أسف وكل حسرة سادت المسلمين كما سادتهم محاولة تأويل الإسلام ليوافق النظام الرأسمالي والتشريع الغربي، فكان هذا هو الهزيمة المنكَرة التي هُزمها المسلمون، وهو النصر المؤزر الذي أحرزه الغربيون على العالم الإسلامي كله. ومن هنا تحوّل التاريخ إلى وجهة أخرى غير الوجهة التي كان يتجهها، ومن هنا بدأت السيادة في العالم تتحول من المسلمين إلى الكفار الغربيين أي من الإسلام إلى النظام الرأسمالي أي إلى الكفر. وبهذه الهزائم من المسلمين أمام تحدي النظام الرأسمالي تسرب الخلل إلى الثقة بأحكام الإسلام وأفكاره، وتسلل التساؤل عن صلاحية الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل العصر الحديث ومماشاة الزمن. فكان هذا أول الوهن في كيان الأمّة الإسلامية. إذ الأمّة هي مجموعة من الناس تجمعها عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها. وهذا يعني أن الأمّة مجموعة من الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات تربطها عقيدة واحدة، فإذا تسرب الخلل إلى هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات فقد تسرب إلى كيان الأمّة يعمل فيها تهديماً وتخريباً. وكان هذا أيضاً أول الوهن في كيان الدولة الإسلامية. إذ الدولة مجموعة من الناس ومجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات يربطها السلطان فيتشكل بذلك كيان الدولة، فإذا تسلل الخلل إلى هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات فقد تسلل إلى كيان الدولة يضرب فيها بمعول الهدم والإزالة.
وهذا ما حدث بالفعل، وما ظهرت نتائجه خلال قرن واحد. فإن الكفار بعد أن يئسوا من غزو الدولة الإسلامية وتحطيمها، وصار عندهم رأي عام بأن الجيش الإسلامي لا يُغلب عَمَدوا إلى غزو الأمّة الإسلامية بالأفكار الغربية ليزعزعوا كيانها حتى يتمكنوا من تحطيم الدولة الإسلامية، لأنه إذا زُعزع كيان الأمّة التي تنبثق عنها دولتها فقد تزعزع كيان هذه الدولة وسَهُل تحطيمه بعد ذلك. ومن أجل وصول الكفار إلى هذه الغاية عمدوا إلى الغزو الفكري بالإرساليات التبشيرية والمدارس والمستشفيات والكتب والنشرات والجمعيات السرية. وقد اتخذوا في أول الأمر مالطة مركزاً لهم ثم انتقلوا إلى بيروت سنة 1625 واتخذوها مركزاً لهم، وصاروا كذلك يشتغلون في استانبول واتخذوها مركزاً آخر، ونشطت السفارات الانجليزية والفرنسية والمؤسسات الأمريكية ككلية البروتستنت التي عُرفت فيما بعد بالجامعة الأمريكية، وكان نشاط السفارات الانجليزية والفرنسية في استنبول وبيروت ودمشق والقاهرة بالغاً أشدّه. وقد غزوا جميع الأوساط، إلاّ أنهم كانوا يركزون على الأوساط السياسية والأوساط الفكرية حتى استمالوا كثيراً من شباب الجامعات والمدارس وكثيراً من المثقفين الذين يشغلون مناصب في الدولة وفي الجيش، فكان لهذا أثره في بعث حب الثقافة الغربية والتشريع الغربي في نفوس المسلمين وتشكيكهم في الإسلام وصلاحيته للعصر الحديث. فبدأ حب الاستفادة مما عند الغرب مع اصطناع المحافظة على الإسلام، وبدأ السوس ينخر في جسم الأمّة كما بدأ ينخر في جسم الدولة، وانتقلت الدولة الإسلامية من دور المد إلى دور الجزر، كما انتقلت الأمّة الإسلامية من دور حمل الدعوة الاسلامية إلى دور أن يحمل الكفار إليها دعوتهم إلى الكفر.
ولا شك أن هذا كان بدء الوهن في الأمّة وبدء الوهن في الدولة. وقد لعبت الأوساط الفكرية والأوساط السياسية بتوجيه من الدول الكافرة دوراً مؤثراً في ذلك. ولمّا استفحل أمره وأيقنت الدول الكافرة ولا سيما انجلترا وفرنسا أن الانحلال بدأ في الأمّة الإسلامية وأن الوهن قد تغلغل في الدولة الإسلامية، بدأت تُغِير بالفعل على أطراف الدولة تقتطع منها أجزاء. وقد عم الطمع جميع دول أوروبا وصارت روسيا والمانيا تحاولان الاشتراك في هذه الغنائم. وبالرغم من اختلاف الدول الكافرة على اقتسام الدولة الإسلامية وصراعهم عليها، فإنها كلها كانت متفقة على إزالة نظام الإسلام. ولذلك فكرت كلها في إجبار الخلافة في استانبول على التخلي عن نظام الإسلام في الحكم والمجتمع والسياسة وإكراهها على تطبيق التشريع الغربي في القضاء، والنظام الرأسمالي في الاقتصاد، والنظام الديمقراطي في الحكم، فكان مؤتمر برلين الذي عقد سنة 1850 بين الدول الكافرة في أوروبا، وكان منها رأس الكفر انجلترا الممثلة برئيس وزرائها حينئذ اليهودي الخبيث دزرائيلي، ومنها ألمانيا الممثلة برئيس وزرائها بسمارك، واتفق المؤتمر على إرسال مذكرة إلى خليفة المسلمين يطلب فيها منه أن يترك النظام الديني وأن يأخذ بالنظام المدني، وبُعثت بلهجة تهديدية. وما أن سُلمت هذه المذكرة إلى الباب العالي في استانبول حتى نشط المثقفون والسياسيون في الدعوة إلى إيجاد النظام المدني والسير مع العصر، فأثّر ذلك على الخليفة ووُجد في الأوساط السياسية والأوساط المتعلمة رأي عام لتغيير الأحكام الشرعية وجعْل القوانين الغربية مكانها. وما هي إلاّ فترة قصيرة حتى بدأ هذا التغيير، ففي سنة 1275 هجرية الموافق سنة 1858 ميلادية وُضع قانون الجزاء العثماني، وفي سنة 1276 هجرية الموافق 1858م وُضع قانون الحقوق والتجارة، وفي سنة 1286هـ الموافق 1868م وضعت المجلة قانوناً للمعاملات، إذ لم يجد العلماء ما يبرر إدخال القانون المدني كما وجدوا المبرر لباقي القوانين، فاستُبعد القانون المدني ووضعت المجلة قانوناً من الأحكام الشرعية مع التوفيق بينها وبين القانون المدني ما أمكن هذا التوفيق، فوضعت أحكاماً شرعية لكن لا على أساس قوة دليلها بل على أساس أن توافق القانون المدني الفرنسي، ثم في سنة 1288هـ الموافق 1870م جُعلت المحاكم قسمين: محاكم شرعية ومحاكم نظامية، ووُضع لها نظام، وفي سنة 1295هـ الموافق 1877م وُضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية، وفي سنة 1296هـ الموافق 1878م وُضع قانون أصول المحاكمات الحقوقة والجزائية.
rajaab
06-07-2005, 05:38 PM
http://www.4uarab.com/vb/images/icons/icon1.gif
وهكذا استُبدلت القوانين الغربية بالقانون الإسلامي، أي وُضع التشريع الغربي مكان التشريع الإسلامي. إلاّ أنه حين فعلوا ذلك وكانوا يخشون من الرأي العام الإسلامي، وكان الوصف الذي تقوم عليه الدولة في الموقف الدولي وفي العالم الإسلامي هو الإسلام، وأنها دولة إسلامية، لذلك أُخذت هذه القوانين واستُصدرت الفتاوى بأنها قوانين إسلامية أي وضعت عليها اسم قوانين إسلامية. ولكن هذه العملية لم يُحتج إليها في مصر، وكان يحكمها محمد علي وبنوه كعملاء لفرنسا، لذلك أُدخلت القوانين الغربية بشكل صريح دون لف أو دوران. ففي سنة 1301هـ الموافق 1883م وُضع القانون المدني المصري القديم نُقل نقلاً عن القانون الفرنسي باللغة الفرنسية، ثم تُرجم إلى اللغة العربية ترجمة. وهكذا حلّ التشريع الغربي محل التشريع الإسلامي عملياً في الدولة الإسلامية فلم يظل لها إلاّ اسم الدولة الإسلامية. وسيطرت الأفكار الغربية على جمهرة المفكرين وسائر المتعلمين، كما سيطرت على السياسيين وعلى الوسط السياسي كله، وصار لها وجود في باقي الأوساط. ولذلك كان زوال الدولة الإسلامية أمراً مقرراً ولم تبق المسألة إلاّ مسألة وقت ليس غير، لأن الأمّة الإسلامية تخلت عن نظام الإسلام عملياً في القضاء والحكم، وزُعزعت ثقتها بصلاحيته للعصر الحديث، ولأن الذين يتولون تطبيق نظام الإسلام صاروا يرون ضرورة تركه وأخذ النظام الرأسمالي. ولم تبق المسألة عندهم إلاّ مسألة أسلوب الأخذ، ولهذا لم يكن سقوط الدولة الإسلامية وزوال الخلافة أمراً مفاجئاً، فالأمّة وصل فيها الحال إلى حد أن يقوم الشريف حسين وهو يدّعي أنه ابن بنت رسول الله، وهو يتولى إمارة الحجاز فيُعلن الحرب على الخليفة من مكة المكرمة، من جوار بيت الله الحرام، بجانب الكفار الانجليز الذين يُعتبرون أعداء الإسلام، ثم لا يجد في الأمّة من يستفظع هذا الأمر.
لا شك أن ذلك لن يحصل والإسلام هو الذي يتحكم في أفكار الأمّة ومشاعرها، ووصل الحال إلى أن ضابطاً من ضباط الجيش العثماني الجيش الإسلامي هو مصطفى كمال يخرج على الخليفة وينشئ حكومة غير حكومته في أنقرة، ثم يحاربه ثم يخلعه ثم يزيل الخلافة من الوجود، ولا يجد الجرأة في الأمّة أن تقف في وجهه ولا أن تنصر خليفة المسلمين عليه، بل تقف بجانبه ولا يعارضه إلاّ القليل ويُقتل واحد فقط من معارضيه، فسقطت الخلافة ومُحيت من الوجود. هل يمكن أن يحصل ذلك والإسلام هو الذي يتحكم في أفكار الأمّة ومشاعرها؟
وكان من الطبيعي أن يُحدِث إلغاء الخلافة الإسلامية من الوجود، والمحافظة عليها كالمحافظة على العقيدة الإسلامية سواء بسواء، هزة عنيفة، فكان المنتظر طبيعياً أن يهتز العالم الإسلامي كله لإلغائها وأن تحصل رجة عنيفة في كل مكان من أجلها، ولكن الواقع أنه لم يحصل شيء من ذلك، وما جاوز التأثر سوى أفراد في البلاد التركية لم يصلوا إلى درجة جمهور، وأفراد قلائل يُعدّون على الأصابع في البلاد العربية لا قيمة لهم ولا وزن، بل على العكس وقفت البلاد العربية تؤيد الخائن الأكبر الشريف حسين وأولاده الخونة فيصل وعبدالله الذين شهروا السيف ضد خليفة المسلمين، وحاربوا في صفوف الكفار الانجليز الجيش الإسلامي، وكانوا يشتركون مع الكفار في قتال المسلمين وقتلهم. هؤلاء وقفت البلاد العربية تؤيدهم ولم يظهر عليها أي تأثر على الخلافة، وظهر في مصر تأثر على أفراد ظهر في قصائد بعض الشعراء، وفي محاولة عقد مؤتمر للخلافة في السنة التي أُلغيت فيها سنة 1924 وكان شعب الهند أكثر أبناء الأمّة الإسلامية تأثراً على زوال الخلافة الإسلامية. وقد كان شوقي رحمه الله من أكثر الشعراء تأثراً على الخلافة، وبرز تأثره في قصيدته التي قالها في رثاء الخلافة والتي قال فيها:
عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الأصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح؟
وأتت لك الجمع الجلائل مأتماً فقعدن فيه مقاعد الأنواح
يا للرجال لحرة موؤدة قتلت بغير جريرة وجناح
ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان أن الذين داوت حربهم لأعداء المسلمين جراح الخلافة التي أصيبت بها، هؤلاء قد كان صلحهم مع الحلفاء قتلاً للخلافة وإلغاءً لها وأنهم قد هتكوا بأيديهم أعظم فخر لهم ومزقوه، وأنهم نزعوا خير ما يُتحلى وخلعوا أفخر ما يُلبس، وبين عشية وضحاها بأسرع مما يتصور العقل أطاحوا بمجد الدهر الذي عمروه في قرون فيقول:
إن الذين أست جراحك حربهم قتلتك سلمهمو بغير جراح
هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم موشية بمواهب الفتاح
نزعوا عن الأعناق خير قلادة ونضوا عن الأعطاف خير وشاح
حسب أتى طول الليالي دونه قد طاح بين عشية وصباح
ثم يتحدث عن رابطة الخلافة كيف أنها فُصمت عُراها وقد كانت أكبر علاقة تصل الأخ بأخيه وتجمع الأرواح إلى بعضها، وأنها كانت تنظم المسلمين بنظام واحد وصفّ واحد في جميع الأحوال، وبيّن أن هذا العمل إنّما فعله شرير سيئ الخلق قليل الحياء فيقول:
وعلاقة فُصمت عُرى أسبابها كانت أبر علائق الأرواح
جمعت على البر الحضور وربما جمعت عليه سرائر النزاح
نظمت صفوف المسلمين وخطوهم في كل غدوة جمعة ورواح
بكت الصلاة وتلك فتنة عابث بالشرع عربيد القضاء وقاح
ثم يعلن أن ما قعل هذا الشرير الوقح إن هو إلاّ كفر براح أي كفر واضح يُرتكب جهاراً، وهو يشير هنا إلى الحديث الشريف في شأن طاعة الخلفاء الظالمين (قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، إلاّ أن تروا كفراً بواحاً)، فالشاعر يقول إن ما فعله هذا العربيد من إلغاء الخلافة كفر براح أي ينابَذ عليه بالسيف، فيقول:
أفتى خزعبلة وقال ضلالة وأتى بكفر في البلاح براح
ثم ينحي باللائمة على الأتراك لسكوتهم عنه فيقول: هؤلاء الذين ألغيت الخلافة فيهم ولم يفهموا معنى إلغائها إنّما خُلقوا للحرب، فلا يتكلمون إلاّ بالحرب ولا يسمعون إلاّ بلغة الحرب. ويقصد من ذلك الطعن بفهمهم لمعنى هذا الأمر الفظيع الذي أوجدوه فيهم، فيقول:
إن الذين جرى عليهم فقهه خلقوا لفقه كتيبة وسلاح
إن حدثوا نطقوا بخرس كتائب أو خوطبوا سمعوا بصم رماح
ثم يعتذر عن مهاجمته لمصطفى كمال وقد كان يمدحه بأنه إنّما يسير مع الحق حيث كان، والحق أولى من الرجال حرمة وأحق منهم بالنصر، والرجل مهما عظمت شخصيته فإنه يُهزم إذا ما هوجم بالحق، فيقول:
أستغفر الأخلاق لست بجاحد من كنت أدفع دونه وألاحي
مالي أطوقه الملام وطالما قلدته المأثور من أمداحي
هو ركن مملكة وحائط دولة وقريع شهباء وكبش نطاح
أأقول من أحيا الجماعة ملحد وأقول من رد الحقوق اباحي؟
الحق أولى من وليك حرمة وأحق منك بنصرة وكفاح
فامدح على الحق الرجال ولمهمو أو خل عنك مواقف النصاح
ومن الرجال إذا انبريتَ لهدمهم هرم غليظ مناكب الصفاح
فإذا قذفت الحق في أجلاده ترك الصراع مضعضع الألواح
ثم يطلب أداء النصيحة لمصطفى كمال لعله يرجع عن غيّه، فقد أزال الإسلام عقيدة وشريعة من الدولة ومن شؤون الحياة ووضع مكانه نظام الكفر النظام الرأسمالي والشريعة الغربية وعقيدة الكفر عقيدة فصل الدين عن الدولة، فيقول:
أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح إن الجواد يثوب بعد جماح
إن الغرور سقى الرئيس براحه كيف احتيالك في صريع الراح
نقل الشرائع والعقائد والقرى والناس نقل كتائب في الساح
ثم يهاجم الأتراك لأنهم تركوا مصطفى كمال يفعل ما يشاء، فقد رفعوه إلى مصاف الآلهة في التعظيم وأطلقوا يده فيهم حتى تناول كل ما حرم الله، واغترّ بطاعة الجماهير له، وأن ذلك قد كان لأن الأمّة لم تكن في ذلك الوقت واعية، والأمّة غير الواعية لا تدرك قيمة المجد ولا تستميت بالمحافظة عليه ولا تعطي منه إلاّ السراب اللماع، فيقول:
تركته كالشبح المؤلّه أمة لم تسل بعد عبادة الأشباح
هم أطلقوا يده كقيصر فيهمو حتى تناول كل غير مباح
غرته طاعات الجموع ودولة وجد السواد لها هوى المرتاح
وإذا أخذت المجد من أمية لم تعط غير سرابه اللماح
ثم يختم القصيدة في تحذير المسلمين من عاقبة إلغاء الخلافة وينهى عن إعطائها للشريف حسين الذي خان الأمّة الإسلامية وحارب الجيش الإسلامي إلى جانب الانجليز الكفار، ويعطي نبوءة فيما سيحصل من جراء إلغاء الخلافة بأنه سيكثر دعاة الكفر والضلال لتحويل المسلمين عن دينهم وسيشهد المسلمون في كل بقعة من بقاع البلاد الإسلامية فتنة للمسلمين عن إسلامهم وتحويلاً عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال وسيكون الدليل لكل شخص المال والإرهاب أي الوعد والوعيد. فيذكر أولاً نصرته للخلافة في كل أيامه ثم يخلص للنبوءة فيقول:
مَن قائلٍ للمسلمين مقالة لم يوحها غير النصيحة واح
عهد الخلافة في أول ذائد عن حوضها بيراعه نضاح
حب لذات الله كان ولم يزل وهوى لذات الحق والإصلاح
إني أنا المصباح لست بضائع حتى أكون فراشة المصباح
غزوات (أدهم) كللت بذوابلي وفتوح أنور فصلت بصفاحي
ولت سيوفهما وبان قناهما وشبا يراعي غير ذات يراح
لا تبذلوا بُرد النبي لعاجز عزل يدافع دونه بالراح
بالأمس أوهى المسلمين جراحة واليوم مد لهم يد الجراح
فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب أو لسجاح
ولتشهدن بكل أرض فتنة فيما يباع الدين بيع سماح
يفتى على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدها الملحاح
أي أن المعز لدين الله الفاطمي حين دخل القاهرة مد الذهب والسيف وقال: هذا حسبي وهذا نسبي، فقالوا له: أنت ابن بنت رسول الله. فيقول الشاعر إنه سيُفتى على ذلك أي على المال والخوف.
فهذه الثقة التي تدل على لوعة في القلب على زوال الخلافة كانت عند أفراد قد يُعدون بالمئات وقد يُعدون بالآلاف ولكنهم أفراد ولم يكن عند الأمّة الإسلامية منها شيء. ولذلك ألغيت الخلافة ودُمرت الدولة الإسلامية تدميراً تاماً وأزيل الإسلام من الوجود السياسي ومن المجتمع في الأرض كلها ولم يحرك ذلك الأمّة الإسلامية أدنى حركة، فكان هذا دليلاً على مبلغ ما وصل إليه الخلل في كيانها. ثم باشر الكفار حكم المسلمين بالنظام الرأسمالي في جميع أنحاء الأرض، ثم وضعوا مكانهم حكاماً من المسلمين ولكن أشد منهم عداء للإسلام وأحرص على محوه. وها قد مضى الآن أربعون عاماً أو يزيد والأمّة الإسلامية تحت سلطان الكفر وتحت نفوذ الكفار حتى أشرفت على خطى الفناء، ولم يبق بينها وبين الفناء إلاّ مسألة زمن، إلاّ أن يتداركها الله برحمته، إذ ما بقي لها من الإسلام كلمة. أليس فصل الدين عن الدولة رأياً عاماً يسود جميع أوساطها لا فرق بين الأوساط السياسية وبين الأوساط الشعبية ولا بين أوساط المتعلمين وأوساط المتدينين ولا بين الشباب والشيوخ، فكلهم صار فصل الدين عن الدولة عندهم رأياً عاماً وعرفاً عاماً.
وعقيدة فصل الدين عن الدولة عقيدة كفر وكل من يعتقدها مرتدّ عن الإسلام، إذ الكفر بقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) كالكفر بقوله تعالى: (أقيموا الصلاة)، والكفر بقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) كالكفر بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة). وعقيدة فصل الدين عن الدولة هي كفر بآيات الحكم والسلطان، وآيات العقوبات والمعاملات، وإيمان بآيات العقائد والعبادات ليس غير، والله تعالى يقول: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشد العذاب)، ويقول: (إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً).
والأمّة الإسلامية فوق كونها تفصل الدين عن الدولة عملياً فإن هذا الفصل صار رأياً عاماً عندها، أي صار ما يراه جماعة المسلمين في كل مكان كجماعة وكرأي عام، وإن كان أكثر الأفراد لا يعتقدونه ولكنهم يرونه مع ما يراه الناس. ثم أليست الرابطة بين شعوبها صارت رابطة صداقة أو رابطة جوار أو رابطة مصلحة، وانعدمت فيها رابطة الأخوة الإسلامية، وصار الرأي العام لا ينطق برابطة الأخوة الإسلامية بين إيران والعراق ولا بين سوريا وتركيا ولا بين الأفغان والهند، وإنّما ينطق برابطة الصداقة والجوار والمصلحة المشتركة، ولم يبق ينطق برابطة الأخوة الإسلامية إلاّ الأفراد، مع أن الرابطة الوحيدة التي تربط المسلمين مع بعضهم إنّما هي رابطة الإسلام ليس غير، فإن الله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة)، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المسلمون أخو المسلم). ولم يقف الحال عند رابطة الشعوب بل صارت رابطة الشعب الواحد هي الوطنية أو القومية، ولم يعد الرأي العام يرى رابطة الإسلام تربط بين أفراد أي قطر من الأقطار التي تشكل دولاً في هذا العالم الإسلامي. ثم أليس قد استساغ المسلمون أن يكون التركي في سوريا أجنبياً، والإيراني في لبنان أجنبياً، والهندي في الحجاز أجنبياً، ورضوا أن يسمى المسلم أجنبياً في بلاد الإسلام؟ ثم أليس المسلمون يهزهم النداء للوطن فتثور مشاعرهم ولا تتحرك لهم عاطفة النداء للخلافة الإسلامية أو إعادة حكم الإسلام؟ ثم أليسوا على قناعة بأن مجابهة النصراني بأنه كافر عمل غير لائق وأنه مواطن من المواطنين، والله يقول: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم)؟ ثم إن مفهوم الجهاد حرب دفاعية لا حرب هجومية، ومفهوم الاحتكام إلى نظام الكفر، ومفهوم الحياد بين الدول، ومفهوم السياسة كذب ودجل، ومفهوم الإسلام ديمقراطية، ومفهوم الاشتراكية في الإسلام، وغير ذلك من المفاهيم التي يعتبرها الإسلام مفاهيم كفر، هي المفاهيم السائدة عند المسلمين. ثم أليس مقياس المسلمين صار المنفعة بدل الحكم الشرعي، وصار مقياس الأحكام الشرعية موافقتها للمصلحة لا الدليل الشرعي، وأصبح العقل مقياس الحُسن والقُبح وليس الشرع، بل يخضع الشرع للعقل، وصار مقياس العداء للدول الغربية كونهم مستعمِرين فقط وليس كونهم كفاراً؟ ثم أليس يستبعد جميع المسلمين رجوع الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية، بل يعتبره الكثيرون من المستحيلات؟؟؟
rajaab
06-07-2005, 05:41 PM
إذا كان هذا واقع الأمّة الإسلامية، والأمّة هي التي تجمعها عقيدة واحدة انبثق عنها نظامها، والأمّة قد انفصل نظامها عن عقيدتها عملياً وعند الرأي العام، وصار هذا الفصل هو العرف العام المقبول، فكيف تبقى بعد ذلك أمّة مستكمِلة الربط؟ وإذا كانت الأمّة مجموعة من الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات تربطها عقيدة واحدة وقد أصبحت لدى الأمّة أكثر المفاهيم مفاهيم غير إسلامية وأكثر المقاييس مقاييس غير إسلامية وصارت أكثر قناعاتها قناعات غير إسلامية، فكيف يمكن أن يبقى كيان الأمّة وقد تغير فيه ما يجعله كياناً إسلامياً؟ لا شك أن ذلك كله يدل بشكل بارز على أن الأمّة صارت مشرفة على خطر الفناء.
إنه من الخطأ أن يقال إن الأمّة على مفترق طرق، فإن ذلك كان قبل نحو قرن تقريباً يوم بدأت تأخذ أفكار الغرب إلى جانب أفكار الإسلام. ومن الضلال أن يقال إن الأمّة الإسلامية في طريق الفناء، فإن ذلك كان يوم دُمرت الخلافة الإسلامية وغاض حكم الله من المجتمع في جميع أنحاء الأرض. أمّا الآن وقد صار فصل أحكام الإسلام عن الدولة رأياً عاماً ويُحمل له كل الثقة والولاء، وصارت أفكار الإسلام في الأذهان بقايا تراث تاريخي يُحمل له الولاء الروحي وحده من البعض ويُحمل له العداء والاحتقار من البعض الآخر، وصارت المشاعر الإسلامية في النفوس غير موجودة في رعاية الشؤون، ولا في شؤون الحياة الدنيا، فإن هذا يعني أن الأمّة الإسلامية وصلت إلى حافة الهاوية، ولم يبق بينها وبين الفناء سوى أن يعمها الفناء.
أيها المسلمون
هذا هو واقع الأمّة الإسلامية: انعدام الثقة بصلاحية الإسلام لأن يكون نظام حياتها في العصر الحديث. ثم فصْل أفكار الإسلام ووجهة نظره في الحياة عن شؤون الحياة الدنيا، وفصْل التشريع الإسلامي عن الدولة، واعتبار هذا الفصل للأفكار والتشريع ضرورة حياتية يقتضيها وجودنا وتقدمنا بين الناس. فأزمة الأمّة هي أزمة ثقة بنظام الإسلام لا أزمة ثقة بالإسلام. فكان من جراء هذه الأمّة أن فقدت الأمّة الحافز الحاد الذي يدفعها للحياة، فكان فيها هذا الجمود وكان فيها هذا الموت وكان فيها هذه الحال التي جعلتها على حافة الهاوية المشرفة على خطر الفناء.
فالقضية في الأمّة الإسلامية هي انعدام الثقة بما ينبثق عن عقيدة الإسلام من أفكار عن الحياة، ونظم لتنظيم العلاقات، انعداماً وصل إلى حد القناعة التامة، فنجم عنه فقدان الحافز الحاد الذي يدفع كل أمّة في الحياة. هذه هي القضية التي يوضع الاصبع عليها، والتي يجب أن تكون محل البحث أو موضع العلاج.
إنه من الخطأ أن يقال إن القضية هي قضية العقيدة الإسلامية، لأن هذا يعني اتهام المسلمين في إيمانهم وهذا غير صحيح وأمر في منتهى الخطر، فالعقيدة الإسلامية موجودة عند كل مسلم ولكنها فقدت ثلاثة أمور هامة: فقد فقدت علاقتها بأفكار الحياة وأنظمة التشريع فغاضت منها الحيوية، لأن العقيدة العقلية إذا انفصلت أفكارها عنها ماتت وكانت جثة هامدة. وفقدت أيضاً تصورها ما بعد الحياة فلم تعد تواجه في سيرها يوم القيامة وحسابه، ولم يعد يهزها عذاب الله ولم تعد تثيرها جهنم ولا يخوفها الجحيم. كما أنها لم تعد تستهدف الجنة ولا تشتاق لنعيمها ولا يجذبها إليها ما فيها من نعيم مقيم ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم تعد بالتالي تستهدف رضوان الله غاية الغايات عند المسلمين. وفقدت كذلك ارتباط جماعة المسلمين كجماعة بهذه العقيدة باخوة إسلامية، فصاروا شعوباً ودولاً، وصاروا جمعيات وأسراً، بل صاروا أفراداً أفراداً.
هذه الأمور الثلاثة فقدتها العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين فكانت جثة هامدة. أمّا العقيدة نفسها فلا تزال موجودة عند كل مسلم ولا يزال كل مسلم يقول صباح مساء: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وإن كان قوله هذا لم يحرك شعرة في بدنه، ولا خلجة من قلبه، ولا شيئاً من مشاعره، ولا يدفعه في الحياة قدر أصبع، ولا يمنع عنه من التأخر والانحطاط شيئاً، وبذلك فإن المسلمين لم يفقدوا العقيدة الإسلامية وإنّما فقدوا الثقة بما ينبثق عن هذه العقيدة الإسلامية.
وإنه من التضليل أن يقال إن القضية قضية اقتصادية، لأن هذا يعني أن الفقر هو سبب انحطاط الأمّة والغِنى هو سبب رِفعتها، وهذا باطل لا شك فيه. فالغِنى لا ينهض بالفرد ولا ينهض بالأمّة، لأن النهضة هي الارتفاع الفكري، والنهضة الصحيحة هي الارتفاع الفكري على الأساس الروحي، فإذا وُجدت الأفكار وُجدت النهضة وإذا عدمت الأفكار كان الانحطاط. فإن الأفكار في أية أمّة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمّة في حياتها إن كانت أمّة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمّة عريقة في الفكر. وإذا دُمرت ثروة الأمّة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها ما دامت الأمّة محتفظة بثروتها الفكرية. أمّا إذا تداعت الثروة الفكرية وظلت الأمّة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة وترتد الأمّة إلى حالة الفقر. على أن واقع الأمّة الإسلامية أنها من أغنى الأمم إن لم تكن أغناها إذا جُمعت ثروتها في دولة واحدة كما يفرض ذلك الإسلام على جميع المسلمين. وفوق ذلك فإن الاقتصاد حتى ينمو وينتقل من الزراعة وحدها إلى الزراعة والصناعة بحيث تكون الصناعة هي رأس الحربة، لا بد له من حافز يحفز الأمّة على السعي للاقتصاد، وهذا الحافز الحاد لا ينبثق إلاّ عن فكر. ومن أعظم الفكر العقيدة العقلية التي تنبثق عنها أفكار الحياة. وعليه فالقضية ليست قضية اقتصادية وإنّما هي قضية فكرية، أي قضية الثقة بما ينبثق عن عقيدتهم من أفكار.
ومن السطحية أن يقال إن القضية قضية تعليم وعلوم، لأن هذا يعني أن العلوم هي الحافز وليس الأفكار، مع أن الواقع أن الأفكار هي الحافز والعلوم إنّما تتأثر بالأفكار ارتفاعاً وانخفاضاً ووجوداً وعدماً. والفرق بين الأفكار والعلوم أن الأفكار هي النظرة إلى الأشياء والأفعال للوصول إلى تعيين الاتجاه بالنسبة لها، أمّا العلوم فهي النظرة إلى الأشياء نفسها لمعرفة كنهها. والذي يسيّر الحياة هو الأفكار وليس العلوم. وأن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمّة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أمّا إذا فقدت طريقة تفكيرها أي فقدت فكرها فإنها سرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات.
على أن الأمّة الإسلامية فيها من المتعلمين والمثقفين عدد ضخم يعد بمئات الألوف، ومع ذلك لا تزال متأخرة في الاكتشافات والاختراعات لأنه لا يوجد فكر يسيّر هذه المعارف والعلوم نحو غاية معينة فيدفعها إلى الإمام لخدمة تلك الغاية السامية. وفوق ذلك فإن العلماء والمخترعين يملؤون الأرض وهم أُجراء ويمكن إحضارهم من أية أمّة من الأمم أُجراء، ولكن إحضارهم وإحضار أمثالهم لا يعالج المشكلة إذا لم يوجد فكر، فالمسألة مسألة فكر.
ومن غير الدقة أن يقال إن القضية قضية تشريع وقوانين، لأن هذا يعني أن القوانين هي أساس الحياة وأساس الدولة وهذا غير صحيح. فإن القوانين والأحكام إن هي إلاّ معالَجات للمشاكل اليومية التي تحدث مع البشر منبثقة عن وجهة النظر في الحياة. فالأصل هو وجهة النظر التي انبثقت عنها القوانين وليست القوانين، ألا ترون أن الكفار من رعايا الدولة الإسلامية كانت تطبَّق عليهم نفس الأحكام التي كانت تطبَّق على المسلمين ولم يكن هنالك فرق بينهم وبين المسلمين في تطبيق الأحكام، فالمسلمون والكفار أمام القاضي وأمام الحاكم سواء، ومع ذلك فقد كان المسلمون في الدولة الإسلامية هم أصحاب الرسالة وهم حملة الدعوة، وتتمثل فيهم النهضة. والكفار كانوا تحت ظل الإسلام يُعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. ثم ألا ترون الآن أن المسلمين في أكثر بقاع الأرض يطبَّق عليهم التشريع الغربي والقوانين الغربية ولكن لأنهم لا يزالون يعتنقون العقيدة الإسلامية فلم تنبثق القوانين من عقيدتهم وإن انبثقت عما أصبح رأياً عاماً عندهم، ومع ذلك فهم لم يلحقوا بالغرب بالنهضة، ولم يحصل عندهم ارتفاع فكري، ولا يزالون منحطين متخلفين عن الغرب قروناً وأجيالاً، مع أنه مضى عليهم يطبقون القوانين الغربية قرابة أربعين عاماً، مما يدل على أن القضية ليست قضية تشريع وقوانين وإنّما هي ما تنبثق عنه هذه القوانين من وجهة نظر، أي هي قضية جعل العقيدة تنبثق عنها القوانين الموثوق بصلاحها، أو جعل القوانين منبثقة عن عقيدة. فالقضية إذن قضية الثقة بالقوانين من حيث انبثاقها عن العقيدة، أي قضية وجهة النظر في الحياة، وما يسمونها في العصر الحديث "بالايديولوجية".
وعلى هذا فالقضية هي الأمّة الإسلامية بوصفها أمّة وبوصف هذه الأمّة أمة إسلامية. وقضية الأمّة الإسلامية هذه ليس إيجاد العقيدة الإسلامية عندها، ولا هي تقوية اقتصادها، ولا إيجاد التعليم والثقافة فيها، ولا هي إصلاح تشريعها وإيجاد دستور وقوانين لها، وإنّما القضية هي ربط عقيدتها بدستورها وقوانينها، أي جعل التصديق الجازم المطابق للواقع الموجود عند الأمّة في عقيدتها منصباً على الأفكار والأحكام الشرعية المستنبَطة من الكتاب والسنّة ومما دل الكتاب والسنّة على أنه دليل شرعي. وبعبارة أخرى هي إيجاد الثقة بالأفكار والنظم المنبثقة عن العقيدة الإسلامية. هذه هي القضية بالدقة والتحديد.
أمّا كيف تعالَج هذه القضية، فإن علاجها محصور بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ لإصلاح هذا الخطأ، وليس هناك شيء غير هذا مطلقاً. فالمسلمون لا يزالون مسلمين رغم كل ما هم عليه، فلا تزال عقيدتهم عقيدة إسلامية، والإسلام لا يزال في أصوله الكتاب والسنّة كما كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والأحكام الشرعية المستنبَطة لا تزال كما كانت في العصر الذي استُنبطت فيه، أي في العصر الأموي والعصر العباسي، وكيفية الاستنباط لا تزال كما كانت يوم وُضع علم أصول الفقه. فليس هناك نقص في اعتقاد المسلمين بالإسلام، ولا هناك تغيّر في الإسلام، وإنّما هنالك فقط زعزعة في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية ترتب عليها إيجاد خلل في كيان الأمّة، وإيجاد خلل في كيان الدولة، أدى إلى تدمير الدولة، وسار في الأمّة في طريق الفناء حتى جعلها على حافة الهاوية تشرف على خطر الفناء. فالعلاج إنّما يكون بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ، أي إلى علاج الزعزعة التي حصلت في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، فإن هذه الزعزعة هي التي دمرت الدولة، وتوشك أن تفني الأمّة. والغاية من العلاج هي إنهاض الأمّة، وإعادة الدولة، لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدولة الإسلامية إلى العالم.
هذا هو الموضوع، وهذا هو بيت القصيد. يقولون إن الثقة ناجمة عن القناعة بصحة الشيء وصدقه، والقناعة آتية من المشاعر فهي تأتي للإنسان من غير براهين وتذهب دون براهين، فالثقة ليست شيئاً ممكن الحصول بالحجة والمنطق، بل بإيجاد القناعة، وهي تأتي اعتباطاً وتذهب اعتباطاً. وهذا الكلام باطل غير مطابق للواقع. فالثقة صحيح أنها ناجمة عن القناعة بصحة الشيء وصدقه أي بمطابقته للواقع أو للفطرة، ولكنها تحصل بناء على برهان يثبت صحة الشيء وصدقه، وهذا البرهان إما أن يكون عقلياً مرتبطاً بالمشاعر، أي يقوم الدليل العقلي على صحته وصدقه ويشعر الشخص شعوراً صادقاً بصحته وصدقه، وإما أن يشعر الشخص بصحته وصدقه فقط من غير أن يقوم دليل عقلي عليه، ومن تكرار ذلك تصل القناعة وتتولد منها الثقة. فالثقة لا تأتي اعتباطاً ولا تذهب اعتباطاً، وإنّما تأتي من تكرار ثبوت مطابقة الشيء للواقع أو الفطرة عقلياً أو شعورياً، أي من تكرار ثبوت صحة الشيء وصدقه، وتذهب من تكرار ثبوت عدم صحته وصدقه. هذا هو الذي يوجِد القناعة وهذا هو الذي يزعزعها ويُذهبها. يعني أنه حتى توجد الثقة لا بد أن تنتقل صحة الشيء وصدقه من دور إقامة البرهان إلى دور البداهة، وذلك بتكرار ثبوت صحته وصدقه بالبرهان عقلياً وشعورياً. وكما يصعب إيجاد الثقة لا سيما في جو التشكيك يصعب زعزعة الثقة ولا سيما في جو الإيمان. ولذلك كما صعب على الكفار الغربيين زعزعة الثقة بصلاحية أحكام الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل العصر وقد كان الجو جو إيمان، كذلك ليس من السهل على العاملين للإسلام أن يعيدوا هذه الثقة بصلاحية الإسلام، أي أن يركزوا وجهة النظر الإسلامية في الحياة أو طريقة الإسلام الخاصة في الحياة وما يسمونه الايديولوجية ولا سيما والجو جو تشكيك.
ولمّا كان وضع الثقة في نفوس المسلمين وسائر الناس لا يتأتى إلاّ بإقامة البرهان العقلي والشعوري على صحة الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية وصدقها، كان لا بد أن تكون الخطوة الأولى في إعادة الثقة بالإسلام من أجل إنهاض الأمّة وإقامة الدولة أن تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها حتى يوجد البرهان العقلي والشعوري الذي يوجِد القناعة بهذه الصحة وهذا الصدق لتحصل بناء على ذلك الثقة بها.
أمّا كيف تُجعل الوقائع تنطق بذلك، فإنه يكون بحمل الدعوة الإسلامية بالطريق السياسي، أي بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الأفكار الإسلامية التي لها واقع يجري التعامل بين الناس به، سواء أكانت أفكاراً تتعلق بشؤون الحياة أو تتعلق بتنظيم العلاقات، أي بالعمل السياسي لإقامة الخلافة الإسلامية عن طريق بث الأفكار الإسلامية والكفاح في سبيلها.
وذلك أن الناس يُحكمون من قِبل سلطة قائمة يتولاها حكام منهم أو من غيرهم، وهؤلاء الحكام إنّما يرعون شؤون رعاياهم بأفكار وقوانين معينة. فهذه الرعاية تكون لوقائع معينة بأفكار معينة، أي تكون لمشاكل معينة بمعالجات معينة. فهذه الوقائع ملموسة محسوسة ومعالجاتها ملموسة مدرَكة ونتائجها من حيث توفير المصلحة والمحافظة عليها مدرَكة. فما على الذين يعملون لإقامة الدولة الإسلامية على أنقاض هذا الحكم إلاّ أن يلفتوا نظر الناس إلى فساد هذه المعالَجات، أي إلى بطلان الأفكار والأحكام التي عولجت بها هذه الوقائع وأن يبينوا أن العلاج الصحيح لها إنّما هو فكر كذا أو حكم كذا، وأن هذا هو فكر الإسلام أو حكم الإسلام، فيُنزّل الفكر الإسلامي أو الحكم الإسلامي على الواقعة الجارية، فيدرَك حينئذ واقع الحكم ويُلمس مدلوله، فيحرك العقل ويثير المشاعر.
أمّا كيف يبيَّن بطلان الأفكار والأحكام التي عالج بها الحكام هذه الوقائع، فإنه لا يصح أن يكون من حيث تحقق المصلحة أو عدم تحققها، بل يجب أن يكون البيان من حيث كونها أفكار كفر أو أحكام كفر، فلا يصح أن يكون بيان بطلانها ببيان أنها لا تحقق المصلحة أو ببيان ما ينجم عنها من ضرر، ولا ببيان أنها لا تحافظ على المصلحة أو بيان أنها تضيع المصلحة، بل يجب أن يكون بيان بطلانها من حيث أنها أحكام غير إسلامية، وأنها أحكام كفر، وأن التحاكم إليها تحاكُم إلى الطاغوت. فبطلانها الذي يجب أن يبيَّن هو كونها أفكار كفر وأحكام كفر، لأن المسألة هي من حيث الكفر والإسلام لا من حيث المصلحة وعدمها. وكذلك حين يبين أن العلاج الصحيح لها هو فكر كذا أو حكم كذا وهو فكر الإسلام وحكم الإسلام لا يصح أن يبيَّن صلاحه وتُشرح صحته من حيث كونه يحقق المصلحة أو يزيل الضرر، بل يجب أن تبيَّن صحته ويُشرح صلاحه من حيث كونه حكماً شرعياً بالإتيان بدليله الشرعي من الكتاب أو السنّة أو من قاعدة مستنبَطة من الكتاب أو السنّة أو من كونه فرعاً أو مسألة من فروع ومسائل حكم شرعي مشهور الدليل.
هذه هي الكيفية التي يتبين فيها بطلان المعالَجات المعينة التي يعالج بها الحكام مشاكل معينة، والكيفية التي يبين فيها صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها، أي يجب أن تُربط معالجات الواقع الجارية بالعقيدة الإسلامية مباشرة، فتُجعل العقيدة الإسلامية وحدها الأساس الذي تجري عليه النظرة إلى هذه الأفكار والأحكام، فيُنظر إليها نظرة إسلام وكفر ليس غير. على أن الأحكام التي في الدنيا هي إما أحكام إسلام وإما أحكام كفر ولا ثالث لهما، وحتى العالم كله إما دار إسلام وإما دار كفر ولا ثالث لهما، فيجب أن يكون نقد الأفكار والأحكام على هذا الأساس وحده، أي إسلام أو كفر ولا شيء غير ذلك مطلقاً. فيجب أن يقال عن الفكر أو الحكم هذا كفر إن كان كفراً أو هذا حرام إن كان حراماً، وأن يبيَّن الدليل الشرعي على أنه كفر والدليل الشرعي على أنه حرام. ويجب أن يبرز للناس أن آخِذ الفكر أو الحكم غير الإسلامي يخرج عن الإسلام فيكفر ويرتد إن كان الفكر أو الحكم داخلاً تحت أوامر الله المتعلقة بالإيمان كفكر فصل الدين عن الدولة، وكالتبرع لبناء كنيسة، ويرتكب معصية يعذب عليها في جهنم إن كان الفكر أو الحكم من أوامر الله المتعلقة بالأعمال ولم يكن متعلقاً بالإيمان كفكر القومية وكفتح الاعتماد في البنك. أي يجب أن يُجعل أساس الأفكار والأحكام العقيدة الإسلامية وأن يكون مقياسها الإسلام والكفر والحلال والحرام، فيُحكم ببطلانها أو بصحتها على هذا الأساس وبموجب هذا المقياس.
فالنظر حين يُلفت إلى فساد المعالَجات الجارية إنّما يُلفت لبيان فساد المجتمع الحالي، أي فساد العلاقات القائمة بين الناس. وفسادها ليس آتياً من حيث كونها تجلب منفعة أو تدفع ضرراً أو العكس، وإنّما آت من فساد وجهة النظر في الحياة التي تتحكم في هذه العلاقات وتنبثق عنها هذه المعالَجات، ولذلك يجب أن تُربط بأصلها ويبيَّن بطلانها من حيث بطلان أصلها لا من حيث المنفعة والضرر، فكان من المحتم أن تُربط المعالَجات بالعقيدة المنبثقة عنها، وأن تُضرب هذه المعالَجات باعتبارها منبثقة عن عقيدة فاسدة، أي باعتبارها أفكار كفر وأحكام كفر، بغض النظر عن وجود المصلحة أو عدم وجودها. ولهذا كان لزاماً أن يكون ضرب العلاقات القائمة بين الناس باعتبارها علاقات قائمة على أفكار كفر أو أحكام كفر، وأن يركز ضربها على هذا الأساس، لأن الغاية من ضربها إنّما هي تغيير المجتمع الحالي باعتباره مجتمعاً غير إسلامي، وإزالة الأفكار والأحكام الحاضرة باعتبارها أفكار كفر وأحكام كفر لإقامة المجتمع الإسلامي وإيجاد أفكار الإسلام وأحكامه في العلاقات القائمة بين الناس. أي أن الغاية هي جعل وجهة النظر الإسلامية في الحياة هي السائدة، وجعل طريقة الإسلام في الحياة هي طريقة الناس في العيش سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهذا لن يتأتى ببيان المنافع والمضار، ولن يتأتى إلاّ بجعل العقيدة الإسلامية وحدها الأساس للحياة وجعل الحلال والحرام المقياس الوحيد للأعمال.
فالقضية هي إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها أفكاراً إسلامية وأحكاماً إسلامية مستنبَطة من الكتاب والسنّة أو ما يرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، وليست القضية إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها نافعة أو ضارة. والعمل المباشر هو ضرب علاقات قائمة قد أتى بطلانها وفسادها من وجهة النظر التي انبثقت عنها، فكان حتمياً أن يكون هذا الضرب للعلاقات القائمة أي للأفكار والأحكام التي بها يرعى الحكام شؤون الناس ويعالِجون مشاكلهم ضرباً لأفكار كفر وأحكام كفر بوصفها كفراً، بأفكار إسلامية وأحكام إسلامية بوصفها إسلامية ليس غير. وهنا يحصل الصراع العنيف حول هذه الأفكار والأحكام، ويكون صراعاً عقائدياً تصطدم فيه العقول والمشاعر مع بعضها اصطداماً فكرياً ومشاعرياً يقدح الشرر منه فيلمع ضوء الحقائق ويشرق نورها فيتجلى فساد الأفكار والأحكام الجارية بظهور فساد وجهة النظر المنبثقة عنها، ويلمس المسلم ارتباطها بعقائد الكفر وانبثاقها عن نظر الكفر، كما يلمس الكافر والمنافق من الصراع الفكري والنقاش العميق بطلان وجهة نظر الكفر هذه وصحة وجهة نظر الإسلام. وحينئذ يلمس الناس فساد النظام القائم وصلاح حكم الإسلام، وبذلك تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها، فإذا تكرر ذلك أي تكرر ثبوت صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وُجدت القناعة بها وتولدت عن هذه القناعة الثقة بها وحدها دون سائر الأفكار والأحكام الموجودة في العالم. فإذا عمّت هذه القناعة الناس وتركزت الثقة في نفوسهم ووُجد رأي عام منبثق عن وعي عام فإنه ولا شك تكون قد دبّت النهضة في الأمّة وأقامت الدولة مهما وقف في سبيلها من عقبات، لأن الأفكار الدينامية تنسف أكبر قوة سياسية وتدمر كل فكر باطل وكل حكم فاسد.
rajaab
06-07-2005, 05:44 PM
هذه هي الطريقة التي تجعل الوقائع والحوادث تنطق بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها، وهي الاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام، أي ببث أفكار الإسلام وأحكامه على الأساس السياسي، وبعبارة أخرى حمل الدعوة الإسلامية في الطريق السياسي. ومن هنا ندرك السر في الحملة التي قام بها الكفار بواسطة المأجورين من المسلمين لإبعاد المسلمين عن السياسة وتنفيرهم منها وجعلها تتنافض مع سمو الإسلام وروحانيته. وندرك السر في محاربة الدول الكافرة والحكام العملاء للكفار للحركات الإسلامية السياسية، لأنها تدرك أن هذه الحركات السياسية الإسلامية هي وحدها التي تُنهض الأمّة وتقيم الدولة وتضرب الكفر وتُرجع مجد الإسلام. ومن أجل ذلك تحاربها وتنفّر المسلمين من السياسة. وإنه لن تعود ثقة الأمّة بالإسلام، ولن تنهض الأمّة الإسلامية، ولن تقام الخلافة الإسلامية وترجع الدولة الإسلامية إلاّ بالاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام.
وعلى هذا فقضية إنقاذ الأمّة الإسلامية من الفناء هي إعادة ثقتها بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها عن طريق جعل الوقائع والحوادث تنطق بهذه الصحة وهذا الصدق لتحصل القناعة التامة بذلك، أي عن طريق حمل الدعوة الاسلامية في طريقها السياسي، أي بالعمل لإيجاد الخلافة الإسلامية عن طريق بث الفكار الإسلامية والكفاح في سبيلها. وهذه الطريقة هي التي أوجد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمّة الإسلامية والدولة الإسلامية. فهي فوق كونها واقعاً ملموساً يحمل المرء على أن يسكله ولا يسلك سواه، هي حكم شرعي يجب التقيد به ويجب أن يُحصر السير بحسبه، ولا يصح أن يُسلك سواه. ومن هنا كانت هذه الطريقة وحدها هي التي يجب أن يسلكها المسلمون. فالعمل الوحيد الذي يجب على المسلمين اليوم أن يقوموا به قبل أن يقوموا بأي عمل آخر هو إقامة الدولة الإسلامية، أي إعادة الخلافة الإسلامية. وطريق ذلك ثورة فكرية سياسية تدمر الأفكار الباطلة وتحطم الحكم الفاسد.
وهنا يقع السؤال: ماذا تنفع أفكار الإسلام في العالم الإسلامي والكفر قد عمّ جميع أرجائه، فالعلاقات بين الأفراد تعالَج بقوانين الكفر، والعلاقات بين الدول القائمة فيه وبين رعاياها تقوم على أساس أحكام الكفر، والمسلمون أنفسهم تتحكم في عقولهم ونفوسهم أفكار الكفر، فماذا تستطيع أفكار الإسلام أن تفعل والكفر مُطبِق من جميع النواحي ولم يبق الإسلام إلاّ في المساجد والمصاحف وعند الأقلية من المسلمين؟
والجواب على ذلك أن أي مجتمع في الدنيا يعيش الناس فيه داخل جدارين سميكين يمنعان الأفكار والمشاعر الغريبة عنه من أن تتسرب إليه، أحدهما الجدار الخارجي وهو جدار العقيدة الأساسية أي الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبلها وما بعدها وعلاقتها بما قبلها وما بعدها. والجدار الثاني هو جدار الأنظمة التي تعالج علاقات الناس وطريقتهم في العيش. فإذا أريد قلب هذا المجتمع من قِبل أهله أنفسهم وتغييره تغييراً جذرياً فلا بد من مهاجمة الجدار الخارجي أولاً وبالذات بالعقيدة الجديدة، وربط الهجوم على الجدار الخارجي بهجوم على الجدار الداخلي. إلاّ أنه لا بد أن يكون هذا الهجوم مبنياً على الأفكار التي يهاجَم بها الجدار الخارجي. فهذا الهجوم يوجِد صراعاً فكرياً بين الأفكار القديمة والأفكار الجديدة ويحصل فيه الكفاح السياسي حتى يتحطم الجدار الخارجي، وبتحطيمه يتحطم الجدار الداخلي ويحصل الانقلاب الفكري والشعوري، فيكون الانقلاب السياسي، أي يتغير المجتمع كله، أي يتغير الحكم والنظام وسائر العلاقات. وهذا ما حاوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع مكة وما فعله في مجتمع المدينة. وهذا يحتاج إلى قوى غير عادية فكرية وجسمية حتى نستطيع نسف مثل هذا المجتمع.
أمّا المجتمع الآن في البلاد الإسلامية فإنه ليس فيه إلاّ جدار واحد هو الجدار الداخلي، وهذا لا يحتاج تغييره إلى إزالة الجدار كله بالهجوم الفكري، بل يكفي فتح ثغرة فيه للدخول داخله لتسلم الحكم فيُنسف حينئذ من الداخل مرة واحدة نسفاً انقلابياً ما دام الجدار الخارجي غير موجود، لأن الصعوبة هي في إزالة الجدار الخارجي، ولا يمكن الدخول في المجتمع إلاّ بنسفه كله قبل الدخول. ولكن ما دام الجدار الخارجي غير موجود فإن العمل أسهل بكثير مما لو كان موجوداً.
ولهذا فالمسألة لا تحتاج إلاّ إلى مهاجمة الأفكار والأحكام التي يقوم بها الجدار الداخلي وبيان الأفكار والأحكام الإسلامية التي هي عقيدة الأمّة لتعود الثقة بها، وحينئذ سهلٌ أن تُفتح الثغرة ويُنسف المجتمع. ولهذا فالعمل ليس بث الأفكار الإسلامية في مجتمع كافر، بل بث الأفكار الإسلامية لمسلمين في مجتمع غير إسلامي، أو بعبارة أخرى ليست المسألة دعوة كفار لاعتناق الإسلام وإنّما هي دعوة مسلمين للعمل للإسلام وبالإسلام عن طريق بث أفكار الإسلام والكفاح في سبيلها، وهي وإن كانت صعبة وشاقة ولكنها وحدها المنتِجة وهي أسهل بكثير من العمل في مجتمع كفار.
إلاّ أنه يجب أن يُعلم أن أعداءنا الكفار لن يتركوننا نعمل لإنهاض الأمّة الإسلامية وإقامة الخلافة الإسلامية، أي لن يمكنونا من إعادة الثقة بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها بل لا بد أن يَحُولوا بيننا وبين القيام بهذا العمل بشتى الطرق ومختلف الأساليب. فإنهم ما زعزعوا ثقة الأمّة الإسلامية بأفكار دينها وأحكامه إلاّ من أجل تدمير دولتها وإفنائها هي إفناءً تاماً. وقد انتصروا في ذلك الانتصار الساحق، فدمروا الدولة الإسلامية وساروا بالأمّة الإسلامية في طريق الفناء حتى أشرفت على هذا الفناء بين عشية وضحاها. فهل يسمحون لها بأن تعود أمّة إسلامية تقوم عليها الخلافة الإسلامية وتظللها راية الإسلام لتستأنف أداء رسالتها بحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم؟ إنهم لن يمكنوها من ذلك وسيحاربونها أشد المحاربة، فلا بد من القيام بالعمل جبراً عنهم بكفاحهم وكفاح عملائهم وإيجاد الرأي العام بل الوعي العام الذي يكتسحهم أمامه. لذلك فإن الصعوبة ليست في بث أفكار الإسلام للمسلمين لإنهاض الأمّة وإقامة الدولة، بل الصعوبة في الصبر على كفاح الكفار والمنافقين في سبيل بث أفكار الإسلام.
إن الدول الكافرة التي شهدت الدولة الإسلامية وحكم الإسلام ولا سيما الانجليز والفرنسيين والروس سوف يحاربوننا لِما رأوا في الأمّة الإسلامية من عقائدية الدعوة إلى الإسلام، ولِما لمسوا في الدولة الإسلامية من قوة ومواصلة الجهاد في سبيل حماية الإسلام ونشر دعوته، ورأوا أن الدولة الإسلامية كانت الدولة الأولى عدة قرون، ولذلك ذاقوا وقع أسنّة المسلمين، وبطش فكر الإسلام. فهم يرتعبون من ذكره وترتعد فرائصهم من مجرد تصور عودته بعودة الخلافة الإسلامية ونهضة الأمّة الإسلامية. والدول الكافرة اليوم ولا سيما الانجليز والفرنسيون والأمريكان والروس يدركون تماماً أن الإسلام إذا عادت أمّته للنهوض ورجعت دولته للوجود فإنها لن تقف أمامه دولة، ولن يصمد في وجهه مبدأ. فالرأسمالية العفنة ستدمَّر بأفكار الإسلام وأحكامه، والشيوعية الملحدة الآفنة ستحطَّم بالارتفاع الفكري المبني على الأساس الروحي في أفكار الإسلام وأحكامه، وهذا يعني رجوع الدولة الإسلامية إلى مركز الدولة الأولى في العالم مرة أخرى، وذلك ما لا يرضى به أحد من الكفار. ولذلك سيحاربونه أشد المحاربة بأشد بغض وأفظع حقد. لذلك كان لا بد أن نكون واعين على الكفار وأساليبهم ومناوراتهم وأن يدرَك إدراك وعي وتدبّر أن الصعوبة إنّما هي في مواجهة أعدائنا أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين وليست هي في بث أفكار الإسلام.
إن انجلترا وروسيا قد ذاقتا الويلات من العسكرية الالمانية، ولذلك تعملان مع تناقضهما في طريقة الحياة على إبقاء ألمانيا مجزأة ضعيفة ويَحُولان بينها وبين أن تستعيد قوتها، ويحاربان كل عمل فيه تقويتها حتى لا تعود العسكرية الالمانية فتكون خطراً عليهما. وإن أمريكا وانجلترا تريان في دولة الاتحاد السوفياتي خطراً عليهما وعلى مبدئهما، ولذلك تعملان لمحاربتها ومحاربة مبدئها بجميع الوسائل وشتى الطرق، حتى أن أمريكا ترى أنه لا يمكن أن يكون للأمريكيين أمان إلاّ إذا زالت دولة الاتحاد السوفياتي من الخريطة ومُحيت الشيوعية من الحياة.
فإذا كان هذا بالنسبة لالمانيا وروسيا والعداء لهما أقل من العداء للإسلام والمسلمين لأنه عداء جديد وعداء الإسلام والمسلمين عداء تقليدي قديم يحتل مركز الشعور وموضع التفكير، ومن أجل ذلك قسموا البلاد الإسلامية إلى دول وشعوب، وقسموا الشعب العربي إلى دول ليكون أيضاً شعوباً، وحاربوا الإسلام حرباً فكرية وحرباً سياسية بدأب متواصل وبحقد دفين، كل ذلك حتى لا تعود الدولة الإسلامية إلى الوجود، ولا تعود الأمّة الإسلامية إلى النهوض. هذا ما يجب أن يدركه المسلمون ويتدبروه لأنه هو سبب الانحطاط وفيه خطر الفناء، وهو الذي يَحُول بيننا وبين الحياة كما ينبغي أن تكون الحياة.
إن عدونا هذا حوّل عداوتنا له من كفر وإيمان إلى استعمار ومستعمِرين، من عداوة مسلمين لكفار إلى عداوة مستعمَرين للاستعمار، وحوّل بُغضنا له من بغض مسلمين لكفار إلى بغض وطنيين لأجانب، وبذلك أنسانا مرارة الهزيمة بوصفنا مسلمين، وأزال عنها كونها هزيمة كفر للإسلام، حتى يتحول كفاحنا له من جهاد نطلب فيه الجنة ونبتغي منه رضوان الله إلى كفاح رخيص كالمظاهرات والاحتجاجات للحصول على الاستقلال، أي على الانفصال عن باقي بلاد الإسلام. ولذلك لا بد من إعادة الصراع بيننا وبينه إلى صعيده الأصلي: صراع بين إسلام وكفر بين مسلمين وكفار. فإن موضوع النزاع بيننا وبينه ليس لكونه مستعمِراً فحسب بل لكونه كافراً مستعمِراً، وفي الدرجة الأولى لكونه كافراً، وسبب جهاده إنّما هو الكفر. ولهذا لا بد أن نعرف عدونا من هو وأن نتخذه عدواً. فإننا إذا لم نعرف جهة العداوة بيننا وبينه والسبب الذي يحمل لنا من أجله العداء لا يمكن إنقاذ أنفسنا من براثنه، وبالتالي لا يمكن التغلب عليه. وإذا لم نتخذه عدواً فإننا ولا شك سنجعل أنفسنا تحت سيطرته، وتحت رحمته، قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً).
وقد جاء القرآن بكيفية معاملة الكفار بآيات صريحة تقرع الآذان وتوقظ العقول وتهز النفوس وتثير المشاعر، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)، وقال: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء)، وقال: (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء)، وقال: (بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذي اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قَبلكم والكفار أولياء)، وقال: (إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً)، وقال: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة بالهدى ويريدون أن تَضِلّوا السبيل والله أعلم بأعدائكم).
هذه هي المعاملة العادية للكفار: حمل العداوة لهم وعدم موالاتهم. فإذا حصلت بيننا وبينهم حرب فعلاً كانت معاملتهم حسب أحكام الجهاد. والانجليز والفرنسيون والأمريكيون والروس وغيرهم من الدول الكافرة هم كفار أعداء لنا، إلاّ أن الانجليز والأمريكان والفرنسيين هم الذين يباشِرون محاربة إنهاض المسلمين وعودة دولتهم، فهم الذين يقفون في وجه بث الأفكار الإسلامية في الطريق السياسي لإعادة الثقة بصحتها وصدقها وصلاحيتها، ولذلك كان من المحتم أن لا بد من الكفاح المرير في سبيل بث أفكار الإسلام، وكان الكفاح إنّما يكون لهؤلاء ولعملائهم من الدجالين والمنافقين.
وهنا قد يَرِد سؤال وهو: أن البلاد الإسلامية صحيح أنها مقسمة إلى دول ولكنها متحررة من الاستعمار ومن سلطان الكفار وحكامها مسلمون، وهي إنّما تحكم بنظام كفر. فالكفاح إنّما يكون لنظام الكفر ولا يوجد أي كفاح للكفار.
والجواب على ذلك هو أن الأمّة الإسلامية منكوبة ببلاءين: أحدهما أن حكامها عملاء للكفار المستعمِرين، وثانيها أنها تحكم بغير ما أنزل الله، أي تحكم بنظام كفر، ولذلك كان لزاماً عليها في البلدان التي فيها دول حكامها ليسوا عملاء للكفار مثل تركيا والأفغان أن تكافح نظام الكفر لإزالته وللحكم بما أنزل الله أي لإقامة الخلافة الإسلامية. أمّا في البلدان التي حكامها عملاء كباكستان والعراق والأردن ولبنان والسعودية وإيران والجمهورية العربية واندونيسيا والسودان وغيرها فإنه فرض على الأمّة أن تكافح عمولة العملاء فتكشفهم وتفضح أعمالهم، وأن تكافح كذلك نظام الكفر لإزالته ولإقامة سلطان الإسلام وحكم القرآن. فهؤلاء العملاء يكافحون قطعاً بث أفكار الإسلام في الطريق السياسي ذاتياً من أنفسهم وبتحريض من الدول الكافرة، لأن الحكام في العالم الإسلامي تملكهم ثلاث حالات قد أثرت عليهم حتى أفقدت بعضهم الإيمان بالإسلام كنظام للحكم وكنهج للحياة وبذلك أصبحوا كفاراً ولو صاموا ولو صلّوا، وبَعَثت في البعض الآخر اليأس من صلاح هذه الأمّة ولكنهم ظلوا يؤمنون بالإسلام كنظام للحكم وكنهج للحياة وأوجدت عندهم جميعاً الشعور بالعجز الدائم عن الوقوف في وجه الدول الكبرى الكافرة إلاّ بالاستناد إلى عمولة دولة كبرى كافرة، فأدى ذلك إلى تصورهم الخطر عليهم وعلى البلاد من أي عمل لإعادة الدولة الإسلامية إلى الوجود.
أمّا هذه الحالات الثلاث فهي: عدم الثقة بالإسلام كمبدأ عالمي للحياة والحكم وعلاقات الدول، وعدم الثقة بالأمّة الإسلامية كأمّة قادرة على أن تقتعد مكان الصدارة بين الأمم الكبرى، والثالث هو الرعب الذي قُذف في قلوبهم من الدول الكبرى الكافرة وما لديها من معدات الدمار ومن أساليب المكر والخداع. ومن أجل ذلك نأوا بجانبهم عن الإسلام وجعلوا ركيزة بقائهم في الحكم الاستعانة بالدول الكبرى والاستناد إليها لا الاستعانة بقوة بلادهم والاستناد إلى أمّتهم. واستسلموا للكفار الحربيين. ولذلك فإنهم سيقاومون إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه، أي سيقاومون بث أفكار الإسلام في الطريق السياسي باعتبارهم أداة في يد الكفار الغربيين. ولهذا فإن المقاوم في الحقيقة هم الكفار الغربيون وليسوا هؤلاء الحكام المسلمين. ومن هنا يجب أن ندرك الصعوبة على هذا الأساس، وأن يُعلم أن هذه هي الصعوبة الأساسية في إنهاض الأمّة وإعادة الدولة، وأن يستعد المسلمون لذلك كل الاستعداد. فإن هذا الكفاح أمر لا بد منه وهو فرض كفرض الجهاد سواء بسواء.
قد يقال إن هناك صعوبة أخرى غير صعوبة الكفاح ألا وهي قدرة الإسلام على مسايرة الزمن، ولا سيما في الأعمال السياسية البحتة. فإن المسألة ليست إقامة دولة فحسب فإن هذه هيّنة، وإنّما المسألة وقوف هذه الدولة في المجال الدولي ومحاولتها أخذ مركز مرموق بين الدول، واستطاعتها التأثير على الموقف الدولي مع ثباتها على أفكار الإسلام، ثم إيجاد علاج للمشاكل التي تقتضيها طبيعة الزمن وتقلباته، فالوقائع تحدث في كل وقت، فلا بد من مسايرة الزمن فيها.
والجواب على ذلك هو أن كلمة مسايرة الزمن كلمة غامضة مبهمة، فإن أرادوا منها أن تُجعل الأحكام متفقة مع ما يسود العصر فهذا لا يجوز، فجعْل الربا حراماً في المجتمع الإسلامي ثم حين يصبح هذا المجتمع تحت حكم نظام رأسمالي ويصير مجتمعاً غير إسلامي ويكون الربا ضرورة اقتصادية لهذا المجتمع حينئذ يُجعل الربا حلالاً في هذا المجتمع. هذا العمر منكَر ولا يجوز أن يكون، بل الربا يظل حراماً إلى قيام الساعة، ولا عبرة بتغير العصر ولا بتغير الظرف ولا بتغير المجتمع، حتى لو أصبح من ضروريات الحياة. فيجب أن يُغيَّر المجتمع لا أن يُغيَّر الحكم الشرعي.
وإن أرادوا من مسايرة الزمن أن توجد حلول للمشاكل التي تَجِدّ مع كل زمن، فهذا أمر لا بد منه. فمثلاً المسلمون كان يستشيرهم الخليفة بدعوة ممثليهم وكان يعرف ممثليهم، فإذا أصبحت استشارة الدولة للناس تقتضي إيجاد مجلس شورى يُنتخب من الناس لأخذ رأيهم فإن هذه الواقعة تُفهم فهماً واقعياً، فيُرى أن مجلساً للشورى ومحاسبة الحكام لا للتشريع ولا لمباشرة الحكم، أمر قد طلبه الشارع، قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم)، وقال عليه السلام: (أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر). وعليه يوجد هذ المجلس ويطبَّق في انتخابه حكم الوكالة، لأن هؤلاء الأعضاء في المجلس هم وكلاء عن الناس في الرأي، والوكالة في الرأي جائزة كالوكالة في الخصومة وفي المال وغير ذلك. وما دامت وكالة في الرأي فإن لكل إنسان أن يوكِل من يشاء في الرأي، رجلاً كان أم امرأة، مسلماً كان أم غير مسلم، وأن يتوكل عمن يشاء، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً كان أو غير مسلم. إلاّ أن غير المسلم لا يتوكل في التشريع لأنه أحكام شرعية وهي لا تكون لغير المسلم، ولا في حصر المرشَّحين للخلافة لأنه لا يبايِع الخليفة إلاّ المسلمون. أي لكل إنسان أن يوكل غيره وأن يكون وكيلاً عن غيره في كل ما أعطاه الشرع حق مباشرته بنفسه. فلكل من يحمل تابعية الدولة أن ينتخب من يشاء وأن يُنتخب هو عمن يشاء في مجلس الشورى. فهذا الحكم ليس مسايرة للزمن وإنّما هو اتساع في الشريعة، أي أن الإسلام عالج كل مشكلة تحصل في كل زمن.
وإن أرادوا مسايرة الزمن في الأعمال المباحة كأن تحدث مباحات لم تكن فيُختار منها ما يتمشى مع الأذواق السائدة، كأن يلبس قبعة بدل الطربوش لأنه يعيش في أوروبا مثلاً، وكأن يتخذ لنفسه حجّاباً ومواعيد. فإن هذا أيضا وإن ظهر فيه أنه مسايرة للزمن ولكنه قيام بفعل مباح بغض النظر عن الزمن.
وإن أرادوا اختلاف المعاملات في العلاقات الدولية باختلاف الظروف والأحوال، فهذا جائز، ولكن جوازه إنّما يكون بحسب الأحكام الشرعية. فمثلاً تعقد الدولة الإسلامية مع إحدى الدول الكافرة معاهدة حسن جوار وترفض أن تعقدها مع دولة أخرى، فهذا جائز، إذ تسير حسب ما ترى من مصلحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم عقد معاهدات حسن الجوار مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة وهاجم غيرهم من القبائل.
ومثلاً يجوز للدولة الإسلامية أن تمتنع عن فتح بلاد وحكمها بالإسلام مع قدرتها على ذلك لأمر يتعلق بالموقف الدولي أو بالخطط الخاصة بالدولة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد معاهدة مع يوحنة بن رؤبة صاحب ايلة على أن يعطي يوحنة الجزية للمسلمين ويؤمِّن الرسول له سفنه وقوافله في البحر والبحر، وأقرّه على أن يبقى حاكماً على قومه على كفرهم، أي أقرّهم على الكفر وعلى حكم الكفر. وكذلك فعل بأهل جرباء وأذرح مع الإقرار على الكفر وعلى حكم الكفر. وهذه القبائل الثلاث كانت إمارات من إمارات بلاد الروم، وكان الرسول قادراً على احتلالهم، فقد كان في تبوك معه ثلاثون ألفاً وقد هرب جيش الروم منه لمجرد سماعه عنه قبل أن يلقاه، فكان قادراً على احتلال هذه الإمارات ولكنه تركها.
ومثلاً الحكم الشرعي أن يدفع الكفار الجزية للدولة الإسلامية ولكن قد تغير الظرف فتقوم الدولة الإسلامية بدفع جزية للدول الكافرة لظرف طرأ عليها، فالرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب رأى أن الكرب اشتد على المسلمين ووصل الحال عند بعضهم إلى حد الشك بنصر الله، وقد وصف الله تلك الحال بقوله: (إذ جاؤوكم مِن فوقكم ومِن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً)، في هذه الحال قام الرسول صلى الله عليه وسلم بمناورة يُفتّت فيها تكتل الكفار ويجعل بعضهم يرجع عن القتال، فبعث إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المضري –وهما قائدا غطفان- ففاوضهما على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فقَبِلوا ذلك وجرى بينهما صلح حتى كتبوا الكتاب، وقبل أن يوقِّع الكتاب بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما به، فقالا له: يا رسول الله، أمْراً تحبه فتصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئاً تصنع لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلاّ لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم (أي اشتدوا عليكم) من كل جانب فأردتُ أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، ولا هم يطمعون أن يأكلوا منا مترة إلى قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة فمحى ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.
rajaab
06-07-2005, 05:48 PM
فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى أن المسلمين أصبحوا في حالة لا يحتملون معها مواصلة القتال ففاوض الكفار على أن يدفع لهم مالاً وانتهت المفاوضات إلى موافقتهم، ولكنه قبل أن يوقّع كتاب الصلح رأى من استشارة السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة أن المسلمين في طاقتهم أن يحتملوا مواصلة الحرب فعدل وأعاد الرسل وقال لهم: ارجعوا ليس لكم إلاّ السيف. وهذا يعني أنه مع أن الأصل أن الكفار يدفعون الجزية ولكن إذا رأت الدولة أن الظرف يقتضي أن يدفع المسلمون الجزية فإنه يجوز أن يراعوا الظرف ويدفعوا الجزية للدول الكافرة. فهذه كلها وقائع تدل على أن الحكم الذي وُضع لمشكلة وكان صالحاً في وقت قد تُرك وجُعل للمشكلة حكم آخر مكانه لاختلاف الوضع الذي فيه الدولة. فهذا وإن كان يظهر منه أنه مسايرة للزمن ولكنه في الحقيقة سير مع الحكم الشرعي وليس مسايرة للزمن. ولذلك لا يجوز أن يغير الحكم إلاّ إذا كان له دليل شرعي يجيز تغييره ووضع حكم آخر للمشكلة بدله. ولذلك فإن المسلمين في حالة الضعف يجوز أن تدفع الدولة مالاً للدول الكافرة، ولكنه لا يجوز لها أن تجعل للدولة الكافرة قواعد أو مطارات عسكرية في أراضيها لأن هذا يجعل سلطاناً للكفار على جزء من أراضي الدولة وهذا لا يجوز. وكذلك لا يجوز لها أن تعقد معاهدات حدود فتلتزم بأن تكون حدودها موضع كذا لأنه يعني وقف الجهاد، ولكنه يجوز أن تلتزم احترام الجوار مدة معينة لا مطلقاً من غير تحديد مدة. وهكذا فإنه يجوز اختلاف المعاملات في العلاقات الدولية باختلاف الظروف ولكن حسب الحكم الشرعي ولا يحل الخروج عنه مطلقاً.
وإن أرادوا بمسايرة الزمن وضع سياسة تتفق مع متطلبات العصر، فهذا جائز لأنه اختيار لمباح من المباحات، فالسياسة فعالية مؤثرة في الممكنات لتحويلها إلى الوضع الذي نريده نحن ما دام ذلك داخلاً بالممكن أي ليس بالمستحيل، وهو بالطبع يعني المباحات. فقد تختار الدولة سياسة الحرب وقد تختار سياسة الأعمال السياسية. أي قد تضع الدولة مخططات القيام بالحرب فعلاً فتكون في حالة تأهب دائم وتجيب على كل مناورة سياسية بالاستعداد الفعلي لخوض الحرب والدخول في معارك. وقد تضع الدولة مخططات للقيام بأعمال سياسية بإيجاد مشاكل للعدو متصلة الحلقات لا يكاد يخرج من مشكلة إلاّ ويقع في مشكلة أخرى، وتكون مُعِدّة لذلك القوة الهائلة حتى تكون جريئة على خلق المشاكل للعدو ودفعه إليها، حتى إذا بادأها العدو بالحرب أعادت له الضربة ضربتين. فهاتان سياستان مباحتان، فالدولة حين ترى أن الزمن يقتضي إحداهما ولا يقتضي الأخرى تكون ظاهراً قد سايرت الزمن ولكن الحقيقة أنها اختارت الفعل المباح الذي يقتضيه الزمن.
وهكذا فمسألة مسايرة الزمن حين توضح مشاكل الزمن يذهب منها الغموض، وحين يعيّن مدلول كل مشكلة وموقف الحكم الشرعي منها يذهب منها الإبهام. وعلى ذلك فإنه يمكن أن يقال إن الشريعة الإسلامية تساير الزمن إذا قُصد أنها في نصوصها العامة يمكن مواجهة كل مشكلة في أي زمن وإيجاد حل لها فهي تساير الزمن. وإذا قُصد أنها تتسامح بأحكامها مراعاة للزمن فإنها بهذا المعنى لا تساير الزمن.
على أن المسألة في مسايرة الزمن سواء في السياسة أو التشريع إنّما هي فيما يسمى بالواقعية العملية، فالناس الواقعيون العمليون يسايرون الزمن قطعاً حتى ولو كانوا من أشد المحافظين على القديم لأنه قديم، والناس غير الواقعيين وغير العمليين لا يمكن أن يثبتوا في مستوى عال في كل زمن بل يجمدون وتصيبهم الحيرة. ولا يوجد في الدنيا أخطر على التشريع وعلى السياسة من الفروض النظرية والقضايا المنطقية، فإنها تسبب الضرر الفاحش بل تسبب الخطأ والضلال. فإن السياسة والتشريع يعالج كل منهما واقعاً محسوساً وأمراً من أمور العمران. ولكل واقع ظروفه وأحواله فيجب أن يُستبعد تجريده منها استبعاداً تاماً، ويجب مراعاة الظروف الخاصة بالنسبة لكل واقع، وبالنسبة لكل أمر بمفرده، ولذلك يجب استبعاد التعميم والتجريد في السياسة والتشريع، فلا يقاس شيء من أحوال العمران على آخر لمجرد الاشتباه، إذ يجوز أن يحصل الاشتباه في أمر ويكون الاختلاف واقعاً في أمور متعددة.
ومن أخطر الأمور على السياسة والتشريع استعمال القياس الشمولي. أمّا التشريع ولا سيما التشريع الذي جاء به الوحي فهو أحكام لأفعال ولا ينطبق إلاّ على تلك الأفعال، ولذلك لا يقاس عليها لمجرد الشبه بل يعطى الحكم لها إن كانت واحداً من ذلك الجنس أو النوع لا إن كانت تشبهه، وإذا تضمن النص علّة فإنها تطبَّق فقط على جنس ذلك الوصف الذي هو العلّة لا على ما يشبهه. فإذا خرج الوضع عن ذلك فقد خرج عن أن يكون حكماً شرعياً مستنبَطاً من الدليل، لأن الدليل لا يدل عليه هو بل يدل على ما يشبهه، ولأن العلّة لا تدل عليه هو بل تدل على ما يشبهه. ولذلك قال بعض العلماء كالإمام ابن حزم بالأخذ بظواهر النصوص خشية أن يدخل تحت الحكم ما هو من غير جنسه ونوعه لمجرد الشبه أو أن يحمل النص خلاف ما يدل عليه لغة أو شرعاً. ولذلك أيضاً قال بعض العلماء كالإمام جعفر بمنع الأخذ بالقياس، إذ اعتبروا أن النصوص المعلَّلة جاءت علتها علامة عن الحكم، فالله قال هذا حكم كذا وهذه علامة حكم كذا، ولا يوجد في المسألة قياس. كل ذلك لِما للفروض النظرية والقضايا المنطقية من خطر يؤدي إلى الخطأ والضلال من جراء القياس المغلوط لمجرد الشبه.
أمّا السياسة فالأمر فيها أشد لأنها معالَجة أمور فردية قلّما يجتمع أمر مع أمر في كل شيء، ولكنها شديدة التعقيد، دقيقة الإدراك، متداخلة الحوادث، ولذلك إذا لم تُعتبر كل حادثة بمفردها وتعطى حكماً خاصاً بها فإنه لا يمكن أن يوصِل إلى الحقيقة إلاّ إذا كان صدفة، أي رمية من غير رام. وحينئذ يستغلق فهمها وبالتالي يقع الخطأ في العلاج. فلأجل أن يسايِر التشريع وتسايِر السياسة متطلبات كل زمن وحاجاته على أساس ثابت لا تكون فيه قابلية التغيير، لا بد أن تؤخذ الحوادث كلها حسب واقعها الذي هو عليه مئة بالمئة، ولا يقام أي وزن للتشابه بينها، وأن توضع الناحية العملية عند العلاج، أي أن هذا ممكن أو ليس ممكناً أي ليس هو مستحيلاً، فتُبعد الفروض النظرية وتُبعد القضايا المنطقية ويُستبعد التعميم والتجريد، ويُحذر من القياس المغلوط ولا سيما القياس الشمولي، وحينئذ يظل التشريع وتظل السياسة مزدهرتين أيما ازدهار. أو على حد تعبيرهم تظل الأمّة قادرة على مسايرة الزمن فتظل في كل زمن مقتعدة المكان المرموق في الموقف الدولي، بل مقتعدة مركز القيادة للأمم.
وقد يقال إن البلاد الإسلامية المترامية الأطراف وقد قُسمت إلى دول عديدة وقامت فيها دساتير مختلفة وقوانين متنوعة ومضى عليها أكثر من أربعين عاماً وهي تحكم بدساتير تناقض الإسلام وقوانين ليست أحكاماً شرعية بل كلها أنظمة كفر وأحكام كفر، فالصعوبة إن ذُللت بالنسبة لمسايرة الزمن فإنها باقية بالنسبة للدستور والقوانين، فلا بد من إعداد دستور للدولة الإسلامية يكون آخذاً بعين الاعتبار اختلاف الوقائع والأحوال والظروف في مختلف بلاد الإسلام، ولا بد من إعداد قوانين تعالج كل مشاكل العصر الحديث.
والجواب على ذلك هو أن الأساس إيجاد الثقة بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها قبل أن تُجمع هذه الأحكام دستوراً وقوانيناً. أي أن الأساس انبثاق هذه الأحكام الشرعية عن العقيدة التي يعتقدها المسلمون واعتبارها أنها أحكام جاء بها الوحي من عند الله. فإذا وُجد هذا الأساس فقد سَهُل وضع الدستور والقوانين. أي أنه لا بد من تركيز الأساس الذي تقوم عليه الدولة والجامعة التي تربط الأمّة كأمّة، أي لا بد من أن تُبعث الحياة في العقيدة الإسلامية أولاً باعتبار الأفكار والأحكام التي انبثقت عنها وحياً من الله جاء بها جبريل عليه السلام علاجاً لأفعال العباد لتحقيق السعادة لهم، فإذا وُجد هذا الاعتبار فقد وُجدت الدولة.
صحيح أن العقيدة الإسلامية موجودة عند الأمّة، والأمّة أمّة مسلمة وليست كافرة، ولكن هذه العقيدة فقدت علاقتها بأفكار الحياة وأنظمة التشريع، فغاضت منها الحيوية وصارت عقيدة جامدة بل عقيدة ميتة، ولم يعد لدى المسلمين ذلك الحافز الحاد الذي دفعهم لفتح الدنيا وحكم البشر ونشر الهدى وحمل لواء العدل والحق. بل إن هذه العقيدة فقدت النظرة إلى السماء وحصرت نظرتها في الأرض، فَقَدَت ذكر الله والتطلع إليه والاستعانة به، واتجهت نحو النظرة إلى الخلق واستمداد العون من البشر وأخذ القوة من المال، بل إن هذه العقيدة فقدت في نفوس المسلمين تصور يوم القيامة، فقدت الشوق إلى الجنة والحنين إلى نعيم الآخرة، فقدت المثل الأعلى وهو نوال رضوان الله، وحصرت همّها في متاع الدنيا، فصار شوقها إلى منزل ضخم ورياش ناعم ومركب فاره، وصار حنينها إلى متعة زائلة ونعيم بالمال والجاء والسلطان، وصار مثلها الأعلى تحقيق رغباتها المادية وإرضاء من بيدهم تحقيق هذه الرغبات.
هذه العقيدة الإسلامية حتى عند القائمين بالليل تهجداً، والصائمين بالنهار تطوعاً، والمتحرجين عن الوقوع في محرّم، لا تعدو هذه العبادات، وتنصرف إلى الدنيا وحدها، ولم يعد التقيد بحكم الله كما جاء من عند الله هو الذي يسيطر عليها، ولم يعد لرفع كلمة الله وجعْلِها هي العليا في أعمالها أي وجود ولا في تفكيرها أي نصيب. فكيف يُطلب لإيجاد الدولة لهذه الأمّة وضع الدستور والقوانين قبل أن توضع الأفكار الأساسية التي ينبثق عنها الدستور والقوانين، والتي تعطي الدستور والقوانين صفة أحكام الشرع أي صفة المعالَجات التي جاء بها الوحي من عند الله؟
إنه لا بد من بعث الحياة في العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين حتى تنطق قلوبهم قبل ألسنتهم أن أفكار الإسلام وأحكامه هي أكبر مبرر لوجودنا، وأن إخلاصنا لها يرتفع على كل إخلاص، وأن ولاءنا لها يرتفع على كل ولاء. فإذا نطقت قلوبهم بهذا ومثله، وصار الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، فإنه حينئذ تكون الفكرة التي تجمع الأمّة كأمّة وتقوم عليها الدولة وتنبثق عنها القوانين قد أوجدت الحياة في الأمّة، فيسهل حينذاك وضع الدستور والقوانين. فالقضية أولاً وقبل كل شيء وضع البذرة في العقول والنفوس، ففقدانها هو أصل الداء وأساس البلاء، ووضعها هو العلاج والبلسم والترياق. على أن القضية هي إنهاض الأمّة وإقامة الدولة.
وإنهاض الأمّة إنّما يكون بالفكر وليس بالدستور والقوانين، وإقامة الدولة يعني نصب خليفة للمسلمين، ونصب الخليفة إنّما هو إقامة الحكم، والحكم سياسة بمعنى السياسة الرفيع أي فعل عقل وقلب. فالعقيدة العقلية التي تنبثق عنها أفكار الحياة تملأ العقل بالوعي والقلب بالمشاعر المتدفقة، وعنهما معهاً يصدر الفعل. وهذا الفعل هو الحكم، أو هو سياسة البشر. فهو لا يحتاج إلى دستور وقوانين أولاً حتى يكون، وإنّما يحتاج إلى عقل وقلب يُملآن بالفكر المستنير ثم بعد ذلك توجد الحاجة إلى الدساتير وإلى القوانين. فالفكر الذي يعطي وجهة النظر في الحياة أولاً وقبل كل شيء، أي العقيدة العقلية الحية أولاً وقبل كل شيء، فمتى وُجدت وُجد الحكم، ومتى وُجد الحكم وُجدت الدولة، وحينئذ يوجد الدستور وتوجد القوانين.
والقوانين والأحكام إنّما هي معالَجات للمشاكل اليومية التي تحدث مع البشر منبثقة عن وجهة النظر في الحياة، أي عن تلك العقيدة العقلية الحية التي أقامت السلطان وبُني عليها هذا السلطان. فالدستور والقوانين أداة للحكم وليست أساساً له، وهي مقياس للحكم على الأعمال التي يتقيد بها الحكام ويقيدون بها الرعية التي يحكمونها. أمّا الأفكار التي تنبثق عنها هذه القوانين أو الأحكام فهي التي توجِد الحكم وهي التي تدفع الأمّة لإيجاد الحاكم، وهي التي تجعل الحاكم يسوس الأمّة ويرعى شؤونها على وجه معين وبطريقة معينة، سياسة صادرة عن العقل والقلب معاً، ومدرَكة إدراكاً واقعياً، وتنبض بها المشاعر فتَجعل في الحاكم حرارة الحكم، وتَجعل سياسته سياسة حية تنبض بالحياة. فالأصل في إقامة الدولة عن طريق الأمّة ليس الدستور والقوانين وإنّما هو بعث الحياة في العقيدة العقلية التي ينبثق عنها الدستور والقوانين. أي الأصل في إنقاذ الأمّة من الفناء المحقق إنّما هو إنهاضها بأفكار الإسلام وإقامة الخلافة الإسلامية، أي إعادة الثقة بصحة أفكار الإسلام وصدقها وصلاحيتها، أو بعبارة أخرى بعث الحياة في العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين.
أيها المسلمون
إن أمّتنا وُجدت خير أمّة أُخرجت للناس، فحرام أن يلحقها الفناء، وإجرام أن يدركها العفاء. إنها الأمّة التي نشرت الهدى في العالم، وحققت العدل بين البشر، وتحرت الحق في حكم الرعايا، وشملت الناس بالرحمة وأحاطتهم بالرعاية، ونشرت الطمأنينة، وأوجدت الاستقرار، ومتعت كل من استجاب لدعوتها بسعادة الحياة. إنها الأمّة التي عاشت من أجل إنقاذ الناس من الشرك والكفر، واستشهد الملايين منها في سبيل إعلاء كلمة الله، وكان عملها الأصلي في الحياة حمل الدعوة الاسلامية للعالم، ومَثَلها الأعلى نوال رضوان الله.
هذه الأمّة الكريمة الفِعال، العريقة المحتد، التي كانت تحمل همّ الإنسانية كلها لتخرجها من الظلمات إلى النور، والتي لا تزال الإنسانية مفتقرة إليها لتنقذها مرة أخرى من جشع المادة وقلق المادية إلى راحة التقوى وطمأنينة الإيمان. هذه الأمّة هي اليوم مشرفة على خطر الفناء، والكفر كله يحث الخطى للإجهاز عليها الإجهاز الأخير. هذه الأمّة آثار الكفار فيها التشكيك في أفكار دينها وأحكامه في ظرف بزغت فيه شمس صناعات الكفار واختراعاتهم بوهج الرقي الفكري وحرارة التقدم المادي، فأروها أفكار الكفر بعرض الاختراعات، وأحكام الضلال بإظهار الصناعات. فحصلت لها الفتنة ونجح الكفار في تشكيكها بأفكار الإسلام وأحكامه حتى جعلوها على مفترق الطرق. حتى إذا دمروا الدولة الإسلامية، وأزالوا الخلافة الإسلامية من الوجود، ساروا بهذه الأمّة وهي في حالة حيرة وذهول في طريق الفناء حتى لا يبقى لها أثر.
واليوم وبعد أربعين عاماً من السير وصلوا بها نهاية الطريق ووضعوها على حافة الهاوية، فصارت على وشك الفناء. فهل تتركونها تفنى كما فنيت الأمم من قبل، وحينئذ سيبعث الله من يحمل رسالته، ويبلّغ دعوته، ويؤيد دينه، فيستبدل غيركم بكم، قال تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)، وقال: (إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم)، أم تبذلون مُهَجَكم لإنقاذها حتى تستأنف مرة أخرى حمل رسالتها إلى العالم لإنقاذه مما هو فيه من كفر وضلال وفساد وشقاء، وتخرجه من الظلمات إلى النور.
أيها المسلمون
إن إنقاذ أمّتكم لا يتأتى لكم إلاّ إذا رجعتم إلى الله، وقوّيتم صلتكم به، واستمددتم العون منه، وتوكلتم عليه حق توكله، وجعلتم نوال رضوان الله المثل الأعلى في هذه الحياة. فإنّ إنقاذ أمّتكم إنّما هو من أجل نشر دين الله، وإعلاء كلمة الله، وإيصال الرحمة لخلق الله، وجلب السعادة لعباد الله، وهو يعني أن يُشدخ نافوخ الكفر، وأن يُحطم رأس الطاغوت، وأن يُسحق الإلحاد والضلال. وهذا كله لا يتم إلاّ بكفاح مرير بسلاح الفكر المستنير، وبجهاد صادق لإعلاء كلمة الله، وبيع الأنفس والأرواح في سبيل الله. ولذلك لا قوة لكم إلاّ بالله ولا سند لكم إلاّ الله، فالله وحده هو الناصر المعين. وهو نِعم المولى ونِعم النصير.
أيها المسلمون
لقد طال التصاقكم بالأرض فارفعوا أبصاركم إلى السماء، وازداد انهماككم في متاع الدنيا فالتفتوا إلى نعيم الآخرة. لقد آن الأوان لأن يتحرك حنينكم إلى الجنة، ولأن تتنسموا ريحها، وأن تصْبوا إلى نعيمها. فاجعلوا الشوق إليها المركب الذي يحملكم إلى معارك الكفاح وساحات الوغى، وأجيبوا دعوة الله لكم إذ قال: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين)، ولبّوا طلب الرسول إليكم إذ قال: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض).
إن أصحاب بيعة العقبة الثانية قالوا: إنا نأخذ رسول الله على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. وقالوا للنبي عليه السلام: فما لنا يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟ فرد عليهم رسول الله مطمئن النفس قائلاً: الجنة. نعم، الجنة أيها المسلمون ثمن بذل النفوس في سبيل الله لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله. قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون). نعم، الجنة أيها المسلمون الصفقة التي عقدوها مع الله، يقاتلون في سبيله فيَقتلون ويُقتلون. فهل آن الأوان لأن تشتاقوا لهذه الجنة، ولأن تَعقِدوا مع الله الصفقة التي لن تبور، فتشرون أنفسكم ابتغاء مرضاته، وتستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يُحييكم).
أيها المسلمون
إن مصيبتكم الفادحة أن العقيدة الإسلامية قد انطفأ نورها في قلوبكم، وذهب أثرها في أعمالكم، وفقدت حرارتها في تصرفاتكم، وصارت ميتة في نفوسكم. فأنيروها بأحكام القرآن وأحيوها بذكر الله، واجعلوها تعيدكم خلقاً آخر كالمسلمين الأولين من الصحابة والتابعين أو تابعي التابعين. أنيروها بالثقة بأفكار الإسلام وأحكامه وبالعمل لإعادة سلطان الإسلام ورفع راية القرآن. أنيروها بحمل الدعوة إلى الناس كافة لتخرجوهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، ومن جحيم القلق والشقاء إلى نعمة الطمأنينة ونعيم السعادة. وأحيوها بتقوى الله وطاعته، وبالخوف من عذابه والطمع في جنته، وبتقوية الصلة به، وبذكره في كل تصرف، وتذكّره عند كل عمل، وبالتقرب إليه لا بالصلاة والصوم والزكاة والدعاء فحسب، بل بقول الحق أينما كان، وكفاح الباطل أينما وُجد، وجهاد الكفار والمنافقين في كل وقت وفي كل حين.
أيها المسلمون
لقد انكشف لكم داؤكم بأنه زعزعة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه، ووَضُح لكم دواؤكم بأنه إقامة الخلافة الإسلامية بأفكار الإسلام وأحكامه. فصار نهج العمل واضحاً كالشمس في رابعة النهار، وصارت الغاية محددة تحديداً يلمسه كل إنسان. لذلك فإنا ندعوكم لبعث الحياة في العقيدة الإسلامية في نفوسكم، بدوام الصلة بالله، والدأب على دعوة الله والثقة بشرع الله، وجعل الأخوة الإسلامية وحدها الرابطة التي تربط جميع المسلمين. ونهيب بكم أن تعملوا بدأب متواصل ووعي كامل، وتضحية صادقة، لإعادة الخلافة الإسلامية ببث أفكار الإسلام والكفاح في سبيلها، لترفعوا راية الإسلام فوق جميع الرايات، ولتجعلوا كلمة الله هي العليا، ولتستأنفوا حمل رسالة الإسلام إلى العالم نوراً وهدى ورحمة للعالمين.
15 من جمادى الأولى 1382
13 تشرين الأول 1962
ابو خالد
15-07-2005, 05:18 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا اخى العزيز
وجعله بميزان حسناتك اخى وبارك فيك ولك
واصلح لك دنياك وشانك
وننتظر دوما جديدك
لك التحيه والسلام اخى الكريم
والسلام عليكم
حنـــظله
15-07-2005, 09:57 PM
ما قرأت الموضوع , ولا راح أقرأه
يا خي أتّق الله , هذا كتاب مو مقال
حطه بملف وورد وأرفقه بالموضوع , وأكتبلك كلمتين تشرح فيهم موضوع "الكتاب"
أفضل لك ولنا
مجرد نصيحه
جميع حقوق برمجة vBulletin محفوظة ©2025 ,لدى مؤسسة Jelsoft المحدودة.
جميع المواضيع و المشاركات المطروحة من الاعضاء لا تعبر بالضرورة عن رأي أصحاب شبكة المنتدى .