تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نقدالشعراء في الجاهلية -د.عبد الكريم محمد حسين



الناقد العربي
08-07-2005, 03:51 PM
نقد الشعراء في العصر الجاهلي - في إطار سلسلة الإبداع عند العرب، وتنطلق هذه السلسلة من مقولة شيخنا شكري فيصل رحمه الله أن الإبداع يتبع الأدب، وقد يسبقه، وقد يوازيه، فمن غير المعقول أن يصل العرب ذروة الإبداع في الشعر، ولا يكون نقدهم بقامة أدبهم مما يخالف الفطرة في ذوق المبدع وذوق المتلقي، والاشتراك حد لابد منه للتواصل.. لذلك أضع هذه القراءة بين أيديكم:
الإبداع عند العرب

* شعراء العرب و الإبداع في الجاهلية:

أ.النابغة و حسان.

ب.النابغة و قيس بن الخطيم.

الحديث عن موقف الشعراء من إبداع بعضهم بعضاً مشدود إلى مقولة حقيقة العلاقة بين الشاعر و الناقد،و السؤال:هل كل شاعر ناقد؟ و هل إبداع الشعر يعد شرطاً لصحة نقد الناقد ؟!! و يمكن إعادة صياغة التساؤل حول الفرق بين الناقد الشاعر و الشاعر الناقد، وهل يصلح الشاعر للنقد؟ هذا التساؤل جاء عليه الناقد: نُر ثروب فراي في كتابه القيم:تشريح النقد،بترجمة:د.محمد العصفور،و طبع في الأردن.و لهذا الكتاب عند رينيه ويليك قيمة عظيمة،فهو يعده أعظم كتاب أثَّرَ في النقد الأوروبي بالقرن العشرين كما ذكر ذلك في كتابه القيم :مفاهيم نقدية الصادر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية.

في تشريح النقد تفريق بين الشاعر و الناقد،و حديث عن انتفاء صلاحية الشعراء للنقد؛لأنهم – أي الشعراء – إنما يطبقون مناهجهم الشعرية،و يقيسون أشعار غيرهم بأشعارهم،و هم لا يملكون نظرية نقدية تفسر العمل الإبداعي،و تقدم طرقاً من طبيعة العمل و الرؤية تحلل العمل و تفسره و تحدد وظائفه،و تبين قيمته.فالشاعر ليس ناقداً مهما ادعينا له الدربة والخبرة،ولا يرد هذا أن يشتهر عند الناس بعض الشعراء بالنقد مثل النابغة عند العرب،و إليوت عند غيرهم؛ذلك أن هؤلاء هم نقاد في الأصل،و شعراء بالفرع،أو النقد عندهم أصل ثابت و الشعر أمر عارض،و ليس أصلاً ثابتاً.

يعد ما قدمناها مدخلاً للحديث عن نقد الشعراء في الجاهلية،و فيه توجيه للفرق بين نظرات النابغة النقدية و نظرات غيره من شعراء الجاهلية.

*النابغة و حسان بن ثابت:

كان النابغة الذبياني شاعراً و ناقداً مشهوداً له،و معترفاً به اجتماعياً،يدلك على ذلك احتفاء أهلنا في الجاهلية به بإقامة خيمته تلك القبة من أدم التي كانت تبنى على هامش سوق عكاظ،و قد رأينا الأعشى يقف بين يديه منشداً قصيدته التي أولها:


و سؤالي و ما تردُّ سؤالي



ما بكاءُ الكبيرِ بالأطلالِ


وقد بلغت خمسة و سبعين بيتاً،بدأها بهذا التذمر من وقوف الكبار على الأطلال،و هم يعقلون أنه لا فائدة و لا خير في بكائها،و لا في سؤالها عن الأحبة الظاعنين،و شرع يدفع الذكرى عن نفسه و روحه،مما يشير إلى جدة واضحة من جهة السخرية بالكبار الذين يبكون الأطلال أو يسألونها عن أهلها،و لا أدري لم تقرن الثورة على المقدمة الطللية بأبي نواس،وشاعرنا الأعشى يقول ما يقول في هذه القصيدة التي قدمه بها النابغة على سائر شعراء الجاهلية الذين أنشدوه في ذلك اليوم،و منهم الخنساء،و حسان بن ثابت الأنصاري في جاهليته.و في هذا اليوم غضب حسان لما سمع النابغة يقول للخنساء: و الله لولا أن أبا بصير أنشدني لقلت :إنك أشعر الناس..مما يعني أنه لم يعبأ بما قاله حسان،فقال له حسان:و اللهِ لأنا أشعر منك و من أبيك،فقال له النابغة: يا بن أخي!! إنك لا تحسن أن تقولَ:


و إنْ خلتُ أنَّ المنتأى عنكَ واسعُ



فإنَّكَ كالليلِ الذي هو مدركي

تَـمُــدُّ بهـا أيــدٍ إليـكَ نــوازعُ



خَطاطيفُ حُجنٌ في حبالٍ متينةٍ


يقال في بعض الروايات:فخنس حسان.

فعلى هذه الرواية نجد النابغة يقيس شعر حسان بشعره،و يجعل مذهبه الشعري أصلاً يقاس به و عليه إبداع الشعراء في زمنه،و قد عاجز حسان معاجزة عندما قال له:إنك لا تحسن أن تقول،أي أن حسان عجز عن الإتيان بمثل ما أتى به النابغة،لقلة دربته الإبداعية،يؤكد ذلك قول النابغة له:يا ابن أخي !! فهو ليس من جيله،و لا من جيل أخيه بل هو من جيل أبناء أخيه،فهو يصفه بصغر السن،مما يعني قلة الخبرة و الدربة الإبداعية،و العرب مازالت تقول في أمثالها الشعبية السائرة: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة.و هو يقع موقع التلميذ عند النابغة،يحتاج إلى خبرة الأستاذ ليقدر على الوقوف في وجه منازعيه حبل الإبداع الشعري.

و في الرواية الأخرى أن حسان غضب وقال له: و الله لأنا أشعر منك و من أبيك !! فقال له النابغة:حيث تقول ماذا يا ابن أخي؟! فأجابه حسان حيث أقول:


و أسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دما



لنا الجَفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضحى

فأكرم بنا خالاً و أكرم بنا ابنما



ولدنا بني العنقاءِ و ابني محرّقٍ


فإن أراد الإشارة بهذا إلى القصيدة بموضع تألقها فإنها تتألف من خمسة وثلاثين بيتاً، وأجابه النابغة:إنك لشاعر،لكنك أقللت جفانك و أسيافك و فخرت بمن ولدت و لم تفخر بمن ولدك.

لا أريد أن أعرض شبهات المشككين بصحة هذا الخبر،و أدع دعواهم – و هي باطلة – إلى طلاب الجامعة ليردوها في قاعات البحث و الدرس،و حججهم أوهى من بيت العنكبوت،لكني أشير إلى أن النابغة يعلم حساناً أنه قصر في فن الفخر فلم تبلغ الصفات منتهاها اللائقة بفن الفخر،فإن الجفنات أقل من الجفان في الدلالة التي يحس بها النابغة من فضاء اللغة،مما يشير إلى قلة الطعام اقتضاء،مما يقتضي قلة الضيوف،و قلة الشهرة بالكرم،و قلة أسيافهم تشير إلى قلة الرجال،و العرب إنما تفخر بكثرة الرجال الذين يردون العدوان،و لا يفي اللفظ الموضوع بموجبات الفن الشعري،مما يجعله مقصراً بحق عمود الفخر عند العرب.و في إعراضه عن آبائه و أجداده إشارة ضمنية إلى إفلاسهم من قيم العرب،فهرب من ذكرهم إلى ذكر الأبناء و أبناء النسوة،على خلاف منهج العرب في الفخر.

و في هذا النقد من الإبداع و العبقرية ما يشهد للعرب في تذوقهم فن إبداعهم الأول الشعر،و من المنطقي أن يصحب هذا الشعر العربي الجاهلي المهم بحركة نقدية مهمة بمستوى لا يقل عن سوية الإبداع نفسه،و لو لم يصل إلينا منه إلا القليل.

* النابغة وحسان و قيس بن الخطيم في المدينة:

و مرة أخرى التقى النابغة و حسان في المدينة المنورة قبل الإسلام، يروي ذلك حسان بن ثابت بقوله: قدم النابغة المدينة،فدخل السوق،فنزل عن راحلته،ثم جثا على ركبتيه،ثم اعتمد على عصاه،ثم أنشأ يقول:


فأعلى الجزعِ للحيَِ المُبنِّ



عرفْتَ منازلاً بعُريتناتٍ


فقلتُ: هلك الشيخُ،و رأيته قد ركب قافية منكرة،فمازال ينشد حتى أتى على آخرها،ثم قال:ألا رجلٌ ينشد،فتقدم قيس بن الخطيم،فجلس بين يديه،و أنشد:


لعمرةَ وحشاً غيرَ موقف راكب



أ تعرفُ رسماً كاطّرادِ المذاهبِ


حتى فرغ منها،فقال له النابغة:أنت أشعر الناس يا ابن أخي!! فقال حسان:فدخلني منه،و إني في ذلك لأجد القدرة عليهما،ثم تقدمت فجلست بين يديه.فقال:أنشد ! فوالله إنك لشاعر قبل أن تتكلم – و كان يعرفني قبل ذلك – فأنشدته،فقال:أنت أشعر الناس.ولم يذكر أبو الفرج الأبيات التي أنشدها حسان في الموضع،و لم يحتج عليه النابغة.

براعة الخبر تعود إلى راويه حسان بن ثابت،ذلك أنه وصف لنا دخول النابغة إلى المدينة،و نزوله عن راحلته،ثم حركته المثيرة في السوق ( جثا على ركبتيه،ثم اعتمد على عصاه ) تنبيهاً للناس على أن ما سيقوله سيكون مهماً،و لا ندري إن كان ذلك تقليداً يتبعه الشاعر الغريب أو الرجل المبتلى في المدينة،و لا ريب في أن الناس قد اجتمعوا حوله ينظرون ما يفعل أو ما يقول،فيبدأ الشاعر بإنشاد قصيدته التي بناها على النون المشددة المكسورة،فلم يستغرب حسان وزنها الراقص بل استغرب ثقل القافية التي جعلها منكرة في السوق‘فكأن النابغة يتحدى الشعراء أن يركبوا قافية مثقلة صعبة بشروطه الضمنية التي أشار إليها حسان ،أو استشعرها أبو الفرج في الرواية التي حملها الرواة إليه.مهما يكن من أمر فإن النابغة لم يتوقف عن إنشاد القصيدة حتى أتمها ثلاثة و عشرين بيتاً أنشأها في السوق،أو حفظها و أعاد إنشادها في السوق،فزال تعجب حسان و تحول منه إلى الإعجاب بصنيعه واقتداره على القافية التي ركبها النابغة.

بعد أن ألقى النابغة قصيدته حث الشعراء الحاضرين على إنشاد الشعر ليقوم المجلس برسالته في تحريض المبدعين و تشجيعهم على عرض إبداعهم على الشيخ الناقد المبدع النابغة الذبياني،فقام استجابة للدعوة قيس بن الخطيم،و أنشد مذهبته المذكورة آنفاً التي جعلت النابغة يشهد له من سماع شطر البيت الأول بأنه أشعر الناس.و قد بلغت قصيدته ثمانية و ثلاثين بيتاً. وكذلك حكم لحسان أنه أشعر الناس،و هو يريد أنه من أشعر الناس،و المبالغة في توكيد الحكم يبرز قوة تأثير الشعر في النابغة،و حرصه على تشجيع الجيل الجديد،و تثبيت حدود الشعرية باستحقاق المبدع تسمية شاعر،و شاعر متفوق على أقرانه في فنه من جهة الطاقة أو الكمية قياساً بالشعر الذي أنشد في ذلك المجلس،أو الشعر الذي يعرفه النابغة معرفة الرواية،من غير شعره ،لأنه لا يقدم على نفسه أحداً.

مما تقدم نكون قد عرضنا إلى احتفاء الشعراء بإبداعهم و إبداع غيرهم من شعراء زمانهم،وحكموا و اختلفوا في الأحكام ذلك أنها أحكام جمالية تبنى على العلم و الذوق والخبرة المكتسبة.