مشاهدة النسخة كاملة : شرح كتاب نظام الاسلام للعلامه المجتهد الجليل تقي الدين النبهاني
rajaab
19-07-2005, 08:49 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
نظرا لهذه الدوامة الفكرية التي تتخبط فيها الأقطار الاسلامية، في مشارق الارض ومغاربها، متأثرة بالشرق حيناً وبالغرب أحياناً،
ولكون الاسلام قد خطا خطوات واسعة في محاولة إنهاء هذه الدوامة من خلال تلك الصحوة الاسلامية المباركة، والتي جذبت أنظار مختلف الشعوب والامم في الارض،
وبسبب أن أخطر ما يحتاج اليه الانسان، كائناً من كان، هو التعرف على حقيقة نفسه، وحقيقة الكون الذي يعيش فيه، وحقيقة هذه الحياة الدنيا التي يعيشها، وذلك من خلال حل شامل لتساؤلاته عن ذلك بشكل يقنع عقله وينسجم مع فطرته،
ونظراً لأن الحلول المجتزأة لم يعد يقف عندها أحد من العلماء والمفكرين الذين ازدادت الضغوط الأيدلوجية الفكرية عليهم وهم يقفون أمام مختلف الحلول التي تقدم اليهم او تعترض سبيلهم من اسلامية وغير اسلامية،
لذلك كله، كان حتمياً وضع هذا البيان الدقيق بأفكاره ومعالجاته لجميع جوانب الاسلام كدين وشريعة، كعقيدة وتشريعات، مع الحرص على الدراسة المقارنة بينه وبين العقائد الاخرى من رأسمالية واشتراكية شيوعية. وذلك ليرى كل ذي لبّ وبصيرة هذا البون الشاسع بين الاسلام وغيره، فيقول بملئ فيه: لقد وجدتها، لقد وجدت الحل الشامل لجميع جوانب الحياة في الاسلام، عقيدة وشريعة، وأنه ليس لأحد بدّ من الأخذ به ما دام يطلب الحق دون مواربة ولا تعصب ولا تحيز..
ولهذا جاءت هذه الندوات مغطية العقيدة الاسلامية، ومقارنة لها مع تلكما العقيدتين الاخريين، ومنبهة الى حقيقة ما عليه النظام الاسلامي المنبثق عنها والمبني عليها من دقّة وصحة وسلامة في معالجة جميع مناحي الحياة البشرية، ومحققة كامل السعادة للانسان في هذه الحياة الدنيا وتلك الاخرى .. جاءت من خلال كتاب الله "نظام الاسلام" للعالم الاسلامي الكبير محمد تقي الدين النبهاني، رحمه الله وجزاه عن الاسلام والمسلمين خيرا …
والله وحده هو الهادي سواء السبيل،
وهو نعم المولى ونعم النصير ..
المؤلف
الطريق السليم للإيمان السليم
الندوة الاولى
العرض:
لا ريب أن أهم وأخطر شيء في حياة الانسان، هو العقيدة التي بها يكيّف سلوكه كفرد وكعضو في مجتمع، هو الأيدلوجيا التي تعطي الفكر للفرد والمجتمع، ليرتقي وينهض، ولكن أي فكر إيماني يحقق نهضة الانسان ورقيّه؟
للاجابة على هذا السؤال نقول: إن الانسان طالما يعيش على هذه الارض ويتعامل مع ما عليها من أحياء وغير أحياء، ومع ما يحيط بها من كواكب ونجوم، فانه لا بد ان تكون لديه فكرة شاملة عنها جميعا، أي شاملة الوجود كله، من كون يتمثل في النجوم والكواكب بما فيها الارض، ومن انسان يمثل أكمل المخلوقات الحية، وحياة تظهر في حركة ونمو الكائنات الحية كلها. ولكن حتى يكتمل هذا الفكر الشامل عن الوجود لا بد ان يشمل ايضا علاقة هذا الوجود بما قبل هذه الحياة الدنيا وبما بعدها. فيعرف الانسان صلته بمصدر حياته ومصدر الوجود كله، كما يعرف صلته بمصير حياته. وينظمها في ضوء هذه المعرفة الشاملة. وهذا يعني أنه لا بد من تغيير فكر الانسان الضيق بفكر شامل، وأن يكون هذا الفكر الشامل صحيحاً، حتى يرتقي وينهض من خلال ما يقدمه هذا الفكر من مفاهيم عن الاشياء التي يتعامل معها وتتولى بدورها تكييف سلوكه وتصرفه في حياته.
ومن البدهي القول انه من الواضح أثر المفاهيم في حياة الانسان وتعامله مع الناس الآخرين. لأننا نجد الانسان يتصرف مع شخص يحبه بعكس تصرفه مع شخص آخر يكرهه تبعاً لمفاهيمه عن كل منهما. ونراه يتصرف بشكل ثالث مع شخص لا يعرفه من قبل لعدم وجود أي نوع من المفاهيم عنه. فكل هذا يؤكد أن تغيير السلوك الانساني منوط بتغيير المفاهيم التي لدى الانسان. فيلزم عند تغيير السلوك المنخفض الى سلوك راقٍ تغيير مفاهيمه التي سببت هذا السلوك المنخفض بأخرى راقية. ولا يحتاج هذا التأكيد الى دليل بعد قوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" – من آية رقم 11 من سورة الرعد –. ما يعني أن تغيير السلوك سواء للإرتقاء او الإنخفاض يجري في الانسان تبعاً لتغيير ما في نفسه من أفكار ومفاهيم ومقاييس وقناعات.
والسؤال الآن: ما هو الطريق السليم لتغيير السلوك بالافكار والمفاهيم، وما هي الافكار والمفاهيم و .. التي تحقق تغيير السلوك عندما توجد لدى الانسان؟؟
بالتأكيد ما دامت الافكار يجب ان تكون شاملة، كما أشرنا في بداية هذا العرض، فهذا يفرض ان تحدد حقيقة هذه الحياة الدنيا من حيث: هل هي مخلوقة او غير مخلوقة، وهل لها علاقة بخالقها أم لا. كما انه يفرض ان يشمل هذا الفكر الوجود كله وليس فقط الحياة، أي الكون والانسان ايضا. وبهذا الشمول توجد لدى الانسان الفكرة الكلية عن الوجود، وبوجود هذه الفكرة تصبح لديه القاعدة الفكرية التي يبني عليها جميع افكاره، ويتوفر لديه الحل للعقدة التي تلاحق تفكيره باستمرار حول الوجود وحول مكوناته الثلاثة، وذلك من خلال تساؤلاته عن مصدر كل منها، وعن مصيرها، ومهمتها. وبهذا الحل الفكري للعقدة الكبرى يجد الانسان لديه حل العقدة الصغرى التي تنشأ بالبداهة عن الاسئلة الفرعية حول جزئيات كل طرف من أطراف الوجود الثلاث، أي الكون والانسان والحياة.
ولكن ما علاقة حل العقدة الكبرى بالنهضة؟
ان علاقتها وثيقة كل الثقة، لأن النهضة هي الرقيّ الفكري أولاً فالمادي أخيراً. وحل العقدة الكبرى يوجِد الأساس للرقي الفكري. ولكن المهم ان يكون هذا الأساس وهذا الحل صحيحاً، حتى تكون النهضة صحيحة. وهذه الصحة لا تتحقق في الحل الا عندما يوافق فطرة الانسان، بأن يقرّ بنقص الانسان وعجزه واحتياجه، وعندما يقنع عقله، بأن يلمس الانسان لمساً حقيقياً أنه من المستحيل وجود النتائج دون أسبابها. وحتى يوجد هذا الحل الصحيح لا بد من الفكر المستنير الذي يوضح حقيقة الوجود كله، ومصدر هذه الحياة ومصيرها ومهمتها. وبهذه الأداة الفكرية يشكل عقيدته الصائبة التي يتخذها كقاعدة تتولى مهمة تنظيم جميع افكاره الفرعية المتعلقة بجميع أنماط سلوكه الفردية والجماعية، كما تتولى ضبط الأنظمة والتشريعات التي لا يمكن ان تستقيم حياة المجتمع بدونها.
المناقشة:
س- ما معنى نهضة الانسان؟
ج- النهضة هي الارتقاء الفكري السلوكي في جميع مجالاته الفردية والمجتمعية.
س- ألا يكفي للنهضة الفكر عن الحياة الدنيا والمفاهيم عن أشيائها دون الحاجة لغيرها من الوجود؟
ج- لا، لا يكفي، لأن الانسان يعيش حياته في هذا الكون، وعلى الارض كإحدى كواكبه، ويتعامل مع أشيائها، فلا بد ان تكون لديه فكرة شاملة عن الوجود ككل ثم عن الحياة التي يعيشها الانسان، وبذلك يجد الاجابة عن أسئلته جميعها.
س- ما الفرق بين الحياة كجزء من الوجود والحياة التي تعيشها البشرية؟
ج- الحياة كحياة هي الحركة والنمو من الأحياء وفيها، وهي أحد جوانب الوجود. وأما الحياة الدنيا فهي الفترة التي تعيشها الانسانية منذ وجودها حتى فنائها.
س- لماذا الاستشهاد بآية من القرآن الكريم في الحديث عن النهضة الفكرية بشكل عام؟
ج- لأنه يلقي ضوءاً على ان هذا العرض الاول ليس اكثر من مقدمة للبحث عن الطريق الصحيح للإيمان والنهضة.
س- ألا يوجد طريق آخر لتغيير مفاهيم الانسان غير ايجاد الفكر عن الحياة الدنيا وصلتها بما قبلها وما بعدها؟
ج- لا يوجد، طالما نريد ايجاد مفاهيم عن الاشياء في هذه الحياة التي يعيشها الانسان ليحدد موقفه منها وتعامله معها.
س- ماذا تعني العقدة الكبرى، وما هو حلّها؟
ج- تنشأ العقدة، أي عقدة، لدى الانسان عندما لا يجد لديه جواباً على سؤال في ذهنه. فاذا كان السؤال عن الكون كجزء من هذا الوجود كانت العقدة كبيرة، ولكنه لو كان عن الوجود كله كانت العقدة الكبرى. وأما لو كان عن شيء في هذا الكون كانت العقدة صغرى. وأما الحل فهو الاجابة على السؤال. فاذا كان السؤال عن الوجود كله، كان الجواب هو حل العقدة الكبرى.
س- ماذا نسمي حل العقدة الكبرى، ولماذا؟
ج- نسميه بالفكرة الكلية، لأنه يعطينا أجوبة الاسئلة عن الوجود كله، ونسميه بالقاعدة الفكرية، لأنه يعطينا الفاعدة الاساسية لجميع أفكارنا.
س- ما دامت نهضة الانسان هي ارتقاؤه الفكري أولاً فالمادي السلوكي ثانياً وأخيراً، فأين الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟
ج- هي كلها تحصيل حاصل من نتاج رقيّه الفكري فالسلوكي طالما سيشمل ذلك كله بالتلازم والتبعية.
س- هل هناك نهضة خاطئة؟
ج- نعم، وهي كل ارتقاء فكري لا يوافق فطرة الانسان إذ لا يقرّ طبيعته الناقصة المحتاجة في وجودها وتدبيرها، كما لا يقنع عقله إذ يتجاهل ان لكل موجود موجِد، ولكل نتيجة سبب، وهذا هو ارتقاء خاطئ ونهضة خاطئة.
س- هل من أمثلة واضحة على ذلك من واقع المجتمعات المعاصرة في الارض؟
ج- نعم. ان ارتقاء الغرب الرأسمالي المعاصر والشرق الاشتراكي الغابر مثلان مهمان في عالم اليوم إذ ينكران فطرة الانسان. فيراه الغرب غير ناقص ولا محتاج لغيره رغم انه يعترف بهذا النقص عندما يعترف بأن لهذا الانسان خالقاً ولكنه لا يرى لهذا الخالق دخلا في تدبير شؤونه. كما كان يراه الشرق كذلك، مع إنكار وجود الخالق او الموجِد او المسبِب، مما لا يقنع العقل، ويسبب شقاء الانسان.
س- كيف يوجد الفكر المستنير لدى الانسان عن أي شيء؟
ج- يوجد عندما يحيط بالشيء في ذاته وصفاته وفي كل المؤثرات الخارجية فيه.
فلو سألك شخص مثلا عن شراب قدمته اليه في كأس للشرب فأجبته بأنه الماء او عصير الليمون، لكان هذا الجواب مجرد فكرة سطحية عابرة، مما يسمى بالتفكير السطحي. ولكن لو أجبته بأنه الماء الزلال المطفئ للظمأ لأنه يتصف بكذا وكذا، ولأنك كذا وكذا، فانك تكون قد تعمقت في الاجابة مما يسمى بالتفكير العميق. ولكن لو توسعت في الاجابة العميقة وتحدثت عن العوامل الخارجية التي تدخلت في ايجاد هذه الصفات والاسباب بهذا الشكل أو ذاك لكنت قد أعطيت المزيد من النور عن كل ما يتصل به، فجعلت الشخص لا يطلب المزيد من الفهم، فكانت الاجابة مما يسمى بالتفكير المستنير ونتيجتها الفكر المستنير.
س- كيف يحل الفكر المستنير العقدة الكبرى لدى الانسان؟
ج- عندما يوضح للسائل حقيقة هذا الوجود من كون وانسان وحياة، ويحدد له مصدره وعلاقته بهذا المصدر، وتأثير هذا المصدر فيه، ومدى تدخله في تدبير شؤونه وفي مصيره. فبهذا التوضيح يدرك السائل هذا الوجود، ويعرف نفسه فيه، ويحدد علاقاته في إطار هذا الادراك له، فتحل العقدة الكبرى.
س- ماذا تعني العقيدة؟
ج- العقيدة لغة من اعتقد اعتقاداً، فهي مفرد عقائد، وهي من مادة عقد، فيقال عقد قلبه وعقّده على كذا، أي اعتقده في نفسه بأن اقتنع به عقله واطمأن قلبه. ولذلك قيل ان العقيدة ما استقرّ في القلب عن يقين ونطق به اللسان وظهر عملاً على الجوارح.
س- لماذا يطلق على حل العقدة الكبرى لدى الانسان وصف العقيدة؟
ج- لأن هذا الحل يعطي الانسان الاجابة على اسئلته عن مواضع الاعتقاد، اي الوجود، من حيث مصدره وتدبيره ومصيره.
فالكون: من أين أتى، وكيف يدبّر، وماذا بعده؟
والانسان: من أين نشأ، وما هو نظامه، والى اين مصيره؟
والحياة: من أين صدرت، وكيف تستمر، والى اي وقت تستمر؟
فهذه الاسئلة كلها تنصبّ على مواضع الاعتقاد، وهي أطراف الوجود الثلاثة: الكون والانسان والحياة. أما لو كانت هذه الاسئلة لا علاقة لها بمواضع الاعتقاد من مثل: كيف يسير الكون، او: كيف يفكر الانسان، او: كيف ينمو الحيوان، فالاجابة لا توصف بالعقيدة لأنها تعطي فكرة ومعرفة لا علاقة لها بالعقيدة.
rajaab
19-07-2005, 08:53 PM
الطريق السليم للإيمان السليم
الندوة الثانية
العرض:
تبين لنا من العرض الاول ان الفكر المستنير عن الكون والانسان والحياة هو الذي يوجد الحل الصحيح للعقدة الكبرى. وأن هذا الحل هو العقيدة، والفكرة الكلية، والقاعدة الفكرية لكل افكار الانسان الفرعية عن سلوكه وتصرفاته وأنظمة حياته.
والسؤال الآن: ما دور الاسلام بهذا الشأن؟
والجواب: اننا نجد الاسلام قد جاء بهذا الحل الصحيح الموافق للفطرة الانسانية، والمقنع للعقل البشري، والمطمئن للقلب. وانه بذلك قد وضع العقيدة الصحيحة بين يدي الانسان، ودعاه لاعتناقها، دون إكراه ولا إجبار. وذلك بأن بيّن له ان لهذا الوجود، من كون وانسان وحياة، خالقاً خلقه من عدم، وهو الله تعالى، وانه الخالق بكلمة "كن" ، وكل شيء مخلوق له. فهو واجب الوجود لأنه حتمي لا يعتمد في وجوده على شيء، بينما كل المخلوقات ممكنة الوجود، لأنها تعتمد في وجودها عليه، ولولا إرادته وأمره في وجودها لما وجدت.
والذي يدعو للقول بوجود الخالق للوجود هو لأن الاشياء فيه في مجموعها من كون وانسان وحياة تعلن بواقع كل منها بأنها عاجزة عن ايجاد نفسها او عدم ايجاده، وأنها ناقصة في كل جانب من جوانبها، وأنها محتاجة لمن يدبّرها. وهذا ظاهر لكل ذي عين بصيرة: فالكون لا يتجاوز مجموعة الاجرام من نجوم وكواكب مهما تعددت وتباعدت وتفاوتت في الأحجام، وهي خاضعة للنظام الدقيق الذي تسير عليه، والذي لا تملك التبديل او التغيير فيه ولا في ذاتها، والانسان لا يتجاوز الامكانات المحددة فيه لكل جانب من جوانبه الجسمية والعقلية والنفسية والحركية، وهو بحاجة في سعادته الحقة لتنظيم حياته الى غيره، والحياة لا تتجاوز مظهرها الفردي في نموها وحركتها على الكائنات الحية، كما لا تتجاوزه في بدئها وانتهائها. ولهذا فان التفكير السليم يجزم ان الوجود، أي الكون والانسان والحياة، قد حدث بعد أن لم يكن موجوداً، فهو ليس أزلياً، وأنه مدين في وجوده لغيره، وأن هذا الغير هو خالقه.
وهنا يقودنا التفكير الى التساؤل عن وجود هذا الخالق فيحصره في احتماليْن لا ثالث لهما: فهو إما أن يكون وجوداً ممكناً حادثاً بفعل غيره، سواء كان هذا الغير هو نفسه، بأن خلق نفسه بنفسه، او كان غير نفسه، بأن خلقه هذا الغير، وإما أن يكون وجوداً واجباً أزلياً.
ولتمحيص هذين الاحتمالين للوصول الى النتيجة العقلية القطعية، لا بد ان نناقش هذا الاحتمال الاول فنجده باطلاً، لأنه يفترض محدودية وجود الخالق لحاجته في وجوده لغيره. وهذا يجعل الخالق مخلوقاً، وهذا مستحيل، كما يستحيل في نفس الوقت أن يخلق الخالق نفسه، لأنه قول مرفوض عقلاً. وعليه فلا يبقى الا الاحتمال الثاني فنجده صحيحاً لأنه يرى المقابل العقلي للاحتمال الاول الخاطيء ألا وهو ان الخالق ليس محدوداً لعدم حاجته في وجوده لا لغيره ولا لنفسه، فوجوده ليس حادثاً، أي انه وجود أزلي لا أول له، أبدي لا نهاية له، وهذا الوجود هو ما يطلق عليه بالوجود الواجب، لأنه ليس ممكناً، وأنه الأزلي لأنه ليس حادثاً. وهذا الخالق، الواجب الوجود، كما يراه الاسلام، هو الله تعالى.
المناقشة:
س- ماذا يعني القول بأن الله واجب الوجود؟
ج- ترد كلمة الوجوب هنا كصفة للوجود مقابل الإمكان والاحتمال، فوجوده تعالى لكونه غير مرتبط ولا معتمد على شيء فانه يوصف بالوجوب. بينما وجود غيره يوصف بالامكانية والاحتمال، لأنه مرتبط بالغير وإرادة الغير. فلولا إرادة الله سبحانه خالق الوجود لما كان هذا الوجود. ولذلك قلنا ان وجود الوجود ممكن بينما وجود خالق الوجود واجب.
س- لماذا نقول عن الكون بأنه ناقص مع انه كما يقولون لا متناهٍ في أبعاده؟
ج- وصف الكون بأجرامه العديدة، والتي يكتشف العلم المزيد منها باستمرار، ليس بأكثر من وصف لمدى علم الانسان وحدود هذا العلم الضيقة. فالقول باللانهائية هو إلقاء للمعلوم على ذمة المجهول، وهذا لا يجوز في مجال العلم اليقيني. ثم أن الكون المعلوم بحدود كل جرم من أجرامه لا مجال لوصفه بغير النقص ما دام هذا النقص صفة كل جرم، مما يستلزم نقص مجموعة النواقص، وأنها اذا وصفت بالكمال مع بعضها البعض فهو من باب المجاز لمعنى التكامل فيما بينها، وشتان بين الكمال والتكامل.
س- هل يمكن تطبيق هذا القول حول النقص والكمال على عقل الانسان الذي يبدع جديداً كل وقت؟
ج- نعم، وبالتأكيد. لأن من لم يكن يعرف كانت معرفته العقلية ناقصة لهذه المعرفة، وسيبقى يكتشف بعدها، أي سيبقى يضيف لنقصه جديداً ليتكامل ويتلاحق النقص بعضه ببعض، لا ليصبح كاملا وإنما ليضيف للنقص نقصاً جديداً، وإلا لما احتاج للمزيد من المعرفة والاكتشاف العقلي.
س- لماذا القول بأن الانسان بحاجة لمن ينظّم له حياته من غير الانسان؟
ج- لأن الانسان، كما سيأتي بيانه فيما بعد، يتأثر في تنظيماته بالبيئة، فتحتاج تنظيماته للتعديل والتبديل تبعاً لما يطرأ باستمرار من تعديل وتبديل على عناصر الحياة البيئية. بينما الانسان هو الانسان في حقيقته من غرائز وحاجات تحتاج الى تنظيم.
س- نعود للتساؤل عما يقصد بالوجود الممكن والوجود الواجب؟
ج- الوجود الممكن هو الذي قد يحصل وقد لا يحصل، كما هو الحال في وجود أي شيء لم يكن في الأصل له وجود. وأما الوجود الواجب فهو الوجود القائم دون اي فعل سابق ودون أي أثر للاحتمال فيه لأنه لا يخضع للزمان ولا للمكان، ولذلك فهو لا يرتبط بأي جزء من الزمان فيوصف بالأزلي الأبدي، من كون هذا الوصف يتجاوز حدود الزمان من قبل ومن بعد. بينما يوصف الوجود الممكن بأنه حادث، من كونه في حدود الزمان، وأنه حدث في وقت من الاوقات او زمن من الأزمان.
س- ما المقصود بالقول بأن الخالق ليس محدوداً بينما الانسان محدود؟
ج- المحدود هو الذي يخضع لحدود معينة في الزمان والمكان، فوجوده وصفاته خاضعة لزمان معين، ومكان معين، فهي لا تتجاوز ذلك، فكانت ناقصة وعاجزة ومحتاجة، وهذه هي صفات المخلوق ذاته. بينما الخالق على العكس من ذلك، فهو لا يخضع في ذاته للزمان ولا للمكان، ولا يخضع في صفاته كذلك للزمان ولا للمكان، لأنه يتصف بالكمال المطلق والقدرة المطلقة …
وهذا هو وصف وحقيقة الخالق سبحانه وهو الله تعالى.
http://www.4uarab.com/vb/images/statusicon/user_online.gif
rajaab
19-07-2005, 08:58 PM
الطريق السليم للإيمان السليم
الندوة الثالثة
العرض:
ان النظر العقلي في الاشياء المحسوسة يؤكد وجود خالق خلقها ودبّرها. فكل كوكب من الكواكب ونجم من النجوم في هذا الكون، وكل جانب في الانسان، وكل مظهر من مظاهر الحياة، يقدم الدليل تلو الدليل، وبصورة قطعية لا تحتمل الشك، على وجود الله الخالق المدبر. ذلك لأن هذه الاشياء تفصح عن حاجتها الى غيرها سواء في ذواتها او صفاتها او مساراتها او نظمها.
هذا بالنسبة للنظر العقلي، أما النظر الشرعي، نظر القرآن الكريم، المصدر الأول للاسلام، فقد ظهر من الآيات العديدة المؤكدة لهذا المعنى. ففي سورة آل عمران، آية 190، نجد قوله تعالى "إن في خلق السموات والارض، واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب". مما يستثير العقول لتدبّر هذه الاشياء الكونية وما فيها من نقص في ذواتها، وعجز في تحركاتها وقدراتها، واحتياج فيها لغيرها. كما نجد في سورة الروم، آية 22، قوله تعالى "ومن آياته خلق السموات والارض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم"، مما يضيف بعض جوانب الانسان الى مظاهر الكون في استثارة التفكير والتدبّر. ونجد هذا في قوله تعالى في سورة الغاشية، آيات من 17 الى 20 "أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت، والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الارض كيف سطحت". وإن كان النظر هنا قد لفت ايضا الى الإبل كأكثر الحيوانات قرباً من أول مَن خوطبوا بالقرآن والاسلام. وأما سورة الطارق، الآيات 5 و 6 و 7، فقد لفتت النظر الى الانسان وحده. إذ يقول تعالى "فلينظر الانسان ممَّ خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب" .. فهذه الآيات وأمثالها تطالب الانسان أن لا يمرّ بالاشياء المحسوسة من حوله دون تفكر وتمعّن وتدبّر سواءا فيها او في كل ما يتعلق بها. لأنه بذلك يصل الى الاستدلال القاطع بأن الخالق المدبر موجود، ويكون استدلاله قاطعاً لأنه استند الى محسوسات تقدم هذه القطعية والحتمية في الوصول الى النتائج. الأمر الذي يجعل الايمان بالله ليس ايمان الشك وانما ايمان الرسوخ بعد أن أجهد العقل بكل تجرّد ونزاهة واستخدم الأدلة والبينات العقلية والحسية بكل دقة وأمانة.
وبالرغم من هذه النتائج القطعية في الايمان العقلي الا انه يبقى بين أيدينا جانبان مهمان لا بد من تسليط الضوء عليهما حتى لا يشوشا على هذا الايمان القطعي. ألا وهما تدخل الفطرة والوجدان فيه، وقصور العقل عن إدراك غير الحسّيات وغير المعقولات.
أما الفطرة وتدخّلها في الايمان فلا شك ان الخالق المدبر مما ترشد اليه فطرة الانسان السوية وطبيعته النقية التي كما أسلفنا تعلن عن حقيقة الذات الانسانية وما فيها من نقص وعجز واحتياج في ذاتها وصفاتها الى الخالق المدبر. ولكن الخطورة في ترك الفطرة مصدراً يحتَكَم اليه وحده في الايمان تكمن في كونها تعتمد على الوجدان وحده في ذلك. والوجدان لا يجوز ان يكتفى به في الايمان، لأنه مجموعة من المشاعر والعواطف التي تزدحم بالخيالات والأوهام، مما يضفي على الايمان ما يسمى بالحقائق، وما هي الا أوهام. مما يقود المؤمن الى الكفر او الضلال .. وإلا فمن أين جاءت عبادة الاصنام، ومن أين ازدحمت في النفوس الخرافات والترّهات. انها نتيجة لخطأ الوجدان الذي تُرك وحده سبيلا للايمان، فأضاف لله سبحانه صفات تتناقض مع الألوهية، كأن تكون له سبحانه اعضاء كالبشر، او يمكن تجسّده في مادة كإنسان او حيوان، أو يمكن التقرب منه بعبادة مادة من اشياء الكون او المخلوقات الحية. وذلك كله يوقع في الكفر او الشرك إن لم يقف عند الأوهام والخرافات التي تتنافى مع الايمان السليم. ولهذا نرى كيف ان الاسلام ألزم باستخدام العقل مع الوجدان، وعدم ترك الوجدان وحده في ذلك. وأوجب على الانسان المسلم ان يستعمل عقله ويجعله الحكم في الايمان بالله تعالى، ولم يقبل منه التقليد في ذلك. والا فما معنى قوله تعالى "إن في خلق السموات والارض، واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب".
وأما قصور العقل عن ادراك ما فوق الحسيات والعقليات، وكيف يحتكم اليه مع هذا القصور في الايمان بالله تعالى. فهذا القول فيه خلط في ادراك حقيقة مهمة العقل في الايمان. صحيح ان العقل عاجز عن ادراك ما وراء الحسيات والعقليات لأن قدراته لا تتجاوز هذه الحدود، ولذلك لا يمكنه ادراك ذات الله تعالى، لأنه سبحانه وراء الحسيات من كون وانسان وحياة. ولكن مهمة العقل في الايمان محصورة في وجود الخالق، وهو وجود مدرَك تبعاً لإدراك وجود المخلوقات الداخلة في حدود إدراكه. ولا علاقة لمهمة العقل بذات الخالق لأنها وراء العقل والحس. وهكذا تذهب هذه الشبهة وتنتفي ليس بإلغائها فقط بل بجعلها سبباً من اسباب قوة الايمان ذاته. وذلك لأن هذا الادراك التام لوجوده تعالى قد تحقق عندما جعلنا ايماننا به سبحانه عن طريق العقل. وكذلك تحقق الشعور اليقيني بوجوده تعالى عندما ربطنا بين الشعور والعقل عند هذا الادراك، ولم نترك الشعور بمفرده. وهو الحال الذي يزيدنا ايماناً على ايمان ويجعلنا نسلّم بكل ما قصّر عقلنا عن إدراكه ما دام لا يملك الا المقاييس البشرية في قدرته لإدراك ما قصر عنه، كإدراك ذات الله تعالى او ادراك بعض المخلوقات كالملائكة والجن، ما دام ايماننا بوجود هذه المخلوقات قد جاء عن طريق ثبت أصله بالعقل.
المناقشة:
س- ما المقصود بالقول بأن الله خالق ومدبّر؟
ج- خالق من خلق، أي أوجد الاشياء من عدم بعد أنْ لم تكن موجودة. ومدبّر من دبّر أي خلق الاشياء في ذات كل منها على حال يمكنها من البقاء والاستمرار في أدائها لمهماتها ووظائفها لنفسها وغيرها، كما خلق لها كل ما تحتاجه من خارجها ومحيطها لذلك البقاء والاستمرار. فالكون خلقه على شكل نجوم وكواكب وفي طبائعها وفي محيطها ما يمكنها من هذا البقاء والسير في الافلاك وأداء المهمات بشكل فاعل ومنفعل معاً. والانسان خلقه على طبيعة وبعقل يمكنانه من أداء وظيفته ومهمته في حياته بشكل فاعل ومنفعل معاً. والحياة خلقها على حال من الحركة والنمو بشكل فاعل ومنفعل معاً. ولا يستطيع اي جانب من جوانب هذا الوجود الثلاثي الخروج عن هذا التدبير الذي يطلق عليه نظام الوجود.
س- ما المقصود بالشكل الفاعل والمنفعل في الكون والانسان والحياة؟
ج- يكون الكون فاعلا ومنفعلا لأنه يؤثر في غيره ويتأثر به في الاطار المادي فقط. ويكون الانسان فاعلا ومنفعلا لأنه يؤثر ويتأثر بغيره في الاطارات الانسانية والمادية. وتكون الحياة فاعلة ومنفعلة لأنها تؤثر وتتأثر في الاطار الحياتي فقط.
س- لماذا ذكر القرآن الكريم عند النظر العقلي في المحسوسات للاستدلال على وجود الخالق المدبر؟
ج- لا شك ان البحث هذا في اطار الاستدلال بالعقل على ان الاشياء المحسوسة تدل على وجود خالق ومدبر لها. ولما كان القرآن الكريم يستخدم نفس الاستدلال فقد ورد ذكره. وكان ذلك – من ناحية اخرى - إشعارا للمستمع والقارئ ان مصدر الاسلام الاول يعتمد على هذا الطريق في الايمان بوجود الله الخالق المدبر.
س- ولكن الاستدلال لم يقف على القرآن كقرآن وانما على نصوص منه، مع ان القرآن نفسه لم يصل البحث بعد الى اثباته كرسالة من الله الخالق المدبر؟
ج- صحيح ذلك. ولكن النصوص التي وردت لمجرد التأكيد ان هذه الرسالة السماوية تعتمد على العقل طريقاً للايمان، حتى اذا ثبت أنها جاءت من عند الله، ازداد المؤمن بها ككل وكجزئيات ايماناً على ايمان.
س- ما دام الأمر كذلك، لماذا لم يرد اي نص يستدل به على الحياة ومظاهرها كما ورد على الكون والانسان؟
ج- ان النص الذي تحدث عن خلق الانسان من ماء دافق .. يدل على بدء نشوء الحياة من باب الاشارة. وهناك نصوص اخرى تتحدث عن الحياة نفسها منها "وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما" – من الآية 259 من سورة البقرة.
س- ما المقصود بالفطرة البشرية هنا، وكيف تقرّ بوجود خالق ومدبر لها؟
ج- هي طبيعة الانسان التي خلقه الله عليها من كونه كائناً حياً لديه غرائز وحاجات عضوية تدفعه لممارسة حياته. كما لديه عقل يوجّه تلك الغرائز والحاجات ويضبطها لتسير وفق مسارات معينة. وهذا العقل وتلك الغرائز والحاجات العضوية تحكمها حدود معينة لا تتجاوزها لا في ذاتها ولا في مهماتها. ومن هنا قيل ان الفطرة البشرية تقرّ بالبداهة بأن الانسان عاجز وناقص ومحتاج لغيره، وهي بالتالي تقرّ بأن الانسان مخلوق لخالق.
س- ما دام من فطرة الانسان ان يؤمن، فلماذا القول بضرورة اجتماع العقل مع الفطرة؟
ج- لأن الخشية قائمة فعلاً بأن يقف الايمان عند الجانب العاطفي او الوجداني او الغرزي، دون ان يشمل العقل. ولذلك قيل بعدم الاحتكام الى الوجدان وحده في الايمان، بل لا بد من مصاحبة العقل له ليأمن الزلل والوقوع في الكفر او الضلال.
س- كيف يقع الوجدان في الزلل والكفر والضلال؟
ج- يتشكل الوجدان من مجموعة العواطف والمشاعر والميول التي تمارس الغرائز والحاجات العضوية وظائفها من خلالها. فغريزة التدين كإحدى الغرائز لديها ما يناسبها من هذه المشاعر، من تقديس وتعظيم وعبادة، فتبعاً لتداخل مشاعر الغرائز الاخرى مع مشاعر التدين، وهي كلها في كيان واحد، فانه يحصل الاختلاط على الانسان في الامور. فغريزة البقاء، وحبها للذات وميلها للدفاع عن النفس ورغبتها في التمتع بالحياة وأشيائها، تقوم بدفع الانسان للدفاع عن نفسه عندما يتخيل ان شيئاً من المخاطر يهدد هذا البقاء، او ان شيئاً يحفظه، فيجعله موضع تقديس وعبادة، وكما يحصل في تقديس بعض الحيوانات او مظاهر الكون. وهذا ظاهر حتى الآن لدى بعض الشعوب .. ومن هنا كان لا بد من تدخل العقل ليمنع هذه الخيالات او الاوهام من أن تبعد الايمان عن الطريق المستقيم.
س- ما المقصود بما فوق الحسيات والعقليات؟
ج- كل ما لا يقع تحت الحواس البشرية من المغيبات او المجهولات هو مما يطلق عليه فوق الحسيات او وراء الحسيات. وكذلك بالنسبة للعقليات، فكل ما لا يمكن ادراكه ولا يصل اليه عقل مما يطلق عليه فوق العقليات او وراء العقليات. فالاشياء المحسوسة من جمادات وسوائل وغازات هي ما يطلق عليه الحسيات، ويلحق بها الاشياء التي تتخذ أشكالا اخرى كأنواع الطاقة التي لا تشاهد بالعين المجردة في ذاتها. وأما الامور العقلية من معنويات ومنطقيات كالافكار والآراء فهي ما يطلق عليه العقليات.
س- كيف يقال ان العقل قاصر وقد اجترح كل هذه العجائب من الاختراعات، وتوصل الى كل هذه الغرائب من الاكتشافات. أليس العقل الفردي يأتي بالعقل الكلي المتكامل الذي لا قصور فيه كالفردي؟
ج- صحيح ان العقل قد اخترع ما اخترع، وسيخترع المزيد. وقد اكتشف ما اكتشف، وسيكتشف المزيد. ولكنه يبقى هو العقل الفردي. فالذي يخترع هو فلان من الناس، والذي يكتشف هو فلان من الناس. وعقل فلان مهما انضاف اليه من عقول لفلان وفلان .. الخ فسيبقى هو العقل لفرد، والعقل لفرد آخر وثالث .. الخ. والدقة والتحديد في ذلك تقتضيان مناقشة العقل الفرد الواضح الحدود في اطار تكوينه ومرتكزاته ومعلوماته وتطلعاته. وكلها تبقى مهما اتسعت وارتقت في الاطار الفردي المحدود لأن العقل والمنطق يقولان ان مجموع المحدودات مهما كثرت يبقى محدوداً.
وأما القول بالعقل الكلي المتكامل فهو وهْم من أوهام الخيال. لأنه لا يوجد شيء اسمه العقل الكلي او المتكامل غير مجموع العقول الفردية. وكلها تندرج في اطار المحدود الذي يقصر عن تجاوز حدوده في الادراك، فلا يصل الى ادراك ما وراء قدراته وإمكاناته.
س- كيف تحول قصور العقل الى دليل ايمان بدلا من نفي الايمان عن طريق هذا العقل القاصر؟
ج- لما كان العقل قادرا على ادراك وجود الخالق المدبر كان طريقاً للايمان. وأما قصوره عن ادراك ذات الخالق فلا صلة له بالايمان ما دام الايمان بوجود الخالق وليس بحال ذاته. ومن هنا كان ادراك ان العقل مقصر عن ادراك ذات الخالق مدعاة للاطمئنان بصحة استخدام العقل كطريق له.
س- ما المقصود بالأصل الذي ثبت بالعقل في الايمان؟
ج- هو المرجع الذي ورد فيه أصلاً الشيء المعين المطلوب الايمان بوجوده. فالايمان بوجود الملائكة مثلا يحتاج لسلامته ان يكون القرآن الذي ذكرهم وطلب الايمان بوجودهم هو نفسه ثابت بالعقل كرسالة من الله لا شك فيها. فالقرآن الكريم يعتبر المرجع الاول الذي استندنا اليه كأصل للايمان بوجود الملائكة، فثبوته بأنه كتاب منـزل من عند الله بصورة قطعية بطريق العقل يعني ان الأصل الذي ورد فيه ذكر الملائكة قد ثبت بصورة قطعية بطريق العقل.
س- ما المقصود بالقول ان العقل عاجز عن ادراك ما وراء الحسيات والعقليات؟
ج- المقصود بذلك ان العقل عاجز عن ادراك ما يتجاوز حدود الاشياء الحسية والامور العقلية، لأن ادراكه محصور بحدود هذه الاشياء، ويحتاج ان يكون الشيء محسوساً حتى يدركه، وأن يكون الأمر معقولاً حتى يدركه لأن عملية الادراك في العقل لا تنجز مهمتها الا اذا انتقل الشيء المحسوس الى الدماغ بواسطة جهاز الحواس في الانسان ثم يجري العقل أي الربط بين هذا الشيء المحسوس والمعلومات المختـزنة سابقاً لدى العقل، وعندها يصدر عنه ادراك للشيء فيصدر حكمه عليه بأنه كذا او كذا. ولو لم يكن الشيء محسوساً لما انتقل لجهاز الحواس في الانسان، ولما أمكن ادراكه او الحكم عليه. وكذلك في الامور العقلية. فلو سمع الانسان خبرا او معلومة عن أمر غير معقول، اي لا يقبله العقل، فانه لا يدركه ولا يحكم عليه بأي حكم. وعليه فان حدود ادراك العقل تقف عند الاشياء المحسوسة والامور المعقولة ولا تتجاوز ذلك الى غير المحسوس وغير المعقول. ولما كانت ذات الله سبحانه وتعالى ليست محسوسة ولا معقولة لأنه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ولأنه "يدرك الابصار ولا تدركه الابصار وهو اللطيف الخبير" فقد عجز العقل عن إدراكها. وحصر مجال ادراكه في وجود الخالق سبحانه، لأن وجوده تعالى في مجال ادراك العقل، وذلك بدليل المخلوقات الشاهدة والناطقة بوجود خالقها.
rajaab
19-07-2005, 09:02 PM
xxxxx
الطريق السليم للإيمان السليم
الندوة الرابعة
العرض:
لقد انتهى بنا النظر العقلي في جوانب هذا الوجود من كون وانسان وحياة الى ضرورة الجمع بين الفطرة والعقل في طريق الوصول الى ادراك وجود الخالق المدبر سبحانه وهو الله تعالى، والى ان قصور العقل عن ادراك ذات الله سبحانه مدعاة لتقوية الايمان بوجوده تعالى ووجود كل ما ثبت أصله بالعقل.
ولما كان ما انتهى اليه النظر العقلي السليم هو الايمان بوجود الخالق المدبر بالاستدلال اليقيني، فاللازم - استكمالا لهذا النظر - الوقوف على الكيفية التي جرت بها عملية التدبير الرباني لجوانب هذا الوجود بشكل عام والانسان بشكل خاص.
أما بالنسبة للكون فقد قدّر الخالق سبحانه خاصية معينة لكل مادة من مواده بحيث تلازمها ولا تنفكّ عنها، الا اذا تدخل هو سبحانه وأراد لها ان تنفكّ. فكما جعل خاصية الجاذبية العامة بين الكواكب، جعل خاصيات خاصة لكل مادة من مواد هذا الكوكب او ذاك. وكما جعل للأجرام مساراتها في نظام دقيق لا تتخلف عنه، جعل لذرة كل مادة في كل جرم نظاما دقيقا بل غاية في الدقة يقف أمامها العقل البصير النـزيه مشدوهاً بل مقدساً، ومعظماً، ومسبحاً لخالقها ومدبرها سبحانه.
أما الحياة في الاحياء فقد قدّر لها الخالق سبحانه التدبير المناسب عندما أودع في كل كائن حيّ قابلية النمو والحركة، وربطها بقدرة خفية هي الروح، وجعلها سراً من أسراره الربانية، كما ربطها في ممارسة وظيفتها بقدرة تجعل الجسم ينمو في تكاثر خلاياه بتغلّب عملية البناء على عملية الهدم فيها، وتجعله يتحرك في تنقل ضاق او اتسع تبعاً للمرسوم لكل كائن حيّ.
واما الانسان، هذا المخلوق الحي الذي يلتقي في ظاهرتي النمو والحركة مع بقية الأحياء، فانه يمتاز عنها كلها بقدرة عقلية لم تقدَّر لغيره. وهذه القدرة مكّنته من إدّعاء التدبير لنفسه ولغيره، وتصوَّر عدم حاجته لتدبير خالقه. مما جعله يجرؤ على الزعم بالفصل بين الخالق ومخلوقاته، وإن كان لم يستطع الا ان يعترف بوجود قوة عظيمة او عظمى، كما يحلو للبعض ان يصفها، تقف وراء هذا التنظيم الدقيق لجوانب الوجود الثلاث: الكون والانسان والحياة، سواء في ذاتها او في علاقاتها فيما بينها.
ولكن هل الخالق سبحانه مما يقبل النظر العقلي السليم ان يخلق هذا الانسان، وبهذه الخاصية العقلية والخاصية الفطرية، وهما في اطار حدود لا تتجاوزانها، كما سبق الاستدلال والإثبات، ويتركه دون أن يتولى تدبيره وهو الخبير العالم بدقائق ما خلق وأبدع، وبمدى حاجته للتدبير والرعاية والصيانة؟!
والسؤال الآن: كيف دبّره، وبماذا دبّره؟
وللاجابة نقول: بدون ريب ان التدبير قد انصبّ على مواطنه ولزومه، فجاء في اطار الادراك العقلي والفطرة البشرية السليمة. ذلك ان العقل الذي يدرك مدى قدرته المحدودة ينتظر التدبير الذي يسدّ عجزه ويفي بحاجته ويعوض نقصه. وان الفطرة التي يجمح بها الخيال عن الجادّة الايمانية السليمة تنتظر التدبير الذي يأخذ بيدها للطريق القويم ..
وهنا جاء التدبير من خلال مراعاة ذاتية الانسان، بل جعل هذه الذاتية حكماً على صحة هذا التدبير وصوابه عندما جعل قناعة العقل وموافقة الفطرة هما الدليل بل المقياس على صحة ذاك التدبير وسلامته ..
هذا بالنسبة للوضعية التي نشأ فيها التدبير الرباني للمخلوق الانساني، وأما بالنسبة لماهية هذا التدبير، فذاك يتصل مباشرة بما تطلب الفطرة ويقنع العقل.
أما مطالب الفطرة فهما إثنان لا ثالث لهما:
الأول: هو حاجة تديّنها للتنظيم. ذلك ان التدين يشكل جزءاً اساسيا من طاقاتها الكامنة والمقدّرة بتقدير العزيز العليم. فهو خالقها الذي خلقها على هيئة ما يطلق عليه غريزة، أي طاقة حيوية مغروزة في أعماق الانسان. وأن هذا التدين يظهر على الانسان دائماً. وهذا ما حصل على مسار التاريخ البشري، بمظاهر متعددة أبرزها التقديس والعبادة. وكانت هذه المظاهر تحدد وتبرز باستمرار العلاقة بين الانسان والخالق. وكانت هذه العلاقة تعبّر عن نفسها بأشكال متعددة ترفض في غالبها تدخل القناعة العقلية والنظر العقلي السليم لكثرة ما كان يظهر عليها من تناقض مع حقيقة الخالق وهي تعبد او تقدّس غيره. ففطرة التدين هذه لا بد من عدم تركها لذاتها هذه القاصرة، وتوفير نظام سليم لها. وهذا النظام من المستحيل ان يأتي به الانسان من نفسه ما دام هو من المستحيل عليه كما أسلفنا ان يدرك حقيقة الخالق سبحانه، فكيف يتأتى له ان ينظم علاقته به. وهذا يعني ان الفطرة تطالب بنظام من خالقها الذي يعرفها ويعرف ما يلزمها، وليس من الانسان الذي يحملها ولا يعرف كيف يربطها بخالقها، وهي التي لا تظهر ولا تستشعر الرضى والسعادة الا بهذا الارتباط. وهذا المطلب من الفطرة يعني انه لا بد من نظام يأتي من الخالق سبحانه لينظم هذا الارتباط والعلاقة. وهذا النظام اقتضت ارادة الخالق سبحانه ان يتخذ له رسلاً من البشر يكلفون بتبليغه للناس، وهذا النظام هو دين الله تعالى.
والثاني: هو حاجة اشباع غرائزها وحاجاتها العضوية للتنظيم. ذلك ان طاقاتها الحيوية المغروزة فيها مع حاجات أعضاء الجسم التي تكمن فيه تلك الطاقات لا بد لها من اشباع بشكل سليم ومناسب لها. وهذا المستوى او الشكل من الاشباع لا بد ان يخضع لنظام معين حتى لا يقع في الخطأ او الشذوذ، ويؤدي بالتالي الى شقاء الانسان. وهذا النظام لا بد ان يأتي من خالق الانسان الخبير بما يصلح لذاك الاشباع السليم. ولا يجوز ان يأتي من الادراك الانساني، لأن هذا الادراك ثابت ثبوتا قطعيا أنه يعطي حلولا متفاوتة في مدى اقترابها وبعدها من الصحة، ومختلفة في نوعية الحلول، ومتناقضة في تناولها للمسألة، ومتأثرة بما تعيشه في بيئتها من عوامل. الأمر الذي يجعل ما تقدمه من نظام مؤدياً الى شقاء الانسان. وهذا النظام كما أسلفنا اقتضت إرادة الخالق سبحانه ان يتولى تبليغه رسل مختارون من البشر.
هذان هما مطلبا الفطرة. وأما إقناع التدبير الرباني للعقل، فقد قام بالفعل عندما طرح هذا التدبير او النظام او الرسالة الربانية على الانسان مصحوباً بمعجزات متناسبة مع كل قوم وكل عصر. ثم انتهى الأمر للمعجزة التي لا تقف على قوم ولا عصر، وانما تمتد لتشمل الانسانية، وتغطي كل الأزمنة، حتى قيام الساعة. ألا وهي معجزة القرآن.
ولإثبات ان القرآن منـزل من عند الله سبحانه، لا بد من أدلة تستند الى القطعي المحسوس حتى تكون قطعية لا شبهة فيها. فالقرآن كتاب عربي اللغة والاسلوب، وقد جاء به محمد عليه السلام. فلا بد ان يكون هذا الكتاب إما من محمد نفسه، او من العرب، مجتمعين او متفرقين، او من الله تعالى العالم بكل شيء وباللغة العربية وأساليبها. ولن يكون من أي واحد غير هؤلاء الثلاث.
هكذا يحصر العقل السليم هذا الكتاب المحسوس الملموس في احتمال من هذه الاحتمالات الثلاث، ليصل من المناقشة الى النتيجة القطعية. فلو بدأنا باحتمال انه من العرب لوجدنا انه قد تحدّاهم ان يأتوا بكتاب مثله "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" – آية 88 من سورة الإسراء-. فلم يكتف في معرض تحدّيه للعرب بهم أنفسهم، بل أضاف اليهم كل الإنس وكل الجنّ. وعندما عجزوا عن الإتيان بمثله كله، تحدّاهم أن يأتوا بعدد من مثل سوره "قل فأتوا بعشر سور مثله" – من آية 13 من سورة هود- . وعندما عجزوا بعد أن حاولوا محاولات فاشلة، تحدّاهم ولو بالإتيان بسورة واحدة "قل فأتوا بسورة مثله" – من آية 38 من سورة يونس-. ولو وقفوا لا مبالين من هذا التحدّي، لاختلف القول. ولكنهم استجابوا، وحاولوا بالفعل ان يأتوا بمثله او بشيء من مثله، وعجزوا عن ذلك. مما يجزم انه ليس من كلامهم مهما نسب من تفاهات القول لبعضهم مما لا يصل الى شيء من مثله من أمثال مضحكات أبي سلمة الكذاب.
وأما أنه من محمد عليه الصلاة والسلام فباطل ايضاً لثلاثة أسباب هي:
الأول: لأن محمداً عليه السلام عربي الأصل واللغة. واذا كان العرب لم يأتوا بمثله او بشيء من مثله، فمن باب أولى أن محمداً العربي لا يأتي بمثله مهما كان عبقرياً لأن التحدي القرآني للعرب لم يستثن أحداً مهما كانت صفته.
والثاني: لأن الأحاديث الصحيحة والمتواترة التي رويت لمحمد عليه السلام لا يوجد أي تشابه بينها وبين الآيات القرآنية في الأسلوب، مع انها صدرت وقت النـزول. وكلام الشخص منه ويتشابه في الأسلوب مهما نوّعه.
والثالث: لأن العرب العالمين بأساليب اللغة العربية لم يتّهموا محمداً عليه السلام بأنه جاء بالقرآن من نفسه. وكل ما إدّعوه أنه أتى به من غلام نصراني اسمه (جبر). ولكن القرآن الكريم ردّ عليهم فقال "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر، لسان الذي يلحدون اليه أعجميّ، وهذا لسانٌ عربيٌ مبين" – من آية 103 من سورة النحل-.
وبنفي هذين الاحتمالين لا يبقى الا الاحتمال الثالث، وهو أن الله سبحانه وتعالى العالم باللغة العربية وأساليبها، والمحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزله على محمد الذي أتى به وبلّغه للناس. ما يجعل محمداً نبيّاً ورسولاً بالدليل العقلي القطعي.
وهكذا يظهر لنا، مع مسار هذه الندوات الأربع، كيف أن ركائز الايمان بوجود الله الخالق المدبر، وبرسالة محمد عليه السلام، وبالقرآن الكريم أنه كلام الله، قد قامت لها الحجة بالدليل القطعي العقلي القائم على المحسوس. فيكون العقل هو الطريق الى المغيبات للايمان بها كلها بعد أن أخبرنا بها سبحانه في القرآن الكريم او الحديث النبوي المتواتر اللذين ثبتا بالعقل واليقين. ويكون الواجب على كل مسلم ان يعتقد بما ثبت له بالعقل وبالسمع اليقيني، أي القرآن الكريم والحديث المتواتر. ويحرم عليه ان يعتقد بما لم يثبت عن غير هاتين الطريقين. لأن العقائد لا تؤخذ الا عن يقين، والله تعالى يقول "وأن الظنّ لا يغني من الحق شيئا" – من آية 28 من سورة النجم-.
المناقشة:
س- ماذا يقصد بما ثبت أصله بالعقل؟
ج- هو ما ورد في القرآن الكريم من المغيبات. لأن أصلها وهو القرآن الكريم قد ثبت بالعقل. فتكون هذه المغيبات من أمثال الجنة والنار والملائكة والبعث والنشور والحساب والعقاب كلها مما ثبت أصله بالعقل.
س- لماذا تقرن بين صفتي الخالق والمدبر لله تعالى، ولا تكتفي بصفة الخالق مع أنها قد يفهم منها التدبير ايضاً؟
ج- لأن الخالق تعني الموجد من عدم. بينما المدبر تعني المنظم. ففي اعتقاد من يقولون بفصل الدين عن الحياة أنهم يرون ان الله خلق الانسان وترك له أمر تدبير شؤونه بنفسه، وذلك بواسطة قدرته العقلية. بينما يرى الاسلام ان الله لم يترك الانسان لتدبير وتنظيم عقله، وإنما أرسل له تشريعا كاملا لجميع شؤونه الحياتية، وجعل عقله طريقا لفهم هذا التشريع وتطبيقه. ومن هنا كان لا بد من قرن صفتي الخلق والتدبير لله تعالى.
س- هل من أمثلة على الخاصيات التي قدّرها الله تعالى للأشياء بجميع أنوعها كتدبير لها؟
ج- ان كل مادة لها خاصياتها المتميزة بها عن غيرها. فالماء له خاصيات السيولة تحت درجة حرارة معينة، والتجمد تحت درجة غيرها، والتبخر تحت درجة ثالثة. وهو بالنسبة للانسان له خاصية الإرواء، وكذلك بالنسبة للنباتات والحيوانات ما دام نقياً عادياً. ولو اختلط بمواد اخرى فقد هذه الخاصية، وهكذا كل مادة. والانسان فيه غرائز وحاجات عضوية، وكل غريزة فيها خاصيات تتميز بها عن غيرها. فخاصيات غريزة البقاء غير تلك لغريزة التدين، وغير تلك لغريزة النوع. فغريزة البقاء فيها حب الذات، وحب التملك، وحب الوطن، والدفاع عن ذلك كله .. بينما غريزة التدين فيها خاصيات التقديس والخشوع والعبادة.
س- هل سبق أن تدخّل سبحانه وجعل الخاصية تنفكّ عن مادتها؟
ج- نعم. وذلك عندما قال سبحانه للنار التي أُلقي فيها ابراهيم عليه السلام "قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم" – آية 69 من سورة الانبياء –. فلم يشعر بحرارة ولا برودة. ولو قال برداً دون سلام، لشعر عليه السلام بالبرد. وكذلك عندما أمر سبحانه الماء ان ينفلق ويتوقف عن السيلان لمرور موسى عليه السلام وقومه وقد أوشك فرعون وجنوده على إدراكهم.
س- لماذا نقبل خاصية كل مادة كتدبير لها، ولا نقبل خاصية التفكير في العقل كتدبير للانسان؟
ج- ان خاصية التفكير أعطيت للعقل الانساني بحدود معينة لا تتجاوزها. فهي لا تدرك ما يصلح للانسان وتنظيم شؤون حياته في كل زمان ومكان، وانما اذا وضعت اي تنظيم فانها تتأثر بعوامل البيئة المتوافرة في كل زمان ومكان. فهي إنما أعطيت لإدراك الأوامر والنواهي الربانية وفهمها للعمل بها. وهذه هي حدود مهمتها، وهي مناسبة تماماً للانسان. بينما خاصية كل مادة، والتي تيسّر لها القيام بمهامها وأداء وظائفها، فانها تتناسب هي ايضا معها. ولذلك لا تعتبر اي خاصية أنها مدبّرة لمادتها وانما ميسّرة لأداء وظائفها التي خلقت من اجلها. كما تساعد على استمرار بقائها ليس غير، ولا تستطيع ان تساعد بأكثر من ذلك. ولو استطاعت لخرجت عن طبيعتها، وعندها ستحمل طبيعة اخرى تتقيد بخواصها. فخواص الماء مثلا، وهو سائل، ليست مماثلة لخواصه وهو بخار او وهو جليد.
س- ماذا تعني صفات العجز والاحتياج والنقص التي يوصف بها العقل؟
ج- العقل عاجز عن ايجاد نفسه ابتداءاً، وعن الحفاظ عليها انتهاءاً. فهو يوجد بوجود الانسان وينتهي بموته كجهاز مفكر عاقل، وأما كإدراك وتفكير فانه يتنامى رويدا رويدا مع نمو جهازه ونضج صاحبه، حتى ينتهي الى الهرم والشيخوخة مع أرذل العمر.
وهو محتاج لممارسة مهمته الفكرية السليمة لسلامة أعضائه وتوفر المعلومات السابقة حول ما يريد أن يصدر حكمه عليه لمعرفته وإدراكه. كما هو محتاج ايضا في ذلك الى وجود الواقع الذي يراد له ان يدركه، وبدون الحواس التي تنقل الواقع لا يمكنه ان يدركه. ومن هنا فالعقل حتى يمارس وظيفته بحاجة الى الحواس للنقل، والى الدماغ السليم الذي يستقبل المنقول اليه، والى الواقع الذي تنقله الحواس، والى المعلومات السابقة حول هذا الواقع. فعملية الادراك العقلي تتم بنقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس واستعمال المعلومات والخبرات السابقة حول هذا الواقع.
وهو ناقص لأنه لا يدرك بالعملية الادراكية اكثر من الواقع الذي نقل اليه وبمقدار المعلومات حوله. ولو نقصت المعلومات او لم يحسن الترابط بينها وبين الواقع لما استطاع الإدراك.
rajaab
19-07-2005, 09:05 PM
س- هل من أمثلة تدل على انحراف فطرة التدين لدى الانسان؟
ج- عبادته لكائنات حية او غير حية تقدم العديد من الامثلة على ذلك. فعبادته للكواكب والحيوانات والأصنام التي لا تستحق العبادة لأنها لا تملك له خيرا ولا شرا. وإنما توهم أنها كذلك، فحصل الانحراف. هذا بالنسبة لغير المسلمين، وأما ما يصيب المسلمين من الانحراف فهي أن يتوهم مثلا ان النصر على الأعداء في معركة يأتي بالجلوس لتلاوة القرآن او ترديد الأذكار والابتهالات او قراءة صحيح البخاري، دون الأخذ بسنّة الله في ذلك، ألا وهي إعداد العدّة المادية من قوة وسلاح تنفيذاً لأمر الله القائل " وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة .. " من الآية 60 من سورة الانفال-. وإلا لو كان مثل ذلك يأتي بالنصر، لتحقق للرسول عليه السلام بالرغم من مخالفة الرماة لأمره في معركة أحد.
س- كيف يقع إشباع الغرائز الثلاثة خطأً او شاذاً؟
ج- الإشباع الخاطىء لغريزة التدين بعبادة غير الله الخالق المدبر، كعبادة تلك الحيوانات والأصنام وأمثالها التي كانوا يعبدونها. أما الإشباع الشاذ لهذه الغريزة فانه عبادة الله بغير العبادة المعتادة كعبادة الفرج مثلاً.
والإشباع الخاطىء لغريزة البقاء مثل تملّك مال غيره بطريق غير مشروع كالسرقة والغش وأمثالها. بينما الشذوذ في ذلك فهو تملّك ما لا يتملّك في العادة كفضلات الناس مثلاً.
والخطأ في اشباع غريزة النوع مثل ممارسة الجنس في موضعه بشكل غير مشروع أي بالزنا. وأما الشذوذ في ذلك فهو ممارسته في غير موضعه المعتاد سواءا كعمل قوم لوط او السحاق مثلاً.
س- لماذا كانت الرسالات السماوية قبل الاسلام محدودة الزمان والمكان؟
ج- لأنه سبحانه يعلم ما يناسب كل مرحلة من مراحل النضج البشري كأفراد ومجتمعات في مسار الانسانية. كما يعلم مدى ما يتيسر للانسان من اسباب التلاقي بين الشعوب والأمم. ولذلك كانت كل رسالة يتحدد مجالها بقوم معينين، ولزمان معين. ثم تعقبها نبوّة تواصلها ونبوّة أخرى، وهكذا، حتى تظهر مشكلات لا تقدم لها الرسالة السابقة الحلول الربانية اللازمة. وعندها يرسل رسولاً آخر ويتبعه انبياء، وهكذا .. كما ظهر في بني اسرائيل مع رسالتي موسى وعيسى عليهما السلام، وما لحق موسى من الانبياء، حتى جاء عيسى ووصلت البشرية الى درجة نضجها، فلم يتبعه انبياء. وانما جاء بعده رسول الانسانية جمعاء، محمد عليه الصلاة والسلام.
س- ما الفرق بين النبي والرسول؟
ج- النبي من يكلَّف من الله سبحانه بحمل وتبليغ رسالة غيره من الرسل. بينما الرسول هو من يكلّفه سبحانه برسالة خاصة. وعليه فكل رسول نبي، ولكن ليس كل نبي رسول.
rajaab
19-07-2005, 09:07 PM
الطريق السليم للإيمان السليم
الندوة الخامسة
العرض:
بعد أن لمسنا في الندوة السابقة ثبوت حاجة البشر الى الرسل، وأن القرآن الكريم من عند الله وليس من أحد من الخلق، وأن محمداً عليه السلام الذي جاء بهذا القرآن نبي ورسول قطعاً، لأنه لا يأتي بشريعة الله الا النبي والرسول. بعد هذا، توفر بين أيدينا الدليل العقلي على الايمان بالله جلّت قدرته، وأنه سبحانه الخالق المدبر لهذا الوجود كله، وعلى الايمان بأن القرآن هو كلام الله سبحانه، وان محمداً عليه السلام الذي أتى به رسالة للبشرية كلها رحمة عامة للإنس والجن، بشيراً ونذيراً، هو صاحب الرسالة للانسانية جمعاء، وأنه خاتم النبيين والمرسلين.
بهذا الاستدلال العقلي، المبني على المحسوس الملموس، نكون قد استوفينا السير في الطريق الموصل الى الايمان الحق عن طريق سليم هو طريق العقل. وتأكد لدينا أنه لا بد أن يكون عن طريق العقل، العقل الذي يستند اليه الايمان بالمغيبات التي وردت في القرآن الكريم والحديث المتواتر .. ذلك انه ما دمنا قد آمنا بأنه تعالى خالق ومدبر لكل شيء، فيجب أن نؤمن بكل ما أخبرنا به في القرآن الكريم والحديث المتواتر، ولو كان مما لا يدركه العقل او لا يصل اليه إدراكه، من أمثال البعث والنشور والجنة والنار والحساب والعذاب والملائكة والجن والشياطين وغيرها.
صحيح ان الحديث المتواتر ثبت بالنقل السمعي وليس بالدليل العقلي المباشر، ولكن أصله ثبت بالدليل العقلي. لأن القرآن الكريم الذي ثبت بالطريق العقلي أنه كتاب الله المنـزل على محمد قد أكد ان محمداً نبي ورسول تجب طاعته في كل ما أخبر به في سنّته، والتصديق به. فقد قال سبحانه "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" – من الآية 33 من سورة محمد-، وقال سبحانه "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" – من الآية 21 من سورة الأحزاب-، وقال سبحانه "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" – من الآية 7 من سورة الحشر-.
فيجب إلتزام كل عقيدة ثبتت بالسنّة المتواترة وليس بغيرها حتى تدخل مجال اليقين وتتخلص من الظنّ. والله تعالى يقول "وأن الظن لا يغني من الحق شيئا" – من الآية 36 من سورة يونس-. فيكون الحديث المتواتر قد ثبت اصله بالعقل ايضا. هذا من جهة، ومن جهة اخرى، الحديث المتواتر في ذاته يقطع بصدق نسبته الى الرسول عليه السلام، مما يقطع بصدق مضمونه وبُعده عن الظن رواية. فيطمأن الى جعل ما يذكر من عقائد جزءا من الايمان، وبذلك يطمأن الى ان اليقين كان هو المصاحب في طريق الايمان بجميع عقائده.
وجانب الايمان بالآخرة في العقيدة له أهميته الحاسمة كالجوانب الاخرى. لأن الايمان بالله سبحانه الخالق المدبر هو ايمان بما قبل الحياة الدنيا، أي هو سبحانه الذي خلق هذه الحياة الدنيا ودبّرها. بينما الايمان بيوم القيامة، اي يوم البعث والنشور والحساب والعذاب والجنة والنار، جزاءاً على ما صدر عن الانسان من خير او شر، هو الايمان بما بعد الحياة الدنيا. وبهذا يظهر كيف ان أوامر الله ونواهيه هي صلته سبحانه بالحياة بعد أن خلقها وأوجدها من عدم، بينما محاسبته سبحانه الانسانَ على أعماله في الحياة، بالاضافة الى البعث والنشور، هي صلة الحياة بما بعدها. كما يظهر مدى لزوم وجود صلة لهذه الحياة بما قبلها وما بعدها، ومدى وجوب تقيّد أحوال الانسان بهذه الصلة. أي يظهر أن الانسان يجب ان ينظم حياته وفْق أنظمته تعالى ليكون حسابه يوم القيامة خيرا ومصيره الى الجنة جزاءا لأعماله في هذه الحياة الدنيا ..
وبالعودة الى ما توصلنا اليه عن طريق العقل، او ثبت أصله بالعقل، من إيمان بالله، اي ما قبل الحياة، وإيمان بيوم القيامة، اي ما بما بعد الحياة، وإيمان بوجوب التقيد بأوامر الله في هذه الحياة، اي بصلة هذه الحياة بما قبلها وما بعدها، بهذا الايمان بأطرافه الثلاث يوجد الفكر المستنير عما وراء هذا الكون والانسان والحياة، وعما قبل الحياة وما بعدها، وعن صلتها بما قبلها وبما بعدها. وبهذا الفكر المستنير يتوفر الحل الكامل لجميع اطراف العقدة الكبرى التي كانت تتشكل من التساؤلات عن هذه الاطراف الثلاث: من اين أتيت، والى اين أذهب، وما صلتي بهذا وذاك. وهذا الحل الكامل السليم، أي حسب الاسلام، هو العقيدة الاسلامية. اما الحلول الكاملة الاخرى لدى العقائد الاخرى فليست سليمة. لأنها، كما سيأتي تفصيله في ندوات اخرى ان شاء الله، لا توافق الفطرة السليمة، ولا تقنع العقل السليم.
أما قيمة وأهمية هذا الحل في الحياة الدنيا، وهو ما يتساءل عنه بعض خاصة الناس وعامتهم، فهي أنه يمكّن الانسان من الانتقال الى الفكر اللازم عن هذه الحياة، والى المفاهيم الصحيحة المؤثرة عنها. ولا سيما ان هذا الحل سيكون هو الاساس لمبدأ الأمة في الحياة، لأن النهضة كما مرّ بنا في الندوة الاولى هي الارتقاء الفكري كأساس في الحياة. كما سيكون هذا الحل أساس حضارة ذلك المبدأ، لأن الافكار والثقافة بعامة والمفاهيم عن الاشياء بخاصة في هذه الحياة، وهي الحضارة، ستبنى على تلك العقيدة بأطرافها الثلاث. كما سيكون هذا الحل أساس أنظمة الحياة في جميع جوانبها من اقتصاد وحكم واجتماع وسياسة وغيرها. كما سيكون اساس دولة المبدأ ما دامت هذه الدولة ستتقيد في جميع قواعدها وأركانها بما في كتاب الله وسنّة رسوله، وهما صلة هذه الحياة بما قبلها وما بعدها. وهذا كله يعني ان أساس فكرة الاسلام، التي تشمل العقائد والافكار لمعالجة شؤون الحياة، وأن اساس طريقته، التي تشمل كيفيات تنفيذ المعالجات والمحافظة عليها وحمل الدعوة اليها، هو العقيدة الاسلامية.
والآية الكريمة تشير الى أبرز جوانب العقيدة الاسلامية "يا أيها الذين آمنوا أمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالا بعيدا" – الآية 136 من سورة النساء-. فهذه الآية الكريمة ذكرت ان الايمان يجب ان يشمل الله سبحانه، ألوهيةً وربوبيةً، كما يشمل القرآن الكريم الذي أنزل على رسوله محمد عليه السلام، وعلى الكتب التي أنزلها سبحانه من قبل القرآن على رسله الآخرين، وعلى الملائكة، وأخيرا على اليوم الآخر.
وفي ختام هذه الندوة لا بد من التأكيد على حصادها. ألا وهو ما تشمله وتقتضيه جوانب العقيدة الاسلامية التي تشكل إيمان المسلم. فالايمان بالله الخالق المدبر وأنه دبر الانسانية بشريعة الاسلام التي جاءت في القرآن الكريم والسنّة المطهرة يفرض الايمان بهذه الشريعة كلها. وأي إنكار لجزء منها قطعي الثبوت، كالقرآن الكريم والسنّة المتواترة، او قطعي الدلالة، كالآيات الكريمة المحكمة، أي التي لا تحتمل غير معنى واحد، يوقع المسلم في الكفر، سواء كانت أحكام تلك الآيات والسنن تتصل بالعبادات كالصلاة، او بالمعاملات كالبيع والشراء، او العقوبات كقطع يد السارق، او المطعومات كأكل لحم الخنزير. ذلك لأن الكفر بآية "وأقيموا الصلاة " – من الآية 20 من سورة المزمل- كالكفر بآية "وأحلّ الله البيع وحرّم الربا" – من الآية 275 من سورة البقرة – وكالكفر بآية "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" – من الآية 41 من سورة المائدة – وكالكفر بآية "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به" – من الآية 4 من سورة المائدة.
ولا بد من الانتباه الى ان الايمان بالشريعة الاسلامية، والقبول والرضى بأحكامها، لا يتوقف على العقل، بل لا بد من التسليم المطلق بكل ما جاء من عند الله. كيف لا، والله تعالى يقول "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما" – الآية 65 من سورة النساء-.
المناقشة:
س- لماذا نعتبر الايمان بالله وبالقرآن وبالرسول مستوفي للايمان؟
ج- ان الايمان بوجود الله سبحانه، وبأن القرآن الكريم كتاب الله، وبأن محمدا عليه السلام رسول الله، قد تحقق لدينا عن طريق العقل. فاستوفينا بذلك السير في هذا الطريق لولا بقية من وقفة مع مسألة القضاء والقدر التي سنأتي عليها ان شاء الله في الندوات القادمة. وأما ما أخبرنا به الله سبحانه في الأحاديث القدسية المتواترة، فاننا نؤمن بها وبكل ما ورد في القرآن الكريم من المغيبات التي لا يصل لادراكها العقل كالجنة والنار والملائكة والجن .. وكذلك بكل ما ورد في الأحاديث النبوية المتواترة، وإن كان العقل لا يستطيع إدراكها ولا الوصول الى إثباتها. فالاستيفاء الذي وردت الاشارة اليه هنا هو بشأن الطريق العقلي الذي يجب السير فيه للوصول الى الايمان السليم.
س- ما المقصود بالنقلي والعقلي؟
ج- النقلي هو كل ما يصلنا من معلومات سواء من العقيدة الاسلامية وذلك عن طريق النقل من شخص او اكثر الى شخص او اكثر حتى تنتهي الى مصدرَيْ الاسلام: الكتاب والسنّة او أحدهما. والعقلي هو كل ما يتوصل اليه من الاسلام، عقيدة وشريعة، عن طريق العقل كواسطة للإثبات او الإستنباط.
س- ما هو الحديث المتواتر؟
ج- هو الحديث النبوي الشريف الذي وصلنا عن طريق عدد من الرواة الموثوقين الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب وهم أربعة فأكثر.
س- وهل هناك أحاديث نبوية غير متواترة؟
ج- الاحاديث النبوية من حيث الرواية نوعان: حديث آحاد، ورواته أقل من رواة المتواتر، وحديث متواتر ورواته أربعة فأكثر. وحديث الآحاد إما مشهور او صحيح، أما المشهور فهو الآحاد الذي اشتهر بين المسلمين لكثرة رواته في حلقة التابعين او تابعي التابعين ولكنهم في حلقة الصحابة أقل من اربعة، كحديث "إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل إمرىء ما نوى .." الذي رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الصحيح فهو الآحاد الذي لم يشتهر في حلقة من حلقاته كالمشهور. وهناك الحديث الموضوع، وهو الذي ينسب الى الرسول عليه السلام افتراءاً وكذباً.
س- وما معنى الدراية بالنسبة للحديث؟
ج- هي معنى ومضمون الحديث.
س- لماذا ربطنا الايمان بالحياة مع أن مكانه القلب؟
ج- لم نربطه بالحياة التي واقعها الحركة والنمو على الأحياء. وإنما ربطناه بالحياة الدنيا التي تعيشها البشرية وتنتهي بيوم القيامة حيث البعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار. وربط الايمان بالحياة الدنيا حتمي، لأن الايمان لا بد للانسان منه لحل العقدة الكبرى لديه. وربطه بالحياة الدنيا في ذلك يعني الاجابة على الاسئلة المتصلة بمصدر الحياة الدنيا وبمصيرها، أي بما قبلها وبما بعدها، وبالتالي تحديد صلتها بهما.
س- كيف وجد الفكر المستنير بالايمان؟
ج- لما كان الفكر المستنير هو الفكر الذي يتكون من التفكير العميق بالشيء وبكل ما يتصل به من مؤثرات لإصدار الحكم عليه، فانه يوجد لدى الانسان بالايمان الذي يشمل من خلَق الوجود، وأن هذا الخالق هو الذي خلق الحياة الدنيا، ودبّر المخلوقات فيها، وهو سبحانه الذي سينهي هذه الحياة الدنيا ويأتي بعدها بيوم البعث والحساب ليجزي كل انسان على ما سعى فيها سواء كان قد التزم بتدبير الله وتنظيم الله تعالى بما ارسله على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام او لم يلتزم، بل سار وفق تدبير وتنظيم عقله وهواه. فبهذه الفكرة الكلية عن الوجود، وعن الحياة الدنيا، وهي العقيدة والايمان، يوجد الفكر المستنير.
س- هل يمكن ذكر حلول اخرى غير اسلامية للعقدة الكبرى؟
ج- نعم. لأن العقدة الكبرى أجابت عليها ثلاث عقائد إجابات كاملة شكلت كل منها أساساً لمبدأ ينظم الحياة الانسانية وذلك كما يلي:
السؤال الاول: من أين أتيت؟
جواب الاسلام عليه: أتيت من الله الخالق المدبر.
جواب الرأسمالية الديمقراطية عليه: أتيت من الله الخالق غير المدبر.
جواب الاشتراكية الشيوعية عليه: أتيت من المادة.
السؤال الثاني: ألى أين أذهب؟
جواب الاسلام عليه: الى الجنة او النار (حسب ايماني وعملي).
جواب الرأسمالية الديمقراطية عليه: لا تهمّني الآخرة وإنما الدنيا فقط.
جواب الاشتراكية الشيوعية عليه: الى المادة.
السؤال الثالث: ما صلتي بما قبل الحياة وما بعدها؟
جواب الاسلام عليه: أطيع الله الخالق المدبر لأدخل الجنة.
جواب الرأسمالية الديمقراطية عليه: أعيش بعقلي وأسعد بإشباع رغباتي.
جواب الاشتراكية الشيوعية عليه: لا صلة لي الا بالمادة.
س- كيف تكون العقيدة او حل العقدة الكبرى اساس النهضة في الحياة الدنيا؟
ج- لأنها تكون المصدر الذي تنشأ منه الافكار او تبنى عليه من اجل الارتقاء في هذه الحياة. فاذا اراد الانسان ان ينظم اي جانب من حياته ليرتقي به، اي يضع افكارا لمعالجة هذا الجانب، فانه يأخذها من عقيدته، اي من خالق الحياة المدبر لها الذي يعتقد به، اذا كان مسلماً. او من غيره اذا لم يكن مسلما، سواء كان هذا الغير هو العقل، كما تراه عقيدة الرأسمالية الديمقراطية، او المادة، كما تراه العقيدة المادية، اي عقيدة الاشتراكية الشيوعية.
س- كيف تكون العقيدة اساس الحضارة في الحياة الدنيا؟
ج- لأنها تكون مصدر افكار الانسان ومفاهيمه التي يتعامل بها مع الاشياء في الحياة. فهو عندما يستنكر صورة عارية مثلا، اذا كان مسلما، ويراها قطعة فنية جميلة، اذا كان غير مسلم، فانه يأخذ بمفهوم عقيدته عنها. وهو عندما يعطي بسخاء، ابتغاء مرضاة الله، اذا كان مسلماً، ولا يعطي الا بقدر مصلحته النفعية، اذا كان غير مسلم، فانه يتبع مفهوم عقيدته في ذلك. والحضارة مجموعة هذه الافكار، بل هذه المفاهيم عن الاشياء في الحياة، وهذه الافكار والمفاهيم اما منبثقة من العقيدة او مبنية عليها، مما يجعل العقيدة اساس الحضارة.
س- كيف تكون العقيدة اساس الانظمة في الحياة الدنيا؟
ج- لأنها عندما تكون المصدر الذي تؤخذ منه معالجات شؤون الحياة، اي الانظمة، فانها تكون أساسها.
س- كيف تكون العقيدة اساس الدولة في الحياة الدنيا؟
ج- لأنها عندما تكون اساس الانظمة تكون اساس الدولة ما دامت هذه الدولة هي الهيكل التنظيمي لهذه الحياة الدنيا.
س- ماذا يعني إنكار آية من القرآن الكريم؟
ج- يعني عدم الاعتراف بها كآية، او إنكار صلاحيتها بحجة تغير الزمان او المكان.
rajaab
19-07-2005, 09:12 PM
الطريق السليم للايمان السليم
التعقيب
ما هي أهمية بحث الطريق السليم للايمان السليم في حياة المسلم التي تعصف بها المآسي من كل جانب من اجل تحقيق النهضة والتخلص من كل هذه المآسي ؟؟
لا شك ان جماع الحل لكل مآسي المسلم كفرد وكأمة هو تحقيق النهضة للأمة الاسلامية وبالتالي للمجتمع الاسلامي. فعندما ينهض الفرد المسلم ويرتقي فانه يتخلص من الخلل الذي يسبب له الشقاء، وعندما تنهض الامة الاسلامية وترتقي فانها تتخلص من اسباب الشقاء الذي تعيشه. فكيف ينهض الفرد المسلم، وكيف تنهض الأمة الاسلامية، وبالتالي كيف ينهض المجتمع الاسلامي؟؟
ينهض الفرد المسلم عندما يرتقي فكرياً وسلوكياً في جميع مجالات حياته. وذلك بتوفر المقومات الأربعة التالية اللازمة لذلك في حياته: العقائد السليمة، والعبادات الحقّة، والأخلاق الفاضلة، والمعاملات القويمة. فبالعقائد والعبادات تنتظم علاقته مع ربه، وبالأخلاق تنتظم علاقته مع نفسه، وبالمعاملات تنتظم علاقته مع غيره من البشر. ففي اعتناقه لأفكار العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات يرتقي فكرياً، ويكون رقيّاً صحيحاً اذا كانت كل تلك الافكار صحيحة، ولا يتم ذلك بالطبع الا بما في الاسلام ليس غير، وفي تطبيق هذه الافكار كاملة في أقواله وأفعاله، أي سلوكاته، يرتقي سلوكياً، ويكون رقيّه صحيحاً اذا كانت التطبيقات سليمة كسلامة الافكار.
وعندما تابعنا ندوات "الطريق السليم للايمان السليم" الخمسة رأينا كيف أن ارتقاء السلوك الفردي يأتي نتيجة لارتقاء افكاره، ولذلك تابعنا موضوع كيفية تحقيق إيجاد الافكار الصحيحة لدى الفرد حتى يتحقق لديه السلوك الراقي، وبالتالي نعتبره قد نهض وارتقى.
صحيح ان نهضة الفرد لا يمكن ان تحقق نهضة الأمة، ولا نهضة المجتمع. لأن الفرد المسلم يبقى عنصراً واحداً من عناصر بناء الأمة او بناء المجتمع. كما تبقى عناصر نهضته و رقيّه تختلف من حيث النوعية وإن التقت من حيث العددية مع عناصر رقيّ الأمة او المجتمع … ذلك ان الأمة، أي أمة، هي عبارة عن مجموعة من الناس الذين يعتنقون افكارا مبدئية معينة، أي عقيدة لها نظامها في الحياة. وهذا بالطبع لا يعني بالضرورة اعتناق هذه الافكار من قبل كل فرد في الأمة، كما لا يعني وجود العبادات والأخلاق والمعاملات اللازمة لرقيّ الفرد ونهضته في حياة كل فرد من افراد الأمة. ولكن المهم ان تعتنق الأمة بمجموعها لا بأجمعها مثل هذه الافكار المبدئية، وتصبح منسوبة اليها، وعندها ستنهض وترتقي، وإن لم ينهض ولم يرتقِ كل فرد من أفرادها بالضرورة.
اما المجتمع فيتجاوز في تكوينه نوعية عناصر الفرد وإن التقى في العدد. فالمجتمع هو عبارة عن مجموعة من الناس تربطهم علاقات معينة تنتظم جميع مجالات حياتهم، وهذه العلاقات النظامية لا توجد في مجتمع الا بتطبيق النظم والمعالجات التي تراها العقيدة المبدئية التي تعتنقها الأمة في هذا المجتمع. فعندما نتحدث عن المجتمع الاسلامي تصبح الناحية الاقتصادية معالجة بالنظام الاقتصادي في الاسلام، اي المنبثقة أفكاره من العقيدة الاسلامية او المبنية عليها، اي التي تراها العقيدة في المجتمع الاسلامي. كما تصبح النواحي الاخرى من حكم واجتماع وتعليم وعلاقات خارجية وغيرها معالجة بالانظمة الاسلامية ايضا. وهذا ايضا لا يعني بالضرورة اعتناق هذه الافكار المطبقة في الانظمة اعتناقا من قبل كل فرد في المجتمع. ولكن المهم ان يعتنق عدد من المجتمع تلك الافكار المطبقة ويطبق نظمها في مجالات الحياة كلها، ويرتضيها تبعاً لهم بقية افراد المجتمع نظاما لهم. وعندها سينهض المجتمع وإن لم ينهض كل فرد من افراده.
ومن خلال هذا البيان لكيفية نهضة الفرد المسلم، والأمة الاسلامية، والمجتمع الاسلامي، ندرك أهمية الفكر في الحياة الفردية والمجتمعية. وندرك أهمية أن يكون هذا الفكر مبدئياً، لأن الفكر المبدئي المشتمل على العقيدة ذات الانظمة هو الذي يعطي المفاهيم عن الاشياء في الحياة، وبالتالي ينتظم سلوك الفرد والأمة والمجتمع … وبهذا الادراك لأهمية الفكر المبدئي نلمس أهمية وجود الايمان السليم في حياتنا بعقيدة مبدئية، أي عقيدة ذات أفكار تضبط وتنظم جميع مجالات الحياة. ووجود هذا الايمان السليم يقتضي بالطبع أن نسلك طريقا سليما حتى نصل اليه، ونحققه في حياتنا كمسلمين افرادا وجماعات.
ومن هنا جاءت أهمية وضع هذا البحث في هذه الندوات الخمسة في رأس كل البحوث التي سنتابع بعون الله وتوفيقه ورعايته عرضها ومناقشتها …
واذا كنا نرجو شيئا من هذه العروض والمناقشات فانما نرجو ان تجذب نظر المسلمين بخاصة، وكل قارىء او مستمع لتسجيلاتها، باللغة العربية او ترجمتها للانجليزية، او اي لغة اخرى، بعامة، وذلك بهدف التدبّر والإلتزام، بحثاً عن خيري الدنيا والاخرة …
والله وحده الموفّق والهادي الى سواء السبيل ..
والحمد لله ربّ العالمين أولاً وآخراً …
rajaab
20-07-2005, 04:43 PM
عقيدة القضاء والقدر
الندوة الثانية
العرض:
بالوقوف عند العديد من الآيات الكريمة التي يستدل بها على مسألة القضاء والقدر نجد ان هناك مجموعة منها يستشهد به
عقيدة القضاء والقدر
الندوة الاولى
العرض:
بسبب علاقة مسألة القضاء والقدر بالعقيدة، كان لا بد من إعطاء الرأي فيها ومناقشتها بالطريق العقلي الذي أدرنا فيه الندوات السابقة للوصول الى الايمان السليم. وهو الطريق الذي يرفض اتباع البراهين الفلسفية والمنطقية القائمة على التجريد والتخيل وليس على الواقع المحسوس الملموس. وهكذا كان اثبات وجود الله سبحانه الخالق المدبر، الأساس الأول في الايمان، بالطريق العقلي المبني على المحسوس. وكان القرآن الكريم رسالة الله للبشر كافة، الأساس الثاني في الايمان، بالطريق العقلي المبني على المحسوس. وكان بالتالي محمد عليه السلام رسول الله للناس كافة، الأساس الثالث في الايمان، بالطريق العقلي المبني على المحسوس. وكانت المغيبات التي اشتمل عليها القرآن والسنّة المتواترة، الأساس الرابع في الايمان، بالطريق العقلي المبني على المحسوس. فلم يبق أمامنا من أسس الايمان الا موضوع القضاء والقدر. فلا بد أن يسلك فيه نفس الطريق العقلي المبني على المحسوس، ويرفض فيه كل تجريد منطقي او توهّم فلسفي لأن مردود ذلك كله الظن، والعقيدة لا يجوز ان تكون الا يقينية، ولا يوصل الى اليقين الا اليقين، وصدق الله العظيم القائل "إن يتّبعون الا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" – من آية 28 من سورة النجم-.
فهل مسألة القضاء والقدر مما طلب القرآن الكريم والسنّة المتواترة الايمان به؟ وكيف نشأت هذه المسألة وشكلت جزئية من العقيدة الاسلامية؟ وما هو الرأي اليقيني القاطع فيها الذي تطمئن اليه النفس ويقنع العقل ليكون جزءا أساسيا من العقيدة الاسلامية؟ أي كيف نشأت مسألة القضاء والقدر في الفكر ألا سلامي وأصبحت من أسس العقيدة الاسلامية؟ وهل يطلب القرآن الكريم والسنّة المتواترة من المسلمين الايمان بالقضاء والقدر؟؟ هذا ما تجيب عليه هذه الندوة.
بعد اتساع الفتوحات الاسلامية حصل اصطدام فكري عنيف بين المسلمين وأصحاب الأديان الاخرى بسبب ما كان لديهم من أفكار فلسفية. مما جعل المسلمين بحرصهم على الدعوة الاسلامية يتسلحون ببعض الأفكار الفلسفية ضد خصومهم. خاصة وان الإسلام يأمر بمجادلة خصومه "وجادلهم بالتي هي أحسن" – من الآية 125 من سورة النحل-، فظهر من جراء ذلك ما يسمى بعلم الكلام والمتكلمين. وهم الذين أخذوا يدافعون عن الإسلام بمنهجهم الخاص في البحث والتقرير والتدليل. وهو المنهج الذي يخالف منهج القرآن والحديث والصحابة، ويخالف في نفس الوقت منهج الفلسفة اليونانية. وجاءت مخالفته لمنهج الإسلام لأن القرآن سار على اساس الفطرة والعقل القائمين على المحسوس وليس التجريد المنطقي والخيال الفلسفي. وجاءت مخالفته لمنهج الفلسفة اليونانية لأن هؤلاء يعتمدون على البراهين العقلية فقط، بينما أراد المتكلمون ان يبرهنوا بالأدلة العقلية على إيمانهم بالله ورسوله وكتابه. فجاء خطأ هذا المنهج من كونه اعتمد في إقامة البراهين على الأساس المنطقي وليس الحسّي، فجاء مناقضاً للإسلام. ولا سيما أنه استند على البحث في ما وراء المحسوس، أي في ذات الله وصفاته. وقاسوا الله سبحانه في ذلك على الانسان، وهذا مستحيل لأنه تعالى "ليس كمثله شيء" – من آية 11 من سورة الشورى-، ثم لكونه اعتمد على العقل فقط في بحث الايمان كله، مع انه يجب ان يقف عندما يستند اليه عند المحسوس ولا يتجاوز ذلك الى المغيبات التي قصر العقل عن إدراكها. مما يوجب الاعتماد في الايمان بها على ما يقدمه القرآن والحديث المتواتر فقط. ثم كونه اتخذ من خصومة الفلاسفة أساساُ لبحثهم مع أنهم، أي المتكلمين، كان يجب ان يقفوا عند ما ورد في القرآن والحديث فقط ولا يلتفتوا لأي إنسان. وخلاصة القول انه كان لا بد لهم من اعتماد منهج القرآن وحده في الدعوة على الأساس الفطري- العقلي، وفي حدود البحث في المحسوسات فقط.
أما كيف نشأت مسألة القضاء والقدر لدى علماء الكلام، فذاك يتضح من استجابتهم لما طرحه عليهم خصوم الإسلام من أفكار من الفلسفة اليونانية، وتصدّيهم لبحثها ومناقشتها وإعطاء الرأي فيها. فسواء سميت هذه المسألة "القضاء والقدر" او "الجبر والاختيار" او "حرية الإرادة" فإنها من طرح الفلاسفة، وكلها بنفس المعنى، أي حرية او إجبار الانسان على ما يحدث من أفعال او يترك من أفعال.
فالأبيقوريون رأوا حرية الاختيار، والرواقيون رأوا جبرية الاختيار. وتصدّى المسلمون لهذه البحوث مستندين الى صفة العدل بالنسبة الى الله سبحانه. فبرز بحث المعتزلة كأصل في هذه المسألة، بينما جاءت البحوث الاخرى كردود عليه. فقد نزّهوا الله عن الظلم، فقرروا حرية الإرادة في الإنسان واختياره في القيام او عدم القيام بالفعل. وقاسوا الله على الانسان، وأخضعوه لقوانين هذا العالم كما فعلت الفلاسفة الإغريق. ثم استدلّوا على أقوالهم بالقرآن، وأوّلوا الآيات التي لا توافق رأيهم، فاستدلّوا بقوله تعالى "وما الله يريد ظلماً للعباد" – من الآية 31 من سورة المؤمنون-، وبآيات اخرى كثيرة. وأوّلوا أمثال هذه الآية "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة" – من الآية 7 من سورة البقرة-. وقالوا بأن الانسان يخلق أفعاله بنفسه. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى "كل نفس بما كسبت رهينة" – آية 38 من سورة المدثر-، وأوّلوا أمثال قوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون" – من الآية 96 من سورة الصافات- . كما قالوا بان الاعمال التي تتولد من اعمال الانسان كالألم من الضرب والقطع من السكين .. هي كلها من فعل الانسان وهي مخلوقة له.
ان رأي المعتزلة هذا قد أثار حفيظة المسلمين لجرأته في العقيدة. فانبروا يردون عليهم. فقالت الجبرية بعكس رأي المعتزلة تماماً، أي ان الانسان مجبور ولا إرادة له ولا قدرة على خلق أفعاله، وأن الله هو الذي يخلق الأفعال على يديه. واستدلوا بآيات كثيرة منها "وما تشاءون إلا أن يشاء الله" – الآية 29 من سورة التكوير-، ومنها "والله خلقكم وما تعملون" – الآية 96 من سورة الصافات-. وأوّلوا الآيات الاخرى المخالفة لرأيهم. كما قال أهل السنّة والجماعة بأن أفعال الإنسان كلها بإرادة الله ومشيئته. وعندما أحسّوا أنهم يرددون رأي الجبرية، أوّلوا معنى الإرادة والمشيئة بأن الله يريد الكفر من الكافر والفسق من الفاسق باختيار كل منهما وليس جبراً عنهما. كما أوّلوا معنى خلق الأفعال من الله على يد الانسان بأن الله هو الخالق للفعل ولكن الانسان هو الكاسب للفعل. وأوضحوا ذلك بقولهم ان الانسان يكسب عندما تتوجه إرادته وقدرته للفعل، ولكن الله يخلق الفعل الذي تتوجه اليه الإرادة في نفس الوقت الذي تتوجه فيه اليه. واستدلوا على رأيهم بنفس الآيات التي استدل بها الجبرية من مثل "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" – من الآية 286 من سورة البقرة -. أي استدلوا بذلك في مجال الكسب من العبد. وأما في مجال خلق الفعل عند قدرة الانسان وارادته فقد استدلوا بنفس الآيات التي قال بها الجبرية دون أي اختلاف. وبالرغم من انهم اعتبروا انفسهم انهم ردّوا على المعتزلة والجبرية، لكنهم في الحقيقة يلتقون من الجبرية تماماً. وحتى في مسألة الكسب لا دليل لهم عليها، لا من العقل ولا من النقل، لأنها محاولة توفيق بين المعتزلة والجبرية، ليس أكثر.
والمهم ان المتكلمين قد جعلوا موضع البحث في مسألة القضاء والقدر فعل العبد، وما يتولّد فيه من خاصيات بفعل العبد. وذلك من حيث إن كان فعل العبد وما يتولد عنه من خاصيات من خلق الله أم من خلق العبد؟ وهل حصل بإرادة الله أم بإرادة العبد؟ وانساقوا في ذلك وراء الفلسفة اليونانية. وبهذا تحددت مسألة القضاء والقدر بأنها مسألة أفعال العباد وخاصيات الاشياء التي يحدثها الانسان بفعله في الاشياء. أي ان القضاء هو ما يتصل بأفعال العباد، والقدر هو خاصيات الاشياء.
وبعد ضمور المعتزلة وغلبة أهل السنّة، مال النقاش الى جانب رأيهم. ولكن الآراء اختلفت بين المتناقشين. فقال بعضهم بأن القضاء والقدر لا يجوز البحث فيه بحجة ان الرسول عليه السلام قال "إذا ذكر القدر فأمسِكوا". وقال بعضهم بالفرق بين القضاء والقدر، وان القضاء هو الحكم الكلي في الكليات فقط، وأما القدر فهو الحكم الجزئي في الجزئيات. وقال بعضهم بأن القدر هو التصميم، والقضاء هو التنفيذ. وقال بعضهم بان القدر هو التقدير، واما القضاء فهو الخلق. ومنهم من جمع بين القضاء والقدر فجعل القدر الأساس، وأما القضاء فهو البناء فوق الأساس. ومنهم من فرّق بينهما. والمهم ان بحث القضاء والقدر قد صار مسألة في بحث العقيدة وركناً من أركانها. ولا بد من اتباع الطريق العقلي القائم على المحسوس في بحثها والوصول الى رأي قاطع بشأنها.
وعند العودة لما قاله المتكلمون في معنى كل من القضاء والقدر نجدهم قد ابتعدوا عن معانيهما في اللغة وفي النصوص الشرعية. فكلمة القضاء وكلمة القدر من الكلمات التي تحمل كل منهما عدة معانٍ. إذ نجد كلمة قضاء لغة تعني: قضى الشيء أي صنعه، وقضى بين الخصمين أي حكم، وقضى الأمر أي أمضاه. ونجدها شرعاً تعني: أبرم، وأمر، وحتم، وحكم. فلا وجود لمعانيهم ومنها حكم الله في الكليات او كما نرى من معاني القدر بأنه حكم الله في الجزئيات. كما نجد كلمة قدر لغةً تعني: دبَّر، وهيّأ، وقاس، وعظم، وقضى، وقسم، وضيق. ونجدها شرعاً تعني: نفس المعاني اللغوية. ونتبين من ذلك ان ما يقصد بكلمة القدر في جميع الآيات والأحاديث هو تقدير الله وعلمه، ولا علاقة لها بما أورد المتكلمون من معان. وأما قول الرسول عليه السلام "اذا ذكر القدر فأمسِكوا" فيعني اذا ذكر علم الله وتقديره للأشياء فلا تخوضوا في ذلك لأن ذلك من صفات الله التي يجب الايمان بها والتسليم بها ما دام سبحانه "ليس كمثله شيء" – من الآية 11 من سورة الشورى-، وكذلك قول الصحابة "كل شيء بقدر" يعني بتقدير من الله أي بعلم منه سبحانه. وقوله عليه السلام "قل قدّر الله وما شاء الله فعل" أي كتب الله في اللوح المحفوظ أي علمه.
وبالرجوع الى جميع المصادر الشرعية في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، نجد ان المسلمين لم يعرفوا في ذلك العصر ولا طيلة القرن الاول الهجري بحث مسألة القضاء والقدر ككلمتين مجتمعتين. وكل ما ورد هو وجود كلمة قضاء وحدها وكلمة قدر وحدها. فقد قال عليه السلام في دعاء القنوت: "واصرف عني شر ما قضيت، فانك تقضي ولا يقضى عليك" أي اصرف عني شر ما حكمت به. قال عليه السلام: "قل قدّر الله وما شاء الله فعل"، أي أن ذلك من تقدير الله وعلمه. وكل ذلك، مع ما ورد من معانٍ لغوية وشرعية للكلمتين، يؤكد ان هاتين الكلمتين لا علاقة لهما ببحث القضاء والقدر. وإنما يجب ان يُقتصَر فيهما على معانيهما اللغوية والشرعية، ونبذ تلك المعاني التي أضافها لهما الفلاسفة والمتكلمون. وبذلك تبقى كل منهما تحمل تلك المعاني اللغوية والشرعية الموقوفة عليهما. وأما موضوع القضاء والقدر، او مسألة القضاء والقدر، فهو أفعال العباد وخاصيات الاشياء. ولكن لا بد من تحديد أساس هذا البحث او المسألة، وبتحديد هذا الاساس يمكن الوصول الى النتيجة اللازمة لهذا الاساس دون تمحُّل ولا تخيُّل ولا توهُّم. وهذا يعني ضرورة أن تطرح تلك الآراء الفلسفية او المنطقية حولها، وخاصة أنه لم يرد اي نص شرعي يقول بأن هذه المسألة سرٌّ من أسرار الله. ثم لكون موضوع القضاء والقدر محسوساً، فيجب ان يبحث ويعطى فيه الرأي لأنه بحث عقلي محسوس الواقع، ولأنه يتعلق بالأيمان بالله، ولهذا فقد صار جزءا من العقيدة.
وعند التدقيق في هذه المسألة يظهر ان اساسها هو موضوع الثواب على الفعل والعقاب عليه، وليس أي شيء آخر. وسيظهر ذلك جليّاً في الندوات الثلاث التالية التي تغطي بحث هذه المسألة ومناقشتها.
المناقشة:
س- ما المقصود بالاصطدام العنيف بين المسلمين وخصومهم من أهل الديانات الاخرى؟
ج- هو الخروج على المسلمين ودولتهم بالسلاح، كما فعل القرامطة وغيرهم متأثرين بالأفكار الفلسفية البعيدة عن الإسلام. وأما الخوارج فهم مسلمون وخصومتهم لو لم تنتقل الى السلاح مع الدولة لبقيت أفكارهم حية في محيطهم محبطهم ما انتهوا اليه حديثا في سلطنة عمان.
س- ولكن القرآن الكريم يقول: "ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن"، فلماذا السلاح؟
ج- لم تستعمل الخلافة الاسلامية السلاح ضد الرأي الا عند الردّة، وهذا ما يفرضه الشرع، وعند الإفساد في الارض بقوة السلاح، وهذا ما يفرضه الشرع ايضاً.
س- كيف سار القرآن الكريم على منهج الفطرة والعقل بواقعه المحسوس؟
ج- لأن الفطرة تقرّ بوجود الخالق المدبر، والقرآن قد خاطبها واستثارها للإيمان اليقيني المرتبط بالحجج والبراهين العقلية المعتمدة على استنطاق الوقائع المحسوسة او المادية الحية وغير الحية، والتي تقرُّ كلها بأن لها خالقاً خلقها، ومدبراً يدبرها.
س- كيف يختلف منهج المنطق عن منهج القرآن الكريم؟
ج- المنطق يعتمد على المقدمات العقلية المجردة دون اي اعتبار للواقع المحسوس. فيقول مثلاً بأن كلام الانسان صفة له، والكلام مخلوق لأن الانسان مخلوق، ثم يصدر حكماً بأن القرآن الكريم لأنه كلام يعتبر مخلوقاً. وهذه نتيجة منطقية لا تستند الى المحسوس لأن القرآن الكريم قد ثبت بالدليل العقلي المبني على المحسوس بأنه كلام الله و صفة من صفاته. وهذا يرفض مثل تلك النتيجة المنطقية لأن الله تعالى "ليس كمثله شيء" – من الآية 11 من سورة الشورى-.
س- ماذا يعني قول الأبيقوريين بحرية الاختيار، و مَن تأثر بهم؟
ج- يعني ان الانسان حر في اختياره القيام بأي فعل او عدم القيام به، ولا توجد اي سيطرة على إرادته في ذلك من أحد في جميع أفعاله وتصرفاته. وقد تأثر المعتزلة بهذا الرأي وأخذوا يرددونه بحر فيته.
س- ماذا يعني قول الرواقيين بجبرية الاختيار، و مَن تأثر بهم؟
ج- يعني ان الانسان مجبور في القيام بأي فعل وفي ترك أي فعل، ولا يملك اي إرادة ولا مشيئة في القيام بأفعاله او تركها، فهو كالريشة في مهبّ الريح .. وقد تأثر الجبرية بهذا الرأي وردّدوه بحر فيته.
س- كيف استند المسلمون الى صفة عدل الله في مخاصمتهم الفكرية للمتكلمين والفلاسفة؟
ج- استندوا الى ذلك بقولهم بأن الله تعالى عادل، وعدله مطلق، ولا يوقع الظلم بأحد. ولذلك قال المعتزلة بحرية الاختيار في القيام بالفعل والترك على اساس ان الانسان يتحمل مسؤولية أفعاله، أداءاً وتركاً، وقد رفضوا رأي الجبرية لأنهم رأوه يتناقض مع عدل الله. وأما الجبرية فقد أوّلوا النصوص لتتناسب مع معنى العدل الذي نسبوه الى الله تعالى قياساً على العدل البشري.
س- لماذا ينظر الى المتكلمين على أنهم لم يراعوا الثواب والعقاب مع انهم راعوا صفة العدل الإلهي؟
ج- لأنهم انساقوا في آرائهم وراء أفكار الفلاسفة، وحاولوا ان يجدوا أدلّة شرعية تدعم آراءهم. فلم يكن القرآن اساس البحث بل كانت آراء الفلاسفة اليونانيين هي الأساس، وما كان الرجوع الى القرآن الكريم الا لتبرير آرائهم.
س- ألا تعتبر مناقشة مسألة القضاء والقدر انسياقاً وراء و ردّ فعل على آراء الفلاسفة؟
ج- لمعرفة اساس هذه المسألة لا يعتبر بحثها للوصول الى نتيجة قطعية انسياقاً وإنما لوضعها في موضعها الصحيح. مما يجنّب العقيدة الاسلامية هذا المنزلق الخطر، ويقي المسلمين شر هذه الفتنة. أما أن المناقشة رد فعل فهذا صحيح اذا نظرنا للأمر على انه مجرد مناقشة لمسألة سابقة. ولكن عندما ينظر للمسألة كبحث عقلي يدخل في العقيدة، ولا يجوز تركه دون إعطاء الرأي فيه، ليحدد الموقف منه، فان كونها رد فعل لا ينتقص من المناقشة والبحث شيء، لأنه سيكون من ردود الفعل الواجبة، لأن موضوعه العقيدة، وهي اساس كل الأفكار والأحكام، ومن الواجب تبعاً لذلك أخذ العقيدة بشكل سليم. والمناقشة هي التي تحقق الواجب، فكانت واجبة لأنه ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب.
س- من أين اعتبرنا أساس موضوع القضاء والقدر عقليا بواقع محسوس؟
ج- لكون الاساس مرتبطاً بأفعال الانسان، وهي واقع محسوس، وبخاصيات الاشياء، وهي واقع محسوس، وبالثواب والعقاب المرتبط بالقيام بالأعمال آو تركها، وهو واقع محسوس.
rajaab
20-07-2005, 04:50 PM
عقيدة القضاء والقدر
الندوة الثانية
العرض:
بالوقوف عند العديد من الآيات الكريمة التي يستدل بها على مسألة القضاء والقدر نجد ان هناك مجموعة منها يستشهد بها الكثيرون على اساس ان الانسان مجبور على القيام بأعماله بإرادة الله ومشيئته، وأن الله سبحانه هو الذي يخلق فيه أعماله. فهم لا يكتفون بما تدل عليه أمثال هذه الآيات من أن الأجل بيد الله "وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله كتابا مؤجلا" – الآية 75 من سورة آل عمران-، وبهذه الآية "ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" – الآية 34 من سورة الأعراف-، ولكنهم يستدلون بغيرها على جبرية الاعمال مثل "ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرئها، إن ذلك على الله يسير" – الآية 32 من سورة الحديد- وقوله تعالى "قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" – الآية 51 من سورة التوبة-، وقوله تعالى "لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين" – الآية 3 من سورة سبأ-، وقوله تعالى "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم ببعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم اليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون" – الآية 60 من سورة الأنعام-، وقوله تعالى "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا" – الآية 28 من سورة النساء-، وقوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون" – الآية 96 من سورة الصافات- … ويحاولون ان يدعموا رأيهم بأحاديث شريفة من مثل قوله عليه الصلاة والسلام "نفث روح القدس في روعي: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها وما قُدِّر لها".
فبهذه النصوص، وأمثالها كثير، يستدل الجبريون على ان الله تعالى هو الذي يخلق العبد ويخلق أفعاله، فهو مجبور على أفعاله وليس له اي اختيار. وعلى النقيض من الجبريين، رأى المعتزلة ان الانسان هو الذي يخلق أفعاله وليس لأحد تدخّل في إرادته، فهو الذي يتحمل مسئوليتها والمحاسبة عليها. وبين هذين الرأيين رأى أهل السنّة والجماعة رأياً ثالثاً، وهو ان للإنسان نصيب اختياري في اعماله يحاسَب عليه.
فما هو مدى الدقة والصحة في مسألة القضاء والقدر في هذه الآراء الثلاث؟؟
حتى نعرف ذلك لا بد ان نعرف اساس بحث هذه المسألة:
هل هو كون الانسان يخلق فعله، أم الله هو الذي يخلقه، أم هل هو كون الله يعلم بأن الانسان سيعمل عمله ويحيط علمه به، أم هل هو تعلّق إرادة الله بفعل الانسان وأنها تفرض وجوده، أم هل كون فعل الانسان مكتوباً في اللوح المحفوظ وأن هذه الكتابة تلزم بالقيام به؟؟؟
وباختصار: هل اساس بحث مسألة القضاء والقدر هو قدرة الله على ايجاد الانسان وفعله، او علمه المحيط بكل شيء، او إرادته المتصلة بجميع الممكنات، او احتواء اللوح المحفوظ لكل شيء؟؟؟
عند التدقيق في هذه المسألة يظهر ان اساسها ليس ذلك كله، لأنه لا بد ان يتصل الاساس بموضوع الثواب على العمل والعقاب عليه، لأنه يحدد من يتحمل مسئولية القيام بالفعل: أي القيام بالعمل سواء كان خيرا او شرا: هل الانسان ملزم عليه او مخير فيه، بمعنى: هل لدى الانسان الاختيار في القيام بأي عمل او تركه، او انه مجبر على ذلك سواء كان العمل خيرا او شرا؟؟؟
والآن لنتفحص دور الانسان وصلته بالأفعال التي تقع منه او عليه لنرى مدى مسئوليته عن القيام بها وتحمّله الحساب عليها، فنجد ان هناك نوعين من الاعمال:
نوع يقوم به باختياره، والنوع الآخر يقوم به او يقع عليه دون اختياره.
أما الأفعال التي تجري باختياره فهي مجموعة الاعمال التي يسيطر عليها ويقوم بها بإرادته، آو تتم بتدخّله، سواء كان في اطار شريعة الله او غيرها، وهي قسمان:
القسم الاول: هو تلك الاعمال التي يقوم بها لإشباع جوعا ته الغريزية والعضوية بصورة مباشرة، مثل إشباع غريزة التدين بالصلاة، وإشباع غريزة البقاء بالتملك، وإشباع غريزة النوع بممارسة الجنس، وإشباع جوعة المعدة بالأكل … وهكذا.
والقسم الثاني: هو تلك الاعمال التي يقوم بها لتحقيق هذا الإشباع بصورة غير مباشرة عندما يضع او يتبنى تشريعات معينة ينظم بها إشباع كل جوعة من جوعا ته بشكل معين. سواء كانت هذه التشريعات يضعها بعقله وتفكيره او يتبنّاها من تشريعات وضعية او تشريعات ربانية.
وفي كلا القسمين نجد ان الانسان يقدم على العمل في اي وقت يشاء ويمتنع عنه في اي وقت يشاء، ولا يوجد اي تدخّل خارجي في إرادته عند القيام بالعمل او الامتناع عنه.
وأما الأفعال التي تجري دون اختياره فهي مجموعة الاعمال التي لا يسيطر عليها ولا دخل لإرادته في وقوعها او في دفعها عند وقوعها، وهي ايضا قسمان:
القسم الاول: هو الاعمال التي تدخل ضمن نظام الوجود من كون وانسان وحياة. فالشخص يعيش ويعمل في هذا الوجود وفق النظام المخصوص الذي يسير عليه الوجود. فالجاذبية مثلا تحكم حركته في هذا الكون، وجوعاته تحكم سعيه للإشباع كانسان، وأطوار نموه تحكم حركته في الحياة. فأعمال نظام الوجود كلها تجري دون اختياره وإرادته، وهو مجبور على مراعاتها والسير وفقاً لها دون اختيار. فلا يستطيع بحكم الجاذبية أن يطير في الهواء دون التغلب بوسيلة ما على ذلك، ولا يستطيع ان يتدخل في مجيئه الطبيعي الى هذه الدنيا او ذهابه منها. ولا أن يحدد لنفسه شكل جسمه او لونه. فكل ذلك لا أثر له كفرد مخلوق في اي شيء منه، لأن الله سبحانه هو الذي خلق نظام الوجود، وجعله على حال ينظم ويدبر هذا الوجود بشكل ثابت ودائم.
والقسم الثاني: هو الاعمال التي لا تدخل ضمن نظام الوجود ولكنها تقع من الانسان دون إرادته واختياره. كأن يطلق النار بقصد وإرادة صيد طير، ولكنها تقتل خطأً شخصاً آخر لا علم له بوجوده. أو كأن يسقط شخص وهو نائم من فوق عمارة على شخص آخر فيقتله. هذا من ناحية ان تقع الاعمال من الانسان دون إرادته، وأما أن تقع عليه ولا يملك دفعها، فكالمقتول في الصيد او تحت العمارة وأمثالهما.
نلاحظ في كلا القسمين ان الانسان واقع تحت سيطرة هذه الأفعال ولا إرادة له ولا مشيئة لا في وجود أفعال القسم الأول التي تدخل ضمن نظام الوجود، ولا في وقوع او دفع أفعال القسم الثاني التي لا تدخل ضمن نظام الوجود. وهذه الأفعال بقسميها هي التي يطلق عليها اسم "القضاء". ذلك لأن الله سبحانه هو وحده الذي قضاها، أي أمر بوجودها او بوقوعها دون أي صلة او تدخّل من الانسان. وهذا يخرج العبد من دائرة المسؤولية تماماً عن هذه الأفعال سواء ألحقت بالإنسان نفعاً آو ضراً، وسواء أحبها أم كرهها، أي سواء فسرها الانسان حسب قدرته العقلية الناقصة وعلمه المحدود بالخير او بالشر. وهذا القضاء مطلوب من الانسان ان يؤمن به من أنه من الله سبحانه وتعالى ما دام قد آمن به تعالى كخالق ومدبر وليس مجرد خالق فقط.
المناقشة:
س- هل يدخل الموت والأجل في مسألة القضاء والقدر مع انه ليس من أفعال الإنسان؟
ج- نعم يدخل. لأنه فعل مادي يقع على الانسان، ولا بد من تحديد مدى مسئوليته عنه، وهذا هو صلب مسألة القضاء والقدر.
س- هل تدخل الكتابة الواردة في الآيات الكريمة في مسألة القضاء والقدر مع أنها منسوبة الى الله سبحانه وتعالى؟
ج- نعم تدخل. وذلك من ارتباطها بالأفعال التي تقع من الانسان او عليه، وهذه لا بد من معرفة المسؤول عنها كما أسلفنا.
س- كيف يدخل علم الله في مسألة القضاء والقدر؟
ج- يدخل من باب صلة اعمال الانسان به، ومن كونه سبحانه يحيط علمه بكل شيء وكل فعل قبل وجوده وبعده. فلا بد من معرفة مدى تأثير هذا العلم على الاعمال الإنسانية ليحدد مدى مسؤولية الانسان عنها.
س- ماذا تعني الآية الكريمة التي تقول بأن الحسنة التي تصيب الانسان من عند الله وكذلك السيئة؟
ج- تعني ان الله سبحانه الخالق المدبر قادر على كل شيء، وأن من قدرته المطلقة أنه خلق الانسان بهذا الشكل، ومن تدبيره له أنه وضع له هذا النظام. فلو وقع عليه فعل وفسّره بالحسن او بالسيئ بحسب ما ينتفع به او يتضرر منه فان هذا الفعل من الله، مع أنه من القضاء الذي لا دخل للإنسان به و لا إرادة له بوقوعه و لا قدرة له على دفعه.
س- ما الخطأ في رأي الجبريين والمعتزلة وأهل السنّة، وهم كلهم يحاولون تحديد صلة الانسان بأفعاله ومسئوليته عنها؟
ج- الخطأ في ذلك كله أنهم توقفوا عند قدرة الله على الخلق، وعلمه سبحانه بالأشياء والأفعال، وكتابة هذه الأفعال في اللوح المحفوظ، وإرادة الله ومشيئته المتعلقة بهذه الأفعال. فحصروا موضوع الأفعال في صلتها بالإنسان من حيث كيفية إيجادها في الواقع او وقوعها او دفعها اذا وقعت. ولم يلاحظوا صلة هذه الأفعال بالثواب والعقاب عليها. ولو لاحظوا ذلك وأدخلوه في حظيرة الايمان لما وقع الجبريون فيما قالوا، والذي يعني في النهاية عدم عدل الله جل وعلا عندما يوزع الناس جبراً عنهم بين الجنة والنار لأنهم، كما يقول الجبريون، لم يكونوا مسؤولين عن اعمالهم. ولما قال المعتزلة ما قالوه، والذي يعني في النهاية شطب وإنكار الكثير من النصوص الشرعية التي تقرر أن الانسان تقع منه او عليه أعمال لا يتحمل مسئوليتها، ناهيك عن وجوده هو أصلاً وفنائه. ولما قال أهل السنّة والجماعة ما قالوا، والذي يعني في النهاية أنهم راعوا آراء الطرفين السابقين وردّوا عليهما لا برأي بديل، وإنما برأي يجمع بينهما. بينما الواجب ان يحددوا أصل مسألة القضاء والقدر ويجعلوه حكما لهم وعليهم.
س- لكن أصل هذه المسألة كما ورد في العرض هو مسؤولية الانسان عن الأعمال، وهذا ما قالته الأطراف الثلاثة المذكورة؟
ج- تحدثت الاطراف الثلاثة عن المسؤولية من حيث الخلق والإيجاد للأعمال، وليس من حيث الثواب والعقاب عليها، ولو راعوا ذلك لما قالوا ما قالوه.
س- ولكنهم قالوا بالمحاسبة على هذه المسؤولية، وهذا يعني الثواب والعقاب؟
ج- لو تجاوزنا قول الجبرية الذي لا معنى للمحاسبة فيه ما دام الانسان مجبورا على كل أفعاله ولا إرادة له فيها، وأتينا للطرفين الآخرين لوجدناهما أشارا الى المحاسبة ولكن ليس من باب أساس بحث المسألة لأنهم جعلوا الاساس مسؤولية ايجاد الفعل في الواقع او تركه. فكانت الإشارة إلى المحاسبة نتيجةً وليس أساساً، هذا بالاضافة الى ان موضوعها ايجاد وخلق الفعل وليس الثواب او العقاب عليه.
س- ما الفرق بين الاعمال التي يقوم بها الانسان بإرادته والتي يتدخل فيها فقط؟
ج- الفرق ان التي يقوم بها بإرادته هي التي يقوم بها بنفسه وبكامل إرادته واختياره، وأما تلك التي يتدخل فيها فقط فهي التي يقوم بها غيره، وما تدخله هو بانجازها الا من باب اشتراك إرادته مع إرادة غيره في ذلك.
س- لماذا القول بالتدخل في ارادة الانسان؟
ج- لأنه قد يقول قائل او يتصوّر شخص أن هناك تدخلاً داخلياً في إرادة الانسان من باب كونه، كما تقول الجبرية، مخلوقاً بشكل يجعل إرادته ملكاً لفطرته وطبيعته.
س- ماذا يقصد بنظام الوجود؟
ج- نظام الوجود هو النظام الذي وضعه الخالق سبحانه لمخلوقاته من كون وانسان وحياة. وذلك بأن خلق كلا منها ووضع لها نظاما وتدبيرا يسير عليه ولا يتخلف عنه. فمثلا: كل جرم من أجرام الكون يسير في فلك معين وفقا لما يسمى بالناموس العام للوجود. وكل مادة في هذه الأجرام لها مميزاتها عن غيرها. وكذلك الانسان: خلقه الله على هذا الشكل ووضع فيه أعضاء ودبّر كل عضو بنظام خاص به في اطار نظامه العام او ناموسه الكلي. وكذلك الحياة: فقد خلقها الله تعالى في الكائنات الحية مرتبطةً بسرّها بحيث تتوقف اذا فقدت هذا السرّ وهو الروح، ووضع لها نظاما تجري عليه مع وجود هذه الروح، فينمو الكائن ويتكامل وينضج مدى ما تبقى فيه الروح، ويتوقف ويرمّ بمغادرتها له، كما يتحرك بالقدر المحدد له ما دام حياً. هذا هو الوجود: الكون والانسان والحياة، وهذا هو نظامه.
س- ولكنك تحصر الحديث عند الانسان في مكونات الوجود وتتجاوزه الى الأحياء الاخرى عند البيان؟
ج- لأن الانسان وهو أكمل المخلوقات، كما قال خالقه سبحانه "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم" – من سورة التين- يمثل ما ينطبق عليه ما هو دونه في الكمال من الأحياء.
س- ما دام يمكن للانسان أن يتغلب على الجاذبية فيطير في الهواء بالطائرة مثلا، فلماذا نعتبر نظام الوجود في هذه الناحية إجبارياً؟
ج- القول بأن الانسان مسيَّر ومجبور على اعماله في اطار نظام الوجود يعني ان الانسان بجسمه الطبيعي مجبور على المشي على الارض ولا يستطيع الطيران، ولكنه لو أخذ بالطائرة فانه أخذ بجانب آخر ليس من نظام الوجود وإنما من أفعال الانسان التي يقوم بها في هذا الوجود وهو الطيران بغير جسمه الطبيعي. وأخذه هذا ليس من الجبرية وإنما من الإرادية الموجودة لديه، وذلك باستخدام ما تسمح به السنن الكونية.
س- ماذا يعني أن الانسان لا يتدخل في مجيئه الطبيعي الى هذه الدنيا او ذهابه عنها؟
ج- ذلك يعني ان عملية ولادته وموته لا دخل له فيهما ما دامت بالشكل الطبيعي، وأنهما في حق الانسان من القضاء المسيّر له او المسيّر فيه.
س- لماذا اقتصر أمر الله بوجود او وقوع الافعال على القضاء، مع ان كل الافعال لا تخرج عن أمر الله؟
ج- لأن اعمال القضاء سمّيت كذلك بسبب أنها توجد او تقع دون أي تدخّل إرادي او أي اختيار من الانسان. بينما اعمال الانسان الإرادية توجد او تقع بتدخّل الانسان ومشيئته وإرادته، وإن كان ذلك ليس جبراً عن الله تعالى.
س- هل يعني وجود الاعمال او وقوعها أن الخير او الشر من الله تعالى؟
ج- نعم، طالما كان التفسير الانساني للخير او الشر بحسب ما يصيبه منها من النفع او الضرر. وأما هل هذا التفسير الانساني صحيح او خطأ، فذاك تابع لله تعالى الذي يوجد الافعال او يوقعها اذا كانت قضاءا وقدرا، او يأذن بذلك دون سلب إرادة الانسان اذا كانت ارادية. والله تعالى يقول "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" – من الآية 19 من سورة النساء-.
س- ما معنى الايمان بالقضاء؟
ج- معناه أن يؤمن المسلم بأن كل عمل يقع منه او عليه جبراً عنه أنه من الله تعالى، ويمضي في سبيله صابراً محتسباً مهما أصابه من ضرر او نفع، عملا بقوله تعالى "فلا تذهب نفسك حسرات عليهم" – من الآية 8 من سورة فاطر- وقوله تعالى "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" – من الآية 23 من سورة الحديد-.
س- لماذا قسمت أعمال الانسان غير الارادية الى قسمين: أحدهما ضمن نظام الوجود، والأخر ليس ضمنه مع أن الاعمال الانسانية كلها تجري في هذا الوجود؟
ج- نعم إن اعمال الانسان تقع كلها في هذا الوجود، ولكن تبعاً لطبيعة كل عمل. فلا بد من هذا التقسيم إذ نجد بعض الاعمال الارادية كتلك التي يحكمها نظام الوجود تختلف عن تلك التي لا تخضع له.
س- هل يمكن بيان الخيط الرفيع الذي يربط بين إرادة الله والقضاء؟
ج- إرادة الله سبحانه تعني أنه لا يوجد شيء ولا يقع فعل في هذا الوجود بعيداً عن او ضد إرادة الله ومشيئته، وهذا يعني ان الله سبحانه وتعالى قادر على التدخل في أية لحظة لمنع استمرار او حتى وجود اي فعل، ومنع وجود اي شيء او استمرارية وجوده. وهذه هي إرادة الله ومشيئته. وأما القضاء فانه ذات التدخل الفعلي من هذه الارادة والمشيئة الالهية في اية لحظة سواء في ايجاد الشيء او وقوع الفعل من الانسان او عليه. وهكذا يظهر ان الخيط الرفيع بين إرادة الله سبحانه و القضاء هو وجود صفة الارادة لديه سبحانه، وأنه لا يقف دون تدخّلها في اية لحظة أي شيء او فعل من الانسان.
rajaab
20-07-2005, 04:55 PM
عقيدة القضاء والقدر
الندوة الثالثة
العرض:
وقفنا في الندوة السابقة حول هذه المسألة على موضوع القضاء وأنه كل الافعال التي توجد او تقع، سواء كانت ضمن نظام الوجود أم لا، دون أن يكون للانسان أي دخل فيها و لا ارادة له في وقوعها او دفعها، وهو مسيّر فيها، ولا يملك جلبها او دفعها. ونقف الآن على موضوع القدر.
إننا عندما نرى الأفعال القضائية او الإرادية، أي التي تسيطر على الانسان او التي يسيطر عليها، لا تقع الا من أشياء و على أشياء من مادة الكون والانسان والحياة، ندرك ان الأفعال كلها مادية، وأن الناموس العام الذي خلق الله تعالى الوجود عليه هو الذي يمكّن من وجود او وقوع هذه الأفعال من الاشياء، فماذا في هذه الاشياء؟
لو دققنا في كل شيء لوجدنا أنه قد اختص بميزة لا توجد لدى غيره. وأن هذه الميزة او الخاصية هي التي تمكّنه من وقوع الفعل منه او عليه. وأن الله تعالى الذي خلق نظام الوجود هو الذي خلق لكل شيء ميزته الخاصة. فخاصية الإحراق في النار، وخاصية الاحتراق في الخشب، وخاصية القطع في السكين، وخاصية الانقطاع في اللحم، كلها خواص خلقها الله تعالى في هذه الاشياء وجعلها حسب نظام الوجود ملازمة للأشياء و لا تتخلف عنها. ولو تخلفت لكان ذلك بسبب تدخّل الخالق المدبر سبحانه مباشرة، وهو أمر خارق للعادة، كما حصل لكل الأنبياء وكان من معجزاتهم. فالنار ما كانت لتترك ابراهيم عليه السلام وقد ألقي فيها دون أن تحرقه ويحترق هو فيها لولا تدخّل الله سبحانه وأمره تعالى لها "يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم". وخاصية السيولة في الماء، وخاصية التجمد في الثلج، هما خاصيتان لا تتخلفان الا بمعجزة لنبيّ، فقد أنشق ماء البحر وظهر كأنه تجمّد معجزة لموسى عليه السلام "فأوحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم".
هذا بالنسبة للأشياء الكونية، وما خلق الله سبحانه لها من خواص لا تتخلف. وأما بالنسبة للأشياء البشرية من دماغ وغرائز وأعضاء اخرى، فقد خلق الله لكل منها خاصية معينة ايضاً، وجعلها ملازمة لها حسب نظام الوجود. فالدماغ خلق فيه خاصية التفكير، وغريزة النوع خلق فيها خاصية الميْل الجنسي، وغريزة البقاء خلق فيها خاصية حب الذات، وغريزة التدين خلق فيها خاصية الميْل للتقديس. وجعل لكل خاصية من هذه الخاصيات مظاهر متعددة تظهر فيها في الواقع لتؤدي مهمتها في الحياة. وهذه الخاصيات في الغرائز والاعضاء، وتلك في الأشياء، خلقها كلها الخالق المدبر سبحانه، وقدّر فيها خاصياتها المميزة لكل منها، و لا أثر للانسان في ذلك. الأمر الذي يفرض على الانسان المسلم بالذات أن يعتقد صادقاً ويؤمن مخلصاً بأن الله تعالى وحده هو الذي قدّر هذه الخاصيات في كل الأشياء خارج الانسان و داخله.
والسؤال الآن: الى أي مدى تُلزم هذه الخاصيات الانسانَ على أن يقوم بها بأعمال معينة؟ بمعنى هل من طبيعتها أن تجبر الانسان على ان يقوم بها بأعمال محددة دون غيرها فيكون مسيَّراً لا مختاراً ؟
عندما نقرأ قوله تعالى في سورة الشمس –الآيات من 7 الى 10 – "ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد افلح من زكاها، وقد خاب من دسّاها" ندرك ان الخالق المدبر سبحانه عندما خلق النفس البشرية، وسوّاها في أحسن تقويم، ألهمها أي خلق فيها القدرة على الفجور والقدرة على التقوى. أي أنه سبحانه جعل بتدبيره الحكيم للانسان في غريزة التدين الخاصية المميزة لها وهي القدرة على أن تفجُر وتعصي الأوامر الالهية فتكون أعمالها شراً، او تتقي وتطيع أوامر الله فتكون أعمالها خيراً. فلم يكن إلهامه سبحانه للنفس وتدبيره لها بسلب استطاعتها الاختيار بين الشر والخير وإنما بوضعه في أعماقها. ولذلك نجده تعالى يحمّل النفس الانسانية مسؤولية ما يصدر عنها من اعمال. فيرتب الفلاح والخير عندما تقدم على الاعمال الطيبة، كما يرتب الخيبة والشر عندما تقدم على الاعمال السيئة. ففي الخاصيات التي أودعها الله سبحانه في الاشياء والغرائز والاعضاء البشرية القابلية على ان تدفع الانسان ليقوم بأعماله وفقاً لأوامر الله او مخالفة لها دون أن تجبره على عمل معين او محدد بالذات. وإنما تدفعه فقط لاستخدام الأشياء تبعاً لما في الواحد منها من خاصية، وللاستجابة للغريزة او حاجة العضو تبعاً لما في هذه او تلك من خاصية مميزة. وبهذا يظهر جلياً أن الخاصيات لا تفرض على الانسان أي عمل من باب الإجبار او الإلزام وإنما دورها يبقى محصوراً في مجال الدفع للإشباع ليس غير.
صحيح أن خاصيات الأشياء والغرائز والأعضاء البشرية ملازمة لها بشكل لا يمكن أن تنفكّ عنها ولا تتخلف، بحيث يظهر أثرها على نتيجة كل فعل يصدر عن الانسان. ولكنها تبقى دائماً طوع بنان الانسان ليستعملها متى شاء. فهو الذي يوجِد العمل بها، وهو الذي يمتنع عن ايجاده. فغريزة النوع بما فيها من خاصية الميْل الجنسي تقدم للانسان مجال استعمال هذا الميْل عندما يدفعه لإشباعه. ولكن هذا الميْل، وما فيه من دافع، لا يفرض على الانسان ان يشبعه بشكل دون آخر. لأن في هذا الميْل القابلية للإشباع بأكثر من شكل، أي فيه القابلية ليفسح للانسان المجال لاستعمال عدة خيارات. فهو كميْل، ملازمٌ للغريزة، ولكنه عند الدفع للإشباع، لا يُلزم صاحب الغريزة بالإشباع حسب اوامر الله او مخالفاً لها. فالانسان الذي يحمل الغريزة كطاقة حيوية ملازمة لها خاصية الميْل للإشباع، هذا الانسان هو الذي يُحدث الاعمال للإشباع سواء كانت خيرا او شرا.
ولكن كيف تتخذ هذه الاعمال للإشباع شكل الخير او الشر ؟؟ سؤال نجيب عليه فيما يلي:
إن الله سبحانه وتعالى كما خلق في الغريزة خاصية الميْل لإشباعها، وجعل في هذا الميْل القابلية للاشباع بطريق الخير او الشر، خلق للانسان العقل وقدّر فيه خاصية التمييز والإدراك، فقال "وهديناه النجدين" أي جعلنا فيه القدرة العقلية لإدراك طريقي الخير والشر .. فعندما تدفعه الغريزة او حاجة العضو للإشباع يتولى العقل بتمييزه بين الخير والشر ضبط وتوجيه الاستجابة للإشباع. فإن كان صاحب العقل يختزن في عقله عقيدة الاسلام، وما تفرضه من حلال وحرام، فانه يوجه الاستجابة وفق أوامر الله ونواهيه. وإن كان يختزن عقائد اخرى فانه يوجه الاستجابة وفقاً لما تراه من أوامر ونواهي. فصاحب العقل هو الذي يُحدث فعل الإشباع سواء كان حلالاً او حراماً وفقاً لخياراته العقلية. أي أن عملية إختزان المعتقدات بجميع انواعها في العقل هي عملية يُجريها الانسان بإرادته واختياره وقناعته ثم يختزنه ليتخذه ضابطاً وموجّهاً في إشباعاته. وعليه فان التمييز بين الخير والشر كخاصية للعقل قدر ملازم له، ولكن فعل الخير والشر يقرره صاحب العقل فقط، وما خاصية التمييز الا عوناً له لتعريفه بالطرق والخيارات المتوفرة أمامه.
ولكن اين دور المشاعر في هذا الضبط والتوجيه؟
للجواب على ذلك نقول: ان المشاعر هي الميول والدوافع، فتبقى على فطرتها تتجه نحو خالقها حتى يتدخل الانسان بما يختزنه من عقائد في عقله. فإما ان يستجيب للفطرة فيشكّل مشاعرها بما يقتنع العقل به من عقائد صحيحة، فتكون مشاعر اسلامية، او بعقائد اخرى غير اسلامية. ثم تتركز هذه المشاعر، مع طول الممارسة، وتشكل نفسية صاحبها على وصف معين بقدر ما يحرص على الترابط بين مفاهيم معتقداته وميول غرائزه وحاجاته.
المناقشة:
س- هل يمكن ان تذكرنا بمفهوم القضاء؟
ج- القضاء كلمة سواء صاحبت كلمة القدر أو انفصلت عنها فإنها تعني في بحثنا العقيدة الاسلامية شيئاً آخر غير ما عرف لها من معانٍ لغوية او شرعية. فهي تعني كل الأفعال التي تقع من الانسان او عليه دون إرادته واختياره، سواء كانت ضمن نظام الوجود أم لا.
س- ما معنى ان الانسان لا يملك دفع فعل القضاء؟
ج- معناه انه عندما يوشك فعل القضاء ان يقع على الانسان فانه لا يملك القدرة والخيار لدفعه.
س- هل هناك من تمييز بين ملكية القدرة وملكية الخيار لدفع الفعل؟
ج- نعم. إذ أن ملكية القدرة تعني ان يكون الانسان الذي يوشك الفعل ان يقع عليه قادر على دفعه، وأما ملكية الخيار فتعني ان يكون لديه إمكانية اختيار الدفع او عدم الاختيار. فقد يكون الانسان قادراً على الدفع ولكنه لا يملك القدرة، فهما أمران مختلفان متمايزان.
س- ما المقصود بكلمة مادة بالنسبة للشيء هنا؟
ج- المادة هي كل طاقة سواء كانت ظاهرة ولها حيّز نحسّه ونلمسه أو خفية نعرف وجودها من آثارها كالهواء والمغناطيس والكهرباء.
س- هل كل شيء له خاصية واحدة لا تتعدد، أم يمكن للشيء ان تكون له عدة خواص؟
ج- نعم يمكن للشيء ان تكون له عدة خواص. فالماء فيه خاصية السيولة وخاصية التبخر وخاصية التجمد وذلك تحت درجات حرارة مختلفة. ولكل خاصية من هذه الخواص مظاهر متعددة تظهر فيها. فالسيولة تظهر بالجريان وبالحركة البطيئة او السريعة، حسب الانحدار، وبالسماح للأجسام الاخرى ان تخترقها او تختلط بها، وبالاستطراق، وغيرها.
س- أين الأفعال الروحية اذا كانت اعمال الانسان كلها مادية؟
ج- الناحية الروحية في الأفعال شيء وطبيعة الأفعال شيء آخر. فأي فعل يجري بين شيئين في هذا الوجود هو فعل مادي لأن أشياء هذا الوجود مادية. ولكن كون الانسان يراعي الحلال والحرام عند القيام بالفعل فانه يراعي الناحية الروحية في الاشياء من كونها مخلوقة لله، وأن خالقها سبحانه يأمر بأفعال معينة عند استعمالها. وهذا ما يطلق عليه مزج المادة بالروح، أي جعل الفعل موجّهاً ومسيّراً بالناحية الروحية. فالفعل مادي، ومراعاة الناحية الروحية هي الروح. ولا يوجد فعل روحي. وإنما يوجد فعل يمزج بين المادة – وهي طبيعة الفعل – والروح – وهي الحرص على الناحية الروحية في أشياء الفعل.
س- ما دامت خاصيات الاشياء ملازمة لها ولا تتخلف عنها، لماذا لا نقول وهي القدر أن القدر جبري؟
ج- الخاصية كقدر ملازم للشيء يجبرنا على استخدام هذا الشيء وفقاً للخاصية .. هذا صحيح، ولكن أن نستخدم هذه الخاصية في حلال او حرام فلا يوجد جبر لنا في ذلك. وإنما نحن بتمييز عقولنا نستخدم مثلاً خاصية القطع التي تلازم السكين في عمل خير كقتل عدو او في عمل شر كقتل غير عدو. فبإرادتنا نفعل هذا الفعل او ذاك ودون إجبار من الخاصية، وإنما هو مجرد استخدام إرادي لهذه الخاصية بهذا الشكل او ذاك.
س- وخاصيات الغرائز وحاجات الاعضاء التي لا تتخلف عنها، لماذا لا نعتبرها قدرا جبريا؟
ج- لأنها هي ايضاً لا تفرض ولا تلزم ولا تجبر الانسان على استخدامها بشكل دون آخر. وإنما هي فقط تيسّر له هذا الاستخدام، وتترك له كامل الخيار في نوعية هذا الاستخدام. فغريزة التدين لا تفرض خاصيتها بالميل التعبدي على الانسان ان يعبد هذا المعبود او ذاك وإنما فقط تدفعه للعبادة. وهو الذي يقرر ماذا يعبد، وكيف يعبد، بناءا على خياراته. فلا يوجد أي جبر في كيفية استخدام الخاصية، وإنما الجبر فقط في ذات وجودها ليس غير.
س- والغرائز والحاجات العضوية: هل لكل منها خاصية واحدة فقط أم متعددة؟
ج- هي ايضا متعددة الخواص في كل منها. فغريزة التدين فيها خاصية العبادة والميل للمعبود، وخاصية التقديس والخوف من المقدَّس، فهي تجمع بين خاصيتي الطمع والخوف، "يعبدون الله خوفاً وطمعاً". وغريزة النوع فيها خاصية الميل الجنسي للذكر والأنثى، وبهذا يظهر التزاوج، وفيها خاصية حنان الأمومة والأبوة، وبهذا يظهر التعاطف الأسري. وغريزة البقاء فيها خاصية حب الذات، وبهذا يحاول الدفاع عن نفسه لو تعرضت ذاته للخطر، وخاصية حب المال بجميع أنواعه، وبهذا يركض ويسعى حتى لحظة وفاته، وخاصية حب الوطن، وبهذا يحنّ الى أرض منشأه، او مسكنه ويدافع عنها أمام اي عدوان لاغتصابها. وحاجة المعدة فيها جوعة للطعام وجوعة للشراب ولا تحلّ إحداهما محل الاخرى، وبهذا يسعى للأكل والشرب.
س- ولكن لماذا تحدثت في العرض عن خاصية واحدة لكل غريزة ولكل عضو؟
ج- ذلك كان من باب الذكر لا من باب الحصر، والذكر إنصبّ على أبرز الخصائص لكل غريزة ولكل حاجة.
س- هل هذه الخصائص في الغرائز والأعضاء تتعدد ايضا في المواد الجامدة كالسائلة؟
ج- نعم، فالحديد مثلا فيه خاصية الصلابة على درجة حرارة معينة، والسيولة على درجة اخرى، وخاصية التفاعل مع مواد دون اخرى ليشكل مادة اخرى لها خواص معينة تختلف عن خواص مادة اخرى تشكلت بتفاعله مع مادة غيرها … وهكذا.
س- هل للدماغ خاصية التفكير فقط؟
ج- لا، لأن له خاصية التفكير عند سلامته، وخاصية المركز الحسّي لاستقبال وتوجيه الحواس والمشاعر والحركة بأعصاب منفصلة بعضها عن بعض، حتى لو لم يكن الدماغ سليم التفكير، ما دامت اعضاء تلك المهمات لم تتعطل.
س- هل كلمة القدر في هذا العرض تعني ما ورد في اللغة والشرع؟
ج- لا، وانما تعني خاصيات الاشياء، حية وغير حية، التي دبّر الخالق بها هذه الاشياء لتؤدي وظائفها.
س- هل نفصل بين إلهام النفس و هداية الانسان أم هما شيء واحد؟
ج- لا شك أنهما شيئان مختلفان. لأن إلهام النفس بالتمييز بين الفجور والتقوى، وبين الشر والخير، هو الخاصية التي قدّرها الله في النفس البشرية. ولما كان موضع التمييز في النفس هو العقل فتكون هذه الخاصية هي للعقل من دون غيره في النفس.
صحيح ان الشعور والعاطفة والوجدان هي الفطرة في النفس الإنسانية، ولكن هذه الفطرة لم تعطَ خاصية التمييز.
هذا بالنسبة للتمييز كخاصية للعقل، اما الهداية للإنسان فهذه كما قال تعالى "وهديناه النجدين" و "إنا هديناه السبيل، إما شاكراً وإما كفوراً" قد تحققت عندما انزل الله الهداية على رسله، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس باتّباعه وبيّن لهم في خاتم الرسالات ان طريق الخير في طاعة أوامر الله ونواهيه، وطريق الشر في عصيانهما. فالهداية منـزلة والإلهام مودَع، ولولا إنزال الهداية لما أحسن استخدام الإلهام، ولولا الإلهام لما أمكن معرفة الهداية.
س- هل تحرّك الإشباع في الغرائز والحاجات العضوية منفصل عن تمييز العقل عند القيام بالفعل؟
ج- قد ينفصلان وقد يتصلان، وهذا تابع لمدى جعل الميل في الغريزة او الحاجة العضوية مرتبطاً بما استقر في العقل من أفكار ومفاهيم ومقاييس وقناعات، بعد أن تمت عملية تمييزها وإدراكها من قبل، وتأكدت ممارساتها وإثباتاتها مرات ومرات.
س- ما معنى "فألهمها فجورها وتقواها" إذن؟
ج- الإلهام هنا يعني ايداع القدرة بأن أودع سبحانه في النفس خاصية القدرة على عمل الشر وعمل الخير دون إجبار على أي منهما.
س- كيف تمارس الغريزة وظيفتها في الحياة؟
ج- إنها تدفع صاحبها الى اشباع جوعاتها وذلك مثلا عندما تثار غريزة التدين بالتفكير في عظمة الخالق المعبود سبحانه فانها تميل نحو عبادته فتدفع صاحبها لهذه العبادة، وهو يحدد بما يختزنه في دماغه من معتقدات نوعية وشكل الاستجابة. وغريزة البقاء عندما تثار بتهديد الذات فانها تميل للدفاع عنها فتدفع صاحبها لاتخاذ الموقف الدفاعي فيتدخل صاحبها بما يختزنه في دماغه من معتقدات وخيارات ويحدد نوع ومقدار الدفاع. وغريزة النوع عندما تثار، سواء من حيث جوعة الجنس او جوعة الحنان، وسواء كانت الإثارة بالمشاهدة الحسية او العقلية، فان صاحبها يميل نحو عنصر الاثارة فتدفع صاحبها بهذا الميل للاستجابة للاشباع، فيتدخل صاحبها بما له من معتقدات يختزنها في دماغه ليحدد نوع وشكل الاستجابة .. وهكذا.
س- إذن أين الخير والشر، والحلال والحرام، في الممارسات الغريزية؟
ج- يكون الخير والحلال عندما تتدخل معتقدات صاحب الغريزة، اذا كانت معتقدات وافكار اسلامية، فتوجّه الدفع للاشباع ليكون اسلامياً. ويكون الشر والحرام، عندما تكون المعتقدات غير اسلامية، او اسلامية ضعيفة لا تملك قوة الضبط والتوجيه لدى صاحبها. لذلك يحتاج صاحب المعتقدات أن يسقيها دائماً من رعايته وعنايته، حتى لا تضعف وتذوى وتسقط ويحلّ محلها غيرها. كيف لا والانسان لا يملك الا ان يسير سلوكه بنوع من المعتقدات، ولا يبقى هذا النوع ثابتاً على حال معينة، وبمستوى معين، الا بمقدار ما يحرص صاحبه عليه بالرعاية والعناية. وإلا فما معنى قوله تعالى "فذكّر إن نفعت الذكرى". فهذا بالطبع في حق من اختلّت معتقداتهم فلم تعد الذكرى ذات مردود طيب مضمون لديهم. وأما قوله تعالى "وذكّر فان الذكرى تنفع المؤمنين" فقد قرر المضمون الطيب والمردود الجيد في حق من يحتفظ بإيمانه ويستجيب تبعاً لذلك للتذكير.
rajaab
20-07-2005, 04:59 PM
عقيدة القضاء والقدر
الندوة الرابعة
العرض:
بعد أن أشرنا في الندوة السابقة الى دور المشاعر في إحداث الأفعال من الانسان، وانها من حيث وجودها مجرد خواص مقدرة لا انفكاك منها، ولكن من حيث تدخّلها في إيقاع الفعل ليس لها الا الدفع او الميل اليه، والانسان صاحبها هو الذي يستجيب لهذا الميل او لا يستجيب، وبهذا الشكل او ذاك، الأمر الذي يقودنا للحديث حول تحديد المسؤولية في ذلك كله: فهل المسؤولية بايجاد الميل لدى الانسان، أم ان المسؤولية والمحاسبة هما على إحداث الفعل استجابةً لهذا الميل؟
للاجابة على هذا التساؤل نقول: لقد أوضحنا أن ذات الميل ووجوده الملازم لكل غريزة او حاجة عضوية هو القدر. وهذا يعني ان الله وحده هو الذي خلقه في الانسان، فلا دخل للانسان في ذلك، وبالتالي لا حساب ولا مسؤولية في وجوده على احد من البشر وإنما ذلك كله جرى بحكمة الله وحده ومن تدبيره سبحانه لخلقه وهو القائل "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" – الآية 23 من سورة الأنبياء -. وعليه فان المسؤولية وما يتصل بها من محاسبة تبقيان محصورتين بإحداث الفعل او تركه "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" – الآيتان 7 و 8 من سورة الزلزلة -. فعندما خلق الله الغرائز وحاجات الاعضاء والاشياء جعل في كل منها خاصيتها التي تتميز بها عن غيرها لكي تؤدي مهمتها في الحياة على الوجه الذي قدّر لها. فهي تبقى مجرد طاقة جاهزة للاستعمال تحت الطلب.
وعندما خلق الله الانسان، وخلق له الغرائز والحاجات العضوية خلق له العقل، وخلق فيه خاصية التمييز. وأعطاه القدرة على أن يختار بين القيام بالفعل او تركه. وترك له الارادة بالفعل او الترك. فلا الاشياء في ذاتها تلزم بفعل او ترك، ولا الغرائز في ذاتها تلزم بذلك، ولا الحاجات العضوية في ذاتها تلزم بذلك ايضا، ولا الخاصيات في أي منها تلزم بذلك اولاً وأخيراً. ومن هنا كان للانسان كامل الاختيار بين القيام بالفعل وإحداثه في الواقع وبين تجنب ذلك. وذلك من خلال تدخل خاصية التمييز التي وهبها الله وقدّرها للعقل الانساني. وبالتالي ترتيب المسؤولية والمحاسبة على الانسان عندما توجد لديه هذه الخاصية، أي انه سبحانه وتعالى قد رتّب الثواب على فعل الخير الذي يقوم به الانسان لأن عقله بتمييزه يختار القيام به، تنفيذاً لأوامر الله واجتناباً لنواهيه. كما رتّب سبحانه العقاب على فعل الشر الذي يقوم به الانسان لأن عقله بتمييزه يختار القيام به مخالفاً لأوامر الله ومستجيباً لدوافع الغرائز والحاجات العضوية على غير الشكل الذي حددته أوامر الله ونواهيه.
وهنا يبرز أمامنا التساؤل التالي: بعد أن أصبح واضحاً دور الغرائز وحاجات الاعضاء والاشياء في إحداث الافعال او تركها من خلال خصائصها، وأن ذلك مرتبط بإرادة الانسان واختياره القائم على خاصية التمييز الموهوبة للانسان، نتساءل عن صلة ذلك كله بمسألة القضاء والقدر، من جهة، وتأثير علم الله وارادته ومشيئته في ذلك، من جهة ثانية، وأثر ذلك في حياة الانسان، من جهة أخيرة ؟؟؟
أما صلة الغرائز والحاجات العضوية والاشياء، وما في كل منها من خاصيات، والعقل وما فيه من خاصية، بمسألة القضاء والقدر كجزء من عقيدة المسلم وإيمانه، فهي ان الله تعالى قد خلق هذه كلها، وأن الانسان لا أثر له في هذا الخلق، وما عليه الا ان يؤمن بذلك من باب إيمانه بأنه تعالى "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون". وبهذا تكون الخاصية المخلوقة في كل واحدة منها كقدر لها لا أثر للانسان في وجودها ولكن أثره يظهر باستعمالها على وجه معين، أي بأعمال معينة. وهذه الاعمال إما ان تكون مسيطرة عليه ولا إرادة له في إيقاعها، سواء كانت مما يقتضيه نظام الوجود أم لا، او يكون هو مسيطراً عليها. فاذا كانت من المسيطرة عليه كانت هي القضاء. وهكذا يظهر ان القدر هو الخاصيات المخلوقة في الاشياء والعقل والغرائز والأعضاء البشرية الاخرى. وأن القضاء هو الاعمال التي تقع إما ضمن نظام الوجود او لا، من الانسان او عليه، دون ارادة منه، وذلك وفقاً للخاصيات المقدرة في هذا الوجود. فالقدر يُعِدُّ الاشياء بجميع انواعها في هذا الوجود للاستعمال، والقضاء يفرض على الانسان ان يستعملها على وجه معين دون ارادة منه، دون ان يستطيع جلبها ولا دفعها، فهو إذن غير مسؤول عنها ولا محاسب عليها ما دامت خارجة عن ارادته واختياره. وأما عندما يستخدمها بارادته واختياره، أي على الوجه الذي يريده ويختاره، فانه يكون مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها "كل نفس بما كسبت رهينة"، "كل امرئ بما كسب رهين" ، "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".
وبهذا تظهر صلة مسألة القضاء والقدر بذلك، وأما علم الله وإرادته ومشيئته وصلتها بمسألة القضاء والقدر، فان علم الله سبحانه الذي تشير اليه العديد من النصوص فانه يعني إحاطته سبحانه المطلقة بكل الوجود، وما يقع فيه من أعمال، سواء كان حدوثها بارادة الانسان او بغير ارادته. فلا علاقة للعلم بوجود الاشياء من حيث الإيجاد، لأن هذا مرتبط بالخلق لها، وإنما علاقته بها من كونها ستوجد وموجودة وينتهي وجودها بشكل كذا ووقت كذا. وأما ارادته او مشيئته سبحانه التي تشير اليها نصوص اخرى فانها تعني انه لا يوجد ولا يقع شيء مهما كان نوعه، ولا خاصية لشيء مهما كان وضعها، في هذا الوجود، الا ويكون وجوده او وقوعه ليس بالرغم من الله سبحانه، سواء كان الفعل من القضاء والقدر الذي لا ارادة للانسان فيه او من الافعال الاختيارية التي تصدر وفق ارادة الانسان. فلا علاقة للارادة الربانية بوجود الافعال الجبري الا تلك الداخلة في اطار القضاء والقدر، وذلك من باب كونها توجد بأمر الله سبحانه ودون ارادة واختيار من الانسان. وأما الافعال الداخلة في ارادة الانسان فارادة الله بالنسبة لها من باب كونها لا تقع جبراً عن الله سبحانه لأن ارادته تعالى مطلقة وتملك التدخل، كما هو في شأن القضاء، فتمنع الفعل المراد من الانسان او تفرض وقوعه على شكل آخر، وكونها لم تتدخل وتركت للانسان ان يوقع الفعل او يتركه فقد فعل الانسان الفعل بارادته وبإذن الله تعالى في آنٍ واحد. وهنا تظهر صلة القضاء والقدر بعلم الله وارادته ومشيئته.
وأما أثر مسألة القضاء والقدر على حياة الانسان فانه عندما تصبح حقيقة الاشياء وخصائصها بجميع انواعها وأحوالها واضحة مفهومة للانسان يدرك ما له وما عليه. ويعرف ما يجب ان يكون موضع ايمان وتصديق واعتقاد، وما يجب ان يكون موضع عمل وفعل. فينطلق في هذه الحياة غير هيّاب ولا وجل ليملك ناصية الاشياء ويستخدمها بكل ما تسمح به او يمكن ان يُكتشف من سماحها، وذلك وفقاً لأوامر الله ونواهيه ودون ان يسمح لتدخل الأمور الغيبية في إقدامه للحصول على النتائج بأسبابها وفقاً لهذا الناموس والنظام الذي وضعه الله لهذا الوجود، معتمداً في ذلك على ما وهبه الله من قدرات على إدراك الاشياء وخصائصها، ومتوكلاً عليه سبحانه ليعينه في هذه الحياة الدنيا على ضعفه ليتمكن من المزيد من المعرفة للأشياء بكل انواعها، وخصائصها بكل اصنافها، وبالتالي المزيد من العطاء والإعمار في هذا الكون. وهنا يظهر مدى أهمية وضوح مسألة القضاء والقدر في حياة المسلم من أنها ستكون عامل دفع قوي جبار له، وليس عامل كسل وقعود عن العمل والإعمار.
المناقشة:
س- من اين تأتي ارادة الانسان للقيام بفعل معين او تركه؟
ج- ان الميل لاشباع غريزة او جوعة عضو يدفع للقيام بفعل يؤدي الى هذا الاشباع. ولكن هذا الميل او الدفع للفعل لا يحدد نوع الفعل ولا مقداره ولا وقته، وإنما هو مجرد دفع لفعل للاشباع. ولأن في خاصية الميل نفسها عدم الإلزام بفعل معين، فانه يبقى لدى صاحب الميل خيارات متعددة ليختار بين فعل وآخر. وهذا الاختيار ليس من طبيعة الميل وإنما من قدرة او خاصية التمييز الموهوبة للعقل. فهي التي تطرح هذه الخيارات وتبين الفروق فيما بينها، وتدعو بما يختزنه العقل المميز من معتقدات للإقدام على خيار من بينها دون الأخرى. ومن هنا تتشكل ارادة الانسان: فهي دفع الميل للإشباع دون تحديد لعمل معين يحقق هذا الاشباع، وتدخل من تمييز العقل لتحديد نوع معين من الاعمال المطروحة والمحققة لهذا الاشباع.
س- إذن لا صلة لإرادة الانسان بغير اشباع غرائزه وحاجاته؟
ج- من حيث الميول ودوافعها، هذا صحيح. ولكن الارادة لا تتشكل من ذلك فقط وإنما بعد ضبط الميول والدوافع وتوجيهها وجهة معينة بما يختزنه العقل من معتقدات، يستخدمها عندما يمارس خاصية التمييز الموهوبة له في تحديد اي الافعال يقدم عليه لتحقيق الاشباع وأي الافعال يتجنبه. ومن هنا كان للاشباع دور أولي في تشكيل الارادة، ولكنه يبقى حبيساً حتى يخرج في وضع معين ولون معين حدّدته الافكار والمعتقدات المختزنة في الدماغ، تحت طلب العقل عند التمييز بين الاعمال.
س- فأين علاقة ذلك كله بأوامر الله ونواهيه؟
ج- إن اوامر الله ونواهيه هي الافكار والمعتقدات والاحكام التي يختزنها الدماغ تحت الطلب ليمارس العقل مهمته في التمييز بين الافعال الممكنة للاشباع على اساسها، فيوجه الميل لعمل معين تحدده تلك الافكار والمعتقدات والأحكام وترك ما يخالفها. وأما لو حصل العكس فتوجّه الميل لعمل آخر يخالف تلك الأفكار والمعتقدات والأحكام لكان هذا يعني أنها مجرد معارف مختزنة وليست قناعات موجّهة، كتلك التي تكون عن الاسلام لدى الكافر به، فهي لا تجعله يلتزم بها، بل العكس من ذلك فانه يلتزم بعكسها تبعاً لمخزونه من هذا العكس.
س- فكيف إذن يمكن التوفيق بين ما يختزنه الدماغ من أفكار ومعلومات وبين الاعمال الصادرة عن صاحبه؟
ج- يتم ذلك بالجمع بين المعلومات والدوافع على لون واحد، وذلك بأن تصبح المعلومات مفاهيم ومقاييس وقناعات لدى الشخص، وتكون دوافعه مرتبطة وموجّهة تماماً بتلك المفاهيم والمقاييس والقناعات. وهذا ما يسمى بوحدة الفكر والمشاعر، أو وحدة العقلية والنفسية، او وحدة الشخصية.
س- وكيف يؤثر وضوح مسألة القضاء والقدر على اندفاع الانسان المسلم للعمل والعطاء والإعمار؟
ج- عندما يدرك أن ما قضاه الله من أعمال، وما قدّره من خاصيات، هي موضع اعتقاد وإيمان كجزء من عقيدة المسلم، وأن الأعمال الارادية الخارجة عن القضاء يستحثّها القدر بخاصياته ويستثيرها للمزيد من الإقدام على الاعمال في جميع الميادين الانسانية لمزيد من المعرفة والاستخدامات دون قيود و لا حدود … وأن المسلم يجب ان يعتقد بأن له إرادة تتحداها الخاصيات للإقدام على الإستكشاف والبناء باستمرار.
rajaab
20-07-2005, 05:02 PM
عقيدة القضاء والقدر
التعقيب
فما هي مسألة القضاء والقدر في حياة المسلم؟
إن هذه مسألة تدخل في صلب الايمان. لأن المسلم عندما يعتقد بأن الله سبحانه وتعالى هو خالقه ومدبّره فانه مطالَب بأن يرى مدى هذا التدبير، وحدود مسؤوليته عن الاعمال التي تصدر منه او تقع عليه في اطار هذا التدبير، ليتبين ما له وما عليه، فيستزيد مما له ويتجنب ما عليه.
فعندما يتضح له ان حدود هذه المسؤولية تقع في اطار الاعمال الارادية، أي التي تقع من الانسان او عليه بارادته، وأنه يتحمل الحساب والعقاب على ما يفعله بارادته واختياره فقط، بينما ما يفعله بغير ارادته واختياره، او يقع عليه بغير ارادته واختياره فانه لا يقع ضمن مسؤوليته ولا يحاسب عليه – عندما يتضح ذلك كله - فانه يطمئن لمدى اعمال القضاء، اي التي قضاها الله بحكمته على عباده، ولمدى خاصيات القدر، أي التي قدّرها الله بحكمته في الاشياء الحية وغير الحية، يتحدد له مدى القيام بالاعمال او تركها، ويطمئن لعدل الله في حسابه وجزائه.
وهنا لا بد من توضيح معنى تدخّل الارادة الالهية، والمشيئة الالهية، والإذن الالهي، والعلم الالهي، والكتابة في اللوح المحفوظ، في اعمال الانسان/ أي هل لهذه، او لأي منها، أي دور في إلزام الانسان بالقيام بفعل او ترك فعل أم ليس لها ذلك؟
وللإجابة على ذلك نقول:
ان من صفات الله سبحانه الكمال المطلق في العلم بكل شيء، والارادة لكل شيء، والمشيئة بكل شيء … فلا يقع في ملكه شيء الا ويعلمه، ولا يقع في ملكه شيء الا بإذنه، او بمشيئته، او بإرادته. ولكن معنى هذا كله أنه لا يقع في ملكه سبحانه شيء جبراً عنه، لأنه سبحانه قادر وقدرته مطلقة على التدخل لمنع وقوع الشيء، وأنه عندما يتركه ليحصل فقد حصل بإرادته وإذنه ومشيئته وفي إطار علمه. وهو سبحانه عندما خلق الاشياء الحية وغير الحية دبّر كلا منها بتدبير خاص، وهي تمارس عملها بهذا التدبير. فعندما يتركها تمارس عملها تكون ضمن ارادته لأنه سبحانه يملك القدرة على أن ينـزع منها هذا التدبير. وهذا التدبير يأخذ طابع الجبر والإلزام بحق الاشياء والمخلوقات الحية غير الانسان، لأنها لم تختص كالانسان بإرادة ذي طبيعة عاقلة. فالانسان الذي أُعطي مع الخاصيات في غرائزه وأعضائه وعقله إرادةً تتشكل لديه مما اختـزنه من معتقدات في عقله وأعماقه، له ارادة وسيطرة على جانب من أعماله يتحمل المسؤولية الكاملة عنها، فيثاب عندما يوجّهها بأمر الله ونهيه، ويعاقب عندما يوجّهها بغير ذلك.
وعليه فان تلك النصوص الشرعية التي تتحدث عن العلم والارادة والمشيئة والإذن والكتابة لا تعني انتزاع ارادة الانسان ومصادرتها منه. وإنما على العكس من ذلك تبقيها لديه وترتّب على بقائها والمحافظة عليها المسؤولية والمحاسبة. والله تعالى يقول "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" ويقول "ولا يظلم ربك أحدا".
وأما تهجّم أعداء الاسلام على المسلمين بحجة أن عقيدتهم في القضاء والقدر هي من أهم اسباب قعودهم عن العمل وتخلُّفهم عن الأمم، وأنه لا بد من التخلص من هذه العقيدة حتى يتخلصوا من تخلُّفهم ويسيروا في طريق النهضة والارتقاء … فان هذا التهجم مردود وساقط حتماً بوضوح مسألة القضاء والقدر. وذلك عندما يدرك المسلم تمام الادراك أن الله سبحانه قد خلق هذا الوجود ودبّره بنظام محكم، يقوم على ارتباط النتائج بأسبابها، وأنها لن تتخلف الا اذا كان هو سبحانه فعل ذلك كمعجزة لأحد من الأنبياء. وأما في الحياة العادية وسيْرها فسنّة الله في خلقه هي ارتباط النتائج بأسبابها فمثلا: لا نصر في المعركة دون أخذ أسبابه من الإعداد المادي والروحي. ولا نجاح في امتحانٍ دون دراسة جادة، ولا إنتاجاً زراعياً وفيراً الا بالعناية الزراعية. فعقيدة القضاء والقدر توضح للانسان ان الحياة مفتوحة بجميع مجالاتها أمامه. وانها كلها نتائج رتبها الخالق سبحانه بتدبيره على أسبابها. وأي تقاعس عن الاخذ بالاسباب يعني الفشل في الوصول الى النتائج. ولنا في حياة الرسول عليه السلام خير دليل: فنـزول الرماة عن جبل أُحُد كان سبباً للهزيمة، ونزوله عليه السلام وجيشه على ماء بدر ليشربوا ويمنعوا عدوهم كان عاملا من عوامل النصر، وحفر الخندق حول المدينة كان من اسباب النصر، وحرصه عليه السلام على إسلام احد العمريْن من البحث عن اسباب النصر، وذهابه عليه السلام الى مضارب القبائل يدعوهم ويتقصّد رؤساءهم من طلب اسباب النصر … ففي ذلك – وأمثاله كثير – عمل بالأسباب للوصول الى نتائجها.
هذا هو الاسلام، وهذا هو ما يقتضيه الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر. وأي قعود عن الأعمال بحجة أنها من علم الله منذ الأزل، أو انها من إرادة الله ومشيئته وإذنه، يعتبر من الخروج عن العقيدة الاسلامية الحقّة …
ويكفي أن نتذكر أنه لو استسلم المسلمون منذ عهد الرسول عليه السلام، وطيلة عهود الخلافة والفتوحات الاسلامية، لمثل هذه النظرة الغيبية، او ما يسمى بالقدرية الغيبية، لما تحققت لهم تلك الفتوحات، ولما انتشر الاسلام في أركان المعمورة بتلك الصورة المذهلة.
فاتقوا الله ايها المسلمون في عقيدتكم، وخلّصوها مما علق بها من شوائب. واعلموا ان قضاء الله وقدره يقفان بجانبكم ويشدّان من أزركم. فانطلقوا في الأخذ بزمام نهضة أمتكم أولاً ثم إنقاذ شعوب الارض أخيراً. ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتبوءوا بخيبة الدنيا والآخرة … والله وحده الميسِّر لكم تحقيق أهدافكم ما دمتم على يقين بأنه "ولينصرنّ الله من ينصرُه، إن الله لقويّ عزيز" …
rajaab
21-07-2005, 06:20 PM
القيادة الفكرية للبشرية
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية فكرياً
الندوة الاولى
العرض:
ما دام سلوك الانسان مرتبطاً بدوافعه الفطرية الموجهة بأفكاره ومفاهيمه، وما دامت دوافعه نتيجةً لجوعاته الغريزية والعضوية، وأفكاره مع مفاهيمه نتيجةً لقناعاته العقلية، فان هذه القناعات والجوعات هي التي تتحكم في سلوكه، سواء كان فرديا او جماعيا، وسواء كان عابرا أم ثابتاً.
أما الجوعات بشقّيها فانها لا تتغير ولا تتبدل لدى الانسان كإنسان، وإن تفاوتت في قوة مظاهرها واندفاعاتها. وذلك تبعاً لمؤثرات داخلية او خارجية في الانسان او عليه. وأما الافكار والمفاهيم فانها تتغير وتتبدل تبعاً للحجج والبراهين التي تؤكد القناعات السابقة او تغيرها وتبدّلها.
ولما كان موضوعنا عن طريقة الاسلام في قيادة البشرية، وهي طريق فكري، كان لا بد من النظر في أشكال التجمع البشري، والعوامل المؤثرة في هذه الأشكال، ومدى رقيّ كل منها وصحّته وملاءمته مع المستوى الانساني السليم.
ولا بد أن نتذكر أولاً وقبل كل شيء أن غرائز الانسان هي غريزة البقاء وغريزة النوع وغريزة التدين. وأن لكل غريزة مظاهرها المتعددة. فغريزة البقاء تظهر بالدفاع عن النفس وعن البلد والارض التي يعيش فيها او يملكها، وحب السيادة والسيطرة، وغير ذلك من الدوافع والمظاهر. وغريزة النوع تظهر بالميل الجنسي بين الرجال والنساء والحب الأبوي والأموي وغيرها. وغريزة التدين تظهر بالميل للتقديس والعبادة والخشوع والدعاء وغيرها.
هذه الغرائز بمظاهرها يشترك فيها من حيث الوجود الانسان والحيوان والطير على حد سواء. وإن كنا نلاحظ وندرك وجود غريزتي البقاء والنوع لدى هذه الكائنات الحية من بشرية وغير بشرية، وإن كنا نجزم بوجودها ايماناً بقوله تعالى "ألم ترَ أن الله يسبّح له من في السموات والارض والطير صافات، كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون" – الآية 41 من سورة النور -، وقوله تعالى "تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن، وإن من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليماً غفوراً" – الآية 44 من سورة الإسراء-.
وعليه فان هذه الدوافع الغريزية والعضوية تشكل الأساس الأول للتحرك الانساني لإشباع جوعاته. ولكنها تخضع لتوجيه المعتقدات والقناعات العقلية التي تحدد لها كيفية هذا الاشباع او ذاك، ومدى الإقدام عليه او الإمتناع عنه. فكلما كانت هذه الافكار سليمة راقية مناسبة للانسان، كلما كان ضبطها وتوجيهها للدوافع الغريزية والعضوية سامياًن، والعكس صحيح. فعندما ينحطّ فكر الانسان تتحكم فيه الدوافع الغريزية المناسبة لهذا الإنحطاط. وفي ميدان حديثنا عن الروابط الانسانية فان الانحطاط الفكري يوجد بين الناس الترابط الذي تدعو اليه غريزة البقاء من خلال الحرص على الدفاع عن النفس، وبالتالي الدفاع عن المكان الذي يساعد على الحفاظ على النفس، وعن الارض التي ارتبطت بها النفس، وعن البلد التي ترعرعت في جنباتها النفس. وهذا الترابط هو ما يسمى بالرابطة الوطنية. والملاحظ ان هذه الرابطة يشترك فيها الانسان والحيوان والطير، وانها لا تظهر الا عند تعرض النفس والارض والبلد للخطر سواء بالهجوم او الإستيلاء، وتختفي بعد ذهاب هذا الخطر. ولذلك يمكن القول ان هذه الرابطة لا تليق بالانسان أن يتخذها في تجمّعه سبباً طالما كانت منخفضة، وعاطفية ومؤقتة.
وأما اذا كانت الافكار التي توجه الدوافع الغريزية والعضوية ضيقة الأفق، بأن تكون غير شاملة للناس كافة، وإنما محصورة في اطار الترابط العائلي او القبلي او القومي، فان غريزة البقاء تتحكم في الترابط من خلال دافع آخر من دوافعها، ألا وهو حب السيادة. بحيث يدفع صاحبه للعمل في سبيل أن يكون رئيساً على عائلته او على قبيلته او على قومه، تبعاً لمستوى التفكير عنده. إذ كلما إتّسع تفكيره أتّسع حبّه للسيادة. فيكون سيادة لقومه على غيرهم عند أوسع مجالات هذا التفكير الضيق غير الانساني. وبهذا توجد الرابطة القومية بين الناس. وهي رابطة تغلب عليها العصبية والهوى والمخاصمات. فتظهر عدم صلاحيتها للمستوى الانساني، طالما كانت لا توجد الترابط الراقي بين الناس، وتعتمد على العاطفة الغريزية المتقلبة، ولا تتخذ طابع الدوام والاستقرار اللازمين للترابط البشري.
وأما اذا كانت الافكار لا ترى سبباً للترابط البشري غير المصلحة، وأنه حيثما وجدت للانسان مصلحة مع غيره كانت بينهما رابطة، واذا انتفت انتفت الرابطة، فانها ستؤدي بأي تجمع بشري يقوم عليها الى التمزق والضياع، ولا سيما انها ستعصف بها اشكال من المساومات وتباين المصالح. ولذلك يلاحظ ان التجمعات المعاصرة التي تتحكم بها الافكار المصلحية في الغرب والشرق تحرص على جعل هذه المصالح مرتبطة بأفكار مبدئية أي مرتبطة بعقيدة ونظام للحياة يجمع بني المجتمع فيما بينهم. ولا ننسى ان مثل هذه الرابطة المصلحية الخطرة المدمرة لكل تجمع بشري تحركها غريزة البقاء ايضاً بحب الذات وحب التملك. ولذلك كانت غير صالحة لترابط بني البشر بل خطرة عليهم، كما لا ننسى ان الغرائز كلها قد تتدخل فيها.
وأما اذا انفردت غريزة التدين بالميل للتقديس والعبادة، ودفعت الانسان للتدين دون اهتمام بالحياة وشؤونها، أي دفعته للإنصراف للناحية الروحية دون أي اهتمام بشؤون الحياة وتنظيمها فانها تكون رابطة روحية. فينصبّ تفكير الانسان على توجيه كل طاقاته للعبادة ويشلّ كل جوانب الحياة الاخرى. مما يحكم عليها بأنها لا تصلح للترابط بين ابناء المجتمع الواحد. كما هي العقيدة النصرانية التي لم تصلح للربط بين الشعوب الاوروبية مع أنها تعتنقها. ولا بد حتى تكون الرابطة صحيحة من أن تشمل كل بني البشر، وأن تكون ثابتة دائمة ومستقرة، وأن تقدم تنظيماً لجميع جوانب حياة البشرية.
فأين هي هذه الرابطة الصحيحة ما دامت كل الروابط الأربعة السابقة غير صحيحة؟
هذا ما سنقف عليه في الندوة التالية من هذا الموضوع.
المناقشة:
س- ماذا تعني عبارة القيادة الفكرية؟
ج- هي قيادة الناس من قبل فرد او جماعة من خلال قناعاتهم ومعتقداتهم وأفكارهم، وليس بالحديد والنار.
س- وكيف ذلك؟
ج- بأن يعتنق الناس عقيدة عقلية واحدة فيكونون في معظمهم – إن لم يكن بأجمعهم - موجهين بنفس التوجّه في نظرتهم للحياة وتنظيم شؤونها بحيث لا يترددون في طاعة من يتولى أمرهم بنفس توجهاتهم.
س- وما علاقة هذه النوعية من القيادة بالغرائز والاعضاء البشرية؟
ج- ما دامت القناعات العقلية لا تتم لدى الانسان بشكل عميق في النفس الا بعد الاطمئنان للحجج والبراهين المتعلقة بشأنها، فانها لا بد أن تكون موافقة للفطرة الانسانية المشتملة على الدوافع والميول الناتجة عن الجوعات الغريزية والعضوية، كما أسلفنا في ندوات سابقة حول الايمان.
س- ولكن قيادة الجماعات والمجتمعات تختلف عن قيادة الافراد؟
ج- نعم، هذا صحيح. ولكن حديثنا هنا يشمل الطرفين، فالفرد - وهو الركيزة الاولى لكل جماعة ومجتمع – يضبط سلوكه وتصرفاته ومعاملاته بقناعاته ومعتقداته الفكرية. ومتى التقى في ذلك مع آخرين، شكلوا جماعة سرعان ما تصبح مجتمعاً متى عاشت على تلك الافكار والمعتقدات في تنظيم شؤون حياتها.
س- هل صحيح ان الانسان حيوان اجتماعي؟
ج- هذا غير دقيق. لأنه اذا قصد بالحيوان الجسد بما فيه من أعضاء ووظائفها في الحياة، وما فيه من غرائز وميولها، فان هناك تشابهاً في أشياء واختلافاً في اشياء، ووجوداً وعدم وجود في اشياء اخرى. فلو تشابه الانسان والحيوان في تركيب الجسد من حيث الدم واللحم والعظم والاعصاب، فانهما يختلفان في قيمة الغرائز ومظاهرها في الحياة. ويوجد العقل والادراك العقلي لدى الانسان، ولا يوجد هذا النوع لدى الحيوان، وإنما يوجد لديه ادراك شعوري غريزي فقط. وأما "الاجتماعي" فالحيوان فيه هذه الصفة اذا قصد بها اجتماع الجنسين المذكر والمؤنث للتوالد والإبقاء على النوع. واما اذا قصد بها اجتماع الافراد لتشكيل جماعات ومجتمعات فذاك لها وإن تفاوت حاله او شكله عما لدى البشرية. وهذا ما يؤكده القرآن الكريم في الآية الثامنة والثلاثين من سورة الأنعام إذ يقول "وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا أمم أمثالكم". والمثلية هنا هي مثلية التجمع، وليس نوعيتها.
س- ما دامت الدواب والطيور أمماً كالبشر، فلماذا نرفض نوع المثلية؟
ج- لأن الترابط بين الدواب والطيور قائم على الادراك الغريزي، بينما الترابط بين البشر قائم على الادراك العقلي.
س- لكننا نسمع من علماء النفس والاجتماع من يقول أن للدواب والطيور إدراكاً كالانسان؟
ج- صحيح أن لديها ادراك كما لدى الانسان إدراك. ولكن نوعية الادراك تختلف لدى الانسان عما لدى الطيور والدواب. وهذا ما أوضحناه في ندوات سابقة من أن دماغ الانسان فيه قابلية الادراك والعقل، في حين لا يوجد مثل ذلك في دماغ الدواب والطيور. فإدراكها مرتبط بوظائف غرائزها وحواسّها، أي انه إدراك شعوري ليس غير.
س- لماذا نصف فكر الانسان بالإنحطاط عندما توجّه سلوكَه غرائزُه وعواطفُه؟
ج- لأن السلوك الغريزي يليق بالدواب والطير. بينما المفروض في الانسان ان يرتقي سلوكه ليكون وفقاً لأفكاره التي تميزه عنها والتي توجّه الغرائز ولا توجهها الغرائز والعواطف.
س- ولكن لماذا وصفنا الفكر بالضيّق عند نشوء الرابطة القومية بين الناس، بينما وصفناه بالانحطاط عند نشوء الرابطة الوطنية، مع أن كلا منهما تتحكم فيه غريزة البقاء؟
ج- صحيح أن منشأ الرابطتين غريزة واحدة هي غريزة البقاء. ولكن بدافعين ومظهرين مختلفين لنفس الغريزة. فمع انحطاط الفكر او انخفاضه يتبع السلوك الانساني الميل للدفاع عن النفس والارض والبلد. ومع ضيق الفكر يتبع السلوك الميل لحب السيادة، وعندما يحب السيادة لنفسه كفرد دون جماعته فان فكره يكون منحطاً ومنخفضاً، ولكن عندما يتّسع حب السيادة ليراه لعائلته وقبيلته فان فكره يكون أكثر ارتقاءاً، وعندما يتّسع أكثر ليراه لقومه فانه يكون ضيقاً، وعندما يتّسع أكثر فأكثر ليراه لأمته بما تحمل من افكار وعقائد فانه يكون راقياً وابتعد عن كونه غريزياً واصبح، أي حب السيادة، غير تسلّطي وإنما إنساني.
س- لماذا تنشأ المخاصمات بين أصحاب الرابطة القومية؟
ج- لأنها عندما تكون في مستواها المنخفض يحب الفرد السيادة لنفسه على أسرته فيتخاصم من أفراد الأسرة والعائلة الآخرين. وعندما تكون في مستواها الضيق تحب كل قبيلة او قوم السيادة لنفسها على القبائل او الأقوام الاخرين فينشب الصراع فيما بينهم.
س- ولكن متى تنتهي هذه المخاصمات بين التجمعات البشرية؟
ج- عندما يقودها فكر عقائدي انساني، أي يريد الخير والإرتقاء للانسان كإنسان بغض النظر عن اي اعتبار آخر.
س- ولكن أصحاب الفكر الوطني والفكر القومي يرون أن فكرهم إنساني؟
ج- ما يرونه غير الواقع والحقيقة. وإلا لما وصف الفكر بهاتين الصفتين الناطقتين بعدم الشمول لجميع الأوطان وجميع الأقوام. بينما الفكر الشامل للانسانية لا تحدّه حدود الوطن ولا حدود القوم.
س- والرابطة المصلحية: هل هي نوع من الفكر المنخفض او الضيق ؟
ج- إنها تتبع لنوع المصلحة. فان كانت مصلحة ناشئة عن دوافع غريزية لا توجهها معتقدات لخير الانسان كإنسان، فانها إما ان تكون منخفضة كالوطنية والدفاع عن النفس وعن الارض وعن البلد وعن المال، وإما أن تكون ضيقة كالقومية وحب السيادة على القوم والأقوام الآخرين. وأما إن كانت ناشئة عن فكر عقائدي لخير الانسان بغض النظر عن وطنه وقومه، فانها تكون مصلحة راقية، ويكون الفكر المبدئي الذي يحددها هو الرابطة.
س- والرابطة الروحية: لماذا اعتبرت غير صالحة هي ايضاً؟
ج- لأن الترابط بين البشر لا يكون الا بما يليق بالبشر، من حيث الادراك العقلي، وبما يشمل جميع شؤون الحياة وليس شأناً واحداً فقط، وبما لا تحدّه حدود الارض والقوم، وإنما حدود الانسان ليس غير. ولما كانت الرابطة الروحية تقف عند التدين من شؤون الحياة ولا تتعداه لغيره كانت خطرة ومدمرة للحياة.
س- ما دامت غريزة البقاء توجد الرابطة الوطنية عند انحطاط او انخفاض الفكر، وتوجد الرابطة القومية عند ضيق الفكر، فلماذا توجد عند إتّساع الفكر وشموله؟
ج- عند إتّساع الفكر وشموله يرى الانسان البقاء لكل ما يشمله ويسميه الفكر، فيحصل لديه ما يسميه بسموّ الغريزة، أي بانقيادها للفكر العقائدي الشامل للانسانية والتخلص من إسار الشهوات الحيوانية الآنية.
س- وأين هو تأثير غريزة النوع في الروابط بين البشر؟
ج- إنها تنشئ الترابط الأسري.
س- وأين هي غريزة التدين ايضا في الترابط بين البشر؟
ج- إنها تنشئ الرابطة الروحية.
س- وكيف يستطيع الانسان أن يحقق السموّ في غرائزه الثلاثة هذه ليوجد الرابطة الصحيحة التي تليق به كإنسان وتشمل بني البشر جميعاً؟
ج- عندما لا يترك غرائزه تتحكم في سلوكه مع غيره لأي دافع من الدوافع، وإنما يوجّه غرائزه بالفكر العقائدي الذي يستهدف الانسان أينما وجد، وفي اي وقت وجد، وبحيث يقدم الحلول لكل شؤون حياته وليس لشأن واحد فقط.
س- وهل من أمثلة على هذا الفكر العقائدي الانساني؟
ج- نعم. إنها المبادئ الثلاث: الاسلام والرأسمالية والاشتراكية الشيوعية. فهي تقدم هذا الفكر العقائدي الانساني بغض النظر عن الصحة والخطأ فيها وفي معالجاتها، والتي سنأتي على بيانها في الندوات القادمة إن شاء الله.
rajaab
21-07-2005, 06:32 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة الثانية
العرض:
إنتهينا في الندوة الاولى الى التساؤل عن وجود الرابطة الصحيحة بين بني البشر، والتي تمتاز بأنها قائمة على عقيدة عقلية وليس على ردود فعل غريزية، وأنها تقدم الحلول الشاملة لجميع مشاكل الانسان حيثما وجد، ومتى وجد، ولا تكتفي بمعالجة شأن واحد من شؤونه في ظروف معينة … إنها الرابطة المبدئية.
والسؤال الآن:
ماذا تعني هذه النسبة للرابطة بأنها مبدئية؟
وللاجابة نقول: ان المبدأ، أي مبدأ، هو العقيدة العقلية التي ينبثق عنها نظام لجميع شؤون الحياة. وكما سبق أن أوضحنا في بحث "الطريق السليم للايمان السليم" فان العقيدة هي الفكرة التي توضح حقيقة الوجود من كون وانسان وحياة، وحقيقة ما قبل هذه الحياة الدنيا، وما بعدها، وعلاقتها بما قبلها وما بعدها. فان كانت فكرة العقيدة كما في الاسلام، فانها ترى ان الوجود مخلوق لله تعالى وهو سبحانه المدبّر له بتدبيره، وان ما قبل هذه الحياة هو خالقها ومدبّرها ليس غير، وأن ما بعدها هو يوم الجزاء على ما اجترح الانسان من افعال حيث يجزى إما بالجنة او النار، وأن علاقتها بما قبلها، أي خالقها، هي علاقة الخلق والايجاد والتدبير، وعلاقتها بما بعدها الحساب على الافعال والمعتقدات في هذه الحياة. وأما إن كانت فكرة العقيدة كما في الرأسمالية الديمقراطية او الاشتراكية الشيوعية، فانها تختلف عن ذلك تماماً، كما سيأتي بيانه في ندوات قادمة إن شاء الله.
هذا بالنسبة للعقيدة، وأما بالنسبة للنظام المنبثق عنها فهو مجموعة الأنظمة التي تعالج جميع مشاكل الانسان، وتبين كيفية تنفيذ تلك الانظمة، وكيفية المحافظة على العقيدة نفسها سليمة نقية مما يحتمل ان يلحق بها من شكوك، وكيفية حمل المبدأ للناس كافة.
فماذا نسمي العقيدة كفكرة شاملة، والانظمة كأفكار تفصيلية لشؤون الحياة؟ إننا نسميها فكرة المبدأ.
وماذا نسمي الكيفيات الثلاثة لتنفيذ انظمة العقيدة والمحافظة عليها وحملها؟ إننا نسميها طريقة المبدأ.
وهذا يعني ان المبدأ، أي مبدأ، هو مجموع الفكرة والطريقة الخاصتين به. ولكن كيف ينشأ أي مبدأ ويوجد؟
بالطبع إن نشوء المبدأ لا بد أن يحصل في ذهن انسان وذلك بإحدى طريقتين: إما بالوحي اليه من الله وأمره بتبليغه، وإما بإدراك عبقري لديه. فان كان موحى به من الله الآمر بتبليغه فهو المبدأ الصحيح لانه جاء من الخالق المدبر لهذا الوجود. وإن كان من عبقرية ذهنية فهو باطل لانه جاء من عقل يعجز عن إدراك الوجود ويقدم انظمة فيها التفاوت والاختلاف والتناقض والتأثير بالبيئة، كما سبق أن أوضحنا، مما يؤدي الى شقاء البشرية. وهذا يعني ان المبدأ الموحي به من الله هو الصحيح في عقيدته وفي نظامه، بينما المبدأ الوضعي هو الباطل في عقيدته ونظامه.
وقبل أن نوضح سبب وجوب اشتمال المبدأ على فكرة وطريقة، وإلا لا يجوز أن يطلق عليه هذه التسمية، لا بد أن نتساءل عن هذه التسمية نفسها من أين جاءت؟
إن كلمة مبدأ لغةً تعني مصدر الابتداء، وهي في مجال بيان حقيقة الوجود في مصدره ومصيره و صلته بهما تعني مصدر بدء هذا الوجود و صلة هذا الوجود به. وهذا يعني الفكرة الشاملة للوجود وما تقدمه هذه الفكرة من انظمة للحياة. وهكذا أطلقت كلمة مبدأ على الفكرة الشاملة وأنظمتها، أي على العقيدة ومعالجاتها. أما لماذا لا بد من وجود الفكرة والطريقة حتى يوجد المبدأ مجرد وجود في الواقع، ولا بد من الطريقة بالذات حتى تجعل المبدأ موجوداً بشكل حتمي في واقع الحياة، فذاك ظاهر من كون المبدأ هو الفكرة والطريقة بحيث اذا وجدت فكرة شاملة عن الوجود وطريقة لهذه الفكرة فان المبدأ يصبح موجودا في ذهن صاحبه. وأما ان ينتقل من الذهن والتفكير الى واقع الحياة والممارسة والتطبيق فلا بد من الطريقة كسبيل وحيد تتخذه الفكرة الشاملة الكلية لتنـزل الى معترك الحياة. واذا نقص جانب من جوانب هذه الطريقة الثلاث، ألا وهي كيفية التنفيذ وكيفية المحافظة وكيفية الحمل للدعوة، فان الخلل يتطرق الى قيمة الفكرة في الحياة ومدى شموليتها وقدرتها على تقديم الحلول لجميع الشؤون الحياتية، الأمر الذي ينقلها من فكرة عملية الى فكرة فلسفية خيالية.
هذا بالنسبة لمجرد وجود المبدأ كمبدأ، من ناحية، ولعمليته في الحياة، من ناحية اخرى، ولكن هل وجوده وعمليته كافيان للحكم عليه بالصحة؟
للاجابة على هذا التساؤل نقول:
ان صحة المبدأ او بطلانه مرتبطة بعقيدته، لأنها الاساس الذي تنبثق عنه الانظمة لشؤون الحياة. فإن صلح الاساس صلحت الانظمة، والعكس صحيح. ولكن من أين تجيء صحة عقيدة المبدأ.
سبق أن أوضحنا في بحث "الطريق السليم للايمان السليم" أن صحة العقيدة آتية من كونها تتفق مع فطرة الانسان ومبنية على العقل. واذا لم يتحقق هذان الشرطان فهي عقيدة باطلة. ومعنى اتفاقها مع الفطرة هو كونها تقرر ما في الفطرة الانسانية من عجز و حاجة للخالق المدبر، فهي توافق غريزة التدين ولا تنكرها او تتجاهلها. ومعنى بناؤها على العقل هو أنها غير مبنية على المادة، كما سنرى في الاشتراكية الشيوعية، ولا على الحل الوسط، كما في الرأسمالية الديمقراطية.
المناقشة:
س- من أي منطلق يجري تحديد الصحة والخطأ في الروابط؟
ج- من قواعد محددة وهي المرتكزات التي تليق بالانسان كإنسان، وتناسب تجمّعه وتصلح للسير به في طريق الرقي والنهضة.
س- ما هي هذه القواعد والمرتكزات؟
ج- أن تكون الرابطة عقلية وليست عاطفية غريزية، وأن تكون دائمية لكل زمان ومكان وليست مؤقتة، وأن تقدم حلولاً شاملة لجميع شؤون الحياة وليس لشأن واحد فقط.
س- ولكن الانسان عاطفي كما هو عقلي؟
ج- هذا صحيح، ولكن العاطفة الانسانية وإن اختلفت عما لدى الحيوان من شعور فانها متقلبة مما لا يقيم عليها ترابطاً بين بني البشر.
س- ولكن كيف فصلت بين العاطفة والعقل في الانسان؟
ج- العقل هو وظيفة الدماغ ولا تتم عمليته الا بنقل الواقع الى الدماغ عن طريق الحواس وتفسيره في ضوء ما يختزنه الدماغ من معلومات حوله. فالحواس هنا هي واسطة للجمع بين الواقع المنقول والمعلومات في الدماغ. وأما العاطفة فهي وظيفة الغرائز. والحواس لها دورها الكبير في إثارة الغرائز لتظهر عليها العواطف والمشاعر، كما أن التفكير له دور آخر. ويمكن للعقل والعاطفة ان يسيطر أحدهما على الآخر ولكن لا يمكن الفصل بينهما.
س- لقد تم توضيح معنى العقيدة بأنها الفكرة الشاملة الكلية للوجود، ولكن لماذا تم وصفها بالعقلية؟
ج- لأن العقيدة قد تكون وجدانية قائمة على ردود فعل الانسان الغرزية في غريزة التدين بالذات عندما يتوهم الانسان مثلاً أن الصنم يستحق العبادة او يتصور ان الصليب يستحق التقديس. مع انه لو ناقش حقيقة ذلك بالحجة العقلية لظهر له عدم أحقّيّتها لا للعبادة ولا للتقديس.
س- هلا تذكرنا بمعنى ان العقيدة توضح حقيقة الوجود؟
ج- نعم، إنها تبين لنا فيما اذا كان الوجود كإنسان وكون وحياة مخلوقاً لخالق او ليس بمخلوق، وأنه يحتاج لتدبير هذا الخالق او لا يحتاج لذلك. فالشاهد الملموس في الوجود أنه مادة، وأن هذه المادة ناقصة وعاجزة ومحتاجة. ولذلك كانت مخلوقة لخالق ليس بناقص ولا بعاجز ولا بمحتاج، وهو الله تعالى، سواء في ايجادها او تدبيرها.
س- هذا ما يراه الاسلام في حقيقة الوجود، فماذا ترى الرأسمالية الديمقراطية والاشتراكية الشيوعية؟
ج- ترى الرأسمالية الديمقراطية الحل الوسط بين الاسلام الذي يقول بالخلق والتدبير الالهي والاشتراكية الشيوعية التي تنكر الخلق والتدبير الالهي وتراهما ماديين فقط. أي تقول بأن الخلق الالهي موجود ولكن التدبير الالهي مفقود.
س- ما معنى انبثاق النظام عن العقيدة العقلية؟
ج- معناه صدوره عنها. فعندما تقول العقيدة الاسلامية ان الله خالق مدبر، وهذا هو معنى "لا إله الا الله محمد رسول الله" فإنها تصدر للانسان مجموعة الانظمة اللازمة لتدبير جميع شؤون حياته. لأن معنى "لا إله الا الله" أنه لا معبود بحقّ الا الله، ومعنى "محمد رسول الله" أنه جاء برسالة من عند الله للانسان ليعيش عليها وينظم حياته في جميع جوانبها وفقاً لها.
س- وهل هذا التحديد للمبدأ كفكرة وطريقة خاص بالاسلام؟
ج- لا، بل لكل مبدأ. فالرأسمالية الديمقراطية والاشتراكية الشيوعية يدخلان تحت هذا التحديد ايضاً لأن لكل منهما فكرة كلية شاملة من حيث العقيدة والانظمة التي تعالج شؤون الحياة. كما ان لدى كل منهما الكيفيات الثلاثة لتنفيذ الانظمة والمحافظة على العقيدة وحمل الدعوة.
س- وهل من مبدأ آخر غير هذه المبادئ الثلاثة؟
ج- لا، لا يوجد، ولا يمكن ان يوجد اي مبدأ رابع غيرها طالما كانت في افكارها وطرائقها قد غطت الجوانب المحتملة كلها. فبالنسبة للعقيدة إما أن تؤمن بوجود خالق مدبر لهذا الوجود او خالق غير مدبر له او لا خالق ولا مدبر له. ولا يوجد أي احتمال رابع لها. وبالنسبة للطريقة إما أن تكون لهذه العقيدة طريقة للحياة شاملة جميع جوانبها او خاصة لبعض الجوانب، ولا يمكن ان تكون لا طريقة لها وهي مجرد عقيدة لا علاقة لها بالحياة. والمبدأ حتى يكون مبدأ لا بد ان تكون عقيدته فكرة شاملة ولها انظمة شاملة لجميع جوانب الحياة. وأما العقائد الاخرى لغير المبادئ كعقيدة النصرانية فانها شاملة ولكن ليس لها الا نظام العلاقة بين الانسان وخالقه وهو العبادة. وأما العلاقة مع النفس والعلاقة مع الآخرين فلا نظام لهما وإنما هي تردّ ذلك الى التوراة "ما بعثت لأنقض الناموس ولكن لأتمم الناموس". وأما عقيدة التوراة فانها محدودة الانظمة للحياة بعد أن نضجت وتشعبت وهي لا تقدم غير الانظمة لبني اسرائيل وفي زمان موسى عليه السلام. وأما الاسلام فعقيدته هي الشاملة والتي تقدم الانظمة للناس كافة في كل زمان ومكان "وما أرسلناك الا كافة للناس بشيراً ونذيراً" ، "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين". وأما الرأسمالية والاشتراكية فعقيدتهما تقدمان حلولاً أو نظماً لجوانب الحياة حسب قدرة الانسان العقلية على التنظيم ما دامتا من وضع عقل الانسان وليستا من خالق الانسان العالِم بكل ما يحتاجه في كل زمان ومكان كما هي حال الاسلام في عقيدته وأنظمته.
س- لماذا تحرص على تسمية الكيفيات بالطريقة؟
ج- لتمييزها عن الاسلوب والوسيلة، وهما متغيران متبدلان. بينما الطريقة تمتاز بالثبات والتفرد. فعندما يقال أن لكل انسان طريقته في الحياة فهذا ينصرف الى معتقداته وقناعاته من حيث كيفية العيش عليها. ولكن عندما يقال أن هذا هو أسلوبه في فهم الشكل الذي يتبعه عند الفهم، وشتان بين الطريقة والاسلوب او بين الاستراتيجية والتكتيك اذا جاز لنا المقارنة بالميدان العسكري.
س- ولماذا شملت الطريقة هذه الكيفيات الثلاثة؟
ج- لأن كيفية تنفيذ الأنظمة ضرورية التحديد من قبل المبدأ، وإلا كان مجرد فكرة لا علاقة لها بمشاكل الحياة، ولأن كيفية المحافظة على العقيدة ضرورية التحديد من قبل المبدأ، وإلا كان أساس هذا المبدأ غير مصون ومعرضاً للخطر، ولأن كيفية حمل الدعوة ضرورية التحديد من قبل المبدأ، وإلا كانت عقيدته وأنظمته ليستا للناس كافة في تدبير شؤونهم مع تصويب عقائدهم سواءا بسواء. ولهذا لا بد من هذه الكيفيات الثلاثة حتى تكتمل الطريقة لكل مبدأ.
س- ولماذا حصرت منشأ المبادئ بالوحي او العبقرية؟
ج- لأنه لا يوجد غير إحدى هاتين الطريقتين لنشوء المبادئ وظهورها في واقع الحياة. فإما أن يوجد المبدأ من وضع الانسان فيسمى المبدأ الوضعي، وإما أن يوحي به الله سبحانه لرسوله ويأمره بتبليغه فيسمى المبدأ الالهي.
س- هل من لفظة او تعبير معاصر يقابل كلمة مبدأ؟
ج- نعم. آيدولوجيا، والتي تعني مجموعة النظرية والانظمة في الحياة.
س- ماذا تعني عبارة "إن فلاناً من الناس ليس له مبدأ"؟
ج- إنها تعني أنه لا يضبط تفكيره وسلوكه وتعامله بقواعد ثابتة، وإنما هو متغير متلون تبعاً للهوى.
س- ماذا يعني وجود المبدأ مجرد وجود، ووجوده في واقع الحياة، وما الفرق بينهما؟
ج- وجود المبدأ مجرد وجود يعني نشوءه وظهوره كأفكار في ذهن صاحبه اذا كان عبقرياً وتوصل اليه بتفكيره، او اذا كان رسولا وأوحي به اليه وأمر بتبليغه. أما وجود هذا المبدأ في واقع الحياة فهو نقله من ذهن صاحبه، سواء كان الرسول او العبقري، الى الآخرين بحيث يؤمنون به معه ويعملون لتطبيقه في حياتهم وينجحون في ايجاده في واقع حياة مجتمعهم. وشتان بين مجرد وجوده كفكرة او افكار وبين وجوده كواقع اوتطبيق.
س- لماذا تربط صحة المبدأ وبطلانه بعقيدته وليس بأنظمته؟
ج- لأن العقيدة هي الأساس، ولا يقوم بناء بدون أساس، ولا يستمر بقاء البناء الا بأساس سليم. ولا بد للأنظمة، وهي البناء، من العقيدة وهي الأساس السليم. وأي خلل يتطرق الى العقيدة تتهاوى الأنظمة وتزول من واقع الحياة كما يتهاوى البناء وينهار مع تحطم أساسه.
س- هل من مزيد توضيح لمعنى بناء العقيدة على العقل؟
ج- ان هذا البناء يعني ان العقل قد توصل اليها بالحجج والبراهين المبنية على الوقائع الحسية المقطوع بوجودها. فعندما فكر العقل بالإبل كيف خلقت وبالسماء كيف رفعت وبالارض كيف سطحت، توصل الى وجود خالق مدبر لها. فاعتقد بوجوده وتدبيره. فكانت العقيدة مبنية عليه وليس على غيره.
rajaab
21-07-2005, 06:39 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة الثالثة
العرض:
رأينا ان العقيدة لا تكون صحيحة الا اذا كانت مبنية على العقل وموافقة لفطرة الانسان وغريزة التدين فيه. وأن بناءها على العقل يعني عدم الاكتفاء بالوجدان، والحرص على الأدلّة الحسية في الحجة والبرهان، سواء من داخل او خارج الانسان او من عالم الحياة والحيوان او من سابحات الأفلاك وآفاق الكون. وأن موافقتها للفطرة وغريزة التدين تعني عدم تجاهل ما في داخل الانسان من غرائز. وأنها بمظاهرها وميولها بحاجة لتنظيم وإلا فسدت حياته وشقيت. وأن غريزة التدين منها بالذات عاجزة عن تقديم النظام الذي تتدين وفقاً له والكيفية التي تتدين بها وقبل ذلك تحديد المعبود بحقّ لها.
وعند المناقشة أشرنا الى مقتضى بنائها على العقل بأن لا تكون مبنية على المادة ولا على الحل الوسط. والسؤال الآن هو:
ما هي المادة التي من الممكن أن تبنى عليها العقيدة؟ وهل من عقيدة موجودة الآن تبنى على المادة؟ وما هو الحل الوسط؟ وهل له وجود في عالم العقائد والمبادئ اليوم؟؟؟
إن عالم اليوم زاخر بالافكار والآراء والمعتقدات. منها ما يتصل بالسماء، ومنها ما يرفض الاتصال الا بالارض، ومنها ما يجمع بين السماء والارض بهذا الشكل او ذاك. ولما كان حديثنا مركزا في عالم الافكار الكلية أي التي تعطي تفسيراً لكل الوجود من كون وانسان وحياة، وما قبل هذه الحياة، وما بعدها، وصلتها بما قبلها وما بعدها. وذلك استجابة لتساؤلات الانسان عن مصدر مجيئه ومصيره وصلته بهما. وأن هذا التفسير او الاستجابة للتساؤلات يعطي للانسان القاعدة الفكرية التي تضبط افكاره ومفاهيمه في حياته. فاننا لم نقف عند الافكار الجزئية التي تحاول ان تفسر بعض جوانب الوجود او حتى الحياة الدنيا ولا تتجاوزها لغيرها. كما تفعل البوذية التي ترى الروحانية وطقوسها الوضعية واسطةً للسمو الانساني في فرديته، دون أي اهتمام بالمجتمع وتشريعاته ورقيّه وتطلّعاته. وكما تفعل الهندوسية التي تهبط في مقدساتها الى البقر، وتغرق في تمزيقها للمجتمع الى طوائف منها من هم دون البقر.
هذا في عالم الافكار الجزئية التي اتصلت بشكل ما بالسماء. أما تلك التي رفضت مثل هذا الاتصال، كالوجودية، فانها لا ترى الا هذا الوجود الانساني كصورة لهذا الوجود ككل، وترفض الاعتراف او الإقرار بتدين الانسان وحاجته لغيره مهما كان هذا الغير. وكالعبثية التي ترى في التفلّت من جميع قيود الحياة وارتباطاتها الاجتماعية والمجتمعية أساساً تدعو اليه الافراد والجماعات. وما هي في الحقيقة الا ردود فعل ضد الفكر المادي والشهواني الذي طحن المجتمعات الشرقية والغربية.
ولو تجاوزنا ما في هذا الخضمّ الهائل من أفكار لا ترتقي الى مستوى المبادئ، وأتينا الى الافكار المبدئية لما وجدنا في عالم اليوم غير مبادئ ثلاثة هي: الرأسمالية الديمقراطية في العالم الغربي بشكل خاص كوطن أم والشرقي بشكل عام كوطن تابع، والاشتراكية الشيوعية، والاسلام. أما لماذا رتّبناها بهذا الترتيب فذاك تابع لوجودها النافذ المسيطر الفعال في الارض اليوم. لأن للرأسمالية دولاً تتحكم في العالم كله حتى باتت دول الاشتراكية الشيوعية تستجديها بل تلغي فكرها المبدئي لتلتقي معها. بينما لا نجد للاسلام لا دولة ولا دولاً في عالمه المترامي الأطراف تجعل منه مبدأ لها، وإنما نجد بعضها تتمسح به بشكل من الأشكال تزلّفاً لشعوبها، كما نجد البعض الآخر يعلن الحرب عليه بأشكال أخرى وأسماء أخرى.
ولنقف فيما بقي من هذه الندوة عند منشأ كل مبدأ من هذه المبادئ الثلاث. ثم نتحدث بأسلوب المقارنة عن عقائدها، وكيف حققت القيادة الفكرية لمجتمعاتها، ونظمت جميع جوانب الحياة بتشريعاتها.
ولنبدأ بأخطر هذه المبادئ وأكثرها أثراً في العالم اليوم، إنه الرأسمالية الديمقراطية. فنسأل: من أين جاءت هذه التسمية؟ فنجد أنها قد جاءت من واقع فرضته عقيدة هذا المبدأ على المجتمع. وهو بروز الرأسمالية وسيطرة المال وأصحابه على مجتمعهم. ولكن كيف نشأت هذه العقيدة وحققت كل هذه السيطرة في مجتمعاتها وفي العالم؟؟؟
لقد كان حكام اوروبا وروسيا يتخذون الدين وسيلة للسيطرة على الشعوب واستغلالها، وواسطتهم في ذلك رجال الدين. ولا ننسى في هذا السياق الحروب الطاحنة فيما بينهم، والتي ظهر أثناءها الكثير من الفلاسفة والمفكرين الذين أنكر بعضهم الدين كلياً، بينما رأى بعضهم فصله عن الحياة وتنظيم شؤونها. واستقر الرأي أخيرا عندهم على فكرة واحدة هي إبعاد الدين عن التدخل في شؤون الحياة. مما أدى الى فصل الدين عن الدولة التي تتولى تلك الشؤون بالبداهة. وانتهى الأمر الى تجاهل الدين وعدم بحثه من باب أن يُعتَرف به او لا يُعتَرف، وحصر بحثه في باب لزوم فصله عن الحياة.
ولكن لماذا تعتبر فكرة فصل الدين عن الحياة حلاً وسطاً .. ذلك لأنها حاولت ان توفّق بين رجال الدين الذين يريدون إخضاع كل شيء لهم باسم الدين، وبين الفلاسفة والمفكرين الذين ينكرون الدين وسلطة رجال الدين. ففكرة فصل الدين عن الحياة تعترف بوجود الدين، ولكنها ترفض تدخله في الحياة وشؤونها. ومعنى اعترافها بالدين أنه يوجد خالق للوجود كما يوجد يوم القيامة، مما يعني اعترافها بما قبل الحياة وما بعدها. وبهذا تكون هذه الفكرة عقيدة شاملة عن الوجود وعليها تبنى جميع الافكار وعلى أساسها تعالج شؤون الحياة.
وأما كيف نشأت عقيدة الاشتراكية الشيوعية .. فذلك من تفكير أولئك المفكرين الذين ظهروا في اوروبا وعلى رأسهم هيغل وكارل ماركس ولينين. وكانوا ينكرون الدين وسلطة رجال الدين، ولم يروا الحل الوسط الذي اتفق عليه اكثرية زملائهم، والذي انتهى الى فكرة فصل الدين عن الحياة، وبالتالي عن الدولة، كما أسلفنا. وإنما رأوا رفض الدين ككل. ومعنى هذا أنهم رفضوا وجود ما قبل الوجود، كما رفضوا وجود ما بعده، ولم يروا الا وجود هذا الوجود المادي من كون وانسان وحياة. ورأوا أن المادة هي أصل الاشياء كلها. وأن تطور المادة يوجِد الاشياء. وهذا يعني أنهم أنكروا وجود الخالق للأشياء، أي رفضوا الناحية الروحية في الاشياء واعتبروا الاعتراف بها خطراً على الناس. مما جعلهم يعتقدون ان الدين أفيون الشعوب، كما يقول ماركس الذي تنسب اليه عقيدتهم. وهكذا كانت المادة هي أصل الفكر عندهم لأنهم رأوه مجرد انعكاس المادة على الدماغ ليس غير. وكان التطور المادي هو سبب وجود الاشياء. وينكرون وجود الخالق ووجود يوم القيامة، ويرون المادة قديمة أزلية لا أول لها ولا آخر، ولا يرون وجوداً الا للحياة فقط في هذه الدنيا. وعلى هذه الفكرة الكلية بنيت جميع افكارهم وانظمة الحياة عندهم. فكانت فكرة مبدئية وليست فلسفية خيالية. وعليها ايضا ظهرت دول عديدة كانت دولة الاتحاد السوفيتي السابق تمثل أقواها في العالم والدولة الثانية بغض النظر عما جرى من انهيار هذه الدولة وتجزئتها الى دول غير اشتراكية ولا شيوعية وإنما رأسمالية ديمقراطية.
أما كيف نشأت عقيدة الاسلام، فذلك بوحي من الله سبحانه الى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمره بتبليغ رسالة الاسلام للناس كافة مبتدئاً بالعرب الذين نزلت الرسالة بلغتهم ومنتهياً بجميع أطراف المعمورة، لا عملياً بذاته وإنما إلزاماً لأتباعه في الدعوة والتطبيق. فكانت "لا إله الا الله محمد رسول الله"، أي لا معبود بحقّ الا الله، توجب طاعته بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. كما توجب "محمد رسول الله" إلتـزام العمل برسالته. وهذا يعني ان لهذا الوجود خالقاً وأنه المدبّر المنظّم لهذه الحياة وأنه سيبعث الناس يوم القيامة ليجزي كل نفس بما آمنت وعملت. وعليه فان الاسلام يرى ان لهذا الوجود خالقاً خلقه ودبّره، وأن صلة هذه الحياة به هي كونه خلقها ونظّم شؤونها، وأن صلتها بما بعدها أي يوم القيامة هي إعطاء الجزاء على جميع المعتقدات والاعمال. فكانت عقيدة الاسلام بهذا الواقع عقيدة عملية تقدم الحلول لجميع مشاكل الحياة، وبالتالي عقيدة مبدئية.
rajaab
21-07-2005, 06:40 PM
المناقشة:
س- هل من فرق بين فطرة الانسان وغريزة التدين لديه؟
ج- نعم. الفطرة تشمل جميع الغرائز وليس غريزة التدين فقط.
س- فكيف توافق العقيدة الفطرة؟
ج- بأن تقرّ عجز الانسان عن الإتيان بتنظيم سليم لعلاقاته الثلاثة مع ربه ونفسه وغيره، كما تقرّ احتياجه لخالقه سبحانه بإرسال هذا التنظيم الشامل الصالح لكل زمان ومكان.
س- وكيف توافق العقيدة غريزة التدين؟
ج- بأن تقرّ بعجزها عن الإتيان بتنظيم للانسان مع ربه وأنها تحتاج اليه سبحانه لكي ينـزل هذا التنظيم من لدنه.
س- كيف يرتبط معتقد بالسماء فقط؟
ج- هذا تعبير عن الاعتقاد بوجود خالق السماء. وإلا فوجود السماء المحسوس الملموس ليس بمحل اعتقاد. وارتباط المعتقد بخالق السماء معناه أن ينحصر فقط بالعبادات ولا يتعداها الى شؤون الحياة الاخرى في علاقة الانسان بنفسه وعلاقته بالآخرين. وهذا ظاهر في المتصوفة والعبّاد والزهّاد أصحاب الصوامع المنقطعين للعبادة.
س- وكيف يرتبط معتقد بالارض فقط؟
ج- هذا ليس تعبيرا عن الاعتقاد بوجود خالق للأرض. وانما تعبير عن الاعتقاد بالمادة التي تمثلها الارض كما ترى عقيدة الاشتراكية الشيوعية المشار اليها سابقاً.
س- وكيف يجمع معتقد بين السماء والارض؟
ج- هذا تعبير عن الاعتقاد بأن خالق السماء هو خالق الارض ومدبر شؤون كل من يعيش عليها. ولكن اذا رأى المعتقد ان الخالق هو مجرد خالق لهذا الوجود وهذه الحياة وهذا الانسان، ولكنه لا علاقة له بالارض وشؤونها وتدبيرها، فانه يفصل بين الخالق ومخلوقاته ويجعله سبحانه خالقاً غير مدبّر، او بتعبير آخر خالقاً تاركاً.
س- لماذا جمعت في تسمية المبدأ الرأسمالي بين الرأسمالية والديمقراطية؟
ج- من باب حقيقة هذا المبدأ الكلية من كونه يجمع بينهما معاً، وأن حمل اسم الرأسمالي من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه.
س- ومن أين جاءت الديمقراطية الى المبدأ الرأسمالي؟
ج- من فكرة الحريات الأربعة التي تدعو عقيدته للمحافظة عليها بين بني البشر.
س- وكيف كان ذلك؟
ج- عندما رأت العقيدة الرأسمالية فصل الدين عن الحياة وإعطاء الانسان الصلاحية في وضع تشريعاته بنفسه دون حاجة للعودة الى خالقه الذي كما تقول خلقه وتركه، فانها أعطت الانسان الحق في التمتع بالحرية التي تمكنه من أن يكون سيد نفسه بعد أن شطبت السيادة الربانية عنه. والتمتع بالحرية لا يتم الا اذا شمل كما تقول جميع جوانب حياته: العقيدة والرأي والتملك والذات. أي يتمتع بحرية العقيدة وحرية الرأي وحرية التملك والحرية الشخصية. ومن حرية الملكية ظهر النظام الاقتصادي الرأسمالي، وبرز حتى سيطر على المبدأ، فسمي المبدأ به. ومن الحريات الاربعة ظهرت الديمقراطية التي ترى سيادة الفرد لنفسه يتصرف بها كيف يشاء، وسيادة الشعب لنفسه يحكم بما يشاء، وسيادة الفرد على عقيدته يعتقدها صباحاً ويتخلى عنها مساءاً، وسيادة الفرد على رأيه يقول به كما يشاء ومتى يشاء.
س- ولماذا تجمع بين الاشتراكية والشيوعية في المبدأ الاشتراكي؟
ج- لأن الاشتراكية انواع عديدة منها ما تنبثق منه الشيوعية، ومنها ما لا علاقة له بالشيوعية، كالاشتراكيات الغربية او حتى التي تسند زوراً وبهتاناً للاسلام.
س- إذن لماذا لم تطلق على هذا المبدأ اسم الشيوعي وليس الاشتراكي؟
ج- لأن الشيوعية لا وجود لها في الارض، والموجود هو اشتراكيتها. فمن باب التوضيح نذكر الاسم المناسب للواقع القائم ولا سيما ان اصحابه يدّعون ان واقعهم هو المرحلة السابقة للشيوعية. وإن كان الواقع الجاري الآن في عالمهم الاشتراكي ينقض ذلك، إذ أن اشتراكيتهم قد أخذت تتقهقر الى الوراء حسب مراحلهم وتعود الى الرأسمالية.
س- ولماذا لا يوجد للاسلام دولة او دول كما تقول، بينما نسمع في وسائل الاعلام بوجود دول اسلامية؟
ج- لأن الدولة لا توصف بأنها رأسمالية او اشتراكية او اسلامية جزافاً او مجازاً. وإنما لأنها تعتنق عقيدة هذا المبدأ وتطبق أنظمته على مجتمعها وتدعو لها. والاسلام لا يوجد دولة واحدة في العالم اليوم تفعل في حقه ذلك كله. وأما ما نسمعه في وسائل الاعلام اليوم فهو من باب كون هذه الدول من العالم الاسلامي، وأن أكثرية سكانها من المسلمين. ولذلك نلاحظ في هذه الدول انتشار الدعوات الاسلامية التي تسعى لتطبيق الشريعة الاسلامية في حياتها لتصبح في النهاية دولة اسلامية بحق وليس بالمجاز ومجرد التسمية غير الحقة.
س- لماذا وصفت المبدأ الرأسمالي بأنه أخطر المبادئ الثلاث؟
ج- لأنه يتحكم في مصائر اكثر سكان الارض اليوم سواء من كان في العالم الغربي او الشرقي، هذا من جهة، ولكون الدولة الاولى في العالم الآن وهي أميركا تعتنقه وتعمل لإخضاع العالم له حتى بات العالم الاشتراكي وعلى رأسه روسيا ومن بعدها الصين في طريق الانهيار النهائي، من جهة اخرى.
س- كيف يسيطر الاقتصاد والمال في المبدأ الرأسمالي على الجوانب الاخرى؟
ج- لكون المنفعة المادية هي القيمة الغالبة على كل شيء في نظر هذا المبدأ. مما يجعل من يملك منها أكثر يسيطر على المجتمع ويتحكم بدولته ويوجهها بوجهته. لذلك نجد أن ملوك المال والاقتصاد في أميركا هم الذين يأتون برئيسها ويوجهونه.
س- هل من أمثلة على الحروب باسم الدين في تاريخ اوروبا؟
ج- هناك حرب الوردتين، وحرب السبع سنين، وحرب المائة عام، والحرب الدائرة الآن بين الايرلنديين والبروتستانت في بريطانيا.
س- هل من امثلة على المفكرين والفلاسفة الذين قادوا الحملة الفكرية ضد الكنيسة واستخدامها لاستغلال الشعوب من قبل الملوك والقياصرة؟
ج- هناك روسو، وفولتير، ودوركايم، وفرويد، وديكارت، وكانت، وارزموس، وزوينجلي، وغيرهم.
س- هل من مثال على من أنكر الدين كلياً؟
ج- لورباخ الذي يعتبر الأب الروحي لماركس. وإن كان لهيغل صاحب نظرية العقل الأول أثره على ماركس، بالرغم من أنه هاجم فكرته وقال بصحة عكسها، أي أن أصل الوجود ليس العقل الاول وإنما العقل هو الثاني بعد المادة، وأنه مجرد انعكاس لها على الدماغ.
س- وهل بقي رجال الدين يتفرجون على كراسيهم وهي تتهاوى أم حاولوا إنقاذها؟
ج- لقد حاولوا إنقاذها بأمرين: أحدهما في الداخل: عندما ظهرت حركات الاصلاح الديني كما يسمونها مثل اللوثرية والكلفينية، وثانيهما في الخارج: عندما حاولوا قيادة الحملات الصليبية على الدولة الاسلامية ووضعوا انفسهم تحت خدمة الملوك والأمراء في اوروبا بحجة حماية الأماكن المقدسة، وما هي الا وسيلة لتقاسم الغنائم والتعبير عن أحقاد الصليبية ضد الاسلام الذي سعى دائماً لإنقاذ شعوبهم من الظلام والظلم.
س- ما معنى قول ماركس: "الدين أفيون الشعوب"؟
ج- تأثراً بواقع اوروبا الرهيب باسم الدين وقيادة رجال الدين مع الملوك والأباطرة والقياصرة، أصدر ماركس حكمه على الدين كدين بأن الاعتقاد به يعطل الحياة ويشلّ الشعوب عن الحركة ضد الظلم والاضطهاد. مما جعله بهذا الاعتقاد يقع في خطأين قاتلين: أحدهما شمولية الحكم على جميع الأديان سواء قبل الاسلام او الاسلام نفسه، مع أنه لو جاز هذا الوصف بحق الأديان السابقة للاسلام لأنها استخدمت من رجالها لاستغلال الشعوب وتخديرها عن القيام ضد هذا الاستغلال من جهة، ولأنها عملت فيها اصابع العبث والتحريف عملها من جهة اخرى. فكيف يجوز ان يوصف بذلك الاسلام وآثاره الباهرة النيرة ما زالت تدوي في الآفاق بعامة وفي أطراف بل قلب اوروبا بخاصة!
س- لماذا ننكر قول الاشتراكية بأن الفكر انعكاس الواقع على الدماغ؟
ج- لأن الفكر لا يتم فيه انعكاس مطلقاً. وكل ما يحصل هو شيء آخر. لأن الانعكاس حتى يتم يحتاج الى مرآة عاكسة، وهي غير موجودة في واقع الدماغ. وكل ما يحصل هو انتقال وليس انعكاساً للواقع الى الدماغ. ولكن هل هذا الانتقال كافٍ لإيجاد الفكر في الدماغ مهما كان عبقرياً! بالتأكيد، لا. لأن الانتقال بشكل سليم ودقيق او غير سليم ولا دقيق هو مهمة الحواس، ولا بد أن تكون هذه الحواس سليمة حتى يتم الانتقال بشكل سليم ودقيق. وأي خداع حسّي يؤدي الى الفكر الخطأ. ثم: هل نقل الواقع بالحواس السليمة الى الدماغ يوجِد الفكر؟ اننا نشاهد ان الطفل الصغير لا يتحقق لديه الفكر كالرجل البالغ. صحيح أن هذا عائد لنضج الحواس من جهة، ولكنه ايضاً عائد الى سبب آخر مهم كأهمية سلامة الحواس ونضجها، ألا وهو وجود مخزون من المعلومات، واستعانته بها، وأن يفهم الواقع المنقول اليه ويصدر حكمه عليه. وإلا، فمن أين يمكن لانسان لا يجيد اللغة الصينية او لا يعرف حروفها أن يقرأ صفحة كتاب من كتبهم، بل أن يعرف أنها مكتوبة بلغتهم اذا لم يعطَ معلومات عن تلك اللغة وحروفها. فالحواس ستنقل صورة الصفحة بحروفها وكلماتها و جملها الى الدماغ، ولكنه لن يستطيع ان يصدر حكمه عليها الا بعد ان يعطى معلومات عنها.
rajaab
21-07-2005, 06:50 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة الرابعة
العرض:
بعد أن رأينا في الندوة السابقة كيف نشأت عقائد المبادئ الثلاث، وكيف كانت عقائد عملية تحقق الحلول لجميع مشاكل الحياة، مما جعلها عقائد مبدئية لا فلسفية خيالية، نأتي في هذه الندوة للمقارنة بين هذه المبادئ في نظرتها للانسان ومثله العليا والمجتمع وقيمه وتنظيمه وتنفيذ أنظمته.
أما الرأسمالية والاشتراكية فانهما بالرغم من اختلافهما في الفكرة الاساسية عن الانسان ومعه الكون والحياة، الا انهما تتفقان في أن المثُل العليا للانسان هي تلك القيم العليا التي يضعها الانسان لنفسه، وأن السعادة لدى كل منهما هي التمتع بأكبر حظ من المتع الجسدية في حياته، وأن هذا التمتع هو واسطة السعادة بل السعادة نفسها. كما أنهما متفقتان على اعطاء الانسان حريته الشخصية ليتصرف كما يشاء ويريد لتحقيق سعادته، مما يجعل الحرية الشخصية من مقدسات هذين المبدأين.
هذا بالنسبة لاتفاقهما، اما بالنسبة لاختلافهما فهما تختلفان في النظرة الى الفرد والمجتمع. فالرأسمالية ترى ان المجتمع مكون من افراد، ولذلك فهي مبدأ فردي، وتركز تقديرها حول الفرد وضمان الحريات له، مما جعل حرية العقيدة من مقدسات هذا المبدأ. وجعل الحرية الاقتصادية ايضا من مقدسات هذا المبدأ. ولكن هذه الحرية، اي الاقتصادية، لا تقيد بفلسفتها التي تعني التصرف في هذا المجال بلا موانع ولا حدود وإنما تقيد بتدخل الدولة لضمان الحريات للآخرين. والدولة تنفذ هذا التقييد بقوة الجندي وصرامة القانون، وإن كانت الدولة تبقى بهذا المفهوم وسيلة لا غاية، وتبقى السيادة للافراد لا للدولة. هذا بالنسبة للرأسمالية. وأما الاشتراكية فانها ترى ان المجتمع مجموعة عامة من البشر وعلاقاتهم بالطبيعة بحيث تكون أجزاء هذه المجموعة، أي الانسان والطبيعة والعلاقات كلها شيئا واحداً. وتتطور كلها معاً تطوراً واحداً بحيث لا يستطيع الفرد الا السير مع المجموعة كما يسير السن في الدولاب. وهذا يعني ان الفرد لا يملك حرية العقيدة ولا حرية اقتصادية. فالدولة هي القيّمة على العلاقات وهي التي تقيّد العقيدة وتقيّد الاقتصاد، مما يجعلها (أي الدولة) من مقدسات هذا المبدأ.
وأما الاسلام فانه لا يرى ان المثُل العليا للانسان والمجتمع من وضع الانسان نفسه بل هي من أوامر الله ونواهيه. فلا يلحقها التغير ولا التطور. فنرى ان المحافظة على نوع الانسان، وعلى عقله، وعلى كرامته، وعلى نفسه، وعلى الملكية الفردية، وعلى الدين، وعلى الأمن، وعلى الدولة، هي أهداف عليا ثابتة للحفاظ على الفرد والمجتمع دون أن يصيبها اي تغيير ولا تطور. ولذلك وضع للمحافظة عليها عقوبات قاسية من حدود وقصاص وتعازير. كما اعتبر المحافظة عليها أهدافاً واجبة لأنها أوامر ونواهٍ من الله وليس لأنها تحقق قيماً مادية في الحياة. مما يجلب الطمأنينة للمسلم، ويحقق السعادة لديه، وهي التي تتمثل في نوال رضوان الله سبحانه وتعالى وليس في إشباع الجسد وتوفير متعه.
ولكن كيف نظر الاسلام الى الانسان في ذاته اولاً، وفي عضويته في المجتمع ثانياً وأخيراً؟
أما بالنسبة للانسان في ذاته فقد رآه الاسلام صاحب حاجات عضوية وغرائز، كحاجة المعدة وغيرها من اعضاء الجسم، وغريزة النوع وغيرها من الغرائز. ونظّمها جميعها ليشبع جوعاتها بشكل منسق دقيق لا على حساب بعضها البعض ولا بكبت بعضها وإطلاق البعض، وإنما بما يحقق للانسان الهناءة والرفاه ويبعده عن مستوى الحيوان بفوضوية الغرائز.
وأما بالنسبة لعضوية الانسان في المجتمع فقد رآه جزءا غير منفصل عن الجماعة كجزئية العضو من الجسم لا كجزئية السن في الدولاب. فاعتنى به بحيث تؤدي هذه العناية الى المحافظة على الجماعة، واعتنى بالجماعة في نفس الوقت بوصفها كلا من أجزاء بحيث تؤدي هذه العناية الى المحافظة على الفرد. فقال عليه السلام " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها اذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً". فبهذه النظرة للفرد والجماعة يرى الاسلام للمجتمع مفهوماً خاصاً هو أنه مجموعة من الناس بينهم علاقات ناشئة عما يلتقون به من افكار ومشاعر لديهم وعما ينظمون شؤونهم به من أنظمة، وأن هذه الافكار والمشاعر والانظمة هي مجموعة الأوامر والنواهي الشرعية. فيكون المسلم مقيداً في الحياة كلها بالاسلام ولا ترد عنده الحريات ولا افكارها، كما في الرأسمالية او الاشتراكية. فلا حرية في العقيدة بعد إيمان، وكل ارتداد يستحق القتل "من ارتد منكم عن دينه فاقتلوه" .. ولا حرية شخصية، فكل زنا يعاقب عليه بحد الجلد او الرجم "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" وكل شرب للخمر يعاقب بحد الجلد .. ولا حرية اقتصادية فالتملك بأسبابه الشرعية دون سرقة ولا نهب ولا غش ولا ربا .. والانفاق بحدوده دون إسراف او تبذير. فالاسلام، ومبدأ الاسلام، والأوامر والنواهي الشرعية، هي المقيدة والحافظة، والدولة هي المنفذة. أي ان الشرع هو صاحب السيادة، وليس الدولة كما في الاشتراكية، ولا الأمة كما في الرأسمالية، وإن كانت الأمة هي صاحبة السلطان أي طريقة تنفيذ النظام بالاعتماد على تقوى الله في الفرد المؤمن بالاسلام.
المناقشة:
س- ما هي الفكرة الاساسية لدى الراسمالية؟
ج- هي ان الوجود من كون وانسان وحياة مخلوق لخالق، ولكنه سبحانه غير مدبّر لهذا كله، وإنما تارك له لتدبير نفسه وتنظيم الانسان.
س- ما هي الفكرة الاساسية لدى الاشتراكية؟
ج- هي ان هذا الوجود غير مخلوق لأحد، وإنما هو مادة، ولا يأتي تدبيره وتنظيمه الا من المادة وتطورها المادي.
س- ماذا تعني عبارة "المثل العليا"؟
ج- هي الأهداف الكبرى التي لا يهنأ الانسان بدونها.
س- ما الفرق بين المثل والقيم؟
ج- إنهما بمعنى واحد من حيث ان المثل قيم في حياة الانسان، وأن القيم مثل يتمثلها في حياته، وإن كانت قد تقلّ او تكثر تبعاً لمجالاتها فتكون أربع قيم وثمانية مثل عليا.
س- كيف تتفق الرأسمالية والاشتراكية في المثل العليا؟
ج- لكونهما تريان ان الانسان هو المدبّر لنفسه وحياته، وبالتالي فهو يضع قيمه وأهدافه الكبرى بنفسه.
س- لماذا تريان ان السعادة هي المتع الجسدية؟
ج- لأن من يضع قيمه ومثله وأهدافه الكبرى بنفسه لا يرى الا نفسه وجسده، ولا يستشعر الا الراحة والطمأنينة بجانب هذه المتع الجسدية.
س- وكيف تتفقان في اعطاء الانسان حريته الشخصية؟
ج- لأنها السبيل الى المتع الجسدية.
س- ماذا تعني الحرية الشخصية؟
ج- أن يتصرف الانسان بشخصه كما يشاء ويفعل ما يريد دون تدخل من غيره.
س- ماذا تعني حرية العقيدة؟
ج- ان يعتقد الانسان ما يشاء من معتقدات، متى يشاء، ويتركها متى يشاء، دون تدخل من غيره في ذلك.
س- ماذا تعني الحرية الاقتصادية؟
ج- أن يملك الانسان ما يشاء، وبأي كيفية وكمية يشاء، ويتصرف به كما يشاء، دون تدخل من غيره في ذلك؟
س- ماذا يعني ان الحرية الاقتصادية لا تقيّد بناءاً على فلسفتها؟
ج- أي ان تحديد كيفية التملك او مقداره، او كيفية التصرف بما يملك، لا يأتي من حقيقتها التي تعني عدم التحديد. وإنما يأتي من غيرها، وهو عندهم الدولة وقوة جندها وشدة قانونها.
س- ماذا يعني ان الدولة لدى الرأسمالية وسيلة وليست غاية؟
ج- أي انها لتقييد الحريات وحفظها. فمتى تحقق ذلك، أمكن الاستغناء عنها.
س- ماذا تعني ان السيادة للأفراد لا للدولة؟
ج- أي انهم يقررون كل شيء في الحياة بملء إراداتهم ومشيئاتهم تبعاً لحرياتهم. وما الدولة في حياتهم الا من صنع إراداتهم لتقييد هذه الحريات وصيانتها ليس غير.
س- ماذا يعني هذا في واقع الحياة بالنسبة للدين؟
ج- يعني ان الدين يجب فصله عن الحياة وأنظمتها وتشريعاتها. لأن الفرد هو الذي يضع ذلك باتفاق ارادته مع ارادات الآخرين.
س- ماذا تعني نظرة الاشتراكية ان العلاقات بين البشر والطبيعة حتمية في وجودها وفي الخضوع لها؟
ج- أي ان البشر تعتبر الطبيعة جانباً من شخصية كل منهم، بحيث لا يتطور الانسان الا مع هذا الجانب. فهو خاضع له خضوع الشيء لجزئيته.
س- ماذا تعني الطبيعة لدى الاشتراكية؟
ج- إنها البيئة المادية بكل ما فيها من أدوات في ذاتها وفي علاقة الانسان بها.
س- فماذا يعني المجتمع لديهم إذن؟
ج- إنه البشر + أدوات الانتاج + علاقات الانتاج. أي البشر وعلاقاتهم بالأدوات.
س- لماذا أدت هذه النظرة للمجتمع الى عدم وجود حرية عقيدة وحرية اقتصادية للفرد؟
ج- لأن الفرد يعيش مع الأدوات وعلاقاتها، ولا يملك غير ذلك. والأدوات هي التي تملي عليه – كما يرون – نوع العلاقات، وبتطورها الى اشكال اخرى تتطور تلك العلاقات. فهو خاضع لهذا التطور المادي. فلا حرية له أن يعتقد خارج هذا التطور المادي، ولا أن يملك او يتصرف في ملكه خارج هذا التطور ايضاً.
س- فمن أين يأتي تقييد العقيدة عندهم إذن؟
ج- من إرادة الدولة. وهي ايضا التي تقيد الاقتصاد. والدولة عندهم هي خلاصة او جماع العلاقات المادية في التطور المادي.
س- ماذا يعني ذلك في واقع الحياة بالنسبة للدين؟
ج- أنه لا وجود للدين أصلاً في واقع الحياة عندهم. وإنما هو من صنع البشر لعلاقاتهم بالنسبة للطبيعة سواء من خوفهم من مظاهرها او تقرّبهم اليها.
س- ماذا يعني في الاسلام ان الأهداف العليا لحفظ المجتمع ثابتة لا تتغير ولا تتطور؟
ج- يعني ذلك أن أوامر الله سبحانه ونواهيه التي حددت كيفية صيانة المجتمع من جميع جوانبه ثابتة لكل زمان وكل مكان. وليست خاضعة لا لارادة الانسان ولا لارادة المجتمع. وإنما خاضعة فقط لارادة رب الانسان الذي خلقه ويعلم بحق ما يصلح لبقائه فرداً ومجتمعاً.
س- ما الفرق بين المحافظة على نوع الانسان وعلى النوع الانساني؟
ج- نوع الانسان من حيث أنه ذكر او أنثى. والمحافظة عليه تتم بنظام خاص لغريزة النوع هو نظام الزواج في الاسلام. وأما النوع الانساني فمن حيث أنه غير النوع الحيواني. والمحافظة عليه تتم بنظام لغريزة البقاء سواء في حبه للتملك او الدفاع عن النفس او الدفاع عن الوطن او حب السيطرة … وغيرها.
س- كيف يحافظ الاسلام على أهداف المجتمع العليا؟
ج- بالعقوبات الصارمة من حدود وقصاص وتعازير يتناسب كل منها مع كل هدف من الأهداف العليا تلك.
س- هل جوعة الاعضاء والغرائز تختلف عن الميل؟
ج- لا. وإنما هي نفسها لأن جوعة الجنس مثلاً هي ذات الميل الجنسي، وهو أحد مظاهر غريزة النوع التي تظهر بها في الحياة البشرية.
س- ما الفرق بين نظرة الاسلام للفرد والجماعة وبين نظرة الاشتراكية؟
ج- الاسلام يرى الجماعة كلا مكونا من افراد بحيث يراعي الفروق الفردية لكل فرد في ذاته، كأن يشجع قدراته ويمكنه من إشباعها إشباعاً كلياً يحقق له الطمأنينة، كما يراعي فروقه في مكانته بين جماعته، كأن يعطيه الحق للتمتع بما هو لمثله. بينما الاشتراكية لا تسمح للفرد بالخروج عن جزئيته كسنّ في دولاب الجماعة. فلكل من الفرد والجماعة حقوقهما في الاسلام دون طغيان وطمس لحقوق الآخر. بينما في الاشتراكية لا حقوق اخرى غير حقوق الجماعة. ولذلك قالوا بدكتاتورية الطبقة العاملة او ما يسمونها البروليتاريا.
س- هل معنى انه لا يوجد في الاسلام حريات أنه قائم على العبودية؟
ج- معناه التقيد بأوامر الله ونواهيه في كل شأن من شؤون حياته. وهذا يعني الإلتـزام والإنطلاق بإرادته وفقاً لهذا الإلتـزام دون تقييد من أحد المخلوقات. وشتان بين العبودية للخالق والعبودية للمخلوق. ففي الاولى تحرير لارادة الانسان من سيطرة جميع المخلوقات، وفي الثانية مصادرة لارادته وسلبها منه بسيطرة مخلوقات اخرى عليه.
س- وهل مكونات المجتمع تختلف بين المبادئ الثلاثة؟
ج- نعم، طالما ان الاسلام يرى ان المجتمع مكون من مجموعة من الناس تربطهم افكار معينة ومشاعر معينة وأنظمة معينة. بينما الاشتراكية ترى ان المجتمع هو مجموعة من الناس تربطهم فيما بينهم أدوات الانتاج وعلاقات الانتاج. بينما الرأسمالية ترى ان المجتمع هو مجموعة من الافراد يتمتعون بالحريات الاربع بتقييد من الدولة للحفاظ على الحريات الفردية لا من فلسفة هذه الحريات التي لا تسمح بالتقييد.
س- ما زال تعبير ان الحريات لا تقيد في الرأسمالية من فلسفتها وإنما من الدولة يحتاج للمزيد من التوضيح؟
ج- الحرية، أي حرية، تعني في حقيقتها عدم التقييد. وهذا يعني أنها في معناها الحقيقي، أي فلسفتها، لا تقبل التقييد، وإلا كانت غير حرية. وعندما تتدخل الدولة في الرأسمالية بحجة حماية الحريات فانها في الحقيقة تقيد حركة الانسان في جميع تصرفاته الفردية والمجتمعية. أي انها تقيد حرياته الاربع كما يقولون، وهكذا الحريات في معناها ضد التقييد. ويكون التقييد من الدولة بحجة حماية هذه الحريات ليس من حقيقة معناها، أي ليس من فلسلفتها.
rajaab
21-07-2005, 06:56 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة الخامسة
العرض:
بعد أن عقدنا المقارنة في الندوة السابقة بين المبادئ الثلاث في نظرتها للفرد والمجتمع، نأتي في هذه الندوة لعقد مقارنة اخرى فيما بينها من حيث عقيدة كل منها التي تنبثق عنها أنظمتها، ومن حيث مقياس أعمال الانسان في الحياة، ونظرتها الخاصة للمجتمع، وطريقة تنفيذها للنظام الذي ينبثق عن عقيدته.
أما بالنسبة للعقيدة، فالشيوعية ترى المادة أصلاً لكل شيء، وكل شيء يصدر عنها بالتطور المادي. بينما ترى الرأسمالية فصل الدين عن الحياة وبالتالي فصله عن الدولة وترفض بحث وجود الخالق وتصرّ على بحث أنه لا دخل للخالق في الحياة. واما الاسلام فيرى ان الله سبحانه وتعالى خالق الوجود ومدبره بما أودع فيه من نظام وأرسل الى البشر من أديان يحاسب كل انسان بناءا عليها على إيمانه وأعماله يوم الحساب، فتشمل عقيدته وإيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى.
وأما بالنسبة لكيفية انبثاق الانظمة عن العقيدة، فالشيوعية ترى ان الانظمة تؤخذ من أدوات الانتاج. فالنظام الإقطاعي يؤخذ من الفأس، والرأسمالي يؤخذ من الآلة، وهكذا تبعاً للتطور المادي للأدوات. وأما الرأسمالية فترى ان الانسان يأخذ أنظمته من واقع حياته بعد أن فصلها عن الدين. وأما الاسلام فيرى ان الله أرسل للانسان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأنظمة التي بلّغه إياها فصار الانسان ملزماً بالسير عليها بدراسة كل مشكلة واستنباط حلّها من كتاب الله وسنّة رسوله.
وأما بالنسبة لمقياس الأعمال في الحياة، فالشيوعية ترى النظام المادي هو المقياس، ولذلك يتطور هذا المقياس بتطور النظام، كما يقولون. وأما الرأسمالية فترى النفعية هي المقياس، فحيثما وجدت وجد العمل. وأما الاسلام فيرى الحلال والحرام هو المقياس، فحيثما وجد الحلال يجري العمل وحيثما وجد الحرام يتوقف، دون تطور ولا تغيير. فلا تحكّم للنفعية ولا تطور او تغيير، وإنما أحكام للشرع فقط.
وأما بالنسبة للنظرة للمجتمع، فالشيوعية ترى أن المجتمع مجموعة عامة مكونة من الانسان والطبيعة والعلاقات باعتبارها كلا واحدا هو المادة. وبتطور الطبيعة وظهور ادوات انتاج جديدة يتطور معها الانسان وتظهر علاقات انتاج جديدة فيتطور المجتمع كله بهذا التطور المادي. فدور الانسان في هذا التطور هو إيجاد التناقضات ليعجّل هذا التطور في المجتمع، مما يوجد التطور في الفرد، فيجعله يدور مع المجتمع كما يدور السن في الدولاب. وأما الرأسمالية فترى ان المجتمع مكون من افراد، بحيث اذا انتظمت أمور الفرد انتظمت أمور المجتمع، وبحيث ان الدولة إنما تعمل للفرد فقط. وأما الاسلام فيرى ان اساس المجتمع هو العقيدة بما تحمل من افكار ومشاعر وما ينبثق عنها من انظمة. بحيث يوجد المجتمع الاسلامي متى سادت الافكار الاسلامية والمشاعر الاسلامية والانظمة الاسلامية. وبحيث يشكل الانسان مع الانسان وحده جماعة، ولكن لا يشكل مجتمعاً الا بالعلاقات فيما بينهم. والعلاقات لا توجد الا بوحدة الافكار والمشاعر والانظمة. وأي فقدان لواحدة منها لا يوجِد علاقات، وبالتالي لا يوجد المجتمع. وهكذا كان المجتمع في نظر الاسلام مكوناً من الانسان والافكار والمشاعر والانظمة. بحيث لو كان جميع الناس مسلمين وافكارهم رأسمالية ومشاعرهم وطنية ونظمهم ديمقراطية، فان مجتمعهم غير اسلامي. فلا بد ليكون مجتمعهم اسلامياً من ان تكون افكارهم من عقيدتهم ومشاعرهم من عقيدتهم ونظامهم من عقيدتهم.
وأما بالنسبة لتنفيذ النظام في واقع الحياة، فالشيوعية ترى الدولة هي المنفّذة بقوة الجندي وصرامة القانون. وأما الرأسمالية فترى الدولة مشرفة على الحريات وتمنع أي اعتداء فردي او جماعي عليها بحيث لا تتدخل عند حصول الاستغلال وأخذ الحقوق بالرضى. وأما الاسلام فيرى التنفيذ من الفرد المسلم بدافع تقوى الله، ومن الدولة بدافع شعور الجماعة بعدالة الاسلام، ومن الأمة بتعاونها مع الحاكم بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن سلطان الدولة بتنفيذ العقوبات، إذ بعد أن تتولى شؤون الجماعة وشؤون الفرد اذا عجز، تعاقب من يخالف. فالدولة في الاسلام ليست كالشيوعية تتولى شؤون الجماعة والفرد وتطور النظام، وإنما هي تتولى شؤون الجماعة فقط في جميع الاحوال ولا تتولى شؤون الفرد الا عند عجزه، وهي لا تطور النظام ولا النظام يتطور أبداً وإن كانت تبقى صاحبة الصلاحية في تبنّي الأحكام الشرعية عند تعدد نتائج الاجتهاد للمسائل الجارية او المستجدة. كما أنها ليست كالرأسمالية لمجرد ضمان الحريات الفردية ولو مهما حصل من استغلال، إذ الافراد مقيدون بالأوامر والنواهي الشرعية ولا يسمح باستغلال أحد لا بالرضى ولا بالإكراه.
المناقشة:
س- ما معنى قول الشيوعية بأن الاشياء تصدر عن المادة بالتطور المادي؟
ج- يقصدون بالتطور المادي انتقال المادة من حال الى حال. ويرون أن هذا التطور يحصل طبيعياً في المادة بذاتها لما فيها من تناقض بين السالب والموجب، ويحصل طبيعياً في الاعمال المادية لما فيها من تناقض بين السلبية والايجابية. فالتناقض في رأيهم هو سبب التطور المادي في كل مادة وكل عمل مادياً كان او معنوياً او روحياً.
س- كيف يرفض الرأسماليون بحث وجود الخالق بينما يبحثون أنه لا دخل له في الحياة؟
ج- لأن بحث هل الخالق موجود أولاً يتركز حول الخالق ووجوده وما يترتب على نتيجة هذا الوجود عندما يثبت. وهم لا يريدون هذه النتيجة سلفاً، لما نال مجتمعاتهم من استغلال الدين ورجاله في العصور الوسطى الاوروبية. ولذلك فهم يحصرون البحث في إبعاد أي تدخل للخالق في الحياة سواءا ثبت وجوده لدى من ثبت او لم يثبت وجوده كلياً. وهم في الحقيقة يتهربون من نتيجة ثبوت وجوده سبحانه ليس غير، حتى لا يلتزموا بالدين الذي أنزله.
س- هل الاسلام يستوي مع الأديان الاخرى في العقيدة؟
ج- نعم. يستوي معها من حيث الايمان بالخالق، مرسل الرسالات لبني البشر، ومحاسب الانسان يوم القيامة على كل ما يصدر منه بإرادته واختياره من أعمال سواءا إتصلت بالايمان او بالمعاملات مع الآخرين او غيرها. ولذلك يلتقي الاسلام مع الأديان الاخرى من حيث أصل الدين وهو التوحيد، ولكنه يختلف فيما انبثق عن الأصل من تشريع "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" – الآية 48 من سورة المائدة.
س- ما معنى الايمان بالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى؟
ج- القضاء كما بيّنا سابقاً، هو الاعمال التي تقع من او على الانسان دون إرادة منه ولا يملك جلبها او دفعها، فان الانسان يفسّر ما يلحقه منها في تقديره من ضرر بالشر وما يلحقه من منفعة بالخير، فالايمان يقتضي أن يؤمن المسلم بالقضاء الذي يقع من او على الانسان، مهما كان تفسيره له بالخير او بالشر، بأنه من الله تعالى. وكذلك القدر فقد بيّنا سابقاً بأنه الخاصيات والقابليات التي أودعها الله تعالى في الاشياء والمواد، الحية و غير الحية. والانسان باستخدامه لهذه الخاصيات والقابليات قد ينتج ضرراً حسب تصرف الانسان وقد ينتج منفعة حسب تصرف آخر فيفسره بالخير او الشر. فالايمان يقتضي ان يؤمن المسلم بهذا القدر مهما أنتج حسب تصرفات الانسان من خير او شر، وأنه من الله تعالى.
س- ما معنى إنبثاق النظام عن العقيدة؟
ج- إنه صورة عنها. فعندما يكون من العقيدة الاسلامية، أي الايمان بالكتاب والسنّة، فعنهما يؤخذ النظام. وعندما ترى العقيدة الشيوعية ان التطور المادي هو خالق الاشياء، فإنه منه النظام، وذلك بأن أدوات الانتاج التي تتغير وتتطور من فأس الى آلة هي التي يؤخذ منها النظام، فالفأس يعطي نظام الاقطاع والآلة تعطي النظام الرأسمالي. وعندما ترى العقيدة الرأسمالية فصل الدين عن الحياة، فان وقائع الحياة يؤخذ منها النظام بما يراه الانسان صالحاً لنفسه ومجتمعه.
س- كيف ينبثق النظام من القرآن والسنّة؟
ج- بأن يدرس المسلم المشكلة حتى يعيها تماماً، ثم يدرس ما يتعلق بها من أدلّة من القرآن والسنّة، وما أرشدا اليه من قياس وإجماع اذا لم يجد في الكتاب والسنة، ويستنبط حلّها من الأدلة المتعلقة بها. وهذه الحلول المستنبطة هي النظام.
س- كيف يتطور مقياس الاعمال لدى الشيوعية؟
ج- يتم ذلك بتطور النظام المادي الذي يرونه مرتبطاً بأدوات الانتاج وتطورها. فنظام الاقطاع الذي يقدم مقياسه المعين يتطور هذا المقياس في النظام الرأسمالي تبعاً لتطور أداة الانتاج من الفأس الى الآلة.
س- ولماذا لا نعتبر مقياس الاسلام في الحياة، وهو الحلال والحرام، قابلاً للتطور ما دام يراعي المصلحة الفردية والجماعية في كل زمان ومكان؟
ج- المصلحة في نظر الاسلام هي حيث الحكم الشرعي في حل كل مشكلة، أي حيث الحلال والحرام. فاذا رأى الاسلام ان شيئاً حلال فهناك المصلحة وليس العكس. واذا رآه حراماً فهناك المنفعة وليس العكس. ومعنى القول بأن ما يراه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، أن ما يرونه تبعاً للحلال والحرام، وليس مخالفاً لهما.
س- هل من مثال او اكثر على ذلك؟
ج- نعم، لحم الخنـزير، لو استحسنه مسلم – تبعاً لتأثره بغير المسلمين – لا يرى الاسلام في أكله مصلحة، ولا في تجارته مصلحة، لأنه محرم مهما أتى منه من منفعة. وكشف المرأة لجسمها، لو استحسنه مسلم – تبعاً لغيره من غير المسلمين – لا يراه الاسلام مصلحة، مهما كان في ذلك من استحسان او منفعة، لأنه محرم. وحكم الديمقراطية، لو استحسنه أي تجمع من المسلمين – تبعاً لتأثرهم بالواقع - لا يراه الاسلام مصلحة، لأنه محرم لخروجه على سيادة الشرع الى سيادة الشعب، مهما كان في ذلك من منفعة … وهكذا.
س- هل الطبيعة لدى الشيوعية تعني الأرض والبيئة المناخية المحيطة بها؟
ج- لا. وإنما تعني طبيعة الارض والبيئة والأدوات من حيث خاصية السالب والموجب التي تتصف بها. والتي يسمونها بالتناقض وينسبون اليها سبب التطور، متجاهلين مَن خلقها على هذا النظام وعجز هذا النظام عن تعيير ذاته، ناهيك عن ايجاد هذه الذات.
س- ماذا يعني ان دور الانسان - في نظر الشيوعية - هو ايجاد التناقضات ليعجّل التطور المادي؟
ج- هذا يعني ان يوجِد الانسان الصراع بين الأغنياء والفقراء في المجتمع لينتقل او يتطور من حال الى حال، كما يقولون. أو يوجِد الأدوات الانتاجية الجديدة المتطورة التي توجِد كما يقولون أنظمة جديدة في المجتمع فيتطور المجتمع تبعاً لها من حال الى حال.
س- وهل الدولة في الرأسمالية لا تعمل للجماعة بل تعمل للفرد؟
ج- إن عملها للجماعة الذي يظهر ليس من باب تولّي شؤون الجماعة جنباً الى جنب مع شؤون الفرد، وإنما من باب تدخلها وتقييدها للجماعة من أجل مصلحة الفرد. فالحريات الفردية والمصلحة الفردية هي الأساس والغاية، وما تنظيم الجماعة إلا من أجل الفرد والفردية ليس غير.
س- ما دامت المصلحة في نظر الاسلام هي التي توجِد العلاقة بين الناس ليتشكل المجتمع، فلماذا تستنكر مراعاة المصلحة في الاعمال؟
ج- المصلحة ما يراه الناس صالحاً لجماعتهم وأفرادهم، وهذه الرؤية تتشكل من أثر أفكارهم ومشاعرهم وأنظمتهم الاسلامية، ولا تتشكل من النظرة المادية او النفعية، أي من أوامر الله ونواهيه. ومراعاة وجود هذه الأحكام الشرعية يوجِد المصلحة فيراعى وجودها في الحياة لتوجد المصلحة في كل جانب من جوانب الحياة، فلا نستنكر المصلحة التي تقررها الاحكام الشرعية وإنما نستنكر أن تقرر المصلحة لنا الأحكام.
س- هل كثرة المسلمين او قلّتهم هي التي تقرر نوعية المجتمع الذي يعيشون فيه؟
ج- لا. وإنما الذي يقرر نوعية المجتمع من حيث أنه اسلامي او غير اسلامي هو وجود جميع عناصره او فقدانها كلها او بعضها. فهو مجتمع كافر اذا فقدت كلها، وغير مسلم اذا فقدت بعضها.
س- ما الفرق بين الشيوعية والاسلام اذا كانت الدولة في كل منهما تتولى عن الفرد وعن الجماعة شؤونهم؟
ج- في الشيوعية تتولى الدولة عن الفرد وعن الجماعة شؤونهم كلها. ولكن في الاسلام لا تتولى الدولة إلا شؤون الجماعة، اما الفرد فلا تتولى شؤونه الا عند عجزه عن تحقيق سعادته وطمأنينته.
س- ما الفرق بين قوة الجندي وصرامة القانون في الشيوعية، وسلطان الدولة في الاسلام؟
ج- عند تنفيذ النظام تلجأ الشيوعية للعنف المادي دائماً لأنه السبيل الوحيد لتنفيذ نظام لا يشعر الناس بعدالته. وأما في الاسلام فانها لا تلجأ للعنف المادي الا ضد العدد النادر ممن يخرجون على النظام، لأن جماعة المسلمين يؤمنون بعدالته كما ينفذونه بدافع تقوى الله وتعاونهم مع الحاكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا يظهر العنف المادي الا عند تنفيذ الحدود وغيرها من العقوبات فقط. وشتان بين العنف المادي عند تنفيذ النظام أصلاً وبين ذلك عند الخروج على بعض أحكامه فقط، ومن قبل النادر القليل من جماعة المسلمين.
س- ما زال قول الشيوعية بصدور الاشياء عن المادة بتطورها يحتاج للمزيد من التوضيح؟
ج- لما كان قول الشيوعية بالتطور المادي، وأنه عندهم يعني انتقال المادة من حال الى حال، فان هذا الانتقال هو الذي ينتِج الاشياء. فمثلاً عندما ترتفع درجة حرارة الماء الى الغليان فانه يتحول الى بخار، وهذا البخار ينتِج حركة دفع قوية تنتِج بدورها اشياء جديدة من المصنوعات التي تصنع بهذه الحركة، او تحرك اشياء كالقطارات التي تتولى بحركتها نقل الاشياء من مكان الى آخر. وبهذا الانتقال المادي تنتج افعال وتنتج اشياء. وهذا ما يعنونه بقولهم صدور الاشياء بالتطور المادي.
rajaab
22-07-2005, 04:42 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة السادسة
العرض:
بعد أن عقدنا في الندوتين السابقتين مقارنات بين المبادئ الثلاث حول صلتها بالانسان والمجتمع من جوانب معينة، بقي أن نكمل هذه المقارنات بأخرى بل أخيرة، ولكنها خطيرة، إن لم تكن أخطرها.
لقد قلنا في اول ندوة من هذه الندوات الاسلامية ان مقياس صحة العقيدة، أي عقيدة، هو اتفاقها مع فطرة الانسان وبناؤها على العقل. ذلك لأن الفطرة الانسانية والعقل الانساني هما الصفتان الوحيدتان اللتان تميزان الانسان عن غيره من المخلوقات. ولأن أي عقيدة اذا لم تكن ايجابية معهما فهي لن تكون انسانية، لا في اساسها من حيث انها لم تراعي ذاتية الانسان، و لا في غايتها من حيث انها لن تحقق الخير والسعادة للانسان.
فما هو مدى موافقة المبادئ الثلاث لفطرة الانسان، وبنائها على العقل؟
أما بالنسبة لموافقة الفطرة فان الاسلام هو وحده من بينها الموافق لها. لأن التدين فطرة في الانسان. والتدين هو الإحتياج الى الخالق المدبر الناشئ عن العجز الطبيعي في الانسان. وهو غريزة ثابتة لها رجع معين هو التقديس. ولذلك كانت الانسانية في جميع العصور متدينة تعبد شيئاً. فعبدت الانسان والأفلاك والحجارة والحيوان والنيران وغير ذلك. وجاء الاسلام ليخرج الانسانية من عبادة المخلوقات الى عبادة الله الخالق المدبر. ولكن الشيوعية أنكرت وجود الله ووجود الروح، ونقلت تصور الانسان وإدراكه وتقديسه لخالقه الى تقديس المبدأ وحمَلَتِه من المخلوقات، فرجعت بالانسان الى الوراء. ولم تستطع القضاء على فطرة التدين فيه، وإنما حوّلتها بالمغالطة تحويلاً رجعياً. ولذلك كانت عقيدة هذا المبدأ مخفقة من ناحية فطرية. لأنها تختلف عن طبيعة الانسان، مما إضطرها أن تلجأ للقوة لإخضاع الناس لمبدئها. وكذلك الرأسمالية فانها مخالفة لفطرة الانسان، فطرة التدين، التي كما تظهر في التقديس تظهر في تدبير الانسان لأعماله في حياته لظهور اختلافه وتناقضه حين يقوم بهذا التدبير. وهذا هو دليل العجز. وهذا يفرض ان يكون الدين هو المدبر لأعمال الانسان في الحياة. والرأسمالية قد ابعدت الدين من الحياة الانسانية. علماً بأن وجوده فيها لا يقف عند العبادات بل يشمل ايضاً التزام النظام الذي أمر الله به كخالق ومدبر التزاماً كلياً في معالجة جميع مشاكل حياة الانسان. فهذه العقيدة ايضاً عندما أبعدت الدين من الحياة كانت مخالفة لفطرة الانسان. وكانت مخفقة من ناحية فطرية. وكانت سلبية بفصلها للدين عن الحياة وجعله مسألة فردية. فيكون الاسلام وحده بعقيدته التي تقرّ التدين ومظهريه في التقديس والتدبير هو الموافق للفطرة الانسانية والناجح من هذه الناحية.
واما بالنسبة للبناء على العقل، فعقيدة الاسلام هي وحدها العقيدة الايجابية للانسان. لأنها تجعل العقل أساس الايمان بوجود الله، بما تلفت النظر اليه في الكون والانسان والحياة، ليجزم بوجود الله الخالق المدبر. وتدل الانسان الى ما يبحث عنه بفطرته من كمال مطلق، وترشد عقله اليه ليدرك وجوده ويؤمن به. كما أنها تفرض على المسلم ان يؤمن مع وجود الله بنبوّة محمد وبالقرآن الكريم عن طريق العقل، والمغيبات التي أتى بها شيء ثبت وجوده بالعقل من قرآن وحديث متواتر. أما الشيوعية فهي مبنية على المادية وليس على العقل، وإن توصل اليها العقل. لأنها ترى وجود المادة قبل الفكر، وأن المادة هي أصل الاشياء كلها. وتقول بأن المادة حين تنعكس على الدماغ يوجد الفكر، وذلك عندما يفكر الانسان بالمادة التي انعكست على دماغه. فلا فكر قبل الانعكاس. وهذا الزعم خطأ من ناحيتين: الاولى: لأن الانعكاس بين المادة والدماغ غير موجود، لعدم وجود قابليته بينهما كما هو بين المرآة وغيرها. والموجود بينهما هو انتقال الاحساس بالمادة الى الدماغ بوساطة الحواس. وهذا متحقق في العين وغيرها من الحواس. والثانية: أن الاحساس بالواقع لا يوجِد فكراً وإنما إحساساً فقط مهما تعدد. فلا بد من وجود معلومات سابقة عند الانسان لتفسير الواقع الذي أحسّ به حتى يحصل الفكر. فالحس بكتاب بالصينية مثلاً لا يمكن ان يوجِد أي فكر عن هذه اللغة لمن يجهلها مهما تنوع إحساسه بالكتاب. ولكن عندما نعطي الانسان الذي يحاول ذلك معلومات عن الصينية فانه يستعملها فيدرك بالفكر انها اللغة الصينية. وهذا ما يسمى بالادراك العقلي. وهو ما يمتاز به الانسان عن باقي المخلوقات. أما الادراك الشعوري فناتج عن الغرائز والحاجات العضوية، كما يحصل لدى الحيوان ويحصل لدى الانسان دون العقل. ولهذا لا يمكن ان يوجد الفكر والعقل والادراك لدى الانسان الا اذا وجدت المعلومات السابقة مع نقل الاحساس بالواقع بواسطة الحواس الى الدماغ. وعليه فان العقيدة الشيوعية مخطئة في فهمها للفكر وفاسدة في عدم بنائها على العقل. وأما الرأسمالية فهي مبنية على الحل الوسط بين رجال الكنيسة والمفكرين، وهو فصل الدين عن الحياة. أي الاعتراف بالدين ضمناً وفصله عن الحياة. ولذلك كانت حلّ ترضيةٍ او وسطٍ أنهى الصراع العنيف الذي استمر قروناً بين المفكرين ورجال الكنيسة. مما جعل الحل الوسط فكرة أصيلة عندهم تظهر بالتقريب بين الحق والباطل والايمان والكفر والنور والظلام، مع أن كلا منها لا يلتقي مع الآخر. ولذلك كانت عقيدتهم فاسدة لأنها غير مبنية على العقل.
وهكذا كانت العقيدة الاسلامية هي الوحيدة الصحيحة السليمة. لأنها موافقة لفطرة الانسان ومبنية على العقل. بينما تلكما الأخريان – الشيوعية والرأسمالية- باطلتان فاسدتان، لأنهما تتناقضان مع فطرة الانسان وغير مبنيتين على العقل.
المناقشة:
س- ما معنى أن الانسان متدين بفطرته؟
ج- معناه أنه بطبعه يشعر أنه ناقص بجانب قوة أكمل منه تستحق التقديس، وأنه محتاج لتدبير هذا الخالق المدبر بسبب عجزه الطبيعي.
س- كيف عبدت الانسانية المخلوقات وفيها نبوّات ورسل؟
ج- كما تعبد اليوم، وفي كل عصر، خروجاً على النبوات والرسل. لأن الانسان يملك أن يؤمن بشيء او بآخر او يكفر به، باختياره وليس جبراً عنه.
س- كأن أصل العبادة هو التقديس؟
ج- بل هو ملازم لها دائماً ولا تحل محله، بحيث لا يحصل أحدهما دون الآخر.
س- كيف كانت العقيدة المادية سلبيةً؟
ج- لأنها لا تتفق مع طبيعة الانسان المتدينة في فطرتها، وتدّعي بأن التدين رجع للخلف في أصله، مع أنه في الحقيقة فطرة مغروزة في الانسان. وما الخوف من الله او من غيره في التقديس الا مظهراً لها.
س- كيف يًتَحيَّل للمادية الشيوعية لإنجاحها بالمعدة والبؤس والحقد والشذوذ العقلي؟
ج- لأنها مناقضة لفطرة الانسان وطبيعته، فان دعاتها يستغلون جوع المعدة وبؤس المحتاج وحقد المخفق في الحياة. ويصوّرون لهم أن الايمان بها والالتزام بفكرها هو السبيل للرفاه والسعادة والخروج مما هم فيه. ويستخدمون في ذلك التشدّق بالنظرية الجدلية الباطلة حسّاً وعقلاً، مما جعلهم شاذين عقلياً.
س- ولكن القوة الفكرية ظاهرة في مناظراتهم مع غيرهم؟
ج- هذه قدرة على الجدل بالتهرب من أصل الانسان والبحث فيه الى حاجات معدته وجسمه المادية.
س- الرأسمالية تعترف بالدين، فكيف تخالف فطرة الانسان؟
ج- هي ترفض البحث في الاعتراف بالخالق ووجوده او إنكاره. وتقول بأن ذلك متروك للفرد يقرر فيه ما يشاء دون أدنى قيمة له في الحياة وشؤونها. بينما فطرة الانسان تقول بأن الحياة لا تستقيم للفرد والمجتمع الا بالدين: تقديساً للخالق من دون غيره، والتزاماً بأوامره ونواهيه في تنظيمات الحياة الفردية والمجتمعية دون غيرها.
س- لماذا تتناقض الشيوعية مع الرأسمالية في تطبيق كل منهما، مع أن كلا منهما مناقض للفطرة؟
ج- لأن الشيوعية تستخدم القوة لإخضاع الناس لمبدئها بالضغط، كما تستخدم القلاقل في وصولها للمجتمعات، طالما هي لا تعترف بفردية الفرد الا كالسن في الدولاب، وأن المهم هو المجتمع وتطبيق المبدأ عليه. وأما الرأسمالية فهي قائمة على فكرة الحريات الأربعة، والفرد والفردية هما الاساس في تطبيقها في المجتمع دون ضغط. فليؤمن الفرد بما شاء وليكفر بما شاء وكلما شاء، وليتصرف كما شاء وبما شاء. وما تدخل الدولة عندهم الا لحماية هذه الحريات الفردية. ومن هنا كان التناقض في التطبيق.
س- ماذا يعني إذن أن العقيدة الاسلامية هي الايجابية الوحيدة؟
ج- يعني أنها الوحيدة التي توافق الفطرة الانسانية بإقرار تدينها الغريزي، وأنها الموافقة او المبنية على العقل، لأنها تجعله أساس الايمان بوجود الله والتزام طاعته.
س- وهل وجد فكر الانسان قبل أن يوجد هو حتى نقول بخطأ الشيوعية التي تقول بوجود المادة قبل الفكر؟
ج- نعم. وجدت مادة التفكير السابقة قبل الانسان نفسه، كما توجد الآن المعلومات التي نعلمها لأطفالنا قبل وجودهم هم.
س- من أين وجدت مادة التفكير الاولى او المعلومات السابقة؟
ج- من خالق المادة والانسان الذي قال في كتابه الكريم "وعلّم آدم الأسماء كلها … " .
س- والتفكير كيف تحصل عمليته في الانسان؟
ج- بأن ينتقل أي واقع بواسطة حاسة او اكثر من حواس الانسان الى دماغه، فيحس بهذا الواقع ويكرر الاحساس مرات ومرات وهو يستنجد بما في دماغه من معلومات سابقة حول هذا الواقع، فيصدر حكمه عليه أنه كذا او كيت بعد وصول النجدة الفكرية الى موقع الحكم والتفكير. ولولا وجود الدماغ السليم للعملية أصلاً، ووجود مخزون من المعلومات السابقة عن الواقع لديه لكان الإحساس بهذا الواقع هو مجرد إحساس ولم ينتقل الى فكر مهما تكرر وتكرر.
س- فلماذا لا نسمي هذا الانتقال للواقع انعكاساً كما تقول المادية؟
ج- لأن انتقال الحس بالواقع الى الدماغ لا يشبه الانعكاس، لعدم وجود قابلية الانعكاس لا في الواقع ولا في الدماغ. اللهم الا اذا أمكن تصوّر أحدهما بأنه مرآة فيها هذه القابلية، وهذا غير موجود.
س- ما الفرق بين الادراك لدى الانسان ولدى المخلوقات الحية الاخرى؟
ج- إن ادراك الانسان يجري بواسطة العملية العقلية في دماغه من خلال إعمال ما يختزنه هذا الدماغ من معلومات سابقة، نظرية كانت او عملية، عندما تنقل الحواس اليه اي واقع يريد إدراكه. فالادراك لديه إذن عقلي. وأما الادراك لدى غير الانسان فيتم بواسطة العملية الغرزية فيه عندما تدعوه اية غريزة لاشباعها فان رجعها الشعوري فيه التمييز بين ما يشبعها وما لا يشبعها طبيعياً. فيميز الطفل مثلاً بين ثدي أمه وبين القطعة من الحجر بهذا الشعور الغريزي، كما يميز الحيوان بين العشب الصالح لغذائه والضار او قطعة الحجر غير الصالحة له. فالادراك لديه شعوري.
س- كيف تبنى العقيدة الرأسمالية على الحل الوسط؟
ج- الحل الوسط هو فصل الدين عن الحياة. وسمي بالحل الوسط لأنه وسط بين مطلب رجال الكنيسة بالإبقاء على الدين في الحياة، ومطلب المفكرين بإنكار الدين كلياً. فكان وسطاً لأنه اعترف ضمناً بالدين ولم ينكره، فأرضى رجال الكنيسة، ولكنه أبعده وفصله عن الحياة، فأرضى رجال الفكر المادي بالذات والمؤمنين بالعلم ونتائج تجاربه ومختبراته.
س- ما الفرق بين الايمان بوجود الدين في الحياة ووجوب وجوده فيها؟
ج- مجرد وجوده في الحياة يعني الوجود الفطري الطبيعي في حياة الانسان كغريزة مخلوقة في الانسان. وأما وجوب وجوده فيها فيعني الالتزام بكل ما يحمله الدين من معانٍ ويشتمل عليه من أوامر ونواهٍ. فوجود الدين يعني الايمان بأن الله سبحانه خالق للوجود. ووجوب وجوده يعني الايمان بأن الله سبحانه هو المدبر للوجود وأن تدبيره هذا بأوامره ونواهيه هو الذي يجب أن يسيّر جميع شؤون الحياة.
rajaab
22-07-2005, 04:50 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة السابعة
العرض:
بعد أن رأينا في الندوات الثلاث السابقة نتيجة المقارنات المتعددة بين المبادئ الثلاث أن الاسلام هو وحده المبدأ السليم الصحيح الذي يستطيع أن يأخذ بيد الانسان الى البناء والرفاه في الدنيا والسعادة في الآخرة، جاء دور الاجابة على هذا السؤال:
هل نفّذ المسلمون الاسلام في حياتهم، أم أنهم اعتنقوه عقيدة وطبّقوا غيره ؟
للاجابة على هذا السؤال نقول مجملاً بأنه لم يطبق المسلمون منذ عهد الرسول عليه السلام حتى سقوط الدولة الاسلامية الممثلة بالخلافة العثمانية غير الاسلام. ثم نقول بشيء من التفصيل أن مَن يطبق الاسلام ونظامه في الحياة هو الدولة. والتطبيق في الدولة يتمثل في شخصين: الاول القاضي، الذي يفصل في الخصومات بين الناس، والثاني الحاكم، الذي يحكم بين الناس.
فهل فصل القاضي الخصومات بين الناس بالشريعة الاسلامية؟
من الثابت بالنقل المتواتر ان القضاة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية الخلافة في اسطنبول كانوا يفصلون الخصومات بين الناس حسب أحكام الشريعة الاسلامية في جميع شؤون الحياة. سواءا في ذلك بين المسلمين وغيرهم او فيما بينهم وحدهم. وأن المحكمة كانت محكمة واحدة تحكم بالشرع الاسلامي وحده. وأن الوضع قد استمر على ذلك حتى فصلت المحاكم بتأثير الاستعمار الى شرعية ونظامية. ونظرة مخلصة في سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة في القدس وبغداد ودمشق والقاهرة واسطنبول وغيرها تظهر صدق ذلك. وأما القوانين الغربية التي أُدخلت فكان بناءا على فتوى العلماء بعدم مخالفتها لأحكام الاسلام. ومنها قانون الجزاء العثماني الذي أُدخل عام 1275هـ/ 1875م، وقانون الحقوق والتجارة الذي أُدخل عام 1276هـ/ 1858م. وأما المحكمة فلم تقسم الى شرعية ونظامية الا عام 1288هـ/ 1870م ووضع لها نظام خاص. وأما في عام 1295هـ/ 1877م فقد وضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية، وتبعها في عام 1296هـ/ 1878م وضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية. واستُبعد القانون المدني عام 1286هـ عندما وضع العلماء المجلة ولم يجدوا مبرراً لإدخاله الى الدولة ومعاملاتها. وبذلك يظهر ان كل هذه القوانين لم توضع موضع العمل الا بعد الفتوى بإجازتها وإذن شيخ الاسلام بها، وأن الاسلام قد طًبّق قضائياً في جميع عصور الدولة الاسلامية.
ويبقى السؤال الآخر: وهل طبّق الحاكم الاسلام في جميع جوانب الحياة طيلة عهود الدولة الاسلامية كما طبّقه القاضي؟
للاجابة على هذا السؤال نقول: أن تطبيق الاسلام من قبل الحاكم يظهر في خمسة جوانب في الحياة: الجانب الاجتماعي، والاقتصادي، والحكم، والتعليم، والسياسة الخارجية. ولو تتبّعنا هذه الجوانب الخمسة لوجدنا ان الدولة الاسلامية قد طُبّق فيها ذلك كله. ففي الجانب او النظام الاجتماعي، الذي ينظم علاقة الرجل بالمرأة، لم يطبق الحاكم غير الاسلام، وحتى كل البلاد الاسلامية تقريباً ما زالت تطبق هذا الجانب. وأما الجانب او النظام الاقتصادي، الذي يتمثل في كيفية أخذ الدولة للمال من الناس لتعالج مشاكلهم وفي كيفية إنفاقه، فقد أخذت الزكاة بجميع انواعها ووزعتها على أصنافها الثمانية فقط، ولم تستعملها في إدارة شؤون الدولة. وأخذت الاموال كالخراج والجزية والجمارك حسب الشريعة لادارة شؤون الدولة والأمة. وأنفقت الاموال على العجزة والمحتاجين من فقراء ومساكين وأبناء سبيل وغيرهم، بغض النظر عن الإهمال والتقصير الذي كان يحصل أحياناً. وأما جانب او نظام الحكم فيقوم جهاز الدولة فيه على ثمانية أركان هي: الخليفة، ومعاون التفويض، ومعاون التنفيذ، وأمير الجهاد، والقضاة، والولاة، والمدراء، ومجلس الأمة. وكان هذا الجهاز موجوداً طيلة العهود: فالخليفة كان موجودا دائما حتى أزال الكافر المستعمر على يد أتاتورك الخلافة عام 1334هـ/ 1924م. والمعاون سواءا للتفويض او للتنفيذ كان موجوداً يعاون الخليفة في الحكم عند التفويض وفي الادارة عند التنفيذ. والجيش وأمير الجهاد كانوا من الشهرة بحيث طغت على غيرها. والولاة والقضاة والمدراء لشؤون الدولة ومصالح الناس لا يحتاج وجودها لدليل. ومجلس الأمة في تقديمه الشورى والمشورة وجد بشكل من الاشكال حيناً ولم يوجد أحياناً اخرى، لأنه حق من حقوق الرعية لا يؤثر عدم وجوده على نوعية الحكم، كما هو الحال في مجالس النواب الديمقراطية التي تعتبر من أسس وقواعد الحكم. وأما جانب التعليم فكان مبنياً على اساس الاسلام سواء في التثقيف بالثقافة الاسلامية او تجنب الثقافة الاجنبية اذا ناقضت الاسلام، او التعليم بجميع مستوياته والذي جعل البلاد الاسلامية محل أنظار العلماء والمتعلمين بعلمائها وجامعاتها. وأما السياسة الخارجية فكانت مبنية على اساس اسلامي، إذ كانت الدولة تبني علاقاتها مع الدول الاخرى على اساس الاسلام، وجميع الدول تنظر اليها كدولة اسلامية ليس غير، وكانت هذه الناحية أشهر من أن تعرّف.
وهكذا يظهر للعيان أن الحاكم قد طبق في جميع عهود الدولة الاسلامية الشريعة الاسلامية في جميع جوانب الحياة الخمسة دون استثناء. كما ظهر لنا ان القاضي لم يفصل في الخصومات طيلة عصور الدولة الاسلامية بغير الاسلام. مما يجزم أن الاسلام قد طُبق في دولة اسلامية تطبيقاً ناجحاً بشكل منقطع النظير في نجاحه.
وهنا يرد تساؤل: ولكن بيعة الخليفة قد اضطربت او اهتزت بعد العهد الراشدي حتى كادت تصبح وراثة! والحقيقة ان ذلك الاضطراب والاهتزاز لم يلغِ البيعة وإنما أُسيء اليها. لأن الثابت أن الخلافة لم تتحول الى ملكية وراثية. ولم تصبح الوراثة فيها حكماً مقرراً في أي عهد من عهود الدولة الاسلامية. وكانت البيعة هي الحكم المقرر في الدولة. أما كيف تؤخذ هذه البيعة من كل المسلمين، فهذا ما اختلف من عهد الى آخر. فكانت تؤخذ من المسلمين في بعض العصور، وتؤخذ من أهل الحل والعقد في البعض الآخر، وتؤخذ من شيخ الاسلام في آخر العصر العثماني الهابط.
ولو رجعنا الى مسار الدولة الاسلامية في مختلف العصور لوجدنا البيعة في العهد الراشدي قد أخذت من المسلمين جميعاً ولم تقتصر على فئة معينة او مكان معين. وأما في العصور التالية: الأموي والعباسي وغيرهما فكانت تقصر على فئة أهل الحل والعقد في الدولة. واستمر الحال كذلك حتى نهاية العهد العثماني حين اقتصر أخذها على شيخ الاسلام.
وعليه، يمكن الجزم ان العمل قد جرى في جميع عصور الدولة الاسلامية على تنصيب الخليفة بالبيعة. ولم ينصّب اي خليفة بالوراثة دون بيعة مطلقاً. ولم تستثنى في ذلك حادثة واحدة.
أما كيف كانت تجري الاساءة في تطبيق أخذ البيعة، فقد كان ذلك عندما كان يأخذها الخليفة من الناس في حياته لإبنه، او أخيه او إبن عمه او اي شخص آخر من أسرته. ولكنها كانت تُجدّد لذلك الشخص بعد وفاة الخليفة. مما يجعلها تبقى بيعة ولا تصبح لا وراثة ولا ولاية عهد.
وعليه فان النظام الاسلامي وحده قد طُبق عملياً دون غيره طيلة عصور الدولة الاسلامية.
المناقشة:
س- ماذا يقصد بتطبيق الاسلام عملياً؟
ج- يقصد بذلك وجود أنظمته في واقع الحياة بجميع جوانبها من جهة، وللفصل في القضايا بين الناس من جهة اخرى.
س- وهل هناك تطبيق نظري للاسلام؟
ج- نعم. وذلك عندما يعيش الناس في بلد وهم أكثرية أهله الساحقة على بعض المظاهر الاسلامية فيدّعي من يدّعي بأنهم يطبقون الاسلام، وما هي الا رقع الديمقراطية.
س- ولماذا فصلنا بين تطبيق القاضي والحاكم؟
ج- الحاكم هو المتبنّي للتشريع في جميع جوانب الحياة. بينما القاضي هو المنفّذ له في رفع المنازعات بين الناس فقط.
س- هل طبّق الاسلام على المسلمين فقط من رعايا الخلافة طيلة عصورها؟
ج- لا. وإنما طبق ايضاً على غير المسلمين، مع اختلاف عن المسلمين حيث يلزم شرعاً احياناً كمأكلهم ومشربهم مثلا.
س- ماذا يقصد بالخصومات والجزاء ؟
ج- الخصومة في الحق أن يتنازع شخصان على ادعاء أن حقاً معيناً ملك لكل منهما، كملكية دار او سيارة. وأما الخصومة في الجزاء فتكون عندما يطلب المعتدى عليه معاقبة من اعتدى عليه، كأن ضربه او شتمه.
س- ما المقصود بالأحوال الشخصية؟
ج- هي كل الاحوال التي تتصل بشخص ما من حيث تصرفاته بشخصه من الزواج والطلاق والميراث.
س- كيف فصلت المحاكم بتأثير الاستعمار الى شرعية ونظامية؟
ج- جعل للحقوق والجزاء محكمة، وللأحوال الشخصية محكمة اخرى. وعندما احتلت جيوش المستعمرين البلاد الاسلامية عمدوا الى فرض تشريعاتهم في مجالات الحقوق والجزاء، وجعلوا لها محكمة مستقلة بقصد إبعاد الاسلام عن الحياة العامة.
س- كيف نجحوا في ذلك وهم يحكمون مسلمين؟
ج- باستضعاف المسلمين وهم المغلوبون على أمرهم، وباستئجار نفر من أبناء المسلمين صنعوا عقولهم، ممن يسمون بالمثقفين، على ذلك.
س- ماذا يقصد بالمجلة كقانون للمعاملات؟
ج- هي ما أطلق عليه مجلة الاحكام الشرعية. وهي مجموعة من القواعد العامة التي وضعت من المذهب الحنفي لتنظيم شؤون معاملات الرعية عام 1286هـ/ 1868م.
س- كيف كان يفتي العلماء بإدخال قوانين غربية الى أنظمة الدولة الاسلامية؟
ج- بمدى علمهم وتشابه الأمر عليهم وفقدانهم للقدرة على استنباط التشريع، وقد ساد الإنحطاط الفكري.
س- متى فصلت المحاكم الى شرعية ونظامية؟
ج- عام 1288هـ/ 1870م.
س- هل تطبيق الاسلام قضائياً ملازم لتطبيقه تشريعياً؟
ج- لا. لأن التطبيق القضائي ولو الجزئي قد استمر، وما زال مستمراً، في بعض البلدان الاسلامية بعد إلغاء الخلافة وذهاب الحاكم الذي يطبقه تشريعياً بما يتبناه من تشريعات لجميع شؤون الحياة.
rajaab
22-07-2005, 04:51 PM
س- وهل يعتبر الحكم اسلاميا اذا طبق الاسلام قضائياً فقط؟
ج- لا. لأن الحكم الاسلامي مرتبط بالخليفة الذي يستنبط او يتبنى التشريع من الكتاب والسنّة. وما القاضي الا منفّذ في مجاله لما سنّه الخليفة.
س- لماذا حصرنا النظام الاجتماعي في علاقة الرجل بالمرأة وما يترتب عليها؟
ج- لأن هذه العلاقة التي تنشئ الأسرة هي أصل تجمّع البشر فيما بينهم لذات الاجتماع، وأما أشكال التجمع الاخرى فهي لأهداف اخرى.
س- لماذا لم تذكر كيفية تنمية المال في النظام الاقتصادي؟
ج- لأن تنمية المال مهمة علم الاقتصاد وليست من النظام. العلم مكانه المختبر حيث التجارب التي لا يجوز للنظام ان يتدخل بها، كما لا يجوز ان يكون النظام محل تجارب.
س- كيف لم تأخذ الدولة بأي نظام للضرائب مع انها أخذت بضرائب الجمارك؟
ج- إنها لم تأخذ لا بنظام الضرائب التصاعدي ولا غيره مما هو معمول به في النظم الاخرى. وأما ضرائب الجمارك فهي ليست من ذلك، بل من باب الاشراف على التجارة الخارجية والداخلية وتطبيقاً لسياسة التعامل بالمثل.
س- ولكن العوز والفقر كانا منتشرين في الدولة الاسلامية، فأين عدالة التوزيع؟
ج- لم ينتشرا الا في ظروف معينة سرعان ما تذهب، وما تلك الظروف الا احياناً من التقصير والإهمال وإساءة التطبيق للنظام الاقتصادي الاسلامي وليس عدم تطبيقه.
س- هل من أمثلة تظهر حرص الدولة على ازالة العوز والفقر؟
ج- الإنفاق على العاجز اذا لم يوجد من ينفق عليه من المكلفين شرعاً، والحجر على السفيه والمبذر حتى لا يقع في الحاجة، وإقامة الوصيّ عليه لتحقيق ذلك، وتشييد أمكنة في كل مدينة، وفي طريق الحج، لازالة حاجة المحتاجين.
س- هل من الحرص على أخذ الثقافة الاجنبية الترجمات التي كانت تكافأ في العهد العباسي؟
ج- كان ذلك لترجمات العلوم وليس الثقافات المناقضة للاسلام.
س- هل جرى تقصير في فتح المدارس من قبل الدولة الاسلامية؟
ج- نعم. جرى في العهد العثماني، وفي أواخره بالذات، بسبب الانحطاط الفكري العام.
س- هل من أمثلة على رقيّ التعليم في الدولة الاسلامية؟
ج- جامعات قرطبة وبغداد ودمشق والاسكندرية والقاهرة وغيرها خير امثلة على ذلك.
س- كيف كانت تبنى السياسة الخارجية على اساس الاسلام؟
ج- بأن كانت علاقات الدولة الاسلامية مع الدول الاخرى على اساس الاسلام ومصلحة المسلمين سواء من حيث التعامل على اساس دار الاسلام و دار الكفر، او دار السلام و دار الحرب، او من حيث نظم المواثيق والمعاهدات الشرعية مع الدول في جميع الاحوال.
س- كيف توجد الدولة الاسلامية بوجود الخليفة؟
ج- لأنه المتبني للأحكام الاسلامية لتنظيم شؤون الحياة في الداخل، وحامل لواء الجهاد لنشر الاسلام في الخارج. وهذه هي مهمة الدولة الاسلامية كلها.
س- ما الفرق بين الخليفة والإمام في رئاسة الدولة الاسلامية؟
ج- لا فرق بينهما. فلو سمّي رئيس الدولة الاسلامية بهذه التسمية او تلك مما لهما دلالة شرعية صحيحة جاز، وإلا فلا.
س- كيف أزال الكافر المستعمر الخلافة عام 1924م على يد كمال أتاتورك؟
ج- بمؤامرات استغلت فيها الظروف الحربية، ويمكن معرفة التفاصيل من كتاب (كيف هدمت الخلافة).
س- وهل يختلف معنى لقب وزير عن معاون شرعاً حتى نقرّ هذا ونرفض ذاك؟
ج- في العصر العباسي لم يكن من خلاف بينهما، فاستعمل لقب وزير للمعاون للدلالة على اللفظية الواحدة في اللغة والشرع معاً. وأما في العصر الحاضر، فقد حمل الوزير دلالة الحكم الديمقراطي المخالفة للاسلام.
س- ما الخلاف بين الاسلام والديمقراطية في ذلك؟
ج- في الاسلام السيادة للشرع والسلطان للأمة. وأما في الديمقراطية فالسيادة والسلطان معاً للأمة، لأنهم يفصلون ويبعدون الاسلام كغيره من الأديان عن الحياة.
س- ما دامت كل الصلاحيات للخليفة ألا نسمي ذلك دكتاتورية او استبداداً دينياً؟
ج- الدكتاتورية استئثار الفرد بالسلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية حسب التقسيمات الديمقراطية. وهذا مردود في الاسلام، لعدم وجود هذا التقسيم أصلاً، لأن السيادة للشرع وليس للشعب حتى تعتبر مصادرة السيادة منه دكتاتورية، وكذلك الاستبداد الديني.
س- كيف كان الجيش في الدولة الاسلامية اسلامياً؟
ج- بالنظام الاسلامي الذي كان يخضع له ديوان الجند، وبالقيود الشرعية المرعية في تصرفات الجندي والقائد، وبالمهمة الجهادية لحماية الثغور وإزالة الحواجز المادية أمام نشر الاسلام في الخارج.
س- كيف لا تعتبر الشورى من قواعد الحكم في الاسلام والسلطان للأمة؟
ج- لأن الشورى مجرد أخذ الرأي مطلقاً، وهي غير ملزمة. وقواعد الحكم ملزمة، وسلطان الأمة يمكن ممارسته بفسح المجال بأي شكل لتمارس الأمة هذا الحق وهو أخذ رأيها وليس لتحكم كما في الديمقراطية.
س- لماذا التركيز على البيعة كنظام لوصول او تنصيب الخليفة في رئاسة المسلمين؟
ج- لأن القاعدة الثانية من قواعد الحكم في الاسلام هي ان السلطان للأمة. ولا يظهر ذلك عملياً في التطبيق الا عندما تمارس الأمة كلها – كما كان العهد الراشدي- او بعضها – كأهل الحل والعقد في العهود الاخرى- او حتى أحدها المعتبر في نظر الأمة الناطق باسمها- كشيخ الاسلام في أواخر العهد العثماني، هذا السلطان.
س- ما الفرق بين النظام الملكي الوراثي وبين البيعة التي كانت تؤخذ بالوراثة في عهود مختلفة؟
ج- النظام الملكي قائم على الوراثة كحكم مقرر ونظام نافذ، ولا يملك أحد من الأمة التدخل في تنصيب الملك. وأما رئاسة الدولة الاسلامية فكان الرئيس او الخليفة فيها لا يستند الى مثل ذلك الحكم او النظام في تنصيبه في الرئاسة، وإنما يستند الى حصوله على البيعة، وكان هذا صريحاً وواضحاً طيلة عصور الدولة الاسلامية.
س- ولكن الخلفاء بعد العهد الراشدي كانوا يتوارثون رئاسة الدولة؟
ج- لم يكن التوارث هو نظام أخذ الرئاسة دون أن تسانده البيعة. بل كان اي خليفة عندما يورث المنصب لابنه او اخيه او اي ذي قرابة يحرص على اخذ البيعة له في حياته. ويعود هذا الخليفة ويأخذها من الناس كلهم او بعضهم بعد وفاة الخليفة الذي أخذها له قبل وفاته.
س- ألا يعتبر هذا تحايلاً على أخطر منصب في الدولة؟
ج- يعتبر بدون شك إساءة لتطبيق الحكم المقرر شرعاً لتنصيب رئيس الدولة. سواء سمي تحايلاً أم لا، لأن وصفه بالتحايل لا يلغيه من استيفائه البيعة كنظام شرعي.
س- هل من تشبيه يقرب هذه الصورة من اساءة التطبيق الى الذهن؟
ج- الانتخابات النيابية في النظام الديمقراطي تبقى تسمى انتخاباً ولا تسمى تعييناً حتى لو فاز فيها الاشخاص الذين تريدهم الحكومة. فلا يعتبر هذا إلغاءاً للانتخابات وجعلها تعييناً، وإنما يعتبر اساءة تطبيق لهذا النظام.
rajaab
22-07-2005, 04:52 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة الثامنة
العرض:
بعد أن رأينا في الندوة السابقة كيف كان الاسلام مطبقاً عملياً في واقع الحياة، لا بد أن نقف مليّاً على أثر ذلك التطبيق ومدى نجاحه، لنتلمّس اسباب بقاء الامة الاسلامية في مناعة من الاندثار، وعودتها للتحفز من جديد لاسترجاع سابق عهدها، بالرغم من تكالب الاعداء عليها من اصحاب العقائد المختلفة.
أما أول وأبرز مجال أظهر نجاح العقيدة الاسلامية ودورها القيادي فهو نقل الشعب العربي من الانحطاط الفكري الى النهضة الفكرية، عندما انطلق المسلمون في الارض يحملون الاسلام باتجاه العراق وفارس شرقاً وبلاد الشام شمالاً ومصر وشمال افريقيا غرباً بعد أن انتهى امر اليمن جنوباً. وكان لكل شعب من هذه الشعوب قومية ولغة ودين غير الاخرى. ولكنها ما أن لمست عدل الاسلام وفهمته حتى دخلت فيه طائعة مختارة، مشكّلة مع العرب الأمة الاسلامية الواحدة، ومظهرة كيف استطاع الاسلام ان يصهر هذه الشعوب المختلفة بشكل باهر مع ضعف اسباب المواصلات من ناقة وحصان، واسباب الاتصالات من لسان وقلم.
وهنا يرد السؤال التالي:
ما الفرق بين الفتح الاسلامي والاستعمار الغربي في هذا المجال؟
والجواب ان الفتح الاسلامي كان لازالة الحواجز المادية من طريق الدعوة الاسلامية. لذلك كان لا يفرض على البلاد المفتوحة اعتناق الاسلام، وإنما يعرضه عليهم ليروه عملياً كما يسمعونه فكرياً. فتصل اليه عقولهم وتهتدي اليه فطرتهم، فيدخلون فيه أفواجا. أما الاستعمار الغربي فللسيطرة على الشعوب الضعيفة في جميع المجالات لاستغلالها ونهب خيراتها لمصلحة شعوبه. ولذلك نلاحظ كيف يعمد الى التضليل الثقافي والسياسي، والى فرض الزعامات المكروهة، جنباً الى جنب، ليضمن استمرار بقائه باستمرار بُعد المسلمين عن اسلامهم وتصديقهم لتضليله وتسخيرهم لمآربه.
وبعد الاجابة على هذا السؤال، نعود ونؤكد ان استمرار بقاء هذه الشعوب مسلمة حتى اليوم، بل انضمامها لقافلة الانبعاث الاسلامي المتنامي، بالرغم من جميع المكائد السياسية، والتهديدات العسكرية، والمفاسد العقائدية، والسموم الفكرية التي تلاحقها من الاستعمارين الغربي والشرقي على حد سواء، لدليل ساطع على قدرة هذا الاسلام على الاستمرار حتى قيام الساعة محافظاً على بقاء الأمة الاسلامية الواحدة معتنقة له من دون غيره.
أما ما حصل لمسلمي الاندلس فكان إفناءاً بمحاكم التفتيش وبيوت النيران ومقاصل الجلادين. ولم يكن ردّة عن الاسلام مختارة. وكذلك ما حصل لمسلمي بخارى والقفقاس وتركستان، وما كان يحصل لأفغانستان .. كل ذلك بقهر الاستعمارين الغربي والشرقي على حد سواء .. ولكن ما نراه ونسمعه في تلك الشعوب وغيرها من اصرار على البقاء بإسلامها، بل التحفز للعودة به الى سالف مجده، ليؤكد مدى النجاح الذي حققه الاسلام في احتضانه عقيدة ونظاماً، وبالتالي قدرته على تحقيق القيادة السليمة للشعوب.
وأما المجال البارز الثاني الذي ظهر فيه نجاح العقيدة الاسلامية في قيادة البشرية كأثر من آثار التطبيق العملي لنظامها، فذلك ما تعرفه البشرية كلها من بقاء الأمة الاسلامية أرقى أمة في العالم حضارة ومدنية وثقافة وعلما في ظل الدولة الاسلامية الأعظم بين الأمم والدول طيلة اثني عشر قرناً امتدت من القرن السادس الميلادي حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. مما يؤكد نجاح تلك القيادة ونجاح الاسلام في تطبيقه عقيدة ونظاما على الناس. ويؤكد انه لولا تخلّي المسلمين كدولة وأمة عن حمل الاسلام لقيادة البشرية المستعمرة، بإهمالهم الدعوة اليه وتقصيرهم في فهمه وتطبيقه، لما حصل هذا الانتكاس المرير الذي ما زالت تعيشه الامة الاسلامية وتحاول ان تتخلص منه.
والسؤال هنا: لماذا إذن هذا التفاوت الكبير بين تطبيق الاسلام في عهده الاول وفي عهوده التالية ؟؟
والجواب على ذلك: لأن ما أكّدناه سابقاً من أن الاسلام يتفق مع فطرة الانسان في النظم التي تنبثق عنه يعني أنه ينظر الى الانسان ككائن اجتماعي، لا صناعي، ويطبق النظم ككائن اجتماعي لا صناعي، مما يفرض التفاوت والتقارب في التطبيق لا التساوي. وأن من نتيجة هذا التفاوت أن يحصل طبيعياً عند التطبيق شذوذ أفراد يخالفون النظام، بهذا الشكل او ذاك، مما يفرض طبيعياً وجود الفسّاق والفجّار في المجتمع، كما يفرض وجود الكفار والمنافقين، ووجود المرتدين والملحدين. ولكن ذلك كله لا يؤثر على صبغة المجتمع الاسلامية باعتباره مجموعة من الافكار والمشاعر والانظمة التي يعيش عليها الناس اسلامية ليس غير.
ولكن أين الدليل الأكيد على ذلك؟ إنه في تطبيق الرسول عليه السلام لنظام الاسلام الذي لا يدانيه تطبيق. ومع هذا فقد كان في عهده الكفار والمنافقون والفسّاق والفجّار والمرتدون والملحدون. وبالرغم من ذلك يجزم كل انسان ان الاسلام قد طبّق تطبيقاً شاملاً كاملاً، وأن المجتمع كان اسلامياً، ولكن الانسان الذي طُبق عليه كان وسيظل كائناً اجتماعياً لا صناعياً.
وكل ذلك يجزم ان الاسلام كان وحده المطبّق على الأمة الاسلامية منذ قيام الدولة الاسلامية في المدينة المنورة بهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام اليها حتى عام 1326هـ/ 1918م عندما استبدله الاستعمار بالنظام الرأسمالي.
المناقشة:
س- ماذا كانت مظاهر انحطاط الشعب العربي الفكرية قبل الاسلام؟
ج- كان بمجموعه يتخبط في حمأة العصبية العائلية والقبلية، وظلام الجهل الفظيع.
س- فكيف نقله الاسلام الى النهضة الفكرية؟
ج- باستبداله عقائده الباطلة بعقيدة الاسلام الصحيحة، لأنها موافقة للفطرة ومبنية على العقل. ثم بما انبثق عنها من افكار تشمل جميع جوانب الحياة.
س- وما العظمة في الاسلام وهو يستولي على بلاد عديدة بقوميات مختلفة؟
ج- العظمة في دخول تلك الشعوب كلها حظيرة الاسلام دون جبر ولا إكراه، لتصبح الأمة الاسلامية الواحدة.
س- ولكن الاسلام سلك طريق الغزو والفتح كما سلك غيره من الغزاة الفاتحين؟
ج- ليس العبرة بالشكل ولكن بالمضمون. فقد كان الاسلام يستخدم القوة لازالة القوة التي تمنع الاسلام من الوصول الى الشعوب ليعرض لا ليفرض عليها اعتناقه، وينفذ عليها تطبيقاً. بينما غيره من الفاتحين كانوا إما أن يفرضوا معتقداتهم بالاكراه وينهبوا البلد المفتوحة كما فعل الاستعمار الغربي في الاندلس وغيرها، او يكتفوا بأحدهما كما فعلت الاشتراكية الشيوعية في البلاد الاسلامية.
س- فأين الفرق بين الفتح الاسلامي وغيره؟
ج- الفرق فيما كان يفعله المسلمون والمستعمرون. فالمسلمون كانوا يكسرون الحواجز المادية ليفسح المجال للشعوب المفتوحة لترى بعقلها واختيارها رأيها فتدخل في دين الاسلام عن قناعة عقلية واطمئنان نفسي، وتعيش على العدل والمساواة مع المسلمين الفاتحين. بينما المستعمرون كانوا يفرضون معتقداتهم وينهبون خيرات البلاد المفتوحة لصالح بلادهم.
س- فما المانع من عودة المسلمين لنظام الاسلام بعد جلاء المستعمرين عن البلاد الاسلامية؟
ج- المانع عقبتان كؤودتان: الاولى: الثقافة الرأسمالية الديمقراطية المضللة، والثانية: اضطهاد الحكومات للمسلمين.
س- هل نجح الاستعمار في ردّ المسلمين عن اسلامهم عندما أفسد عقائدهم؟
ج- لا، لم ينجح. وإنما هو نوع من البلبلة والتشويش وعدم وضوح الرؤية. إذ لم يعرف التاريخ ردّة شعب من الشعوب الاسلامية عن الاسلام.
س- ولكن اين الاندلس في الغرب والقفقاس وما حولها في الشرق؟
ج- قام الحقد الصليبي الاستعماري بإفنائهم في محاكم التفتيش والمذابح الجماعية في الغرب ومثله في الشرق. وما أسرع ما تعود هذه البلاد لاسلامها عندما ترى نور الاسلام على صفائه وعدل تشريعاته على نقائه.
س- لماذا منتصف القرن الثامن عشر الميلادي بالذات؟
ج- لأن الدولة الاسلامية في العصر العثماني قد تفككت وانهارت الى حد بعيد في هذا الوقت عندما تألّب عليها كل الحقد الاستعماري الصليبي في الغرب والشرق.
س- هل تخلّت الأمة الاسلامية عن الدعوة الى الاسلام؟
ج- نعم، عندما تمزقت دولتها وانحط فهمها لرسالتها وتخلت عن تطبيق شريعتها مع نهاية العصر العثماني.
س- ولماذا حصل هذا التخلّي عن حمل الدعوة وتطبيق الشريعة؟
ج- بسبب الغزوات الاستعمارية الضارية ضدها عسكريا وثقافيا، مما أضعف الكيان ومزّقه وشوّش على الفكر الاسلامي وأفسده.
س- ولكن مثل ذلك لم يحصل له اي اثر في بداية الدولة الاسلامية؟
ج- لأنها كانت على نقاء فكرتها وقوة عقيدتها وضعف أعدائها.
س- وهل من الطبيعي دائماً أن يحصل ذلك؟
ج- نعم، طالما كان الانسان كائناً اجتماعياً لا يعيش على المسطرة بحيث يبقى تطبيق النظام و دقّة الأفهام بلا تفاوت كالقياس الهندسي الدقيق.
س- فكيف بدأ هذا التفاوت وبالتالي الضعف والانهيار؟
ج- عندما شذّ افراد من الحكام في العهد العثماني، فلم يحسنوا تطبيق الاسلام وسمحوا بتطبيق غيره. وعندما تجمع نفر من ذلك العهد الضعيف، بسبب تزايد بُعد الدولة عن فهم الاسلام، ونجحوا في العمل ضدها لضعفها. بينما لم ينجح أمثالهم عندما كانت قوية في تفكيرها وفهمها للاسلام في العهود السابقة.
س- وأين الدليل على صدق ذلك من الكتاب والسنّة؟
ج- الدليل ما حصل في عهد الرسول عليه السلام. فقد كان هناك الكفار والمنافقون والفجّار والمرتدّون. ولكنهم كلهم لم يؤثروا على اسلامية تطبيق الشريعة وحمل الدعوة.
س- ولكن العهد الراشدي الاول تعرض لفتنة في عهد عثمان وقتل الخلفاء؟
ج- أما القتل والاغتيال فهذا أمر طبيعي في كل زمان. ولا يصلح دليلاً على قوة او ضعف الدولة. وأما الفتنة فكانت نوعاً من الإلتباس في الرأي والاختلاف في فهم الواقع والشرع. وهي من الامور الطبيعية التي يتعرض لها الانسان المتفاوت في الأفهام وبسبب الاسلام الذي لا يحجر على العقول عند حصول مثل هذا التفاوت.
س- وهل طبق الاسلام وحده طيلة عهوده حتى الدولة الاسلامية في العهد العثماني؟
ج- نعم. لقد انفرد الاسلام وحده في التطبيق على الأمة الاسلامية من عرب وغير عرب منذ عهد الرسول عليه السلام في المدينة حتى احتلال الاستعمار للبلاد الاسلامية.
س- ولكنك تنسى في دعوتك لتطبيق الاسلام من جديد موقف الأعداء في الداخل والخارج؟
ج- لا. لم ينسى ذلك. ولكن استجابة الامة الاسلامية لتطبيق الاسلام وإقامة خلافته سيحسم الموقف بعون الله مع جميع الاعداء في الداخل والخارج.
س- ولكنهم سيحاولون إثارة الفتن في الداخل والتدخل من الخارج لإسقاط الخلافة عند قيامها؟
ج- لن تكون لمحاولاتهم قيمة بعون الله ما دامت الامة الاسلامية ستهبّ من الداخل ومن البلاد الاخرى المجاورة لحمايتها، وما دامت التدخلات العسكرية الاجنبية لم تعطَ اي مبرر.
rajaab
22-07-2005, 04:55 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
الندوة التاسعة والأخيرة
العرض:
بعد أن تأكد لدينا تطبيق الاسلام طيلة عهوده، وانتشاره نتيجة لذلك التطبيق، جاء دور تقويم النظرة التاريخية لذلك التطبيق، فكيف يكون ذلك؟
يجب أولاً أن لا نأخذ التاريخ الاسلامي عن أعداء الاسلام، وإنما بالتحقيق الدقيق من المسلمين أنفسهم.
ويجب ثانياً أن نتجنب القياس الشمولي على المجتمع ونحن ندرس تاريخ الافراد او تاريخ ناحية من المجتمع. فلا يؤخذ العصر الأموي من تاريخ يزيد مثلاً، ولا التاريخ العباسي من بعض حوادث خلفائه، ولا نحكم على المجتمع في ذاك العصر العباسي من كتاب الأغاني المؤلف لأخبار المجّان والشعراء والأدباء فيظهر كأنه عصر فسق وفجور، ولا من كتب الصوفية فيظهر كأنه عصر زهد وانعزال، بل نأخذ المجتمع بأكمله.
ولكن هل كتب تاريخ المجتمع الاسلامي في أي عصر من قبل المؤرخين القدامى؟
والجواب أنه لم يكتب الا أخبار الحكام وبعض المتنفذين، وذلك بأسلوب إما القادح او المادح، مما يطعن في كل ما كتب.
وعند دراسة المجتمع الاسلامي في إطار الحذر بين السابقين نجده خير المجتمعات حتى منتصف القرن الثاني عشر الهجري. إذ عاش على نظام الاسلام حتى أواخر الدولة العثمانية كدولة اسلامية بغض النظر عن الثغرات العديدة التي مر بها.
وهنا يرد التساؤل: هل يصلح التاريخ كمصدر للمعرفة النظام والفقه أكانا اسلاميين او غير اسلاميين؟
والجواب: لا يصلح. لأن معرفة النظام الشيوعي مثلاً لا تؤخذ من تاريخ روسيا بل من كتب المبدأ الشيوعي ذاته. ومعرفة الفقه الانجليزي ايضا لا تؤخذ من تاريخ بريطانيا بل من كتب الفقه الانجليزي ذاته. وكذلك الأمر بشأن الاسلام. فلا بد لمعرفته من العودة الى كتب الفقه الاسلامي، ولاستنباط أحكامه من العودة الى أدلتها التفصيلية من كتاب او سنّة او إجماع او قياس. فالتاريخ لا يجوز ان يكون مصدراً لكلا الأمرين سواء كان تاريخ عمر بن الخطاب او عمر بن عبد العزيز او هارون الرشيد، وسواء كان من حيث الحوادث التاريخية التي رويت عنهم او من حيث الكتب التي ألّفت في تاريخهم. واتباع رأي من آراء عمر هو اتباع لحكم شرعي استنبطه عمر وطبّقه، كما يتّبع الحكم الذي استنبطه ابو حنيفة والشافعي وجعفر وغيرهم، وهو ليس اتّباع لحادثة تاريخية.
وكذلك بالنسبة لمعرفة كون النظام قد طبّق أم لا. فانه لا يؤخذ من التاريخ بل من الفقه الذي طبّق في معالجة المشاكل لأي عصر من العصور. والتاريخ مجرد ناقل للأخبار. وبالرجوع الى الفقه نجد ان نظام الاسلام وحده قد طبّقه المسلمون طيلة عهود دولتهم، وأنهم كانوا يستنبطونه من الأدلة الشرعية، وكانوا حريصين على تدقيقه من الاستنباطات الضعيفة.
صحيح ان التاريخ ينقل الينا كيفية تطبيق النظام بما يذكر من الحوادث السياسية. الا ان هذا ايضاً ينبغي ان يخضع للتحقيق الدقيق من قبل المسلمين. وعند النظر في التاريخ نجد له ثلاثة مصادر هي: الكتب التاريخية، والآثار، والرواية. فأيها يصلح ان يكون مصدرا موثوقا للتاريخ وكيفية تطبيق النظام؟
أما الكتب فلا تصلح لما حشيت به من الكذب والافتراء. إما بجانب من كتبت في أيامهم او ضد من كتبت عنهم في ايام غيرهم. وتاريخ الاسرة العلوية في مصر قبل عام 1952م أكبر شاهد معاصر على ذلك. وعليه فلا يرجع الى الكتب التاريخية لا لمعرفة النظام الذي طبّق ولا كيفية تطبيقه.
وأما الآثار فهي وإن لم تشكّل مسلسلاً تاريخياً الا انها بالدراسة النـزيهة تعطي حقائق تاريخية عن الشيء المعين وتدل على ثبوت بعض الحوادث. وبالرجوع الى آثار المسلمين في بلادهم نجد الدلالة القطعية على انفراد النظام الاسلامي والأحكام الاسلامية في التطبيق.
وأما الرواية فهي من المصادر الصحيحة اذا صحّت الرواية، كما حصل في رواية الحديث. وهو الاسلوب الذي سلكه المسلمون كالطبري وابن هشام حين ألّفوا كتبهم. فتاريخ الاسلام لا يؤخذ من الكتب التي اتخذت كتباً مثلها كمصادر لها، لا لمعرفة هل طبّق الاسلام بمفرده أم لا، ولا لمعرفة كيفية تطبيقه.
والمهم أنه بالاستفادة من المصدرين: الآثار المحققة والروايات الموثقة نجزم ان الاسلام وحده قد طبّق على الامة الاسلامية، ولم يطبق غيره في جميع عصور دولتها.
فهل استمر هذا الحال بعد سيطرة الكفار المستعمرين على البلاد الاسلامية منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى؟
لا، لم يستمر. لأنهم طبقوا نظامهم الرأسمالي في جميع مناحي الحياة ليمنعوا عودة الاسلام للحياة الى الأبد. الأمر الذي يفرض ازالة نظامهم بأكمله لتعود الحياة الاسلامية.
ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟؟؟
ان ذلك يتحقق بنفس الشكل او الطريق الذي تحقق به من قبل على يدي الرسول عليه السلام. وذلك بأن تعود العقيدة الاسلامية حية في نفوس المسلمين، ثم يطبقوا نظامها الاسلامي عليهم وعلى الأمم والشعوب التي يحملون مبدأهم اليها سواء اعتنقته او لم تعتنقه. لأن اعتناق المبدأ ليس شرطاً فيمن يطبّق عليه بل فيمن يطبّقه فقط. وبذلك تنهض الأمة الاسلامية وتنهض معها الشعوب التي تنضوي تحت لوائها. ولا يجوز للأمة الاسلامية ان تفرط في اي من جانبي مبدئها في حياتها. فلا تتساهل في وجود العقيدة او النظام المنبثق عنها. وأي تساهل او استبدال بعقيدة اخرى كالمادية او النفعية، او بنظام آخر كالاشتراكية او الرأسمالية الديمقراطية يعرّض الأمة لاستمرار ضياعها وسيطرة أعدائها عليها وحرمانها من النهضة الفكرية التي لن تتحقق الا بالجمع بين طرفي المبدأ الاسلامي عقيدة ونظاماً في حياة المسلمين. وذلك بطريق واحد لا ثاني له، ألا وهو إقامة الدولة الاسلامية في الارض من جديد، بدءاً من بقعة معينة، تمتد بعدها الى بقاع أخرى بحمل رسالتها للناس كافة.
المناقشة:
س- وهل كل أعداء الاسلام لا يجوز العودة لما كتبوه من تاريخ الاسلام؟
ج- نعم، لا يجوز. وبخاصة المبغضين الحاقدين الذين اشتهروا بتشويه صورة الاسلام.
س- ولكن المؤرخين المسلمين ايضاً شوهوا صورة الاسلام؟
ج- وهذا مما يفرض التحقيق الدقيق، حتى مع المؤرخين المسلمين، وبخاصة المغرضين منهم. فكيف مع أعداء المسلمين والاسلام!
س- ماذا يعني عدم القياس الشمولي على المجتمع في تاريخ الافراد؟
ج- يعني ان لا نجعل تاريخ اي حاكم او حكام دليلا او مقياسا للمجتمع كله في عصر من العصور. فالعصر الأموي لا يؤخذ من تاريخ يزيد او عمر بن عبد العزيز.
س- ولماذا لا يصلح كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كمرجع تاريخي؟
ج- صحيح أن مؤلفه مسلم. ولكنه ألّف لأخبار الأدباء والمجّان، وهؤلاء ليسوا الا زاوية محدودة من زوايا المجتمع في العهد العباسي. والنظرة الى المجتمع من خلالهم تجعله مجتمع فسق وفجور، وهو لم يكن كذلك.
س- واذا كنا لا نأخذ التاريخ الاسلامي لا من الكتب الادبية ولا الصوفية وكتّابها مسلمون، فقد شحّت المصادر؟
ج- بالفعل إن مصادر التاريخ الاسلامي المكتوب شحيحة للغاية، لأنه لم يكتب بشكل دقيق ونزيه وشامل للمجتمع في اي عصر من عصوره.
س- هل يجوز ان يستند الى التاريخ لمعرفة واقع النظام والفقه الذي وجد في دولة من الدول او عصر من العصور؟
ج- لا يجوز، لأن النظام يؤخذ من كتب مبدئه وليس من تاريخ بلد وجد فيها. فتاريخ روسيا لا يؤخذ منه النظام الشيوعي وإنما يؤخذ من كتب المبدأ.
س- واذا كنا لا يجوز ان نستند الى التاريخ كمصدر لفهم النظام، ألا نستند اليه لاستنباط أحكام النظام؟
ج- بالطبع لا، لأن ذلك من باب أولى.
س- فمن اين يكون مصدر معرفة مبدأ الاسلام كعقيدة ونظام؟
ج- من كتب الفقه الاسلامي ليس غير، وهي لا تعدّ ولا تحصى.
س- ومن اين يكون مصدر استنباط أحكامه؟
ج- من أدلّتها التفصيلية من الكتاب والسنّة.
س- كيف يعتبر الفقه في معرفة النظام المطبّق؟
ج- لكون الفقه هو معالجات المشاكل في اي عصر من العصور. فمعرفته هي معرفة النظام المطبّق في ذلك العصر.
س- ولكن التاريخ ينقل أخبار تطبيق النظام ايضاً؟
ج- نعم ينقلها كأخبار دون الحرص على ترابطها او دقّتها وصدقها.
س- وهل هكذا كان شأن التاريخ الاسلامي حتى في أمهاته، كتاريخ الطبري؟
ج- نعم، لأنه لم يكن يحرص على تدقيق رواياته وتنقيتها من الضعف كما كان يحرص على الفقه وتنقيته من الأقوال الضعيفة اي الاستنباطات الضعيفة عندما نهوا عن العمل بالقول الضعيف ولو كان لمجتهد مطلق.
س- من اين يستدل على وجود الفقه الاسلامي وحده في العالم الاسلامي طيلة عهود الخلافة؟
ج- من محفوظات المحاكم والتشريعات في جميع أمهات المدن الاسلامية.
س- ما قيمة التاريخ في حياة الأمة الاسلامية؟
ج- لاستعراض كيفية تطبيق الشريعة الاسلامية ليس غير، وذلك من معرفة الحوادث السياسية التي يوردها التاريخ.
rajaab
22-07-2005, 04:57 PM
س- ولكن ايراد الأحداث السياسية هو اكثر ما يتعرض للتشويه؟
ج- ولذلك يحتاج هو ايضاً للتحقيق الدقيق من المسلمين.
س- هل المذكرات الشخصية موضع ثقة اكثر من الكتب التاريخية ام لا؟
ج- لا، ليست موضع ثقة هي ايضاً لما يتداخل معها من مصالح وأهواء.
س- اذا كان لا يمكن الثقة الا في الرواية كأسلوب لكتابة التاريخ، فكيف نصل الى تاريخ اسلامي موثوق؟
ج- إنه بغربلة ما بين أيدينا من كتب التاريخ القديمة كتاريخ الطبري وسيرة ابن هشام والواقدي وغيرهم للوصول الى صورة اقرب ما يكون الى الثقة. وأما الكتب التي لم تعتمد على الرواية فتحتاج الى تحقيقات وتدقيقات شديدة للغاية حتى يستوثق بشيء منها.
س- ماذا تعني مقولة اللورد أللنبي قائد الحملة لفتح القدس؟
ج- حين قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية؟". كان يقصد ما قاله بكل دقّة، من أن هزيمة المسلمين لم تتحقق للصليبيين وحملاتهم التي بدأت قبل ثمانية قرون في عهد صلاح الدين، الا عندما انهاروا من الداخل وكانوا سنداً للكافر في تطبيق نظامه عليهم.
س- ولكن المسلمين لم يتخلّوا عن عقيدتهم، فكيف يقال بضرورة اعتناقها كطريقة للنهضة؟
ج- طريق النهضة هو اعتناق العقيدة الاسلامية كقاعدة للتفكير في جميع جوانب الحياة وليس مجرد جانب واحد فقط. فيؤمن المسلمون ان الله خالق هذا الوجود ومدبّره، فهو ما قبل هذه الحياة، ومنه جاء التشريع المدبّر لهذه الحياة، وعلى إلتـزام هذا التشريع يجري الحساب بعد الحياة.
س- ما دام تطبيق الاسلام على الشعوب ينهضها ولو لم تعتنقه، فلماذا لا ينتِج و لا يؤثر أخذ النظام الاشتراكي مثلاً دون عقيدته؟
ج- المقصود بالانتاج والتأثير هنا هو غير الفكري والنفسي في الانسان أولاً ثم المادي. وهذا لا يتحقق دون اعتناق العقيدة. ولما كانت العقيدة المادية متناقضة مع فطرة الانسان وترفض العقل فانها لا يمكن ان تصل الى الشعوب الا بالحديد والنار، وما أسرع ما تهبّ الشعوب للتخلص منها بمجرد رفع كابوس الضغط والإرهاب عن كاهلها. وما جرى ويجري في دول الاتحاد السوفيتي السابق الا خير دليل.
س- والقومية العربية: لماذا لا نأخذ بها نظاماً في الحياة؟
ج- لأنها ليست نظاماً ولا عقيدة. بل هي مجرد فكرة تعني التعصب للعرب كعرب بغض النظر عن جاهليتهم او اسلامهم، عن تقدمهم او تخلّفهم.
س- هل يمكن الجمع بين اي نظام في الحياة غير الاسلام وبين العقيدة الاسلامية؟
ج- كواقع قائم في الأمة الاسلامية اليوم، فان مثل هذا الجمع بين النظام الرأسمالي في الحياة والعقيدة الاسلامية قائم، لوجود العقيدة الاسلامية في النفوس مع وجوده في الحياة.
س- ولكن السؤال: ما قيمة هذا الجمع؟
ج- قيمته سلبية كاملة. إذ جعل العقيدة الاسلامية لمجرد الناحية الروحية في صلة الانسان بربه في عباداته مع شيء من صلته الخلُقية مع نفسه، وعطل صلته في المعاملات مع الناس والمجتمع. فهو محكوم ومدبّر بالنظام الرأسمالي في الاقتصاد والديمقراطي في الحكم. فأين هي الافكار التشريعية المنبثقة عن العقيدة الاسلامية في واقع المسلمين عند مثل هذا الجمع!
س- هل من دول في العالم الاسلامي تقوم بهذا الجمع؟
ج- لا شك ان كل دول العالم الاسلامي تقوم بذلك، بغض النظر عن زعم بعضها بأنها اسلامية اكثر من غيرها، وزعم البعض الآخر بأنها اشتراكية او ديمقراطية اكثر من الاخرى.
س- ومتى ينتهي هذا الجمع بين الاسلام في العقيدة والكفر في النظام في العالم الاسلامي؟
ج- ينتهي ذلك عندما ترجع الأمة الاسلامية الى إسلامها كاملاً في العقيدة والنظام، ولا تقبل هذا الاستمرار الشاذ. وما ذلك على الله ببعيد، بعد أن فشل الكفر في الوصول الى النفوس والعقول.
rajaab
22-07-2005, 05:00 PM
هل الاسلام قادر على قيادة البشرية
التعقيب على الندوات التسعة
ان هذه الدراسة المتأنية في المقارنة بين المبادئ الثلاث: الاسلام والاشتراكية الشيوعية والرأسمالية الديمقراطية كفيلة بأن تشدّ كل ذي لبّ وبصيرة للتفكير البعيد البعيد في ضوء ما جرى ويجري في العالم من أحداث لتحديد الموقف: هل ترك العالم مستمرا في هذا الصراع الفكري بين مبدأين لا يجلبان الا الشقاء والتعاسة للانسان في جميع جوانب الحياة هو مهمة الانسان العاقل المفكر، والذي يجب ان يكون نيّر البصيرة نزيه الفؤاد في إدراكه وأحكامه ؟؟
صحيح ان عودة المجتمعات الاشتراكية في هذه الايام للإنقضاض على اشتراكيتها للتخلص منها بعد أن وصلها ما يسمونه بتيار الاصلاح والانفتاح الذي تقوده روسيا وبقية دول ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي بعد أن لعب غرباتشيف لعبته مع الغرب ومع أميركا بالذات ومع هذا الاصرار الذي يقوده بوريس يلتسين زعيم روسيا وبمساندة وطيدة من أميركا بخاصة والغرب كله بعامة، ان هذه العودة دليل محسوس على هزيمة المبدأ الاشتراكي الشيوعي الساحقة. ولكنه يبقى كمبدأ من صنع الانسان خاضعاً لتفسيراته وتعديلاته بقدر تأثره بالحياة ووقائعها الجارية، وبشكل خاص كلما اشتدت ضغوطها ولم تعد تحتمل آثارها. ولكن المحافظة على عقيدتهم وما ينبثق عنها من افكار سليمة من التأثر بالصبغة الرأسمالية، هو الافتراض اللازم في حقهم، لو كان هذا التأثر العقائدي المتصاعد والانقياد النظامي المتنامي لا يستجاب لها. ولكن الحاصل هو على النقيض من ذلك تماماً. إذ وصلت الجرأة بالأحزاب الشيوعية أن تعلن الواحد تلو الآخر في اوروبا الشرقية عن حلّ نفسها واستبدال حتى أسمائها بأنها أحزاب اشتراكية ديمقراطية على الطريقة الرأسمالية، وفي نفس الوقت شطب اشتراكيتها الشيوعية من الوجود لتحل محلها الرأسمالية الديمقراطية في الحكم واقتصاد السوق على الطريقة الرأسمالية في الاقتصاد.
وأما عوار وفساد وبطلان المبدأ الرأسمالي الديمقراطي فهو من الظاهر على الكف والبادي لكل ذي بصيرة وبصر. وعلماؤهم انفسهم يتنادون من وقت الى آخر لعقد مؤتمرات على أمل ان تعثر على وضع نظام اقتصادي عالمي بديل عن الرأسمالية ينقذ البشرية منها ويعيد للبشرية توازنها وللانسان حقوقه. ناهيك عن مآسي الحكم والسياسة ببركات نظم الديمقراطية وحكم الشعب وسيادة الشعب، والشعب منها براء براءة الذئب من دم يوسف .. . وما جلاّدوه الا ملوك النفط والفولاذ والحديد .. ملوك المال والبورصات في نيويورك ولندن وزيوريخ وطوكيو باريس وبون .. .
ولولا هذه الوقفة التي يمسك الغرب فيها أنفاسه بانتظار ان يتهاوى الشرق كله، بما فيه الصين، باشتراكيته لتكون له قصبة السبق في الانهيار، لما كان السبق الا له … ولكن الى الهاوية، وليس ذلك ببعيد …
وأما الاسلام فمحكوم عليه من كبار أبنائه وأعدائه على حد سواء باستمرار هذه المعاناة والاضطهاد. لا لأنه معمول به في واقع الحياة ويعمل هؤلاء جميعاً للتخلص من آثاره … ولكن لأن الطرفين لا يكلاّن ولا يملاّن في التعاون الجائر لمنع عودته الى الحياة والى الارض من جديد في دولة وخلافة. واذا كان من عذر لأعدائه، وهم المشحونون بالحقد المتوارث له ولأهله، فما عذر أبنائه غير الجهل الفاضح به والاحتكام للهوى في حب الدنيا وكراسيّها العالية .. ومتى كان الجهل بالشمس دليلاً على عدم وجودها او عدم دفئها و مدّها لهذا الوجود الحي بعوامل الحياة والدفء ؟؟ !!
فمتى يصحو أبناؤه، والفرصة باتت مواتية أمامهم وملء أيديهم، والغرب والشرق يلحّان بلسان حال واقعهم ولسان مقال عقلائهم أنْ تقدّموا الصفوف و لا يلفتنّكم عن مهمة إنقاذ البشرية سبب. واعلموا ان هذه المعارك الجانبية التي يشغلكم أعداؤكم بها، في فلسطين ولبنان وسوريا وافغانستان والخليج ومصر والجزائر وتونس والسودان والبوسنة وغيرها، ما هي الا عثرات توضع لكم في الطريق، لتبعدكم عن تحقيق الهدف الأكبر في عودتكم للحياة الاسلامية بتطبيق الشريعة في الارض في دولة تحمل راية النور لتبديد هذا الظلام الذي يلفّ أركان المعمورة.
واذكروا أن إسلامكم قد هيّأ الله في اول عهده النصر له بما كان يعيش فيه أعداؤه من ضعف وانهيار. وأنه تعالى يضع هذه الايام بين أيديكم هذه التهيئة من جديد، وبشكل لم يسبق له مثيل. فالغرب قد سيطرت عليه أسباب الذهول وهو يقف ينظر الى ما جرى ويجري من انهيارات داخلية في أعماق الشيوعية ولبابها. ورجال الغرب في العالم الثالث، وهم سادرون في غيّهم وحريصون على تبعيّتهم لأعدائهم، يظنون ان تلك الانهيارات من صنع غربهم. وينسون أنهم ما زالت أصداء صرخاتهم واستغاثاتهم لا تجد لها سميعاً ولا مجيباً، وبلدانهم تتهاوى تحت كوابيس مليارات فوائد ديونهم لأسيادهم.
فهبّوا يا رجال هذه الأمة الاسلامية آخذين بأيديكم زمام المبادرة قبل أن يفلت ويضيع، فتكونوا أسوأ من فرّط بهذه الفرصة الذهبية بحق هذه الأمة وبحق البشرية جمعاء معاً. وأي جدّية في التحرك الى الأمام، لرفع راية الاسلام، كفيل بنصر الله. وعندها ستجدون من هذه الأمة ما يثلج صدوركم: إلتفافاً حول الراية واستشهاداً تحتها ومن أجل إعزازها في الأرض.
إن ما تفعله مخلفات الاحزاب الاشتراكية الشيوعية اليوم، ما هو الا من باب محاولة منع انهيارها بشكل كلي ونهائي. ولكن قد فات الأوان وضاعت عليهم فرصة انقاذ انفسهم لو أحسنوا تطويرها بالشكل الذي يليق بها كمبدأ انساني من وضع الانسان، بحيث أقدموا على عدم قصرها على الاقتصاد، وعلى الضرب على وتر المعدة والجوع، وعلى الجسم والعري. وانما تذكروا ان الانسان ليس معدة فقط ولا حاجات عضوية فقط، وإنما هو ايضاً، وقبل كل شيء، عقل وقلب، فكر ووجدان. وما المعدة وحاجتها للطعام والجسم وحاجته للكساء الا للإبقاء على هذا الجسم وتخليصه من عوامل إشغاله عن القيام بمهمته الانسانية الكبرى في هذا الوجود، ألا وهي عبادة الخالق المدبر من خلال إعمار هذه الارض. إذ أن ما يبدعه عقله ويتوصل اليه تفكيره من اكتشافات واختراعات ليس بأكثر من نتيجة لما أودعه فيه ربه من قدرات وقابليات يستحق عليها الحمد والشكر والثناء. كما يستحق عليها الطاعة الظاهرة والخفية بالعمل بكتابه وسنّة رسوله تطبيقاً لشرعه ونظامه بين الناس.
صحيح ان الاشتراكية الشيوعية تعترف بالعقل وانتاجه الفكري، بغض النظر عن تفسيرهم الخاطئ له، ولكنهم يجعلونه تبعاً للواقع المادي. مما يغلّ قدراته عن التحرك الأفضل في الإبداع والأوسع في الإختراع، حتى في المجال المادي الذي حصروا ايمانهم به ورفضوا غيره. وهو الحال الذي أوصلهم الى ما وصلوا اليه من تخلّف في الميادين العلمية بالنسبة للغرب الراسمالي الذي يطلق العنان لجميع قدرات الفرد الكامنة، ويحاول أن يستغلها كل الاستغلال، وإن كان أبشع استغلال، لصالح شعوبهم و ضد غيرهم …
وصحيح أن ما يفعله رجال الاشتراكية الشيوعية اليوم ليس وليد الصدفة، بل سبقته إرهاصات كثيرة عندما حاول بعضهم، وعلى رأسهم خروشوف في السبعينيات بل في الستينيات، أن يدخل الحوافز المادية الفردية للاقتصاد، ويطور القطاع الزراعي بالذات. ولكن الجو لم يكن مهيّأ لا للاستماع اليه ولا لقبول آرائه. مما جعله يتعرض للطرد من جميع مسؤولياته. صحيح هذا، ولكن أن يقدم غورباتشيف، ومن بعده يلتسين، وأمثاله في جميع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، على هذا الذي يجري هناك، ما كان ليحصل الا بعد أن تهيّأ الجو لمثل هذا التحرك وفي هذا الاتجاه …
ولكن، وللأسف، شتان بين أن يتحرك العالم الاشتراكي الشيوعي في طريق التطوير لمبدئه وأفكاره في الاتجاه المناسب له كمبدأ من صنع الانسان، اتجاه إقرار الانحراف في عقيدتهم المادية ونظرتها في التصوير المادي والتخلّي عن ذلك، لا لصالح عقيدة الراسمالية، التي طالما هاجموها أشرس هجوم وأقوى هجوم بحيث كان لهم الفضل في إظهار الكثير من عوارها، وإنما لصالح العقيدة الاسلامية التي ما كانوا ليرفضوها أصلاً لو لم تُصَب عقولهم بل قلوبهم، ومن قادهم من قبل، بهذا العمى نتيجة ضغوط ومآسي رجال الكنيسة وتآمرهم مع الملوك ضد شعوبهم.
ولو كان للاسلام نقاوته، وبروز عظمته، كما كان في اول عهوده، وانطلاقته الفذة في انقاذ الشعوب من أرجاس الامبراطوريتين، الرومانية والفارسية، لما أصيبت تلك العقول والقلوب بمثل ما أصيبت به من العمه والعمى. ولكنها إرادة الله وحكمته وتدبيره عندما خلق الانسان وجعله على شكل قادر معه أن يختار بين البدائل، كما جعل في عقله ووجدانه الاستعداد التام للتأثر والاختلاف والتباين والتناقض. وصدق سبحانه وهو القائل "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" . فكانت عقولهم، عقول رجالهم الأوائل، جاهزة كعقول بشرية للتأثر بما عاشته في العصور الأخيرة من مآسي الظلم والاضطهاد التي يوقظها رجال الكنيسة بالتعاون باسم الدين مع الملوك والأباطرة لاستغلال الشعوب وإذلالها. ففكرت تلك العقول وأعادت التفكير، ونظرت وأعادت النظر، وهي ترى لهيب الثورة الفكرية يجتاح اوروبا كلها، بدءا من فرنسا وثورتها وانتهاءا بالحروب الدينية التي كانت تلفّ اروربا من أقصاها الى أقصاها. فانتهت الى رفض الدين ورجال الدين، ولم يقف رفضها عند حدود الكنيسة ورجالها، وإنما تعدّاه الى رفض كل مؤسسة لها صلة بالدين، أي دين. مما أوقعها في أخطر خطأ يقع فيه العقل البشري في جميع قضاياه. ألا وهو القياس الشمولي، عندما رفضت الاسلام وتشريعه كما رفضت الكنيسة وهرطقتها، بحجة أنهما دين.
واليوم، أنى للاشتراكية الشيوعية ورجالها أن يفكروا بالاسلام وعقيدته ونظامه ليكون موضع التطلّع كبديل، عند تطوير أفكار مبدئهم، وهم يرون الاسلام وأهله فيما يرونه من الضعف والذل والهوان أمام جميع الشعوب والأمم المتقدمة مادياً ؟؟ !!
إن العقل الشيوعي الذي أشبع بالمادية والتطور المادي والواقع المادي لا يرى الا هذا الواقع. فماذا يرى في واقع الأمة الاسلامية غير التمزق والتطاحن والتشرذم لصالح الرأسمالية ولهاثاً وراءها ؟ ! فكيف له ان يفكر بالتطوير باتجاه الاسلام وأهله وهم على هذا الحال .. إنه بالطبع سيفكر بما لدى الراسمالية ومؤسساتها التي يرى فيها أسباب التقدم عليه في مجال الواقع المادي الذي طالما نافسها على السبق فيه. فيظن أنه بمثل هذا التطور سيسدّ الثغرات التي يعاني منها، ويتخلص من المساوئ التي سببت تخلّفه. وينسى في زحمة التنافس وسيطرة الواقع عليه أن الاندفاع في التأثر بالواقع لا يسمح بسلامة الحكم عليه. وإلا فكيف كان هذا العقل يرى كل الأخطاء في الفكر الرأسمالي ونظامه الديمقراطي الباطل عندما كان في اندفاعه الفكري الخاص؟! ويعود الان ليرى متأوّلاً إمكانية التطور باتجاه ذاك الفكر ؟ ! هل تخلصت الرأسمالية من أخطائها، أم ،على النقيض، زادت أخطاءا على أخطاء، بل خطايا على خطايا، في حق الشعوب، وبالذات شعوب ما يسمونه بالعالم الثالث ؟؟ !! إنها سيطرة الواقع المادي على عقولهم التي حجبتها عن ضرورة التفكر والتدبر قبل تبرير مآسي الرأسمالية، قبل الإقدام على التطور باتجاهها.
وهنا تظهر مسؤولية الاسلام وأهله، ومداها في تقديم الصورة المشرقة للعالم عن الفكر الحق الذي يستحق أن يُبحث عنه و يًتّجه اليه. فهل في ما هم عليه من الدول التي وصل عددها في عالمهم الاسلامي الى ما لا يقل عن خمس واربعين دولة، وفيما هم عليه من التطاحن فيما بينهم لأسباب وطنية او اقليمية، وكلها خلفها يقف الاستعمار الغربي، وفيما هم عليه من نسيان هويتهم الاسلامية وركضهم وراء الغرب في مجموعهم بل أجمعهم طلباً لديمقراطيته في الحكم، ورأسماليته في الاقتصاد، وحمايته في السياسة .. هل فيما هم عليه من ذلك ما يجعلهم مثلاً يحتذى وقدوةً تُتّبع ؟؟؟ !!! هل في ما هم عليه من ذلك ما يقدم للاشتراكية الشيوعية المنهارة في بنيانها وفكرها الهياكل البديلة والافكار البديلة ؟؟ !!
لا شك أن وجود الاسلام، والفكر الاسلامي، والمبدأ الاسلامي، في دولة اسلامية، وخلافة اسلامية، لا بالإسم بل بالفعل والواقع والحق والحقيقة، هو خير عامل يشدّ كل باحث عن السلامة والخير لنفسه ولمجتمعه. حتى لو كان جالساً وراء اربعة جدران ينشد الحقيقة في بحثه والسعادة في تطلعاته. فكيف اذا كان دولة من هذه الدول الاشتراكية اللاهثة وراء التغيير والتطور بحجة التخلف والبحث عن التقدم .. إنها لن تجد سبيلاً للمقارنة بينه وبين الفكر الرأسمالي الديمقراطي الذي سبق أن خبرت سوءاته وعرفت عوراته. ولم تتقدم للتطوير باتجاهه الا لأنها لمست أن فكرها أشدّ سوءا من فكره السيء وأكثر عورات من مبدئه الكثير العورات !! وفي الوقت الذي يفسح لها المجال لترى هذا الاسلام مطبّقاً في نظام ودولة، فترى الواقع المادي المحسوس الملموس لعظمة الاسلام وقدرته على إسعاد الفرد والمجتمع، دون طغيان لأحدهما على الآخر، فانها لن تتردد في التطوير باتجاهه والتغيير لتقليده واتّباعه والاحتذاء به ..
فمن المسؤول عن ضياع هذه الفرصة العالمية، الفرصة الذهبية، الفرصة المصيرية، للأخذ بيد البشرية في عالمها الاشتراكي باتجاه الاسلام وفكره ونظامه غير هذه الأحقاد العدوّة والعداء الحاقد من الداخل والخارج ضده ؟ !
فهبّوا يا رجال الاسلام لاهتبال هذه الفرصة، التي سيحاسبكم ربّكم على إضاعتها أشدّ الحساب، وستحاسبكم أمتكم أقسى الحساب، وتأكدوا أن الله لن يخذلكم ولن يتركم أعمالكم …
rajaab
24-07-2005, 12:14 AM
المجموعة المتنوعة من الندوات الاسلامية
الندوة الاولى
كيف تحمل الدعوة الاسلامية
العرض:
لا شك أن تخلف المسلمين عن الأمم المتقدمة ما كان ليحصل لو استمروا متمسكين بدينهم وحرصوا على هذا التمسك بوعي وإخلاص ودون أدنى تساهل او تأويل.
ولقد بدأ هذا التخلف منذ أخذوا يتخلون عن اسلامهم ويسمحون للحضارة الاجنبية ان تتسرب فيما بينهم وتأخذ طريقها الى ديارهم، كما سمحوا لأفكار الغرب ومفاهيمه أن تجتاح عقولهم وتستولي على أذهانهم. وفي نفس الوقت تقاعسوا عن دعوة الاسلام عندما تخلوا عن فكره القيادي في حياتهم، وأساءوا تطبيق أحكامه ونظمه في شؤونهم.
وللتخلص من هذا التخلف لا بد من العمل للنهضة. وهذا العمل لا تقطف ثماره الا بعد عودة الحياة الاسلامية وذلك بحمل الدعوة الاسلامية من خلال الفكر الاسلامي القيادي، ومن خلال بناء دولة اسلامية تتولى هي بدورها حمل هذا الفكر القيادي عندما تتولى حمل دعوة الاسلام بكل الوسائل المتاحة ولكل اركان المعمورة.
صحيح ان من الممكن ان يقول قائل هنا: ولكن لماذا الفكر الاسلامي بالذات دون غيره ؟ فيأتيه الجواب من الواقع المرّ الذي تعيشه أمم الارض قاطبة الآن، ومما تعانيه من مآس تركتها الاشتراكية الشيوعية وراءها وقد أخذت تجرجر أذيال التقهقر والإنكماش في عقر دارها، ومن المخازي الرأسمالية الديمقراطية التي برزت كأشنع ما تكون عليه النظم والمبادئ، وهي تكشّر عن أنيابها التكنولوجية السامة في عصر ما يسمونه إعادة بناء العالم من جديد والخاضع رغم أنفه للهيمنة الأميركية بالذات بعد أن شطبت تماماً القوة الروسية الشيوعية المنافسة لها.
هذه واحدة هامة جداً للإجابة، وخاصة لمن لم تتصل عقولهم بمنابع الفكر الاسلامي القيادي الصافي. وتبقى الثانية وإن كانت نظرية لعدم تطبيق الفكر الاسلامي في الواقع ولكنها تبقى ليست أقل أهمية من الأولى، ألا وهي التأكيد على أن الاسلام وحده هو القادر على إصلاح هذا العالم بعد أن أفسده المبدآن الاخران. وهو القادر وحده على إحداث النهضة الحقيقية السليمة للمسلمين وغيرهم … وحتى يتحقق ذلك كله لا بد أن تُحمل دعوة الاسلام على هذا الأساس.
فماذا يعني حمل الدعوة الاسلامية للعالم كقيادة فكرية؟؟
من المعروف أن الفكر، أي فكر، عندما يتصل بالسلوك الانساني فانه يقدم لحامله مفاهيم تسيّر سلوكه في هذا الجانب او ذاك، اذا كان قاصراً على جانب دون آخر، او في جميع جوانب الحياة، اذا كان فكراً شاملاً. وهذا يعني ان الفكر قد قاد الانسان في حياته وكان قائداً له. فاذا حملت الدعوة الاسلامية كأفكار تقود حملَتها للعيش عليها اولاً وليجعلوا الآخرين يعيشون مثلهم عليها، فانها تكون قد حُملت كقيادة فكرية او كفكر قيادي لكل من اتصلت به مهما كانت وسيلة الاتصال.
ولكن كيف تتحقق للدعوة الاسلامية هذه القيادة الفكرية؟؟
إنها من حمل افكار العقيدة الاسلامية الواضحة المحددة للآخرين لتكون افكارهم، ثم من بيان النظم الاسلامية المنبثقة عن تلك العقيدة لتنظيم جميع جوانب الحياة للفرد والمجتمع، ومن بيان جميع الافكار التي تبنى على هذه القيادة، والمفاهيم التي تنبثق من هذه الافكار ولتؤثر وتوجّه وتقولِب وجهة النظر في حياة الفرد والمجتمع ما دامت ترتبط بها وتعيش عليها.
ولكن ألا يوجد اختلاف في كيفية حمل الدعوة الاسلامية بين اليوم والأمس؟؟
إن التدقيق في النظر يرى أن الاختلاف الحاصل في الكيفية محصور فقط في الوسائل والأشكال دون أن يتعداها الى الأصل والجوهر. مما يفرض أن تكون الكيفية اليوم مثلها بالأمس، ما دامت تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحيد عن تلك الطريقة في كلياتها وجزئياتها قيد شعرة، وما دامت تدرك حقيقة الاختلاف مهما تعاقبت العصور وتنوعت الشعوب وتباعدت الأقطار.
فماذا تقتضي هذه الكيفية في حمل الدعوة؟؟
إنها تقتضي بلا شك الصراحة في القول، والجرأة في العمل، والقوة في التصدّي، والفكر في التعامل. ويظهر ذلك كله في تحدّي كل ما يخالف العقيدة وافكارها الواضحة او الطريقة التي تعيش بها هذه العقيدة بجميع افكارها حية في واقع الحياة. بحيث يكشف كل زيف فيه مهما كانت نتائج هذا الكشف، ويعرّى كل انحراف يكتنفه مهما كانت نتائج هذه التعرية.
وهذا يعني أن يبقى المبدأ الاسلامي هو السيد المطلق في حمل الدعوة سواء وافق أهواء جمهور الناس أم لم يوافق، وسواء ساير عاداتهم أم لم يسايرها. لأن صفاء العقيدة وافكارها، ووضوح كيفية تطبيقها في الحياة، تفرضان الحرص عليها بذاتها، ودون اي تملق للناس او نفاق لمن بيده الأمور، ودون مجاملة للعادات والتقاليد، حتى يبقى المبدأ وحده موضع التمسك والتقدير.
وهنا يرد سؤال: اذا كان هذا ما يقتضيه حمل الدعوة مع المسلمين، فكيف يكون الحال مع غير المسلمين مهما كانت أديانهم او مبادئهم ؟؟
والجواب على هذا السؤال ان الإكراه غير وارد في حق اعتناق الدين، وهذا يشمل جميع العقائد والمبادئ. أي انه لا يفرض على غير المسلمين ان يعتنقوا الاسلام، ولكن لا يقال لهم تمسّكوا بدينكم او مبدئكم. وإنما يدعون بلا إكراه، بالحجة والبرهان، الى الاسلام ليعتنقوه ما دام الهدف من حمل الدعوة الاسلامية إفراد الاسلام في الحياة وسيادته في الارض. أليس تعالى هو القائل "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" !!!
ولكن ما الدليل على وجوب إتّباع هذا الاسلوب الصارم المتحدّي في حمل الدعوة؟؟
إنه في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي تحدّى العالم كله برسالته التي ملكت عليه نفسه. فأعلن الحرب الفكرية بها على الناس قاطبة ليعملها في حياتهم سواء اعتنقوها كلهم او بعضهم. فقد بدأ بتحدي قريش وتسفيه معتقداتهم وهو فرد أعزل من أي سلاح او معين غير ايمانه برسالته. ثم توسع حتى شملت دعوته كل من كان يصل اليه دون أن يأبه بعقائدهم وعاداتهم، بأفكارهم ومفاهيمهم، بتعصبهم وجمودهم.
والسؤال هنا: هل تختلف كيفية حمل الدعوة بعد تطبيق الاسلام عما قبله؟؟
والجواب هو: ما دام الأصل في ذلك هو الحرص على سيادة المبدأ في الحياة، فهذا يقتضي الحرص على تنفيذ أحكام الاسلام بشكل كامل ودون أدنى تساهل ولا تأجيل عند تطبيقه. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل من وفد ثقيف ان يدع لهم صنمهم اللات لمدة ثلاث سنين دون هدم وأن يعفيهم من الصلاة، كما لم يقبل أن يدعه لهم حتى ولا لمدة شهر واحد كما طلبوا. ولكن الذي قبله منهم هو أن لا يهدموا هم صنمهم بأيديهم، ووكّل بذلك أبا سفيان والمغيرة بن شعبة. وهذا يعني أنه لم يقبل منهم الا العقيدة الكاملة وما تقتضيه من تنفيذ. وأما الوسيلة والشكل فقد قبلها منهم لأنهما لا يتصلان بحقيقة العقيدة. أي أنه لا تسامح في الفكرة او الطريقة، ولكن التسامح في الوسائل التي يمكن ان يستعمل منها ما تحتاجه الفكرة او الطريقة.
ومن ناحية اخرى: هل حمل الدعوة الاسلامية يستهدف غاية معينة؟
إن كل عمل من اعمال الدعوة يجب ان يكون لتحقيق غاية معينة بحيث لا تغيب عن ذهن حامل الدعوة. فلا يرضى بالفكر دون عمل، لأنه سيكون خيالياً مخدّراً، ولا يقبل بالفكر والعمل لغير غاية. لأنه يعتبر ذلك حركة لولبية ما اسرع أن تنتهي للجمود واليأس. بل يحرص على اقتران الفكر بالعمل، وعلى جعل الفكر والعمل معاً من أجل غاية محددة في الوجود … وهذا ما فعله الرسول عليه السلام عندما هيّأ مجتمع المدينة وأوجد فيها الدولة بعد أن لمس جمود مجتمع مكة وعدم قبوله الاسلام نظاماً فيهم. وبايجاد الدولة في المدينة طبّق عليه السلام الاسلام وحمل رسالته وأعدّ الأمة لتحمله من بعده، وفقاً للطريق الذي رسمه لها وسار عليه. وهذا يعني أن يلتزم حملة الدعوة، عند عدم وجود خليفة للمسلمين، بحملها بصورة شاملة أي تشمل الدعوة الى اعتناق الاسلام والى اعادة الحياة الاسلامية بتطبيق الاسلام في الارض، وبالتالي الى حمل هذه الدولة التي تطبق الاسلام الدعوة الى العالم، فتنتقل من دعوة محلية الى دعوة عالمية.
ويرد سؤال مهم أخير هنا: ما هو مضمون الدعوة الاسلامية، وماذا يقتضي؟؟
تتضمن الدعوة الاسلامية تصحيح العقائد أولاً، وتقوية الصلة بالله ثانياً، وحل مشاكل الناس ثالثاً وأخيراً. وبذلك تكون شاملة جميع جوانب الحياة الفردية والمجتمعية. فنجد الرسول عليه السلام قد كان يتلو على الناس في مكة قبل تطبيق الاسلام في دولة "تبّت يدا أبي لهب وتبّ" و "إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون" و "ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون" و "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" … ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو عليهم في المدينة بعد ايجاد الدولة الاسلامية "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" و "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" و "يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بديْنٍ الى أجل مسمى فاكتبوه" و "كيلا يكون دولةً بين الأغنياء منكم" و "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون"… وهذا يعني ان الدعوة الاسلامية لا بد أن تكون حاملة معها للناس الأنظمة التي يعالجون بها مشاكلهم، لأنها بذلك تكون حية تعالج كل مشاكل الانسان كإنسان وتغيره تغييراً كاملاً.
وهذه المسؤولية الضخمة تفرض على حامل الدعوة ان يحرص على النـزوع الى الكمال في كل شيء. فيحرص على التنقيب في افكاره حتى يبقيها نقية صافية دائماً، وفي افعاله حتى لا تغيب عن ترابطها مع افكاره ومع الغاية المستهدفة منها. وبذلك يضمن النجاح واستمراره، بشرط ان يقوم بذلك كله كواجب من الله يقبل عليه بسرور ويبتغي منه نوال رضوانه سبحانه دون غيره. وعندها يكون عمله لله موصولاً، ويكون نجاحه فيه بعون الله وتوفيقه مضموناً …
rajaab
24-07-2005, 12:18 AM
المناقشة:
س- متى بدأ التخلّي عن الاسلام في حياة المسلمين؟
ج- عندما أخذ المسلمون يؤوّلون الثقافة الاجنبية من فارسية وهندية وإغريقية تأويلات اختلطت بها مع الفكر الاسلامي فأخذت تفقده نقاوته وصفاءه.
س- هل يمكن ضرب مثال على ذلك؟
ج- نعم، إنها فكرة التصوّف والإغراق في الروحانية التي أخذت من الهندية. وهي فكرة محاربة الدنيا وشرورها وماديتها وآثامها، والإقبال على الآخرة والتبتّل والتقشف. وهناك فكرة الغيبية والاستسلام لها. فهي من آثار الفكر الإغريقي ولا علاقة لها بعقيدة الاسلام في القضاء والقدر.
س- ولكنك تقول بتسرّب افكار الغرب الى ديار المسلمين؟
ج- حدث هذا في القرون الأخيرة عندما زحف الفكر الديمقراطي والراسمالي والاشتراكي الى ديار المسلمين فهدم دولتهم وتركهم مزقاً وأشلاءاً في دول هزيلة متناحرة وهي تحتكم الى أنظمته وافكاره وحضارته.
س- هل يعقل ان يتنازل العالم الاشتراكي عن مبدأه للرأسمالية لمعاناته الاقتصادية، أم هو مجرد تكتيك او اسلوب لاقتناص المساعدات ومنع التعدّيات؟
ج- في البداية لم يحصل التنازل عن الاشتراكية كمبدأ متكامل لصالح الرأسمالية، وإنما الذي حصل هو التطوير لها بشكل يظنّ به أصحابه أنه يحقق التقدم الذي سبقهم اليه الغرب الرأسمالي. ولكنهم بحجة التعددية إندفعوا في التنازل جماهيرياً فقيادياً عن المبدأ ككل. وما هي الا نتيجة حتمية لمجتمعات صنعت مبادئها بعقولها فتنازلت عنها عندما سيطرت عليها فكرة التطوير وحتى الاستبدال الى ما تراه تحت ضغط الواقع أنه الأفضل والأسلم لرقيّ شعوبها … وكأن إنسانهم فأر تجارب…
س- ما علاقة حمل الدعوة الاسلامية بنهضة الأمة الاسلامية؟
ج- ما دامت النهضة لكل أمة تبدأ وتستمر في الحياة بالفكر، فان الدعوة الاسلامية هي التي تبرز الفكر الاسلامي بنقائه وصفائه، وتعيد للمسلمين حقيقة الثروة الفكرية الثقافية التي تخلّوا عنها الى عفن الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي. ولذلك فانه لا نهضة الا بالدعوة الاسلامية، بل لا بقاء ولا استمرار في هذه النهضة الا ببقاء واستمرار هذه الدعوة، سواء قبل قيام دولة تطبق الاسلام او بعد قيام تلك الدولة، التي تتولى بدورها، وبأساليب اخرى، القيام بهذه الدعوة.
س- هل من فرق بين حمل الدعوة الاسلامية قبل الدولة وبعدها؟
ج- قبل قيام الدولة تتركز الدعوة حول اربعة مهام هي: التثقيف المركز لبناء الشخصيات الاسلامية، والتثقيف الجماعي لبناء الرأي العام الواعي، وكشف خطط ومؤامرات الكفار ضد المسلمين ودينهم وبلادهم لتخليصهم وحمايتهم من السيطرة الاجنبية، وتبنّي مصالح الأمة ليبرز الاسلام حياً في حياتهم وليس مجرد افكار في أذهانهم.
هذا بالنسبة للدعوة قبل قيام دولة اسلامية. وأما الدعوة في ظل الدولة، فانها تشتمل على المهمتين الاوليين: التثقيف المركز الفردي والجماعي. وأما المهمتان الأخريان: الكشف والتبنّي، فيحل محلهما محاسبة الحكام ومراقبتهم لإحسان تطبيق الاسلام وحمل دعوته بالجهاد لبقية اقطار العالم، لأن الدولة نفسها تقوم بالكشف والتبنّي ولا حاجة لأن يقوم بذلك لا الافراد ولا الكتل والاحزاب.
س- هل يجوز استخدام وسائل الاتصال الحديثة في الدعوة الاسلامية؟
ج- نعم. يجوز ذلك بداهة. لأن الاسلام يأخذ بنتائج العلوم والمخترعات، وهي عالمية وليست ملكاً لأمة دون الأمم الاخرى ولا لمبدأ دون المبادئ الاخرى. وخاصة اذا كانت هذه النتائج مما لا يتناقض مع اي فكر اسلامي سليم وليس موهوم.
س- اذا كنا نريد كما تقول ان نتقيد بالكيفية التي تركها لنا الرسول عليه السلام في حمل الدعوة فانه عليه السلام كان يتلقى الوحي بالتدريج، بينما نحن بين أيدينا الرسالة كلها؟
ج- هذا صحيح من حيث نزول الرسالة، ولكن غير صحيح من حيث مضمون ما كان الرسول عليه السلام يؤمر به من الوحي. إذ كان في الوحي قبل قيام الدولة الحرص على مصالح الأمة جنبا الى جنب مع تقويم عقائدهم وتقوية الصلة بربهم. أي ان صلات البشرية الثلاثة: بالله وبالذات وبالآخرين، كانت موضع اعتبار. وكذلك الحال بعد قيام الدولة، وإن توسع مضمون ذلك اكثر من ذي قبل تبعاً لاتساع العمل ومجاله. ولهذا فان ما فعله الرسول عليه السلام رغم النـزول التدريجي للوحي عليه هو مما يجب علينا العمل به الآن، والعمل به في كل وقت، مع مراعاة أن يكون حمل الدعوة قبل الدولة كما فعل الرسول عليه السلام، بالعمل الفكري. وأما بعدها فالدولة تقوم بالعمل المادي. وأما الافراد والاحزاب الاسلامية فتحمل الدعوة بالعمل الفكري دائماً وإن كان الحزب الذي يتولى الحكم بالاسلام يحمل الدعوة في اطار الدولة وبتوجيه منها كما ترسم له فكرياً ومادياً، فكرياً بالآراء الاسلامية في جميع مجالات الحياة، ومادياً بالجهاد الحربي لإعلاء راية الاسلام، إلا أنه لا يختلف في ذلك عن الاحزاب الاسلامية الاخرى. إذ تبقى مهمتها فكرية والدولة هي التي تتولى المهمة المادية العملية.
س- ماذا تفهم من حادثة سماح الرسول عليه السلام لثقيف ألا يهدموا صنمهم اللات، بينما لم يسمح ببقائه لأية مدة حتى لو كانت لشهر واحد؟
ج- يفهم من ذلك عدم التساهل في تطبيق الاسلام وعقيدته لمن اعتنقه من حيث حقيقتها لا من حيث اسلوب التنفيذ والتطبيق. إذ السماح لغيرهم ان يهدموا صنمهم لا يؤثر في العقيدة لا من حيث جوهرها ولا من حيث تطبيقها بإزالة الصنم، وإنما هو فقط اسلوب تطبيق العقيدة في حياتهم. وهذا الفهم يؤكد لنا المدى الذي يسمح فيه بالتساهل وعدم التساهل في حمل الدعوة وفي تطبيق افكارها في واقع الحياة.
س- ولكن هل يجوز التوسع في التساهل في التطبيق والتنفيذ باستخدام اي اسلوب كان؟
ج- بالطبع لا. لأن الاسلوب يحدد نوع العمل المطلوب. فأسلوب هدم الصنم قد يكون بالهدم من أهل ثقيف او من غيرهم، والمهم أن يتحقق الهدم بالشكل المسموح به. والشكل او الوسيلة يمكن ان يكون بالفأس او بالسلاسل، او بالنسف بشرط أن لا يضرّ بالآخرين.
س- وما الغاية من حمل الدعوة الاسلامية في هذه الدنيا والآخرة؟
ج- ما دامت الدعوة الاسلامية قبل قيام الدولة تعتمد على التثقيف الفردي المركز، والتثقيف الجماعي، وكشف خطط الكفار ضد المسلمين، وتبنّي مصالح الأمة، فانها تسعى لتحقيق غاية محددة من كل مهمة من هذه المهمات الأربعة، كما أشارت اليها الندوة. وكذلك الحال بالنسبة لمهامها بعد قيام الدولة. والمهم أن جماع ذلك كله أن تبقى اعمال الدعوة دائماً فكرية ولا تتعداها الى المادية. وأما اعمال الدولة فهي مادية فكرية معاً بحيث لا تدعو لفكر دون ان تقصد منه ايجاد الجانب المادي لتطبيقه في نفس الوقت. وهكذا تكون الغاية من حمل الدعوة من قبل الافراد والاحزاب قبل قيام الدولة الاسلامية وبعدها هي تطبيق الاسلام في الارض بإقامة الدولة التي تتولى الدعوة بالطريقة المادية وهي الجهاد، وإن بقيت الاحزاب على نفس الطريقة السابقة مع ما يلزم من تعديل في مهماتها تبعاً لقيام الدولة. وأما في الحياة الاخرى فتبقى الغاية المثلى او غاية الغايات هي رضوان الله.
س- ولكننا نعلم أن مضمون الآيات المدنية غير مضمون المكية، فكيف نجعل الدعوة الآن، مع عدم وجود دولة، تشمل المضمونين، ما دمنا يجب ان نتقيد بطريقة الرسول عليه السلام؟
ج- صحيح ان الوحي نزل منجّماً حسب الحوادث، ونزل التشريع والأنظمة في المدينة ولم تنـزل في مكة. ولكن الرسول عليه السلام كان في دعوته لرسالته في مكة يشير الى مصالح الناس وما تفرضه الشريعة الجديدة من رعاية حقّة لها. وما أشارت اليه الندوة سابقاً من آيات عديدة تقدم مثالاً على ذلك، ولكنه يبقى في اطار الجانب الفكري، لأن هذه الآيات تحدثت عن الكيل والميزان والظلم الذي يلحق مصالح الناس فيهما وما سيحلّ بالظالمين من عقاب وما سيناله العادلون من ثواب. وأما بعد قيام الدولة فقد عمد الرسول عليه السلام الى الطعام المغشوش وأنذر صاحبه حيناً وأتلفه حيناً آخر. فقام بتطبيق الفكر، ولم يكتفِ بما كان الحال عليه قبل الدولة من مجرد تبليغ الفكر.
س- ولكن ألا يعني التنقيب في الافكار الشكَّ في صحتها؟
ج- هذا صحيح، ولكن الفكر لا يؤدى الا باللغة، واللغة منها قطعي الدلالة ومنها ظني الدلالة. وتطبيق الفكر على الواقع يحتاج دائماً للإطمئنان على قوة الدلالة من جهة، وعلى سلامة فهم الواقع الذي تطبّق عليه الافكار من جهة اخرى. والحياة تقدم دائماً مستجدات كثيرة لا يقف الفكر الاسلامي أمامها عاجزاً بل يقدم الحكم عليها. وهنا لا بد من التنقيب مع كل جديد، كما انه لا بد من التنقيب فيما يلزم من القديم اذا ظهرت مستجدات بشأنه تلقي عليه المزيد من النور والضوء.
rajaab
24-07-2005, 12:25 AM
الندوة الثانية
الحضارة الاسلامية ومقارنتها بالحضارة الغربية
العرض:
لقد تعود أصحاب الرأي والفكر على الجمع بين كلمتي الحضارة والمدنية، وغالبا دون تفريق بينهما في المعنى، وان كان بعضهم قد أبرز الاختلاف في مدلول كل منهما عن الاخرى. فما التطابق والاختلاف بينهما ؟
ان كلمة الحضارة تشير الى التحضر عكس التبدؤ، والحاضرة عكس البادية. وكلمة المدنية تشير الى التمدن عكس التريف، والمدينة عكس الريف. فإلى اي مدى تلتقي هاتان الكلمتان وتفترقان في مدلولهما؟
ان المدلول اللغوي لكل منهما يتداخل مع الآخر، فالتحضر والحاضرة يشيران الى العيش في المدينة والاتصاف بصفات أهلها، وذلك على العكس من التبدؤ والبادية التي يتصف أهلها بصفات تختلف عن اهل المدينة. وكذلك التمدن والمدنية فانهما يشيران الى العيش في المدينة ومعايشة صفاتها المميزة عن الريف الذي يشمل البادية كما يشمل القرية. ولكن معنى الريف يبقى أوسع من معنى البادية بشموله كل ما هو خارج المدينة من السكان المستقرين للزراعة والمتنقلين مع الماشية، بينما البادية تختص بهذا الجانب دون ذاك.
واما المدلول العرفي فان الحضارة تختص بالمفاهيم عن الحياة، بينما تختص المدنية بأشكال الحياة المادية. وهذا يعني أن كلمة الحضارة تنحصر في مدلولها بالمعاني والأفكار التي تقدمها وجهة النظر في الحياة أو الأيديولوجيا، وما تراه في كل شيء من أشياء هذه الحياة. بينما كلمة المدنية تشمل هذا الجانب عندما تقدم أشكالا مادية من الأشياء الحياتية كالتماثيل مأخوذة أو متأثرة بوجهة النظر، كما تقدم أشكالا علمية وصناعية كالحاسوب والطائرة ليست مأخوذة ولا متأثرة بوجهة النظر في الحياة، وإنما نتيجة للعلوم وتقدمها والصناعة وتطورها.
فماذا يقتضي هذا التفريق في واقع الحياة ؟
لما كان هذا التفريق بين الحضارة والمدنية يعني أن الحضارة هي مجموعة المفاهيم عن كل الأشياء في الحياة بناء على وجهة النظر المبدئية التي يعتنقها الفرد وتدين بها الأمة، بينما المدنية هي مجموع الأشكال المادية للأشياء المحسوسة في الحياة، سواء كانت متأثرة بمفهوم من مفاهيم وجهة النظر المبدئية أو غير متأثرة … وهذا يعني ان الحضارة خاصة بحيث يكون لكل أمة حضارتها الخاصة بها تبعاً لوجهة نظرها المبدئية، او تبعاً لعقيدتها ومبدئها، بينما المدنية قد تكون خاصة بأمة من الأمم عندما تكون متأثرة بمفهوم من مفاهيم عقيدتها ومبدئها، وقد تكون عامة لجميع الأمم والشعوب عندما تكون من نتاج العلم والصناعة التي لا تختص بأمة من الأمم ولا بشعب من الشعوب …
وعليه ولمّا كان التفريق بين مدلوليْ الكلمتين يعني كل هذا، فانه لا بد من ملاحظة ذلك دائماً، وملاحظة التفريق بين الأشكال المدنية الحضارية، اي المتأثرة بوجهة النظر، وبين الأشكال المدنية العلمية والصناعية الاخرى، اي غير المتأثرة بوجهة النظر.
ولكن ما هو مردود هذه الملاحظة في التفريق على حياة الفرد والمجتمع؟
ان مردود ذلك يظهر عند أخذ المدنية وأشكالها المتنوعة، بحيث يميز بين أشكالها كما يميز بينها وبين الحضارة. فعندما يقدم الفرد المسلم على المدنية الغربية الناتجة عن العلم والصناعة، فانه لا يجد غضاضة في ذلك، لأنه لا يوجد ما يمنع من أخذها في مفاهيم مبدئه، ناهيك عن وجوب أخذ ما يلزم منها مما تحتاجه الأمة الاسلامية. وأما المدنية الناتجة عن الحضارة الغربية، فانه لا يجوز أخذها، لتحريم أخذ الحضارة الغربية المناقضة للحضارة الاسلامية، سواء من حيث أساسها، او من حيث تصويرها للحياة الدنيا، او من حيث مفهوم سعادة الانسان في هذه الحياة الدنيا وتلك الحياة الأخرى.
فكيف تتناقض الحضارة الاسلامية مع الحضارة الغربية من حيث الأساس؟
إن أساس الحضارة الغربية، أي الرأسمالية الديمقراطية، هو أساس مبدئهم، وهو فصل الدين عن الحياة وإنكار تأثيره فيها وبالتالي في الدولة التي تنظمها وترعاها. فوجهة نظرهم في الحياة أنها لا علاقة لها بالدين ولا أثر له فيها ولا في نظامها. لأن الحياة عندهم وجدت هكذا بغض النظر عمن أوجدها، والعقل والتدبير الانساني هو الذي ينظمها، دون أدنى صلة بغير ذلك.
وأما اساس الحضارة الاسلامية فهو الايمان بالله، وأنه سبحانه نظم هذا الوجود بنظام يسير عليه، فجعل لكل جانب من جوانبه، أي الكون والانسان والحياة، نظامه الخاص به. كما أرسل سبحانه سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالاسلام ديناً تقوم الحضارة الاسلامية على اساس عقيدته التي تشمل الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، أي انها تقوم على اساس روحي. وهكذا يظهر التناقض في الأساس بين الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية.
وكيف تتناقض الحضارة الاسلامية مع الغربية من حيث تصويرها للحياة؟
ان تصوير الحضارة الغربية للحياة هو أنها منفعة، لأن كل عمل كما تراه من أعمال الانسان مقياسه المنفعة، أي انها ترى ان النفعية هي قاعدة النظام وقاعدة الحضارة. فهي حضارة نفعية ولا تعترف في الحياة الا بالنفعية والقيمة المادية. ولذلك لا توجد لديها اي قيمة اخرى من أخلاقية وانسانية وروحية. مما جعلها تلحق الاعمال المؤدية لهذه القيم بمنظمات منفصلة عن الدولة، كمنظمة الصليب الأحمر وأعمال القيمة الانسانية، ومنظمات التبشير وأعمال القيمة الروحية. واما اعمال القيمة الخلقية فهي عند هذه الحضارة تابعة لأعمال النفعية، فأي خلق فيه منفعة فهو السليم عندهم سواء كان صدقاً او كذباً، غشّاً او أمانة.
وأما تصوير الحياة في الحضارة الاسلامية فهي انها مزيج من المادة والروح. اي ان كل عمل من اعمال الانسان في حياته مسيّر بأوامر الله ونواهيه. ذلك ان العمل الانساني أياً كان نوعه مادة، وربطه لهذا العمل عند القيام به بصلته بالله هو الروح، فيقوم به إن كان حلالاً ويتجنبه إن كان حراماً. وهذه هو معنى تسيير الاعمال بأوامر الله ونواهيه، وهذا هو معنى مزج المادة بالروح. فغاية المسلم بهذا التسيير ليس الحصول على المنفعة، وإنما نوال رضوان الله تعالى. وأما القصد الدنيوي من القيام بالعمل فهو حسب نوع العمل. فيقصد بالعمل التجاري القيمة المادية، ويقصد بالعمل الخلقي القيمة الخلقية، ويقصد بالعمل العبادي القيمة الروحية. أي عندما يقوم بعمل يراعي فيه الحلال فيفعله والحرام فيتجنبه، فيحقق بذلك القيمة المادية وهي الربح الحلال وليس اي ربح او الربح الذي يأتي من الحرام.
وكيف تتناقض الحضارة الغربية مع الحضارة الاسلامية من حيث مفهوم السعادة؟
ان السعادة لدى الحضارة الغربية هي إعطاء الانسان أكبر قسط من المتعة الجسدية وتوفير أسبابها له، وذلك تبعاً لتصوير الحياة بالنفعية لا غير. فحيثما تتوفر متع الجسد بذاتها كالعملية الجنسية او بأسبابها كالاعمال المادية النفعية الاخرى تكون عندهم السعادة. أي انها في إشباع جوعات الانسان المتعددة سواء كانت جنسية او غيرها دون أدنى ارتباط بغير الجانب الجسدي.
وأما مفهوم السعادة في الحضارة الاسلامية فهي انها نوال رضوان الله سبحانه. وليست إشباع الجوعات الخاصة بأعضاء الانسان او الخاصة بالغرائز. لأن إشباع هذه الجوعات ليس اكثر من وسيلة للإبقاء على حياة الانسان، ولا يحقق السعادة مهما كان مستوى هذا الاشباع، بغض النظر عن تأثير هذا الاشباع بشكل او بآخر على راحة الانسان، ولكنه لا يلزم من وجوده تحقق السعادة لصاحبه. فقد يتحقق للانسان اشباع معدته او غيرها من اعضاء جسمه، ولكنه يكون شقياً. وقد يتحقق له اشباع غريزة الجنس ولكنه يكون شقياً، وذلك عندما يربط هذا التحقق بالمنفعة الجسدية فقط. ولكنه عندما يربطه بالغاية من أعماله كلها في الحياة، وهي السعي للحصول على رضوان الله، فانه يستشعر السعادة والطمأنينة والرضى، سواء كان هذا الاشباع كاملا او ناقصاً او حتى معدوماً.
ولكن كيف تتناقض الاشكال المدنية الناتجة عن الحضارة الغربية مع تلك الناتجة عن الحضارة الاسلامية؟
يظهر ذلك جلياً من إعطاء أمثلة جسدية. فالصورة الناتجة من آلة التصوير إما أن تتأثر بالحضارة الغربية عندما تبرز مفاتن المرأة او تعرّي جسدها فتعتبرها قطعة فنية تبعاً لمواصفات معينة عندهم. وإما أن تتأثر بالحضارة الاسلامية عندما تمنع هذا التصوير المبتذل للمرأة الذي يثير غريزة النوع ويسبب الفوضى الأخلاقية.
ومثل آخر من بناء البيت، وهو شكل مدني. فإن تأثر بالحضارة الغربية، راعى إنكشاف المرأة في تبذّلها خارجه لأنها للتمتع. وإن تأثر بالحضارة الاسلامية أقام حوله سوراً يمنع هذا الإنكشاف او ستره بالستائر المحققة لذلك.
ومثل ثالث من الملابس. فإنها إن كانت خاصة بالكفار باعتبار كفرهم كملابس الكهنة، فانها تتناقض مع ما تطلبه الحضارة الاسلامية من الملابس اللازمة للعبادة. كما تتناقض ملابس التبذّل الخاصة بالمناسبات العديدة عندهم مع الملابس المناسبة لمثل هذه المناسبات لدى الحضارة الاسلامية. وأما الملابس الاخرى التي ظهرت في الغرب لحاجة معينة او زينة خاصة لا تتناقض مع الاسلام فانها من الاشكال المدنية الناتجة عن العلم والصناعة التي يجوز أخذها، ولأنها تكون عامة بهذا الوضع لجميع البشر وليست خاصة لحضارة من دون غيرها. وكذلك الأمر بالنسبة لكل الأشكال المدنية الناتجة عن العلم والصناعة من أدوات المختبرات والآلات الطبية والصناعية والأثاث والمفروشات والأدوات المنـزلية وما شاكلها فانها اشكال مدنية لعموم الناس في العالم، ولا صلة لها بالحضارة ووجهة النظر في الحياة.
وقبل الانتهاء من هذه الندوة، لا بد من وقفة قصيرة مع أثر هذه الحضارة الغربية على العالم اليوم …
ان النظرة الخاطفة الى عالم اليوم توضح الى أي مدى سببت الحضارة الغربية شقاء الانسانية وفقدان طمأنينتها. ذلك ان هذه الحضارة التي تقوم على إهمال الدين في الحياة مخالفة لفطرة الانسان، ولا تعتبر الناحية الروحية في المجتمع. وتقدم الحياة في صورة المنفعة فقط، وتعقد الصلة بين الناس على أساس النفعية لا غير، ولا تنتج الا الشقاء والقلق الدائمين على الفرد والمجتمع معاً. كيف لا، وأن المنفعة هي اساس كل شيء عندهم، وهي لا توجِد في نفوسهم وصلاتهم فيما بينهم الا التنازع والتناحر واستخدام القوة لتحقيق مآربهم، فيكون الاستعمار من طبيعتهم، وتكون الاخلاق مهزوزة عندهم، وتستشري الأزمات الروحية في أوساطهم الفردية والاجتماعية، مما يسهل لدى الفرد منهم الانتحار كحلّ لمشاكله او الانحراف وسيلة يظنّ بها عقله الحلّ لشقائه او شقاء مجتمعه. وما محاولات العودة الى الدين عندهم الا اعتراف بفساد حضارتهم وشقاء حياتهم التي اجتاحتها المظاهر العديدة من الانحراف بحثاً عن السعادة الحقّة دون جدوى، فعادوا يفتشون عن الدين، ولكن أيّ دين؟! ولو نقّبوا في التاريخ بنـزاهة وتجرّد وموضوعية لرأوا ان الحضارة الاسلامية بموافقتها للفطرة وتسييرها لأعمال الانسان بالحلال والحرام، وبتصويرها للحياة بصورة الجمع بين المادة والروح وليس بإهمال إحداهما على حساب الاخرى، وبمفهومها للسعادة بأنها السعي للحصول على مرضاة الخالق المدبر سبحانه، هي وحدها التي تحقق السعادة للفرد والمجتمع وتخلّص البشرية مما ترزح تحته من كوابيس، وتأخذ بيد الانسانية الى الرفاهية والطمأنينة.
rajaab
24-07-2005, 12:29 AM
المناقشة:
س- ما الفرق بين أن تقول: هذا الرجل متحضر، وهذا الرجل متمدّن؟
ج- الرجل المتحضر هو ذو السلوك الراقي حسب وجهة نظر معينة في الحياة. والرجل المتمدن هو ذو الشكل الراقي حسب الاشكال المدنية المتعارف عليها في بلد ما دون ارتباط بوجهة النظر الخاصة. فالمتحضر قد يكون متمدناً وقد لا يكون، والمتمدن قد يكون متحضراً وقد لا يكون.
س- ما قيمة هذا التفريق بين الحضارة والمدنية في واقع الحياة؟
ج- إنه يعطي فهماً سليماً وبالتالي تعرّفاً صحيحاً لمدى الجمع والتفريق بين ما لدى المسلمين وغيرهم، وبالتالي لما يمكن أخذه او عدم أخذه من الشعوب والأمم الاخرى. وهذا أمر في غاية الأهمية لدى أصحاب المبادئ والقيم.
س- كيف يمكن أن يتأثر اللباس بالحضارة؟
ج- اللباس يتأثر بالحضارة من ناحيتين: الاولى – في مادته، فتصنع من أي مادة كانت للرجل والمرأة ما دام يحقق منفعة للصانع والمشتري وفقاً لنظرة الحضارة الغربية. بينما تحرم الحضارة الاسلامية صنعه للرجل من الحرير والذهب وتبيحه للمرأة، لاعتبار الاسلام الخاص لكل منهما كرجل وامرأة، وبغض النظر عن المنفعة في المادة. والناحية الثانية: في شكله، فيكون طويلاً فضفاضاً ساتراً للمرأة بكلّية جسدها، ومن السرّة الى الركبة للرجل، ويمنع فيه التشبّه بين الرجال والنساء، والتنبّه بما يختصّ به الكفار لكفرهم، وهذا كما تراه الحضارة الاسلامية. وأما الغربية فلا تقيم وزناً لذلك كله ما دام يظهر المفاتن ويحقق المتعة بين الجنسين ودون اي اعتبار آخر، اللهم الا اعتبار الكسب المادي عند ترويجه.
س- هل يمكن ان نطلق على كل الاشكال المدنية العلمية او الصناعية أنها غير متحضرة؟
ج- لا، ما دامت لا تتأثر بوجهة النظر في الحياة. وأما شكل اللباس مثلاً قد يتأثر بوجهة النظر فيقصد منه إبراز المفاتن، وقد لا يتأثر فيقصد منه حاجة معينة مباحة.
س- الا يؤدي القول بتحريم الأخذ بالحضارة الغربية الى عدم اقتباس العلوم والصناعات عندهم؟
ج- يجب الحرص على التفريق بين الحضارة والمدنية. فالحضارة الغربية هي مفاهيم الغرب المبدئية عن الحياة، وهي المرفوضة شرعاً. بينما المدنية تنقسم بين ما يتأثر بالحضارة وهو مرفوض ايضاً، وبين ما لا يتأثر بها، وهو نتاج العلوم والصناعات مما يعتبر عالمياً وليس خاصاً بحضارة دون حضارة، فانه وحده الذي يؤخذ ويقتبس سواء من حيث العلوم ذاتها او نتاجها وتطبيقاتها الصناعية.
س- ما علاقة الحضارة الغربية بعقيدتهم في فصل الدين عن الحياة؟
ج- ما دامت الحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة بما فيها من أشياء واشكال فان عقيدة فصل الدين عن هذه الحياة تجعل المفاهيم مأخوذة من غير الدين عندهم، وهو – كما يرون – عقل الانسان وتفكيره وتقديره وحكمه على الاشياء والاشكال، بالطبع بناءا على ما فيها من منفعة الانسان حسب تقديره وفهمه وإدراكه. وهكذا فان اساس الحضارة الفعلي لدى كل امة من الامم، وكل مبدأ من المبادئ، سواء الغرب او غيره، هو العقيدة المبدئية التي يقيم عليها وجهة نظره في الحياة.
س- وما علاقة الايمان بالله .. اي العقيدة الاسلامية بالحضارة الاسلامية؟
ج- لأن الحضارة هي المفاهيم عن الحياة، ولأن هذه المفاهيم مأخوذة مما تقدمه العقيدة من أفكار وأحكام، وهذا يعني العمل بأوامر الله ونواهيه، أخذاً وتركاً، وتحليلاً وتحريماً، فان هذا يوضح العلاقة الوثيقة – كأساس وفرع - بينهما.
س- ما معنى تصوير الحياة في نظر اي حضارة؟
ج- هذا يعني تفسيرها وبيان حقيقتها. فعندما تقول الحضارة الغربية بان الحياة نفعية فانها تفسرها بأن حقيقة كل عمل من اعمال الانسان فيها قائم على المنفعة له والمتمثلة في اشباع جوعاته. وعندما تفسرها الحضارة الاسلامية بأنها مزيج من المادة والروح، فانها ترى كل عمل من اعمال الانسان يراعى فيه الحلال والحرام ليس بالمادة فقط، ولا بالروح فقط ولكن مزيج بينهما. وهكذا فان تصوير الحياة يعني اعطاءها التفسير والبيان الذي تراه لفهم حقيقتها.
س- كيف ترى ان كل اعمال الانسان مادة حتى الصلاة؟
ج- الصلاة مجموعة حركات وقراءات، وهذه كلها مادة. ولكن القيام بهذه الاعمال بناءا على اوامر الله هو الروح. ومن هنا قيل أن الصلاة اعمال مادية روحية. وهذا الوصف ليس خاصاً بالصلاة، بل بكل عمل يسير بأوامر الله ونواهيه، وإن كانت الصلاة اعمالا مادية تظهر فيها الروح اكثر من غيرها للانسان بسبب توجهها المباشر لله، أي كونها الصلة المباشرة بين الانسان وخالقه.
س- ما دامت اعمال الانسان كلها مادة اذا لم يسيّرها باوامر الله ونواهيه، فكيف تجعل لها أربع قيم، وليس فقط القيمة الروحية؟
ج- لأن القيمة من العمل هي القصد المباشر من القيام به. وهذه المقاصد في جميع اعمال الانسان اربعة لا غير، وهي: المادي والخلقي والانساني والروحي. ولو أحصينا اعمال الانسان لما وجدناها تتعدى هذه المقاصد او القيم الاربعة في جميع انواعها. فاذا سُيّر اي عمل منها بأوامر الله ونواهيه فانه يكون مزيجاً من المادة والروح. وعندما لا يُسيّر بمراعاتهما فانه يبقى مادةً فقط.
س- كيف ترى الحضارة الغربية السعادة في المتع الجسدية؟
ج- عندما ترى ان سعادة الانسان لا علاقة لها بخالقه وإنما هي ملك له ووفقاً لرغباته، فان هذه الرغبات تتحقق بإشباع جوعاته بنوعيها العضوية والغريزية، او بتوفير الاسباب المحققة لهذا الاشباع، ومن هنا كانت ترى السعادة في المتع الجسدية.
س- اذا كانت العملية الجنسية تحقق اشباع غريزة النوع، فكيف تراها الحضارتان الاسلامية والغربية؟
ج- ان اشباع الغريزة يحقق المتعة في نظر الحضارتين. ولكنه يعتبر هو الاحساس المادي المحقق للسعادة في هذا العمل في نظر الحضارة الغربية التي تقف في مفهومها للسعادة عند هذا الاشباع. وأما في نظر الحضارة الاسلامية فهو يتصور لغيره، ألا وهو قصد الذرية وحصانة الفرج ابتغاء مرضاة الله. وعندما تمتزج الروح بالعمل المادي ويحصل السعي لنيل رضوان الله تتحقق الطمأنينة النفسية والجسدية. وهكذا في كل عمل من اعمال اشباع الغرائز او الاعضاء الجسمية.
س- ماذا يقصد بالملابس كأشكال مدنية قد يحصل فيها التناقض بين الحضارة الاسلامية والغربية؟
ج- يظهر ذلك من ملابس المناسبات عندهم، فانهم كرجال او كنساء يتخذون ملابس معينة بأشكال معينة وحتى ألوان معينة للمناسبات المختلفة. فيظهر هنا التبذّل اكثر من هناك، ويظهر الضيق والاتساع هنا اكثر من هناك، ويظهر التنوع في الالوان هنا اكثر من هناك، والكل مرتبط بنوعية المناسبة هنا وهناك، سواء كانت مناسبة دينية او لفرح او لحزن … وهي كلها متأثرة بوجهة نظرهم في الحياة مما يجعلها تناقض مفهوم الاسلام في هذا المقام او ذاك.
س- ولكن كيف ترتبط الملابس في الغرب بحاجة معينة او زينة خاصة ولا تناقض الاسلام؟
ج- اذا كانت الحاجة المعينة او الزينة الخاصة مما يقرّها الاسلام كاللباس المعين للطيران او العمل في مصنع معين، او كالزينة في مناسبة العيد او العرس او التعزية فان ذلك لا يتناقض مع الاسلام وحضارته، أي ما دامت الحاجة او الزينة مما يقرّه الشرع.
س- كيف تخالف الحضارة الغربية فطرة الانسان؟
ج- من كونها تفصل الدين عن الحياة كأساس تقوم عليه، مما يجعلها تتنكر لفطرة الانسان المشتملة على غريزة التدين وحاجة هذه الغريزة للتنظيم الربّاني.
س- لماذا تقصر المقارنة بين الحضارتين الاسلامية والغربية، دون الاشتراكية؟
ج- لأن الحضارة الاسلامية هي الوحيدة التي تنفرد عنهما في اساسها الروحي، ومزجها بين المادة والروح في تصوير الحياة، ومفهومها الخاص للسعادة. بينما يلتقيان في الأساس من كون الغربية تهمل الدين بينما الاشتراكية تنكره، وفي تصوير الحياة بالنفعية والمادية للفرد والمجتمع، وفي مفهوم السعادة من كونها لا تتصل بالسعي لنيل رضوان الله في شيء وإنما لاشباع حاجات فردية او جماعية. فكلاهما يسبح في مستنقع شهوات الجسد ورغباته الدنيوية سواء على مستوى الفرد او المجتمع. بينما يستقل الاسلام بنظرة حضارته عبر الدنيا ومتعها الطيبة الى الآخرة ونعيمها المقيم.
rajaab
24-07-2005, 12:33 AM
الندوة الثالثة
نظام الاسلام
العرض:
لقد تعوّدنا على تكرار عبارة أن الاسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن دون إدراك دقيق لمعناها. فعندما نقول ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان، لا شك أننا نقصد صلاحيته للانسان بغض النظر عن الزمان الذي يعيش فيه او المكان الذي يعيش عليه. وهذا يعني ان في الاسلام قدرة على ان يرعى شؤون الانسان كلها بشكل سليم أينما وجد ومتى وجد.
واذا كان من البدهي القول ان الاسلام هو الدين الذي أنزله الله سبحانه على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فما هي القدرة المتوفرة فيه لرعاية شؤون الانسان؟
والجواب على هذا السؤال يأتي من النظرة الصحيحة الشاملة لما جاء به الاسلام، لنجد انه يشتمل على العقائد والعبادات، وهذه تنظم علاقة الانسان بخالقه، ويشتمل على الاخلاق والمطعومات والملبوسات، وهذه تنظم علاقة الانسان بنفسه، ويشتمل على المعاملات والعقوبات، وهذه تنظم علاقة الانسان بغيره من بني البشر.
ولما كان لا يوجد للانسان علاقة رابعة غير هذه العلاقات الثلاث، فيكون الاسلام قادراً على رعاية شؤون الانسان جميعها. وفي ذلك وضوح، وأي وضوح، بأنه ليس ديناً لاهوتياً او كهنوتياً، او له اية صلة بالأتوقراطية، كما يسمونه، أي الاستبداد الديني. إذ لا يوجد فيه فئة يطلق عليها رجال الدين وفئة اخرى تسمى رجال الدنيا، بل الكل مسلمون متساوون أمام الاسلام، أي انه لا يوجد فيه حسب التسميات الاخرى رجال روحيون وآخرون زمنيون.
ولكن هل يعني هذا ان الاسلام لا وجود للروح والروحانيات في اعتباره ؟
لا. لأن هذا لا صلة له بالروح والروحانيات التي يرونها في تكريس الحياة للعبادة والإنصراف عن الحياة وشؤونها الاخرى. ومن ناحية اخرى فان الاسلام يرى ان الناحية الروحية موجودة في كل الوجود، من كون وانسان وحياة. وذلك لكونها من مخلوقات الله، وهذه الصلة التي تربطها بالله من كونها مخلوقة له سبحانه هي الناحية الروحية فيها. فلا يوجد انسان او حيوان او جماد او سائل او غاز من الأحياء والجمادات او غيرها إلا و فيه الناحية الروحية من كونه مخلوق لله الخالق. وهذه هي عقيدة الاسلام. واما الروح في اي كائن او عمل فهي شيء آخر غير الناحية الروحية. إذ هي إدراك الناحية الروحية، أي إدراك أن كل شيء مخلوق لخالق. وتبعاً لهذا الادراك يجري تدبير هذا الشيء وفقاً لما يراه الخالق من أوامر ونواهي. وكذلك إدراك ان كل عمل يصدر عن هذا المخلوق يجب ان يدبر وينظم بما يراه الخالق من تدبير وتنظيم. وأما مزج المادة ، أي الشيء، بالروح، أي العمل، فيعني ان يُسيّر الشيء او العمل بأوامر الله ونواهيه، بحيث اذا لم يُسيَّر اي عمل او يُدبَّر اي شيء بهذه الأوامر والنواهي فانه يكون خال من الروح.
وهكذا تظهر النظرة المستنيرة للوجود بأنه مخلوق لخالق هو الله تعالى، وأن هذه الصلة هي الناحية الروحية في الوجود، وأن إدراك هذه الصلة من قبل اي انسان هي الروح، وهذه الروح لا تظهر في الانسان الا عند قيامه بالفعل المتصل بالشيء، وذلك من خلال تسيير الفعل بأوامر الله ونواهيه. بحيث اذا لم يضبطه بهذا الضابط فان الفعل يبقى مادة لا روح فيها، واذا سيّره وضبطه يكون قد مزج بين المادة والروح.
وهذا يظهر الفرق بين المسلم والكافر. إذ المسلم يمزج المادة بالروح في كل افعاله ما دام يسيّرها بالحلال والحرام. والكافر تبقى اعماله مادية لا روح فيها لأنه يسيّرها بالنفعية او المادية، لا بالحلال والحرام حتى لو سيّرها بأحكام الاسلام ما دام لم يأخذها ايماناً بها وبأنها التدبير الرباني الواجب الإلتـزام.
هذه هي نظرة الاسلام المستنيرة للأشياء والأعمال في هذا الوجود. فهل هي نفسها لدى الأديان الاخرى؟
لقد رأت بعض الأديان وهي تنظر للوجود أن في الكون محسوساً ومغيَّباً، وأن في الانسان سموّاً روحياً ونزعة جسدية، وأن في الحياة ناحية مادية وناحية روحية. ورأت ان المحسوس يتعارض مع المغيّب، وأن السمو الروحي لا يلتقي مع النزعة الجسدية، وأن المادة منفصلة عن الروح. ونتيجة لذلك رأت أن من يريد الآخرة ونعيمها، فعليه ان يرجّح الناحية الروحية، ومن يريد الدنيا ومتاعها فعليه بترجيحها. وهكذا نشأت السلطة الروحية في المسيحية منفصلة عن السلطة الزمنية. وهم يستشهدون في ذلك بدليل من الإنجيل "إعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وجعلوا رجال الدين هم رجال السلطة الروحية، ورجال الدنيا هم رجال السلطة الزمنية، بالرغم من ان رجال الدين كانوا يحاولون جعل السلطة الزمنية في أيديهم بحجة أنهم وحدهم يمكنهم ان يرجّحوا السلطة الروحية عليها في الحياة. وانتهى النـزاع الذي نشب عندهم بين السلطتين الى جعل كل فئة تستقل بسلطتها دون تدخّل بالاخرى. مما فرض فصل الدين عن الحياة، لأنه دين كهنوتي. ومما جعل هذا الفصل يصبح عقيدة المبدأ الرأسمالي واساس الحضارة الغربية والفكر القيادي الذي حمله الاستعمار الغربي للعالم أجمع والذي به أخذ يزعزع عقيدة المسلمين بالاسلام من أنه دين كالمسيحية، وأنه يجب فصله عن الحياة وعن الدولة وعن السياسة. مما أوقع بعض المسلمين في براثنهم، وجعلهم يعملون معهم ضد دينهم وأمتهم بحسن نيّة او بسوئها … فكيف ينظر الاسلام الى ذلك؟؟؟
لقد رأى الاسلام ان كل شيء مدرَك حسياً هو مادة، وأن الناحية الروحية فيه هي كونه مخلوقاً لله تعالى، وأن الروح هي ادراك تلك الصلة. وهذا يعني انه لا يوجد ناحية روحية منفصلة عن المادة وعن الناحية المادية. هذا في الاشياء، واما في الانسان فلا يوجد سمو روحي منفصل عن النزعات الجسدية. وإنما الموجود فيه غرائز وحاجات عضوية لا بد من إشباعها، ومنها غريزة التدين الظاهرة في الانسان من حاجته للخالق المدبر. وهذا الاشباع للغريزة إما أن يُسيّر بنظام الله وتدبيره بناءا على ادراك صلته به تعالى، وعندها يكون مسيّراً بالروح، وإما ان يُسيّر بدون نظام او بنظام من عند غير الله، فيكون اشباعا ماديا بحتا ولا علاقة له بالروح. وكذلك منها غريزة النوع، والتي إما أن يشبعها بالزواج حسب تدبير الله ونظامه فتكون مسيّرة بالروح، وإما أن يشبعها بغير ذلك، وعندها تكون عملية مادية بحتة ولا روح فيها. وكذلك الحال بالنسبة لغريزة البقاء وإشباعها.
هذا بالنسبة لما في الانسان. وأما بالنسبة لأعمال الانسان في علاقاته بغيره من الاشياء والناس، فانه كذلك: إما أن يسيّر افعاله بالروح عندما يضبطها بأحكام الاسلام، أو يبقيها في الإسار المادي البحت عندما يسيّرها بغير الاسلام. فكل عمل في ذاته يبقى عملاً مادياً، ولكنه يسيّر بأحكام الاسلام فيمتزج بالروح، او بغير أحكام الاسلام من مادية او نفعية فيبقى مادياً ليس غير. فالقتل، مثلاً، يكون ممزوجاً بالروح عندما يكون جهاداً او قصاصاً، ويكون جريمة مادية عندما لا يكون كذلك.
وخلاصة القول أنه لا يجوز فصل المادة عن الروح، وفصل الحياة عن الدين، وفصل الدين عن الدولة وعن السياسة. كما لا يجوز وجود سلطتين في الأمة والفصل بينهما. ويلغى كل ما يشير الى ذلك من مظاهر ومؤسسات. ويبقى سلطان الاسلام واحداً ومسؤولية المسلمين جميعاً عنه واحدة.
فالاسلام، عندما نقول عنه انه عقيدة ونظام، فاننا نؤكد حقيقته التي لا تغيب عن بال كل مسلم صباح مساء من أن عقيدته هي الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأن هذه العقيدة قد بنيت على العقل فيما يدركه العقل، كالايمان بالله وبنبوة محمد عليه السلام وبالقرآن الكريم، وبنيت على التسليم فيما يدرك مصدرَه العقل بشرط ان يكون هذا المصدر إما القرآن الكريم او السنّة المتواترة. وتشمل العقيدة في ذلك المغيبات كيوم القيامة والملائكة والجنة والنار الواردة بشكل قطعي في القرآن الكريم.
كما تؤكد النظم التي يشتمل عليها تنظيم شؤون الانسان في جميع جوانب حياته والتي جاءت بشكل عام وبمعانٍ عامةٍ، وتُرك للمجتهدين استنباط التفصيلات عند التطبيقات من تلك المعاني. ذلك أن للاسلام طريقة واحدة لحل المشاكل، ألا وهي فهم المشكلة الواحدة، ثم دراسة جميع النصوص الشرعية المتصلة بها، ثم استنباط الحل من تلك النصوص. وهذا الحل هو الحكم الشرعي لهذه المسألة.
والنقطة الأساسية عند النظر في اية مشكلة هي في نظر الاسلام اليها كمشكلة انسانية. أي مشكلة تحتاج الى حكم شرعي لمعالجتها، بغض النظر عن كونها اقتصادية او اجتماعية او عسكرية او غير ذلك. وبهذا تكون نظرة الاسلام نظرة انسانية.
rajaab
24-07-2005, 12:35 AM
المناقشة:
س- أين الروح والناحية الروحية في نظرة المسلم لمادة كالماء مثلاً؟
ج- الناحية الروحية في الماء هي كونه مخلوقاً لخالق هو الله تعالى في نظر المسلم، وهذا الجزء في عقيدته العامة في ان كل الاشياء مخلوقة له سبحانه. وأما الروح في اعمال المسلم عند استخدام الماء، إذ يشربه بدلا من الخمر طاعةً لله، ويتطهر به بدلا من النجاسات إرضاءاً لله، ويحافظ عليه ويقتصد في استهلاكه تقرباً من الله. فهذه الاعمال يضبطها عند استخدامه للماء بأوامر الله ونواهيه فيمزج بين المادة والروح.
س- هل الروح خاصة بالاعمال، والناحية الروحية بالاشياء؟
ج- نعم، لتلازمها المباشر معها. لأن الروح هي إدراك الصلة بين الخالق والمخلوق، وهذا عمل. والناحية الروحية هي وجود هذه الصلة بين الخالق والمخلوق في نظر المسلم. وأما المزج بين المادة والروح فهو في العمل نفسه عند القيام به وذلك بتسييره بأمر الله ونهيه.
س- ولكن ألا يمكن القول بان في كل شيء روحاً وناحية روحية؟
ج- اذا كنا نقصد الروح بمعنى سر الحياة، فهي لا توجد الا في المخلوقات الحية. وأما اذا كنا نقصد ما يتصل بصلة هذا الشيء بالخالق، فهذه هي الناحية الروحية فيه. وأما بالنسبة للروح في الاشياء، فانها لا توجد في الشيء بذاته بل هي صفة في الانسان تتوفر للمسلم فقط عندما يدرك تلك الصلة بين الشيء وخالقه من كونه مخلوقاً له. فالروح اذن ليست في الشيء بذاته وإنما هي في خارجه.
س- هل الروح والناحية الروحية من خصوصيات المسلم دون غيره؟
ج- كل انسان يؤمن ان الشيء الواحد مخلوق لله تعالى يكون كالمسلم سواءا بسواء ما دام يعتقد ان الله تعالى هو خالق هذا الشيء ولا شريك له، وذلك من باب ان هذا الشيء جزء من الكون والوجود كله. وهو بذلك كالمسلم تتوفر عنده الروح في ادراكه لصلة المخلوقات بالخالق، وتتوفر عنده الناحية الروحية في الاشياء كمخلوقات للخالق.
س- وماذا يميز المسلم عن غيره اذن في ذلك؟
ج- يتميز المسلم عن غيره في التزامه بالاحكام الاسلامية في كل اعماله على اساس انها اوامر الله ونواهيه الواجبة الالتزام لتدبير هذا الشأن وتسيير هذا العمل، وليس على اساس انها نظام صالح لهذا الشأن وهذا العمل. فهو يقوم بالالتزام طاعةً لله وليس انتفاعاً بالنظام فقط.
س- واين المزج بين المادة والروح في الزواج مثلاً؟
ج- عندما يتم الزواج على اساس احكام الاسلام فانه يتحقق فيه المزج بين المادة والروح. وذلك لأن الزواج كعمل يعتبر مادة، وكونه أُنجز بناءا على ووفقاً للأحكام الشرعية، فحقق اشباع غريزة النوع، والاشباع ايضاً مادة، فقد تحققت مادة الاشباع بإدراك صلة الانسان بالخالق المدبر والمنظم لهذا الاشباع، اي مزجت المادة بالروح.
س- وأين المزج بين المادة والروح في الصلاة ايضاً؟
ج- الصلاة في ذاتها عمل، فهي مادة. واشباع غريزة التدين في الانسان في ذاته هو عمل، فهو مادة. وادراك ان هذا الاشباع لا يجوز ان يكون إلا وفقاً لأوامر الله ونواهيه هو الروح. فكان القيام بالصلاة لتحقيق اشباع غريزة التدين وفقاً لأوامر الله ونواهيه هو مزج المادة بالروح.
س- ولكن هذا ليس من خصوصيات المسلم، فكل مصلٍّ، وعلى اي دين، يمكنه ان يمزج بين المادة والروح، أليس كذلك؟
ج- نعم، هذا صحيح. ولكنه مزج خاطئ لأنه مبني على ادراك خاطئ للصلة ولو من حيث احد طرفيها. أي ادراك ان الخالق هو الخالق اي خالق، او الموهوم بأنه خالق، ودون تحديد انه المدبر ولا مدبر غيره.
س- كيف يكون القتل عملا تمتزج فيه المادة بالروح او يكون مادة فقط؟
ج- القتل كقتل هو عمل، فهو مادة. وعندما يتم بقتل كافر مقاتل في الجهاد فانه سُيّر بأمر الله وكان طاعةً لله وكان بالتالي ممتزجاً بالروح. وعندما يتم دون ذلك، كالقتل شهرةً او لمال، فانه يخلو من ادراك الصلة بالله في القيام بالجهاد فيخلو من الروح ويبقى مادةً ليس غير.
س- كيف تلغى السلطتان الزمنية والروحية وتستبدلان بالواحدة الشرعية؟
ج- بإلغاء المحاكم النظامية والمحاكم الشرعية وتوحيد المحاكم كلها بتطبيق الاحكام الشرعية في ذلك.
س- ما معنى وحدة سلطان الاسلام؟
ج- أن لا يشارك الأحكام الشرعية في تنظيم حياة المسلمين اي نظام من غير أحكام الاسلام.
س- ما معنى الحكم الاتوقراطي؟
ج- هذه الكلمة ليست عربية، وتعني الاستبداد الديني. اي ان الحكم يتولاه رجال الدين كما كان في العصور الوسطى، بحيث لا يسمحون لأي رأي او مشورة من غيرهم، بحجة أنهم يحكمون بالدين نيابة عن الله، ولا يجوز لأحد من الرعية ان يناقشهم ليردّ حكماً من أحكامهم.
س- ما معنى ان الاسلام ليس ديناً لاهوتياً؟
ج- اي انه لا يستند في أحكامه الى رجال دين يزعمون – كما كان في المسيحية – لأنفسهم النيابة عن الله في الارض، بحيث لا يملك ان يردّ حكمهم الالهي المزعوم أحد.
س- وما معنى ان الاسلام ليس ديناً كهنوتياً؟
ج- اي انه لا يستند لا في استنباطه أحكامه من النصوص الشرعية ولا في تطبيقها على المسائل المتجددة الى رجال لا يسمح لغيرهم بمناقشتهم او الاعتراض على أفهامهم كالكهان في المسيحية.
س- كيف استطاع فكر الرأسمالية زعزعة الفكر الاسلامي؟
ج- من خلال القياس الشمولي الخاطئ عندما تسرب معتقد الرأسمالية بفصل الدين عن الحياة وعن الدولة وعن السياسة الى المسلمين، بعد ان ضعف فهم الاسلام وسهل تصور أن الاسلام كدين يمكن ان ينطبق عليه ما رآه الغرب في المسيحية وفصلها عن الحياة والدولة والسياسة.
س- ألا توجد لدى الانسان مادة وروح وبالتالي نزعات جسدية وسمو روحي؟
ج- يوجد لدى الانسان روح بمعنى سر الحياة. وهي لا يعرف كنهها أحد. ولا علاقة لها بالسمو او الهبوط وإنما بالحياة والموت، فاذا كانت موجودة في جسده فهو حي واذا فارقته فقد مات. وأما السمو الروحي فعلاقته بغريزة التدين لدى الانسان، فكلما ضاعف من تقوية صلته بالله بالعبادات الكثيرة والقربات العديدة كلما ظهر عليه المزيد من السمو الروحي. ولذلك نجد هذا السمو يرتبط باشباع غريزة التدين اكثر فأكثر،اي يرتبط بما في الجسد من غرائز وإشباعها، كما يرتبط الزواج بغريزة النوع، او بما في الجسد من حاجات عضوية كالمعدة وإشباعها بنوعية معينة من الطعام والشراب.
س- ما علاقة اشباع المعدة بالسمو الروحي؟
ج- المعدة عضو من اعضاء الجسد لا بد من اشباعه، وإلا تعرض الجسم للهلاك. وغريزة التدين طاقة من طاقات الجسد الحيوية يشقى الانسان اذا لم يشبعها، ولكنه لا يهلك كما في حالة المعدة. فالمعدة واشباعها ترتبطان بالحاجات العضوية، والغريزة واشباعها ترتبطان بالغرائز. ولا علاقة لإحداهما بالاخرى الا في كون كل منهما جانب من الانسان يحتاج الى اشباع، والاشباع الى تنظيم، وإلا تعرض الجسم للهلاك او الشقاء.
س- ماذا يعتبر من يرى الخالق خالقاً فقط دون تدبير لخلقه؟
ج- يعتبر من الناحية العقائدية كافراً بتدبير وتشريع الخالق لمخلوقاته،ومن ناحية مفهوم الروح ومزجها بالمادة يعتبر ممن يرون فصل الدين عن الحياة وعن الدولة والسياسة لأنه يرى فصل المادة عن الروح، إذ رأى الخالق مجرد خالق للمادة، ولم يدرك صلة الخالق سبحانه بالمادة كمدبر ومنظم لها.
س- كيف اجتمع التسليم مع العقل في بناء العقيدة الاسلامية الاساسي؟
ج- يكون التسليم مرتبطاً بالمصدر الذي اقتنع به العقل، أي بالقرآن والحديث المتواتر. فكل مغيّب عن العقل من جنة ونار وملائكة وغيرها يسلّم به المسلم اذا ورد في القرآن الكريم او الحديث المتواتر، وكلاهما ثابت بالعقل، فبذلك يلتقي التسليم بالعقل.
س- ولماذا فقط الحديث المتواتر، وليس كل الاحاديث النبوية؟
ج- لأن العقيدة لا تؤخذ ولا تبنى على الظن، وإنما من وعلى اليقين. والحديث المتواتر هو وحده من بين الاحاديث اليقيني من حيث ثبوته. فلا تؤخذ الا منه ولا تبنى الا عليه.
س- هل كل المعاني الواردة في القرآن والسنّة عامة وخالية من التفصيلات؟
ج- لا، ليس كلها عامة. بل منها المفصّل كمعاني المواريث، ومنها المجمل كالبيوع وغيرها. فالأكثر الأغلب عموم المعاني، ولا سيما فيما يتعلق بالصلات المتنامية بين البشر. وأما الصلات المحددة الثابتة كالمواريث والعبادات، فمن النادر ان تجد بينها ما يحمل معنى عاماً في الكتاب والسنّة معاً، إذ نجد السنّة تفصّل ما ورد عاماً في الكتاب.
س- هل طريقة الاسلام في استنباط الحلول للمشاكل المستجدة خاصة به من دون غيره من المبادئ؟
ج- نعم، هي طريقة خاصة به، لأن غيره من الاشتراكية والرأسمالية يستندان الى طرق عديدة وليس الى طريقة واحدة. فلدى كل منهما من الطرق بعدد تعدد وجهات النظر الكثيرة فيهما من قطر الى آخر، بل وفي القطر الواحد من اقطار العالم.
س- ماذا يعني ان الاسلام يحل المشكلة كمشكلة انسانية مهما كان نوعها؟
ج- هذا يعني انه لا ينظر الى نوعية المشكلة عندما يقدم الحل لها. وإنما ينظر اليها كمشكلة للانسان ولا بد من معالجتها. أي لا يفصل بينها في واقعها ونوعيتها وبين الانسان الذي يعاني منها. فلا يتصدى لحل مشكلة اقتصادية دون مراعاة كونها انسانية ولا لحل مشكلة اجتماعية دون مراعاة الانسان الذي يعاني منها. فتأتي الحلول متكاملة للانسان كإنسان، لتحقق طمأنينته وسعادته.
rajaab
24-07-2005, 05:48 PM
الندوة الرابعة
الحكم الشرعي وأنواعه
العرض:
إن أي حكم مهما كان مصدره يتعلق بفعل من أفعال الناس. أي لا يصدر الا لمعالجة مسألة او مشكلة انسانية. والحكم إما أن يصدر من الانسان بعقله وتدبيره ودون اعتماد على أي مرجع آخر غير التشريعات التي وضعها البشر، فيكون حكماً وضعياً. وإما ان يصدر باجتهاد الانسان معتمداً على نصوص شرعية يرجع اليها للاستنباط منها كالقرآن الكريم والسنّة المطهّرة، فيكون حكماً شرعياً.
فالحكم الشرعي إذن هو في تعريفه: خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. أي هو طلب الله سبحانه من عباده المتعلق بأفعالهم وتنظيمها وضبطها وتسييرها، بحيث اذا لم يتعلق بالافعال – كالعقائد - فانه لا يسمى حكماً شرعياً وإنما عقيدة. ومعنى أن يتعلق بالفعل هو أن يطلب من الانسان أن يعمل او لا يعمل. كأن يطلب منه ان يسعى للرزق ولا يقعد عنه، وكأن يطلب منه ان يكون رزقه حلالاً لا حراماً. وأما أن يطلب من الانسان أن يؤمن بكذا ولا يؤمن بكذا، فهذا ليس من الأحكام الشرعية، وإنما من المطلوبات الايمانية.
هذا من حيث تعريف الحكم الشرعي وواقعه. وأما من حيث ثبوته ووجوده من جهة ودلالته من جهة اخرى، فانه إما ان يكون ثابتاً في وجوده ثبوتاً قطعياً، كأن يرد في القرآن الكريم او الحديث المتواتر، كركعات فروض الصلاة كلها التي وردت في الحديث المتواتر. وإما ان يكون ثابتاً ثبوتاً ظنياً، كأحكام الاحاديث غير المتواترة.
فالقرآن الكريم والحديث المتواتر قطعية الثبوت. ونصوصها إما ان تكون قطعية الدلالة، اي تدل على شيء واحد متعيّن لا غير، كما هو الحال في ركعات فروض الصلاة كما أشرنا آنفاً. وإما ان تكون ظنية الدلالة، أي يكون الحكم الذي تضمنه النص الثابت القطعي ظنياً، لأن النص يحتمله كما يحتمل غيره، مثل آية الجزية. فانها من حيث الثبوت قطعية لورودها في القرآن الكريم، ولكنها من حيث الدلالة ظنية، لأنها تحتمل أن تسمى جزية كما يرى المذهب الحنفي إذ يشترط ان يظهر الذل عند معطيها حين إعطائها كجزية، بينما يرى المذهب الشافعي ان تسمى زكاة مضاعفة ولا يشترط إظهار الذل وإنما يكتفى بان يظهر الخضوع لأحكام الاسلام عند إعطائها.
وإما إن كان خطاب الشارع ظني الثبوت، كما هو الحال في الحديث غير المتواتر، فان الحكم الوارد في هذا النص لا يكون قطعياً في ثبوته بل ظنياً، سواء كانت دلالته قطعية، كم هو الحال في صيام ستة ايام من شوال، او كانت دلالته ظنية، كما هو الحال في منع إجارة الارض للزراعة.
والسؤال الآن هو: كيف يؤخذ الحكم الشرعي من خطاب الشارع اي من النص الشرعي؟؟
والجواب على ذلك: بالاجتهاد الصحيح. أي ببذل المجتهد وُسْعَه في استنباط الحكم من النص. فيظهر له بذلك الحكم الشرعي، أي حكم الله في حقه، ما دام قد بذل كل جهده في ذلك، وتوصل الى الحكم الذي غلب على ظنه.
والمجتهد لا يكون مجتهداً الا اذا حصلت له أهلية الاجتهاد بشكل تام في المسألة او المسائل التي يريد الاجتهاد فيها. وهذه الأهلية لا تتحقق الا اذا كان على علم بجميع العلوم المعتبرة واللازمة للمجتهد، من علوم القرآن والسنّة واللغة العربية.
ولكن لمّا كان من المستحيل ان تتحقق أهلية الاجتهاد لعموم المكلفين، فانهم لا بد أن ينقسموا الى قسمين:
أحدهما: المؤهل للاجتهاد: والذي اذا اجتهد في مسألة من المسائل يتوصل الى الحكم فيها. وهذا قد اتفق جميع الفقهاء على انه لا يجوز له ان يقلّد غيره من المجتهدين في هذه المسألة ويترك ما توصل اليه اجتهاده من حكم. اللهم الا في حالة واحدة ألا وهي عندما يتبنى خليفة المسلمين حكماً شرعياً آخر غير ما توصل هو اليه، فانه في هذه الحالة يجب عليه ان يعمل بما أمر به الخليفة ويترك العمل بما توصل اليه هو، لأن أمر الخليفة يرفع الخلاف بين المجتهدين. فيلزمون بالعمل بما رآه وتبنّاه في هذه المسألة، ويتركون ما يرونه من أحكام أخرى.
هذا بالطبع اذا اجتهد المجتهد وتوصل الى حكم في المسألة. وأما اذا لم يجتهد فيجوز له ان يقلّد غيره من المجتهدين. وهذا ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم عندما كانوا يرون انه يجوز للمجتهد ان يترك اجتهاده ويتخلى عن بذل الجهد لاستنباط الاحكام ويقلّد غيره من المجتهدين.
وثانيهما: غير المؤهل للاجتهاد، وهو المقلّد. والمقلد نوعان: الأول: المقلد المتّبع، وهو الذي تنقصه بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد لا كلها. كأن يكون بحاجة لعلوم الحديث او بعضها، او لعلوم القرآن او بعضها، او لعلوم اللغة العربية او بعضها. وهذا المقلد المتبع له ان يقلد المجتهد بشرط ان يعرف دليله، فيكون حكم الله في حقه هو قول المجتهد الذي إتّبعه. والثاني: هو المقلد العامي: وهو الذي تنقصه كل العلوم المعتبرة في الاجتهاد من علوم القرآن والحديث واللغة العربية. وهذا المقلد العامي له ان يقلد المجتهد دون ان يعرف دليله الذي استند اليه في استنباطه للحكم. وهو لعدم معرفته بالعلوم الشرعية ملزم بتقليد المجتهدين والأخذ بما توصلوا اليه من احكام. فيكون حكم الله في حقه هو الحكم الذي استنبطه المجتهد الذي قلّده.
والسؤال الآن هو: هل للمقلد المتّبع او العامي ان يتنقل في تقليده للمجتهدين كما يرى، سواء في المسألة الواحدة او المسائل المتعددة؟؟
والجواب على ذلك في غاية الأهمية، ولا سيما ان المقلدين يبقون دائماً هم أكثرية المسلمين. وبيان ذلك ان المقلد اذا قلد احد المجتهدين في حكم مسألة من المسائل، وعمل بقوله فيها، فانه لا يجوز له الرجوع عن هذا الحكم وتركه ليعمل بغيره. وأما أن يقلد مجتهداً آخر وفي حكم آخر فانه يجوز. وذلك بدليل إجماع الصحابة على جواز ان يستفتي المقلد كل عالِم في المسائل الاخرى. وأما اذا التزم مقلد مذهباً معيناً فهو ملزم بالتقليد الذي عمل به في اي مسألة من مسائل هذا المذهب، وأما غيرها من المسائل التي لم يعمل بها فيجوز اتباع غيره فيها.
هذا بالنسبة لتنقل المقلد ما دام في نفس الدرجة من التقليد، عامياً كان او متّبعاً. وأما اذا انتقل من درجة أدنى الى درجة أعلى، أي من العامي الى المتّبع، فيجوز له ان يترك تقليده لحكم او لمذهب اذا انتقل من تقليد العامي الى تقليد المتّبع، أي اذا عرف دليل حكم آخر او أدلّة مذهب آخر.
وأما بالنسبة للمجتهد فيجوز له ان يترك ما توصل اليه اجتهاده في حكم مسألة معينة ويقلد غيره فيها، ما دام ذلك لجمع المسلمين على رأي واحد، كما حصل مع عثمان رضي الله عنه عند بيعته. فقد قبل ان يتنازل عن اجتهاده لاجتهاد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من قبْله جمْعاً لكلمة المسلمين. ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة.
هذا هو الحكم الشرعي، وكيفية الإلتـزام به، فما هي انواعه؟؟
إن انواع الحكم الشرعي خمسة هي: الفرض، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح. ذلك أن خطاب الشارع إما ان يكون لطلب الفعل او لطلب الترك، او للتخيير بينهما. فإن كان طلباً للفعل، إما أن يكون جازماً، وهو الفرض والواجب، وهما بمعنى واحد. أو يكون غير جازم، وهو المندوب والنافلة، وهما بمعنى واحد. وأما عندما يكون طلباً للترك، فهو إما أن يكون جازماً، وهو الحرام والمحظور، وهما بمعنى واحد. او يكون غير جازم، وهو المكروه. وأما عندما يكون للتخيير بين الفعل والترك، فهو المباح.
فماذا يترتب على الاتصال بكل حكم من هذه الأحكام؟؟
والجواب ان كل من يقوم بواجب او فرض فهو موضع مدح، وكل من لا يقوم بذلك فهو موضع ذمّ. وأن كل من يتجنب الحرام والمحظور فهو موضع مدح، وكل من لا يتجنب ذلك، فهو موضع ذمّ. وأن كل من يقوم بالمندوب والنافلة فهو موضع مدح، بينما من لا يقوم بذلك فهو ليس موضع ذمّ. وأن كل من يتجنب المكروه فهو موضع مدح، بينما من لا يتجنبه فهو ليس موضع ذم، إذ أن ترك المكروه أولى من فعله. وأما القيام بفعل المباح او تركه فهما سِيّان، ولا يوجد مدح ولا ذمّ على أي منهما.
المناقشة:
س- ألا يعتبر طلب الايمان فعلاً؟
ج- لا، لا يعتبر فعلاً، وإنما هو في داخل الانسان. والفعل هو ما ظهر على الجوارح.
س- لماذا يحصر الثبوت القطعي في القرآن والحديث المتواتر؟
ج- لأنهما المتصفان فقط بالثبوت القطعي. أي انهما الثابت وجود كل منهما على أنهما منـزلان من الله تعالى كمصدرين للشريعة الاسلامية.
س- ما معنى قطعي او ظنّي الدلالة؟
ج- قطعي الدلالة تعني ان يدل النص على مدلوله فقط، وبشكل متعين لا شك فيه، كقوله تعالى "وأحل الله البيع وحرّم الربا". فالحكم قطعي الدلالة من تحليل البيع وتحريم الربا. وأما ظنّي الدلالة فتعني أن النص قد يدل على أكثر من مدلول بحيث يمكن أن يُصرف الى أي منهما بمرجِّحٍ ما، مثل قوله تعالى "فاذا فرغت فانصب، والى ربك فارغب"، فيمكن ان يدل على الفراغ من العبادة والنصب بعدها في الدعاء والرغبة الى الله، كما يمكن ان يدل على الفراغ من العمل والنصب بعده في العبادة والدعاء.
س- كيف فهم الحنفية والشافعية بهذا الشكل المختلف آية الجزية؟
ج- "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" الآية، إن هذا الجزء الأخير من آية الجزية هذه هو سبب الخلاف بين المذهبين. فقد رأى الحنفية الإبقاء على تسميتها بما سمّتها به الآية مع إظهار الذل والصغار كما يقول النص في منطوقه. ورأى الشافعية إمكانية تسميتها بالزكاة المضاعفة دون إظهار الذل لأن في دفعها ذاته ما يدل على الذل.
س- لماذا لا يجوز للمقلد ان يتنقل في التقليد في المسألة الواحدة من عالم الى آخر ما دام في نفس الدرجة من التقليد؟
ج- لأن الانتقال من تقليد عالم الى آخر في المسألة الواحدة إما أن يكون تقرباً من الله أكثر فأكثر، وهذا لا يتم الا بارتفاع مستوى التقليد من العامي الى المتّبع، أي من تقليد دون معرفة الدليل الى تقليد مع معرفة الدليل. او أن يكون استسهالاً وبحثاً عن اليُسر والتخفف، وهذا مسايرة لرغبة النفس وهواها، لا تقرّباً وحرصاً على طاعة الله.
س- هل يجوز لمقلد على المذهب الحنفي ان يقلد على المذهب الشافعي وبالعكس؟
ج- اذا كان المقلد عامياً او متّبعاً يجوز له ان يقلد عالماً واحداً او مذهباً واحداً في المسألة الواحدة، ويقلد غير هذا العالم او هذا المذهب في مسألة اخرى، بحيث نجده يقلد في المسائل المتعددة علماء متعددين او مذاهب متعددة.
س- وهل يجوز ان يترك تقليد الشافعي في مسألة واحدة كنقض الوضوء بلمس المرأة الاجنبية ويأخذ بتقليد الحنفي في ذلك؟
ج- لا يجوز ان يفعل المقلد ذلك ما دام مقلداً وفي نفس المستوى من التقليد. وأما لو كان مقلدا عامياً يقلد الشافعي في احكام الصلاة وشروطها وأركان وضوئها ونواقضه، ثم أراد ان يقلد أبا حنيفة لأنه لا ينتقض وضوءه عنده للمس المرأة الأجنبية، فانه يجوز له ان يفعل ذلك بشرط ان يطّلع على أدلة أبي حنيفة في مسألة الصلاة والوضوء لها. وعندها ينتفي كونه مقلداً عامياً في هذه المسألة ويصبح مقلداً متّبعاً. بمعنى أنه اصبح في مستوى افضل في علاقته بالاحكام الشرعية والعلم بها. والله تعالى يقول "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".
س- اذا كانت الاحكام الشرعية تتعلق بأفعال الناس، فبماذا تتعلق قصص الأمم السابقة الواردة في القرآن والسنّة؟
ج- الاحكام الشرعية هي أوامر الله ونواهيه المتصلة بأفعال الناس. أي هي الأوامر الالهية للناس بأن يفعلوا كذا وكيت، وهي نواهي الله للناس بأن لا يفعلوا كذا وكيت. وأما القصص القرآني فانه للعبرة والعظة سواء للرسول او له ولأمته من بعده. هذا من حيث القصد من إيرادها في القرآن. اما من حيث ما يُلزمنا به القرآن في حق تلك القصص، فالمطلوب ان نؤمن بصدقها وحدوثها القطعي كقصص أوردها القرآن الكريم ووقعت بالفعل. ولذلك فان القرآن لا يطلب منا الا التصديق بها.
س- ما الفرق بين الفرض والواجب في الاحكام الشرعية؟
ج- إنهما لدى عموم الفقهاء بمعنى واحد، وإن كان ابو حنيفة يرى ان الفرض أقوى من الواجب. فيرى مثلاً ان سنّة الوتر في العشاء واجبة بينما يراها غيره سنّة مؤكدة بينما يرى كل منهم ان فرض العشاء فرض وليس بواجب.
س- ما الفرق بين المندوب والنافلة؟
ج- المندوب في الاحكام الشرعية هو الممدوح فاعله وغير المذموم تاركه. ففعله أوْلى من ترْكه. وهذا بعكس المكروه. وهو يتعلق بالمعاملات في حياة الناس. وأما النافلة فهي ما يقابل المندوب في العبادات. فيطلق على المندوب في العبادات نافلة، وفي المعاملات مندوباً.
س- ما الفرق بين المحرم والمحظور؟
ج- لا فرق بينهما، فهما بمعنى واحد.
س- ما المقصود بالدليل السمعي في تعريف المباح بأنه ما دلّ عليه الدليل السمعي من طلب التخيير بين الفعل والترك؟
ج- الأدلة على الاحكام الشرعية إما سمعية أي تناقلتها الأسماع من جيل الى جيل، فهي ما يطلق عليه المنقول. وإما عقلية أي استنبطتها العقول بالاجتهاد من النصوص، فهي المعقول.
س- ما دام المباح ليس طلباً للفعل او للترك، لماذا ندخله في الاحكام الشرعية؟
ج- لأنه طلب بالتخيير بين القيام بالفعل او ترك الفعل. فهو يدخل في الاحكام الشرعية ما دامت الاحكام تتعلق بأفعال العباد، وطلب التخيير بين الفعل وتركه يتعلق بالافعال وليس بغيرها.
س- ما هو الأثر الذي يترتب على القيام بالاحكام الشرعية من مدح و ذمّ؟
ج- صحيح ان جزاء من يمدح على القيام بالفعل او تركه هو الجنة في الآخرة، وأن جزاء من يذمّ على القيام بالفعل او تركه هو النار في الآخرة، ولكن عقاب من يُذمّ وثواب من يُمدح في الدنيا أهمّ عند اكثرية الناس من الآخرة وجنّتها ونارها. ذلك لأن حكم المحسوس أشدّ عندهم من المغيّب، وحكم القريب حسب تقديرهم أشدّ من البعيد.
وصحيح ان عقاب الدنيا يزجر الآثم كما يزجر غيره، ويجبُّ عنه خطيئته ويطهّره من آثامه. ولكن ذلك لا ينال الاعتبار الاول في تقدير الناس في أكثريتهم كما يناله الخوف من إنزال العقاب عليه او الرغبة في الحصول على الجزاء الطيب لفعلهم.
وعليه، لولا ذاك الجزاء بالجنة او النار في الآخرة للفئة القليلة المؤمنة، وهذا العقاب بالقصاص او الحدود او التعازير في الدنيا للأكثرية الضعيفة الايمان او الفاقدة له، لتراخى الناس في القيام بافعالهم على وجهها الشرعي ولضاعت أوامر الله ونواهيه.
rajaab
24-07-2005, 05:57 PM
الندوة الخامسة
السنّة الشريفة وإلتـزامها
العرض :
إن للشريعة الاسلامية مصدران لا ثالث لهما، هما القرآن الكريم والسنّة المطهّرة. واذا كان القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى المنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فما هي السنّة؟
السنّة لغةً هي الطريقة. فيقال: سنّة فلان في حياته أنه يبدأ يومه بكذا ثم يقضيه في كذا ثم ينهيه بكذا. فهذا يعني طريقته في حياته اليومية. ويقال: سنّة الله في خلقه ان الانسان يولد من أمه ليقضي فترة عمره ثم يموت. فهي طريقته تعالى فيهم. ففي اللغة، السنّة تعني الطريقة التي تُتّبع. وأما في الشرع: فلها أكثر من معنى، ويمكن تحديد المعنيين التاليين، وهما:
الأول: بمعنى النافلة المنقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، كركعات السنن في مقابل الفروض او مقابل ركعات الفرض في كل الصلوات، فانها تسمى سنة مقابل للفرض. ولا بد هنا من التنبيه الى ان هذه التسمية لا تعني أنها من النبي عليه السلام، بينما الفرض من الله تعالى. وإنما هي مقابل الفرض لأن كلا من السنة والفرض، سواء في الصلاة او في غيرها، هي من الله تعالى، والرسول عليه السلام جاء مبلّغاً عن الله لكل من الأمرين، لأنه كما قال تعالى في كتابه الكريم "وما ينطق عن الهوى، إن هو الا وحيٌ يوحى".
وما دامت السنّة مبلّغة عن الله، فلماذا أطلق عليها هذا الإسم؟ لأنها بلّغت للرسول عليه السلام ليس على سبيل الفرض وإنما على سبيل العبادة الزائدة على الفرض، فكانت زيادة عليه. وهذا معنى أنها نافلة وأن النافلة تقابل الفرض ولا تماثله في التزام الأمر. فالفرض نقل عن الرسول عليه السلام على أنه أمر ملزم بصورة دائمة فسمي فرضاً. والسنة نقلت عن الرسول عليه السلام على أنها نافلة زائدة على الفرض فكانت سنة. فمثلاً ركعتا الفجر فرضاً منقولة عن الرسول عليه السلام بطريق التواتر أنها أمر لا يتخلف عنه في صلاة الفجر مهما كانت الظروف. بينما ركعتا الفجر سنة منقولة عن الرسول عليه السلام بطريق التواتر ايضاً على أنهما نفلاً أي زائدةً على الفرض في صلاة الفجر بحيث يمكن ان يتخلف لأي ظرف من الظروف دون أن يذمّ المصلّي على ذلك، وإن كان الأوْلى به أن يؤديهما لينال المدح على ذلك.
هذا بالنسبة للنقل عن الرسول عليه السلام للفرض والسنة في صلاة الفجر. اما من حيث مصدرهما فكلتاهما من الله تعالى. وليستا من شخص الرسول عليه السلام، إذ هو صلى الله عليه وسلم مبلّغٌ لهما وعلى هذين الوجهين. أي أن الفرض قد أمره به ربه ليبلّغه لعباده على انه فرض لازم للصلاة في كل الاحوال. وأما السنة فقد أمره بها ربه ليبلّغها لعباده على انها نافلة زائدة على الفرض في كل الاحوال.
وهكذا يكون أمر الله تعالى في العبادات على نوعين: فرض ونافلة. بينما في غيرها: فرض ومندوب. وتكون النافلة هي نفس المندوب ، وسميت نافلة من باب صفتها في كل صلاة كزيادة على الفرض. وإلا فهي بمعنى المندوب في انواع الاحكام الشرعية سواءا بسواء.
الثاني: بمعنى كل ما صدر عن الرسول عليه السلام من الأدلة الشرعية مما ليس قرآناً. وهذا يشمل جميع أقوال الرسول عليه السلام وأفعاله وتقاريره، أي كل ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من قول لم يرافقه فعل، وفعل لم يرافقه قول، وتقرير لأمر بسكوته عنه دون أن يرافق السكوت فعل او قول. واذا رافق احدهما الآخر، فتلك الأقوال والأفعال مثلاً معاً. والمهم أن تكون الأقوال في غير القرآن حتى تكون من السنة. وسيأتي لهذا مزيد من بيان في موضعه.
هذا بالنسبة للسنة الشريفة ومعناها الشامل لأقوال الرسول عليه السلام وافعاله وتقاريره. فماذا بالنسبة لأفعال الرسول عليه السلام وهي على أشكال او انواع متعددة في حقنا: هل يلزمنا العمل بها والتأسّي بها والإقتداء بها بنفس المستوى، أم منها ما هو ملزم ومنها ما هو غير ملزم؟؟
عند النظر في الافعال التي صدرت عنه صلى الله عليه وآله وسلم يظهر انها على قسمين:
الاول: الاعمال الجبلّية، كالقيام اذا قعد، والقعود اذا قام، والأكل والشرب وغيرها. فهذه الافعال كلها لا خلاف بين الفقهاء على انها على الإباحة في حقه عليه السلام وفي حق أمته. وأنها بذلك لا تدخل في المندوب ولا في النافلة.
والثاني: الأفعال غير الجبلّية، وهي على وضعين: (1) إما ان تكون مما ثبت انها من خواصّه التي لا يشترك فيها معه أحد، وذلك كاختصاصه عليه السلام في الوصال في الصوم، أي مواصلة الصوم، وذلك في الليل والنهار، وكالزيادة في النكاح على أربع نسوة. فان هذه الافعال الخاصة بالرسول عليه السلام لا يجوز لنا ان نشاركه فيها ولا يجوز الاقتداء او التأسي به فيها. لأنه ثبت بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أنها من خواصه وخصوصياته. (2) وإما أن تكون من غير خواصّه عليه السلام. وهي من عرف من افعاله على انه بيان لأمته، أي انها تعتبره دليلاً تستدل به على احكام المسائل في حياتها.
فكيف يعرف فعله عليه السلام على أنه بيان لأمته؟
يتحقق ذلك إما بصريح مقاله عليه السلام، كقوله صلى الله عليه وسلم "صلّوا كما رأيتموني أصلّي" و "خذوا عني مناسككم". فانه دلّ على أن فعله بيان لنا لنتّبعه.
وكذلك قد يتحقق بقرائن الأحوال، وذلك مثل قطعه يد السارق من الكوع بياناً لقوله تعالى: "فاقطعوا أيديّهما".
وما علينا في بيان الفعل، سواء بصريح القول او قرينة الحال، إلا أن نقتدي به فيه على حسب دلالة الدليل. فان دلّ الدليل على انه للوجوب، تأسّينا بفعله عليه السلام على انه واجب لازم القيام به. وإن دل الدليل على انه للندب او الاباحة تأسينا به على هذا الوجه او ذاك.
ولكن هل البيان لأفعال الرسول عليه السلام بالقول الصريح او قرينة الحال يغطي جميع افعاله عليه السلام، أم ان هناك افعال اخرى لم يقترن بها ما يدل على انها للبيان لأمته؟
نعم، هناك من افعاله عليه الصلاة والسلام ما لم يقترن بها ما يدل على انها للبيان لا نفياً ولا إثباتاً. وهي إما أن يظهر فيها قصد القربة من الله تعالى عند القيام بها، وإما أن لا يظهر فيه ذالك. فان كانت مما يظهر فيه قصد القربة كركعات سنة الضحى فهي تدخل في النافلة والمندوب مما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. وإن كانت مما لا يظهر فيه قصد القربة، كعدم أكله عليه السلام لحم الضبّ، فهي تدخل في المباح، أي ما لا يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها.
المناقشة:
س- أليس للشريعة الاسلامية غير مصدري القرآن والسنّة؟
ج- لا. ليس لها غير هذين المصدرين للتشريع.
س- ولكن ماذا نعتبر القياس الشرعي وإجماع الصحابة؟
ج- نعتبرهما من الأدلة الأربعة التي تستند اليها الاحكام الشرعية بالاضافة الى الكتاب والسنة.
س- هل كل صلاة سنّة، نافلة؟
ج- نعم. كل صلاة يطلق عليها سنّة هي نافلة، لأن المعنى الشرعي للسنة في الصلاة هو النافلة منها.
س- ما المقصود بأن النافلة في الصلاة هي مقابل الفرض؟
ج- المقصود بها ان ركعات الصلاة في كل من الصلوات الخمسة منها ما يكون فرضاً ومنها ما يكون نافلة او زيادة على الفرض. فعندما يطلق على قسم من ركعات الصلاة الواحدة انها فرض يطلق على القسم الآخر كلمة السنة او النافلة. فتكون ركعات الصلاة منها الفرض ومنها السنة او النافلة. وكل منهما مقابل الأخرى في الصلاة الواحدة.
س- هل كل ركعات السنة في الصلاة بنفس الدرجة من القوة او التأكيد في طلب الفعل؟
ج- لا. لأن منها ما هو سنة مؤكدة كركعتي سنة الفجر وسنة الوتر في العشاء، ومنها ما هو ليس بمؤكدة. وما هو ليس بمؤكدة منها السنة الراتبة، اي المتكررة بشكل رتيب، ومنها غير الراتبة اي ليست رتيبة. والرتيبة مثل سنن الصلوات الاخرى غير الفجر ووتر العشاء، وغير الرتيبة مثل سنة الضحى.
س- ما دامت السنة في العبادات تعني النافلة فماذا تعني في غيرها؟
ج- السنة في غير العبادات تعني المندوب. وهو ما يقابل النافلة في العبادات، اي ما يمدح فاعله ولا يذم تاركه، وإن كان فعله أوْلى من تركه.
س- ماذا تعني السنة النبوية في غير مجال العبادات؟
ج- اذا كانت السنة النبوية في مجال الأدلة الشرعية فانها تعني كل ما صدر عن الرسول عليه السلام من أقوال (مما ليس قرآناً) وأفعال وتقارير.
س- لماذا نعتبر التأسي بالرسول عليه السلام محصوراً في أفعاله دون غيرها؟
ج- لأن التأسي والاقتداء لا يكون الا في الأفعال. وأما الأقوال فالتأسي لا يكون فيها وإنما في الأفعال التي تطلبها الأقوال. وكذلك الحال في تقاريره وسكوته عليه السلام، فهي سكوت عن أقوال بمعانيها العملية اي عن أفعال. ولذلك جاء التأسي في النهاية مقصوداً للأفعال عندما جاء عاماً في قوله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".
س- ما المقصود بالأفعال التي تلازم جبلّة الانسان وفطرته كما تلازم جبلّة الرسول عليه السلام؟
ج- هي الافعال التي تلازم طبيعة الانسان كإنسان. فقد خلقه الله تعالى على شكل وفطرة لا يملك الا ان يعيش عليها. فله الرجلان للوقوف والمشي، فمن جبلّته ان يفعل ذلك، وله اعضاء الجسم الاخرى بوظائفها، فمن جبلّته ان يفعل تلك الوظائف.
rajaab
24-07-2005, 05:59 PM
س- فما معنى الجبلّة اذن؟
ج- هي الوضع الذي خلق عليه الانسان، ولا يملك غيره. فهو مفروض عليه في ذاته وخصائصه، ففي ذاته يعتبر من قضاء الله، وفي خصائصه يعتبر من القدر الذي قدّره الله في الاشياء من ميزات وخصائص.
س- لماذا تعتبر الاعمال الجبلّية في الرسول عليه السلام على الإباحة بالنسبة اليه ولأمته؟
ج- انها ليست من اعمال التكليف التي يحاسب عليها الانسان، وانما هي مما قضاه الله وقدّره، ولا يملك الانسان التأثير فيها لا بالتغيير ولا بالتبديل.
س- ولكن كونها على الاباحة بالنسبة للرسول عليه السلام وأمته تعني انها من الاعمال التي تتصل بها الاحكام الشرعية، أليس كذلك؟
ج- هذا صحيح. ولكن اتصال الاحكام بها اتصال قائم لكونها اعمالاً ليس غير، وأما حكم الأحكام على هذه الاعمال فهو انها ليست موضع مدح ولا موضع ذم. بمعنى أن من يريد ان يقتدي بالرسول عليه السلام في كيفية قيامه، ومتى يقوم، وفي كيفية قعوده، ومتى يقعد، وفي نوعية طعامه، وكيف يأكل، وفي نوعية شرابه، وكيف يشرب، فانه في ذلك ليس موضع مدح ولا موضع ذم، فله ان يفعل كما فعل الرسول عليه السلام دون أدنى مدح له على ذلك وله ان يفعل غير ذلك دون أدنى ذم له على ذلك، بغض النظر عن رأي بعض من يرى أن في مثل هذا الاقتداء مدح وثواب، وإن كان ليس في عدمه ذم ولا عقاب.
س- ما المقصود بكلمة أن اباحة الوصال في الصوم من خواص الرسول عليه السلام؟
ج- معناه أنها من خصوصياته، أي مما اختصه الله تبارك وتعالى به دون أمته، فهو مما طلبه الله منه ولم يطلبه من أمته.
س- ما المقصود بقوله عليه السلام "صلوا كما رأيتموني أصلي"؟
ج- المقصود بذلك ان نقتدي به عليه السلام في كيفية صلاته ومضمونها. فنلتزم بالشكل والمضمون دون إضافة او نقصان.
س- ما المقصود بقوله عليه السلام "خذوا عني مناسككم"؟
ج- المقصود منه ان نقتدي به عليه السلام في الحج، فنلتزم الشكل والمضمون لكل مواقف الحج كما قام بها عليه السلام.
س- ما المقصود ببيان الفعل بقرائن الأحوال؟
ج- المقصود بذلك ان يبين الفعل لا بالقول والشرح الكلامي وإنما بالوضع او الوصف الذي تم عليه الفعل. فالرسول عليه السلام عندما قام بفعل قطع يد السارق تنفيذاً لأمر الله في السرقة فانه عليه السلام قام بهذا الفعل بأن القطع من الكوع عندما نفّذه من هذا الموضع وليس عندما بيّنه بالقول لأنه لم يبيّنه بالقول وإنما بيّنه بالتنفيذ.
س- ما معنى ان البيان للفعل سواء كان بالقول او القرينة يتبع المبيَّن في الوجوب او الندب او الاباحة؟
ج- معنى ذلك انه اذا كان الأمر المبيَّن واجباً كقطع يد السارق فان القرينة، أي الفعل الذي بيَّن هذا القطع، يكون واجباً مثله. أي يجب ان يتم القطع من الكوع. واذا كان الأمر المبيَّن مندوباً، كإلقاء السلام على الجالس، فان القول الذي يبيّن هذا السلام يكون مندوباً مثله. واذا كان الأمر المبيَّن مباحاً، كأكل الضب، فان القول الذي بيّنه يكون على الاباحة مثله … وهكذا.
س- كيف تكون القرينة بياناً للفعل بالنفي او الإثبات؟
ج- عندما قطع الرسول عليه السلام يد السارق من الكوع، كان هذا التنفيذ قرينة تبين الفعل بالإثبات. وعندما ترك عليه السلام أصحابه يأكلون الضب وتجنّبه هو، كان هذا قرينة على الإباحة بالنفي في حقه وبالإثبات في حقهم … وهكذا.
س- كيف يظهر قصد القربة في الفعل وكيف لا يظهر؟
ج- يظهر قصد القربة بأن يقام بالفعل ابتغاء وجه الله بشكل ظاهر. فعندما يقف ويصلي صلاة نافلة سواء كانت سنة الضحى او غيرها، فان قصد القربة يظهر في فعله. ولكن عندما يأكل الضب فانه نوع من الطعام قد يرغبه الآكل وقد لا يرغبه، دون أدنى ارتباط بالتقرب الى الله، فانه لا يظهر في هذا الأكل اي قصد للقربة والتقرب الى الله.
س- لماذا تدخل الافعال التي يظهر فيها قصد القربة في المندوبات فقط دون الفروض والمباحات؟
ج- لأن هذه الافعال لم تقترن لا بكلام ولا بقرائن تدل على بيانها، فلو اقترنت بشيء من ذلك فانها ستتبع المبين في كل شيء من الفروض او المندوبات او المباحات. ولكن لما كان قصد القربة في ذاته مما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، كان من المندوبات.
س- فمن أين جاءتها المندوبات اذن؟
ج- من كونها ظهر فيها قصد القربة. فكانت في العبادات في اطار النوافل كما هي الحال في صلاة سنة الضحى، وفي اطار المندوبات كما هي الحال في إلقاء السلام على الجالس.
س- هناك من يرى من الفقهاء ان المسلمين مطالبون بالاقتداء بالرسول عليه السلام في كل شيء وكل حركة وكل سكنة من باب الوجوب، فهل هذا صحيح؟
ج- بناءا على ورد من بيان في عرض هذه الندوة، فان هناك من يرى ذلك فعلاً. ولكنهم لا يجعلون هذا التأسي كله من باب الفرض. وإنما منه ما هو من باب النوافل والمندوبات ايضاً، كما ان منه من المباحات. فالكل في ذلك يتبع البيان المرافق له او القرينة الصارفة له لهذا المجال او ذاك.
rajaab
24-07-2005, 06:01 PM
xxxxx
الندوة السادسة
تبنّي الأحكام الشرعية
العرض :
إن تبنّي الأحكام الشرعية قد يتم بصورة فردية، وقد يتم بصورة جماعية. أما الفردية فتكون عندما يتبناها الفرد كفرد، ويكون مسؤولاً عنها في اطار فرديته. وأما الجماعية عندما يتبناها الفرد كمسؤول عن جماعة، سواء كانت هذه الجماعة محدودة في اطار مجموعة من المسلمين او غير محدودة فتشمل جميع المسلمين. فان كانت محدودة كالحزب، فان رئيسه عندما يتبنى الأحكام الشرعية التي يراها لازمة لبناء حزبه وإنهاض أمته فإن كل فرد او عضو في هذا الحزب ملزم بتبني ما تبناه رئيسه حتى تتحقق وحدة الحزب الفكرية والسياسية، بحيث لو خرج في التبني عن حكم واحد يكون قد خرج من الحزب. وإن كانت الجماعة غير محدودة كالأمة جميعها، فإن رئيس الأمة او أميرها وخليفتها يتبنى الأحكام الشرعية التي يراها لازمة لحل مشاكل الأمة ورعاية شؤونها في جميع مناحي الحياة. ويكون هذا التبني ملزماً لكل مسؤول في الدولة من الولاة والقضاة بحيث لا يحكم او يقضي بما يخالفه بغض النظر عما اذا كان يراه او لا يراه بفهمه واجتهاده.
فهل كان هذا هو شأن المسلمين في تاريخهم؟
كان المسلمون يأخذون الأحكام الشرعية بأنفسهم من الكتاب والسنّة في عصر الصحابة. وكان القضاة يفصلون في الخصومات بما يستنبطونه بأنفسهم من أحكام شرعية. وكان الحكام (أي) الخلفاء والولاة والعمال يحكمون بما يستنبطونه بأنفسهم من أحكام شرعية.
فهل من أمثلة على ذلك؟
ها هو ابو موسى الأشعري، وها هو القاضي شريح، وكانا قاضيين، يستنبط كل منهما الأحكام ويحكم باجتهاده. وها هو معاذ بن جبل، وكان والياً في عهد الرسول عليه السلام، يستنبط الأحكام ويحكم بما استنبطه في ولايته. وها هما أبو بكر وعمر، وهما الخليفتان الراشدان، يحكم كل منهما بما يستنبطه كل منهما في خلافتيهما. وها هما معاوية وعمرو بن العاص، وكانا واليين، يستنبط كل منهما الأحكام بنفسه ويحكم بها في ولايته.
فكيف كان يلتقي او يفترق استنباط الخلفاء مع غيرهم في خلافتهم؟
كان اذا استنبط الخليفة حكماً شرعياً في مسألة تعرض له من شؤون المسلمين يأمر الناس بالعمل به. فكانوا يلتزمون العمل به ويتخلون عن آرائهم المخالفة لذلك، ولو كانوا قد توصلوا اليها باجتهاد منهم. وذلك لأن الحكم الشرعي أن أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً.
فهل من دليل على ذلك؟
لقد تبنى ابو بكر رضي الله عنه في خلافته ايقاع الطلاق الثلاث بواحدة. وتبنى توزيع المال على المسلمين بالتساوي دون نظر الى قِدم الشخص في الاسلام او غير ذلك. فعمل بذلك القضاة والولاة، وسار عليه المسلمون. ولكن لمّا ولي عمر رضي الله عنه أمْر المسلمين تبنى رأياً في هاتين الحادثتين يختلف عن رأي أبي بكر. فقد ألزم وقوع الطلاق الثلاث ثلاثاً، ووزع المال بالتفاضل حسب القِدم والحاجة لا بالتساوي. وعمل بذلك القضاة والولاة، وسار عليه المسلمون. ومع اتساع الفتوحات وشمولها لأرض العراق، تبنى عمر جعل الارض غنيمة لبيت المال مع بقائها في يد أهلها ودون تقسيمها لا على المحاربين ولا المسلمين، فاتبعه في ذلك القضاة والولاة وساروا عليه مع ان الكثير من الصحابة كانوا يخالفونه الرأي أثناء مناقشته. فكان في ذلك إجماع من الصحابة. هذا وقد انعقد إجماع الصحابة على أن للإمام أن يتبنى من الأحكام المعينة ويأمر المسلمين العمل بها، وعليهم جميعاً طاعته في ذلك مهما كانت تخالف اجتهادهم.
ولكن أليس في ذلك من قواعد شرعية مشهورة؟
بلى. هناك قاعدة تقول: "للسلطان أن يُحدِث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات"، وهناك قاعدة اخرى تقول: "أمر الامام يرفع الخلاف"، وهناك قاعدة ثالثة تقول: "أمر الامام نافذ ظاهراً وباطناً".
فماذا كان أثر هذه القواعد على الخلفاء من بعد الصحابة وعصرهم؟
صار الخلفاء بعد ذلك يتبنون أحكاماً معينة. وقد ظهر ذلك جليّاً في عهد الخليفة هارون الرشيد عندما تبنى كتاب "الخراج" لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة المشهور، وذلك في الناحية الاقتصادية، وألزم الناس العمل بالأحكام التي وردت فيه. وقد لوحظ ان هذا الخليفة أراد ان يتبنى (موطأ) الإمام مالك، لكنه تراجع عن ذلك عندما طلب منه الإمام ان يترك الناس ومن يتّبعون من الأئمة تجنباً للعنت عليهم.
عند التدقيق في هذا التبني من الخليفة هارون الرشيد، وإقرار الفقهاء له على ذلك عندما كان التبني في شأن المعاملات الاقتصادية في حياة المسلمين، وعدم إقرار الإمام مالك له في تبنيه كتابه الموطأ، مما جعله يتراجع عن هذا التبني … عند التدقيق في ذلك يظهر ان ما يتصل بعلاقات الناس بعضهم ببعض كالمعاملات المالية والاقتصادية، يمكن التبني دون حرج، وخاصة ان فيه جمع لكلمة المسلمين. وأما ما يتصل بعلاقات الناس بربهم من عقائد وعبادات، فلا بد من ترك الناس يتّبعون في ذلك من الأئمة من يرونهم، وخاصة ان في ذلك اصطداماً مع عقائد المسلمين الاخرى، وتفرقاً لكلمتهم واثارة للعنت والضغط عليهم.
وتأثير مثل هذا الموقف يظهر عندما يقدم رئيس اي جماعة او حزب اسلامي على التبني لبناء جماعته او حزبه وإنهاض أمته. فانه لا بد ان يتجنب التبني في العقائد والعبادات، في الوقت الذي يتبنى فيه في جميع المعاملات الحياتية المتعددة.
المناقشة:
س- لماذا تسمي تبني رئيس اي جماعة بأنه بصورة جماعية، مع ان المتبني فرد في الأصل وما الجماعة الا تبعاً له؟
ج- صحيح ان التبني في اي جماعة يتم في الأصل من قبل رئيسها. ولكن الموضوع في الحديث عن الصورة الجماعية في التبني، وهو ما يفعله جماعة الرئيس من بعده، عندما يتبنون ما تبنى. وهذه هي الصورة الجماعية.
س- ألا يوجد فرق بين تبني رئيس جماعة محدودة كالحزب، وبين تبني رئيس الأمة كلها، ودون تحديد في حزب معين من أحزاب الأمة؟
ج- بلى، هناك فرق. فالتبني في الجماعة المحدودة يُلزَم كل فرد او عضو في الجماعة بالتبني الفكري للرأي الذي تبناه رئيسها. بينما تبني رئيس الأمة وأميرها وخليفتها لا يُلزِم كل فرد فيها بالتبني الفكري لرأيه، ولكنه يلزم عماله وولاته وقضاته بالحكم به بين الناس وفض الخصومات بينهم به، أي يلزمهم بالعمل به.
س- من أين نجد الدليل على وجوب العمل بما يتبناه خليفة المسلمين من قبل القضاة والولاة وغيرهم في عهده؟
ج- نجد الدليل على ذلك من إجماع الصحابة، عندما أجمعوا على عهد أبي بكر وعمر بأن لهما التبني وإلزام عمالهما وولاتهما وقضاتهما بالعمل بما تبنّياه، سواء في قضية الطلاق او توزيع الاموال او غيرها.
س- من اين نستدل على وجوب التبني الفكري في الجماعة المحدودة في الحزب لكل ما يتبناه رئيسه؟
ج- نجد ذلك من قاعدة "ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب". فوحدة الحزب الفكرية واجبة لازمة لأنه لا يمكن بقاؤه حزباً الا بذلك. وعندها لا بد ان يتبنى كل فرد او عضو فيه جميع الآراء التي يتبناها رئيسه. فكان من الواجب إلزام كل عضو بالتبني الفكري حتى يكون عضواً في الحزب.
س- ما معنى أخذ المسلمين الأحكام بأنفسهم من الكتاب والسنّة؟
ج- معناه فهمها واستنباطها منهما. فقد كان المسلمون في عهد الرسول عليه السلام والصحابة الأوائل لا يحتاجون لمجتهدين يستنبطون لهم الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة، وذلك لمعاينتهم للرسول عليه السلام ونزول الرسالة عليه ولصفاء لغتهم العربية لغة الكتاب والسنّة. مما كان يسهّل عليهم فهم النصوص الشرعية وييسّر لهم فهمها واستنباط الأحكام الشرعية اللازمة لهم في حياتهم منها.
س- والقضاة، كيف كانوا يستنبطون الأحكام بأنفسهم لفض الخصومات بين الناس؟
ج- ذلك ان القاضي إما أن يستنبط الحكم الشرعي من النصوص التي بين يديه حول المشكلة الحاصلة أمامه والمراد فض الخصومة بشأنها، فيستنبط الحكم الشرعي بنفسه، وإما ان يأتيه الحكم الشرعي جاهزاً بعد أن يكون قد تبنّاه الخليفة وأمر بالأخذ به لمثل مسألته بأن عمّمه على جميع القضاة في جميع ولايات الدولة. والقضاة في عهد الرسول عليه السلام وعهد الصحابة الأول كانوا في الغالب الأعم من الفقهاء الذين لا يتبنى لهم الخليفة أحكاماً. وإنما يستنبطونها هم من النصوص في الكتاب والسنّة، ويفضّون الخصومات وفقاً لها، اللهم الا في النادر القليل من المسائل.
س- والولاة، كيف كانوا يستنبطون الأحكام الشرعية بأنفسهم؟
ج- هم ايضاً كانوا من الفقهاء، بحيث لم يكن يسند منصب الولاية الا لمن هو أهله من العلم بالكتاب والسنّة بالاضافة الى صفاء لغته العربية. مما كان يمكنهم ان يحكموا بالاحكام الشرعية التي كانوا يستنبطونها بأنفسهم دون حاجة الى الخليفة ليقدمها لهم مستنبطة جاهزة. اللهم الا في النادر القليل من المسائل، كما ورد من امثلة في عهدي الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
س- ما معنى أن أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً؟
ج- الإمام او أمير المؤمنين او خليفة المسلمين: هو رئيس الدولة الاسلامية. وأن يكون أمره نافذاً ظاهراً وباطناً معناه: أن يأخذ به كل من بيده سلطة في الدولة سواء كان قاضياً او والياً او عاملاً بحيث تطمئن نفسه في الباطن الى هذا الحكم الذي تبناه الرئيس لمسألة من المسائل في حياة المسلمين، فيحكم به لفض الخصومات التي يتعلق بها دون غضاضة في داخل نفسه ودون تردد بأن هذا الحكم مهما كان مخالفاً لرأي القاضي فيبقى للرئيس الحق في ان يتبنى غيره كما يمكن ان يتطابق الرأيان معاً.
هذا في الباطن، اي بين القاضي والوالي والعامل ونفسه او خفية عن الناس. وأما في الظاهر فذاك في مجلس القضاء او الحكم في الولاية والعمالة بحيث يسمعه الناس ويرون كيف تفض الخصومات به وكيف يُحكم في المسألة وفقاً له.
س- هذا النفاذ لأمر الإمام في الظاهر والباطن يكون كذلك في حق القضاة والولاة وغيرهم من المسؤولين، فكيف يكون في حق غيرهم من المسلمين؟
ج- عندما يفض القاضي الخصومة وفقاً لأمر الإمام سواء في خفية عن أعين الناس او في مجلس القضاء، وعندما يفعل مثل ذلك الوالي والعامل في مجال الحكم، فان الناس عامة من المسلمين يسمعون ويرون ذلك ويعرفونه ويتعلمونه، فيسيرون عليه ويراعونه في حياتهم. بحيث لو وقع أحدهم في هذه المسألة لعرف او عرفه غيره بالحكم فيها دون حاجة للتقاضي – إن أمكن – بشأنها.
س- ما معنى أن الخليفة أبا بكر رضي الله عنه كان يوقع الطلاق الثلاث واحدة، بينما أوقعه عمر ثلاثاً؟
ج- اي ان المسلم اذا صدر عنه انه طلق زوجته بعبارة الطلاق الثلاث، او كرر كلمة الطلاق في موقف واحد ثلاث مرات، فان الخليفة الراشد الاول كان لا يعتبر ذلك الا طلقة واحدة، فيحق للرجل المطلق ان يعيد مطلّقته وهي في عدّتها دون عقد ولا مهر جديدين. وأما الخليفة الراشد الثاني فكان لا يعتبرها طلقة واحدة، بل ثلاث طلقات، بحيث تصبح مطلّقته مطلّقة منه طلاقاً بائناً لا رجعياً، فلا يحق له ان يعيدها اليه لا في العدة ولا بعدها الا اذا تزوجت غيره ودخل بها ثم طلقها. ويكون زواجه منها بعقد ومهر جديدين.
س- ما معنى ان أبا بكر رضي الله عنه كان يوزع الاموال على المسلمين بالتساوي ودون النظر الى القِدَم والحاجة، بينما كان عمر رضي الله عنه يوزعها بالتفاضل مراعياً ذلك.
ج- كان هذا في اموال الغنائم. حيث كان أبو بكر رضي الله عنه يوزعها بالتساوي فيما بينهم، سواء كانوا متفاوتين في وقت دخولهم في الاسلام او متساوين، وسواء كانوا متفاوتين في حاجتهم للمال او متساوين، فالكل في العطاء سواء. وأما عمر رضي الله عنه فقد فاضل بين المسلمين، بحيث كان يعطي من هو أقدم في الاسلام أكثر ممن هو أحدث منه، ويعطي المحتاج أكثر ممن هو أقل حاجة، ويعطي من هو أقرب الى الرسول عليه السلام وآل بيته الكرام أكثر ممن هو أبعد منهم وعنهم. ولكل من الخليفتين رضي الله عنهما اجتهاده.
س- ما معنى قاعدة "للسلطان أن يُحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات"؟
ج- معناها انه يجوز للسلطان، أي أمير المؤمنين، ان يتبنى من الاحكام الشرعية أي مقدار وبعدد المشكلات والمسائل التي تحدث بين المسلمين.
س- ما معنى قاعدة "أمر الإمام يرفع الخلاف"؟
ج- عندما تعترض المجتهدين مسائل كثيرة، سواء كانوا في مركز القضاء او الحكم، فانهم قد يختلفون في اجتهاداتهم، فتختلف الاحكام الشرعية التي يستنبطونها لمعالجة تلك المسائل. والإمام عندما يتبنى من اجتهاده او اجتهاد غيره حكماً شرعياً معيناً لمشكلة معينة، فعلى كل القضاة والولاة ان يأخذوا به وينفذوه، فيرتفع الخلاف بينهم، ويصبحون سواء في العمل باجتهاد الإمام وأمره.
س- هل من مثال على العنت في حياة المسلمين عند التبني في العقائد؟
ج- ان ما حصل مما يسمى بفتنة خلق القرآن في عهد المأمون والمعتصم والواثق من خلفاء بني العباس وما تعرض له الإمام أحمد بن حنبل من تعذيب حتى يأخذ بما تبنّاه اولئك من أن القرآن الكريم مخلوق فهو حادث، كما تقول تلك المقولة، ان ذلك اكبر مثال على ذلك العنت.
س- هل من إيضاح اكثر لتأثير التبني في العقائد والعبادات على الحزب الاسلامي؟
ج- للتبني في العقائد والعبادات نتائج حادة في حياة الفرد والجماعة. ذلك ان العقيدة فكرة اساسية تتحكم بتفكير صاحبها وتوجه افكاره الاخرى بتوجيهها، وكذلك الأمر بشأن العبادات، فانها تحدد شكل ومضمون توجه الفرد الى الخالق سبحانه. وعليه فان اي حزب اسلامي يتبنى في العقائد والعبادات سيمنع او لا يقبل من المسلمين في عضويته من يختلف مع عقائده او يرفض اعتناقها، او مع العبادات التي يتبناها ويرفض أداءهما. ومن الملاحظ ان العقائد، وبالتالي العبادات، في الاسلام تضيق وتتسع بين أهل السنّة والشيعة والخوارج وغيرهم. مما يجعل الحزب الذي يتبنى فيهما حزباً لفئة او مذهب دون غيرهم من المسلمين، فلا يكون للمسلمين جميعاً. وعندها لا يحق له إدعاء العمل لنهضة المسلمين وخيرهم جميعاً.
rajaab
24-07-2005, 06:05 PM
الندوة السابعة
الدستور والقانون
العرض :
على إثر الحديث في الندوة السابقة عن تبني الاحكام الشرعية، كان لا بد من وقفة متأنية مع مدى جواز التبني من المصطلحات الاجنبية في مجال الأحكام. فكلمة دستور وكلمة قانون من المصطلحات الاجنبية، ولها وثيق الصلة بالأحكام. فهل يجوز تبنيهما في مجال الأحكام؟
لننظر في معنى كل منهما، ونرى مطابقته للحكم الشرعي. فكلمة قانون تعني لديهم الأمر الذي يصدره الحاكم ليسير عليه الناس. لأنه في تعريفهم مجموعة القواعد التي يلزم الحاكم الناس بها لإتّباعها في علاقاتهم. وأما كلمة دستور فتعني عندهم القانون الأساسي لكل حكومة. لأنه في تعريفهم القانون الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبين اختصاص وحدود كل سلطة فيها. فالدستور إذن يقدم النظم التي تسير عليها الدولة كأفكار عامة، وهذه النظم تقدم بدورها الأوامر المحددة التي يأمر بها الحاكم في كل جانب من جوانب النظام الواحد. وهذه الأوامر التفصيلية هي القوانين التي تفصل حقوق وواجبات الحكومة نحو الافراد وواجباتهم وحقوقهم نحوها.
هذا بالنسبة لمعنى كل من كلمة دستور وقانون. ولكن لاكتمال صورة المعنى في الذهن، لا بد من معرفة منشأ كل منهما. ان الدساتير مختلفة المنشأ. فمنها ما نشأ بالعادات والتقاليد، كالدستور الانجليزي، ومنها ما نشأ من وضع لجنة في جمعية وطنية او مجلس نيابي، كالدستور الفرنسي والأميركي. هذا من ناحية كيفية نشوء الدستور. أما من ناحية مصدره، فهناك مصدران:
الأول: ويقصد به المنبع الذي نبع منه الدستور او القانون مباشرة، كالعادات والدين والآراء الفقهية وأحكام المحاكم. وهذا المصدر يسمى التشريعي. وذلك كما يحصل في انجلترا وأميركا.
والثاني: ويقصد به المأخذ المشتق منه او الذي نقل منه، كما هو الحال في فرنسا وتركيا ومصر والعراق وسوريا، ويسمى بالمصدر التاريخي.
وهذا يعني ان أي دولة يمكنها ان تأخذ من مصدر تشريعي او مصدر تاريخي ما تراه من أحكام وتأمر بالعمل بها، فتكون دستوراً لها إن كانت من الأحكام العامة، وقانوناً إن كانت من الأحكام الخاصة التفصيلية او الجزئية.
وبعد هذا البيان لمعنى كلمتي دستور وقانون ومنشأهما ومصادرهما، يبرز السؤال التالي: هل يجوز للمسلمين ان يستعملوا هذا الاصطلاح أم لا؟
لقد رأينا ان كلمة دستور وكلمة قانون تعني في الاصطلاح الاجنبي ما تتبناه الدولة من أحكام معينة تعلنها للناس وتلزمهم العمل بها وتحكمهم بموجبها، سواء كانت عامة او خاصة. هذا المعنى موجود لدى المسلمين، لأن الخليفة له أن يتبنى أحكاماً معينة من الشريعة ويلزم العمل بها ويحكم بموجبها. ولذلك يجوز استخدام هذين المصطلحين دون حرج. أما لو كان لهما معنى يخالف ما لدى المسلمين فلا يجوز استخدامهما. فمثلاً، عبارة "عدالة اجتماعية" تحمل معنى يخالف ما في الاسلام. لأن العدل عند المسلمين ضد الظلم. وأما ضمان التعليم والتطبيب، وضمان حقوق العمال والموظفين، كما يعني عندهم هذا الاصطلاح، فهو لجميع الناس اغنياء وفقراء. كما ان حقوق المحتاج والضعيف مضمونة لجميع رعايا الدولة الاسلامية بدون تمييز بين غني وفقير، او بين موظف وغير موظف، او بين عامل ومزارع او غير ذلك. وأما كلمة "ضريبة" فيجوز استخدامها لأنها تعني المال الذي تأخذه الدولة لإدارة شؤونها، وهذا موجود لدى المسلمين وفي دولة الاسلام.
لكن ألا يوجد أي فرق بين الدستور الاسلامي والقوانين الاسلامية وبين غيرها؟
بلى، هناك فرق شاسع. إذ أن مصدر الاسلامي منها هو الكتاب والسنّة فقط. ومنشأ الاسلامي اجتهاد المجتهدين وتبني الخليفة ما يراه من أحكام يأمر بها ويلزم الناس العمل بها. بينما مصدر غير الاسلامي العادات وأحكام المحاكم وغيرها، ومنشؤها جمعية تأسيسية ومجالس شعبية منتخبة تسن القوانين. فالشعب عندهم مصدر السلطات والسيادة للشعب، بينما في الاسلام السيادة للشرع.
والسؤال الآن: هل من ضرورة لتبني الأحكام في العصر الحاضر، وهل من مصلحة المسلمين وضع دستور شامل وقوانين عامة لهم، أم لا؟؟؟
أما التبني، فالذي كان المسلمون عليه، منذ أيام أبي بكر رضي الله عنه حتى آخر خليفة مسلم، هو ضرورة تبني أحكام معينة يلزم المسلمون العمل بها. ولكنه كان تبنياً لأحكام خاصة، ولم تعم جميع احكام الدولة، اللهم الا في بعض القصور عندما تبنى الأيوبيون مذهب الإمام الشافعي، وتبنت الدولة العثمانية المذهب الحنفي.
واما المصلحة في وضع دستورٍ اليوم، فان الدستور الشامل والقوانين العامة لا تساعد على الإبداع في التفكير والاجتهاد في الأحكام. وهذا سبب تجنب ذلك في عصور الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، إذ كانوا يقتصرون في التبني على أحكام معينة كان في تبنيها ضرورة لبقاء وحدة التشريع والحكم والادارة. ولهذا كان من الأفضل ان يكون للدولة دستور يحوي جميع الاحكام العامة التي تحدد شكل الدولة وتضمن بقاء وحدتها ويترك للولاة والقضاة الاجتهاد والاستنباط.
ولكن هل من الممكن ذلك والمجتهدون نادر وجودهم والمقلدون هم الناس كلهم تقريباً؟
طبعاً هذا ليس من الممكن في الوقت الحاضر لندرة المجتهدين. مما يفرض على الدولة ان تتبنى الأحكام التي تحكم الناس بها، سواء في ذلك الخليفة والولاة والقضاة، لأن الحكم بما أنزل الله يتعسر عليهم جميعاً لعدم اجتهادهم الا تقليداً مختلفاً ومتناقضاً ما دام التبني لا يكون الا بعد تمحيص الواقع وما يتصل به من أدلّة، وهذا لا يعتبر الا للمجتهدين، وما دام الحكم بمجرد المعرفة يؤدي الى اختلاف الاحكام وتناقضها في الدولة الواحدة بل في البلد الواحد، وقد يؤدي الى الحكم بغير ما أنزل الله. ولذلك لا بد من تبني احكام معينة في المعاملات والعقوبات، لا في العقائد والعبادات، بحيث يكون عاماً لجميع الاحكام ليتحقق ضبط شؤون الدولة وتطبق احكام الله في أمور المسلمين.
وهنا يرد تساؤل يفرض نفسه وهو: ألا يجوز تبني بعض الاحكام الحديثة مما تشبه ما في الاسلام كالتأميم؟
والجواب: لا، لا يجوز. لأن الله تعالى يقول "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلّموا تسليما" ويقول سبحانه "وأن إحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، وأحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك". فلا بد ان يتقيد التبني بالاحكام الشرعية فقط، ولا يؤخذ من غيرها اي حكم سواء وافق الاسلام او خالفه. وبدلاً من الأخذ بحكم التأميم يؤخذ حكم الملكية العامة من الاسلام، ما دام هذا الحكم يتعلق بالفكرة الاسلامية والطريقة الاسلامية. هذا وأما القوانين والانظمة التي لا تتعلق بهما مثل قوانين الادارة وترتيب الدوائر وما شاكلها، فهي من الوسيلة والاسلوب: كالعلوم والصناعات والفنون التي تنظم الدولة بها شؤونها تماماً كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أخذ الدواوين من الفارسية. وتبقى هذه النظم الادارية او الفنية خارج الدستور.
ولكن كيف تتبنى الدولة أحكامها؟
تتبناها على اساس قوة الدليل الشرعي لكل حكم، مع الحرص على الفهم الصحيح للمشكلة القائمة. وذلك بأن تقوم بدراسة المشكلة بدقة وعناية أولاً لتفهمها، ثم تفهم الحكم الشرعي الذي ينطبق عليها، ثم تقوم بدراسة دليل الحكم الشرعي او الأدلة المتصلة بهذه المشكلة، ثم تتبنى الحكم المعين لهذه المشكلة على اساس قوة الدليل. وتتحرى الدولة في ذلك ان يكون الحكم المستنبط من دليله قد جاء من رأي لمجتهد من المجتهدين، بعد الاطلاع على الدليل والاطمئنان الى قوته، او قد جاء من الكتاب والسنّة او الإجماع او بالقياس، وذلك باجتهاد شرعي ولو جزئياً، اي باجتهاد المسألة.
فهل من أمثلة على ذلك؟
نعم. اذا ارادت الدولة ان تتبنى منع التأمين على البضائع مثلا، فان عليها أولاً ان تقوم بدراسة ماهية التأمين على البضاعة. وبعد معرفته الصحيحة، تدرس وسائل التملك، ثم تطبق حكم الله في الملكية على التأمين، وتتبنى الحكم الشرعي في ذلك، وستجده غير هذا التأمين الرأسمالي المعاصر حتماً.
فماذا يقتضي ذلك بالنسبة لمواد الدستور، وللقوانين؟
هذا يقتضي ان يكون للدستور ولكل قانون من القوانين مقدمة توضح المذهب الذي أخذت منه كل مادة، والدليل الذي اعتُمد عليه، اذا كانت قد أخذت بالاعتماد على مذهب معين، او ان تبين الدليل الذي استنبطت منه المادة اذا كان التبني لها قد تم باجتهاد صحيح. لأنه بذلك فقط يعرف المسلمون ان مواد دستور دولتهم وقوانينها هي احكام شرعية ومستنبطة باجتهاد صحيح. وإلا فانهم ليسوا بملزمين بطاعتها فيما تحكم به الا اذا كانت تحكمهم بأحكام شرعية وقامت بتبنيها على هذا الاساس.
هذا ويمكن في ندوات "مشروع الدستور" القادمة ان نعرض نموذجاً حياً لما يؤمل ان تطبقه الدولة الاسلامية القادمة في اي قطر او بلد كان.
rajaab
24-07-2005, 06:07 PM
المناقشة:
س- لماذا اختص السؤال بجواز التبني في الاحكام من المصطلحات الاجنبية؟
ج- لأن الاحكام تتعلق بوجهة النظر في الحياة، من عقيدة ونظم، وهذه لا يجوز أخذها الا من الاسلام. بينما كل ما لا يتعلق بذلك كالعلوم والصناعات فيجوز أخذه.
س- هل كل ما لا يتعلق بالعقيدة والانظمة الاسلامية لا يجوز أخذه؟
ج- لا، لأن هناك الانظمة الادارية مما هو ليس من الاسلام والمسلمين وإن كان لا يتعلق بوجهة النظر في الحياة او الآيديولوجيا الاسلامية، ولكن يجوز أخذها.
س- ما الفرق بين منشأ الدستور ومصدره؟
ج- منشأ الدستور هو الكيفية التي ظهر فيها ونشأ بعد أن لم يكن موجوداً، او هو نشوؤه ووجوده بعد عدم. وأما مصدره فهو الاساس الذي نشأ منه وظهر. فالعادات عندما تكون الكيفية في ظهور الدستور باتباع سبيل معين في إخراج مواده فانها تكون المنشأ للدستور، ولكنها عندما يؤخذ الدستور منها ونتيجة لما قدمته من تقاليد أخذت طريقها في حياة المجتمع فانها تكون المصدر الذي يخرج منه الدستور.
س- ما الفرق بين المصدر التشريعي والمصدر التاريخي للدستور؟
ج- المصدر التشريعي هو الاساس المتعلق بالتشريع كأحكام المحاكم والآراء الفقهية التي يصدر عنها الدستور. وأما المصدر التاريخي فهو الاساس المتعلق بوقائع تاريخية التي تشكلت كالعادات على مدار التاريخ.
س- ما دام تعبير "عدالة اجتماعية" يشمل كلمة عدالة وكلمة اجتماعية، وهما جائزتان في الاسلام، فلماذا لا نستخدمه؟
ج- لأن التعبير ككل مصطلح اجنبي لنظام اجنبي، فلا يقسم التعبير الى كلمتين يختلف مدلول كل منهما عنهما ككل.
س- هل يختلف الإسلام وتشريعه عن غيره من التشريعات في النظر الى السلطة والسلطان؟
ج- نعم، يختلف في ذلك. لأن السلطة في الاسلام يمنحها الشرع لصاحبها وفقاً لأحكامه. فالخليفة لا يكون صاحب سلطة واسعة كنائب عن الأمة في تطبيق الشرع الا بحكم شرعي. والوالي والقاضي والمعاون كل منهم كذلك. وأما في غير الاسلام، فالسلطة مصدرها الشعب، وهو يعطيها لصاحبها. فرئيس الجمهورية مثلاً عندهم موظف لدى الشعب. هذا بالنسبة للسلطة والسلطات. أما بالنسبة للسلطان، بمعنى الحكم والحاكم، فالسلطان للأمة في نظر الاسلام، لأنها هي التي تنيب عنها من يحكمها بشرع الله، بدليل إجماع الصحابة على ما فعلوه في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول عليه السلام وانتخابهم لأبي بكر خليفة لرسول الله ونائباً عنهم في تطبيق شرع الله عليهم وحمله الى الامم الاخرى. وأما السلطان لدى غير المسلمين فهو، كالسلطة، للشعب الذي يعطيه لمن يشاء وينـزعه ممن يشاء.
س- ماذا تعني كلمة "تبني" بالنسبة للحاكم في حق اي حكم شرعي؟
ج- كلمة تبني لغة تعني جعله إبناً له. واصطلاحاً تعني أخذ الشيء مادياً كان او معنوياً وجعله ملكاً له ومن خصوصياته او صلاحياته. فالحاكم عندما يتبنى حكماً معيناً كحل لمشكلة معينة فانه يصدره سواء كان قد استنبطه باجتهاده ورجح عنده انه الأصح لحل المشكلة العارضة، او كان من استنباط غيره من المجتهدين. فالتبني لحكم استنبطه هو لا يتم الا اذا كان قد استنبطه واستنبط غيره للمسألة الواحدة، كالإمام الشافعي في اجتهاده القديم والجديد، وإما لحكم استنبطه غيره، فهو من باب ترجيح أحد الاحكام التي قدمت اليه من عدة مجتهدين ومن بينهم اجتهاده هو اذا كان ممن يملك الاجتهاد وأهليته ولو كان جزئياً.
س- لماذا لا يساعد تبني دستور وقوانين عامة في اي عصر من العصور على الإبداع في الفكر والتفكير والاجتهاد في استنباط الاحكام الشرعية؟
ج- لأنه يمنع مَن لديه القدرة او الأهلية على التفكير واستنباط الاحكام – ولو جزئياً- من ذلك، ما دام يقدم بين يدي الجميع الحلول الجاهزة، ولا يطلب منهم إشغال الذهن لا بالبحث عن الأدلة ولا بدراستها ودراسة الواقعة المستجدة ولا باستنباط الحكم الصحيح منها لحل المشكلة القائمة. الأمر الذي لا يساعد على الإبداع، كما لو كان الدستور المتبنى محصوراً في بعض القوانين العامة ولا يتجاوزها الى جميع مناحي الحياة.
س- ماذا يعني تحديد شكل الدولة عند التبني للأحكام؟
ج- أن تكون الأحكام المتبناة لا تتعدى تحديد أجهزة الدولة او أركانها كخلافة يرأسها خليفة وله معاونون في الحكم والتنفيذ وفيها جهاز قضائي، وأمير جهاد على رأس الجيش، وفيها مجلس أمة ينتخب انتخاباً لصلاحيات محددة، وفيها دوائر ومصالح على رأس كل منها مدير او رئيس، وفيها ولايات على رأس كل منها والي.
س- كيف تضمن الاحكام العامة وحدة الدولة؟
ج- بأن تنص على تقسيمها الى ولايات، اذا كانت واسعة الأرجاء، بحيث يرأس الواحدة منها والٍ، وتحدد صلاحياته التي يمنحها له الخليفة، كما تحدد صلته بالخليفة ومحاسبته أمامه وأمام الأمة من خلال مجلس الولاية وبالرقابة العليا من مركز الدولة. واذا كانت الولاية مترامية الأطراف دون الحاجة لتقسيمها لولايات فيمكن تقسيمها الى عمالات يرأس كل عمالة منها عامل وله من الصلاحيات ما للوالي في ولايته وإن كان يتبع الوالي كما يتبع الوالي الخليفة. فبنص الاحكام العامة على ذلك كله يحافظ على وحدة الدولة ويمنعها من التمزق الى دول كما حصل في بعض عهود الدولة الاسلامية في الماضي.
س- كيف يؤدي حكم المقلدين الى الاختلاف في الاحكام وتناقضها والخروج عما أنزل الله؟
ج- عندما يقلد الخليفة فقيهاً لحل مسألة معينة يحسم الأمر في جميع انحاء الدولة عندما يأمر بالعمل بما تبناه من تقليد. ولكنه عندما يترك ذلك للمعاون وللولاة وللقضاة فانهم قد يختلفون في التقليد عندما يقلد كل منهم فقيهاً او مذهباً غير الاخرين. وقد يتناقضون فيما بينهم عندما يرى أحدهم عكس ما يرى الآخر لمعالجة نفس المشكلة في ولايتين مختلفتين او من قبل قاضيين في ولاية واحدة. وقد يتأول حاكم او قاض بعض القضايا المستجدة المشابهة لأخرى في الفقه الاسلامي فيجيزها كالتأميم وهي مخالفة للاسلام وخارجة عنه.
س- ألا يعتبر النص الدستوري على مصادر الدستور كافٍ لجعله اسلامياً اذا كان التشريع الاسلامي من مصادره كما هو الحال في الدستور الفرنسي مثلاً؟
ج- لا يعتبر الدستور اسلامياً الا اذا كانت مصادره محصورة في القرآن الكريم والسنّة النبوية، لأنهما وحدهما مصدرا التشريع الاسلامي. وأما أن ينص اي دستور على أن من مصادره التشريع الاسلامي، كما هو الحال في الدستور الفرنسي، فلن يجعله اسلامياً، لأنه لم ينص على هذا التشريع الا كمرجع يرونه يصلح كغيره من المراجع سواء كانت كافرة او اسلامية لأخذ الأحكام منها. فالعبرة أن يبتغي المشرّع وجه الله وطاعته ونيل رضوانه من التزام أحكام شرعه، فتكون المصلحة في اتباع والتزام شرع الله في الكتاب والسنّة، وكما يقررانها، وليست المصلحة هي الدافع لأخذ التشريع بغض النظر عما اذا كان اسلامياً او غير اسلامي كحال الدستور الفرنسي.
س- ماذا يعني ان القوانين الادارية من الوسيلة والاسلوب، فيمن أخذها من غير المسلمين كالعلوم والصناعات؟
ج- عندما أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظام الدواوين لتنظيم الادارات في الدولة فانه أخذ بالوسائل وهي السجلات التي كانت في بلاد فارس. وأخذ بالاساليب في كتابتها وتنظيمها وإن كان أدخل عليها بعض التعديلات. وهو بذلك أخذ نتاج علم صناعة الورق والحبر وانتاج السجلات التي لا علاقة لها بالحكم كحكم وإنما بكيفية تنفيذه وتطبيقه.
س- ماذا تعني قوة الدليل الشرعي؟
ج- قوة الدليل الشرعي وضعفه أمران تابعان لمدى ثبوته ودلالته على الحكم. فعندما يكون الدليل الذي استنبط منه الحكم قطعي الثبوت قطعي الدلالة فانه يكون في ذروة القوة. وعندما يكون ظني الثبوت سواء كان قطعي الدلالة او ظنيها فانه يكون اقل قوة من سابقه، وعندما يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة فانه يكون اقل قوة من الاول واكثر قوة من الثاني.
س- هل من امثلة على ذلك؟
ج- القرآن الكريم والحديث المتواتر – كما مر بنا في ندوة سابقة – هما مصدرا الاحكام الشرعية، وهي كلها قطعية الثبوت، ولكن فيها ظنية الدلالة واخرى قطعية الدلالة. وبقية الانواع من الحديث الصحيح كلها ظنية، وإن كان منها قطعي الدلالة وأخرى ظنيّها. وتجنباً للتكرار يمكن العودة في ذلك الى موضعه.
س- هل يجوز ان يؤخذ الدستور من مذهب معين بكامله كأحد مذاهب السنّة او الشيعة؟
ج – في عهد كالعصر الحالي الذي يندر فيه وجود المجتهدين، لا بد للدولة الاسلامية من أن تتبنى دستورها بالتقليد في الأعم الأغلب، ولو كان بالترجيح بين الأحكام بناءا على قوة دليلها، وبالاجتهاد الجزئي أي بمحاولة استنباط حكم جديد لم يسبق ان استنبطه فقيه آخر سواء كان صاحب مذهب أم لا. ولهذا من الجائز ان يؤخذ مذهب بكامله كما فعل الأيوبيون عندما إتبعوا المذهب الشافعي في الدولة، وكذلك الحال في الأخذ بالمذهب الجعفري او الزيدي من الشيعة، مع التزام قاعدة "اذا صحّ الدليل فهو مذهبي، وإلا فاضربوا بقولي عرض الحائط"، وقاعدة "اجتهادي صحيح يحتمل الخطأ، واجتهاد غيري خطأ يحتمل الصحة".
rajaab
24-07-2005, 06:12 PM
الندوة الثامنة
الأخلاق في الاسلام
العرض :
قبل ان نعرض سلسلة ندوات "مشروع الدستور"، رأينا أنه لا بد لاستكمال هذه المجموعة من الندوات المتنوعة أن نقف على موضوع هام كثر الحديث حوله وحول أثره في المجتمع وعلى الفرد. الا وهو الأخلاق من وجهة النظر الاسلامية.
إن من المعروف ان الاسلام ينظم علاقة الانسان بخالقه بالعقائد والعبادات، وعلاقة الانسان بنفسه بالأخلاق والمطعومات والملبوسات، وعلاقة الانسان بغيره من بني البشر بالمعاملات والعقوبات.
كما ان من المعروف ان الاسلام يعالج كل مشاكل الانسان، وذلك من خلال نظرته للانسان ككل لا يتجزأ. فنجده يعالج جميع المشاكل بطريقة واحدة، ألا وهي بناء جميع المعالجات على اساس العقيدة، وهي أساس روحي، مما يجعل الناحية الروحية في كون الاشياء كلها مخلوقة لله تعالى هي الأساس في الحضارة الاسلامية، وهي أساس الشريعة الاسلامية، وأساس الدولة الاسلامية.
كما ان من المعروف أخيراً ان الشريعة الاسلامية قد عمدت الى انظمة الحياة، ففصلتها تفصيلاً دقيقاُ، فجعلت لكل من العبادات والمعاملات والعقوبات نظامها المفصل الخاص بها. ولكنها لم تجعل للأخلاق مثل هذا النظام المفصل، وإنما عالجت أحكامها كأوامر ونواهي من الله تعالى دون ان تعطي عناية متميزة لها على غيرها، بل هي حتى من حيث التفصيل جاءت أقلّها، إذ لم يجعل لها في الفقه باباً خاصاً باسمها، ولم يُعْنَ الفقهاء والمجتهدون بأمرها بالبحث والاستنباط.
أما لماذا لم يُفرَد لها في الفقه باب خاص بها، فذلك لأنها لا تؤثر على قيام المجتمع بأي حال. ذلك ان المجتمع الاسلامي يقوم على أنظمة الحياة، وتؤثر فيه المشاعر والافكار. أي ان العرف العام الناتج عن المفاهيم عن الحياة هو المسيّر للمجتمع وليس الخلق. فالانظمة التي تطبق في المجتمع، والافكار والمشاعر التي يعيش عليها الناس، هي التي تسيّر المجتمع. وأما الخلق والاخلاق الشائعة في الناس فهي ناتجة عن الافكار والمشاعر وتطبيق النظام.
فما دامت الاخلاق لا تقيم المجتمع ولا تسيّره، فهل تجوز الدعوة اليها في المجتمع، ولماذا؟؟؟
ان ذلك بدون ريب لا يجوز. لأنها نتاج أوامر الله ونواهيه ومن الدعوة الى العقيدة الاسلامية وتطبيق عموم الاسلام، ثم لأن الدعوة اليها تقلب مفاهيم الاسلام عن الحياة من كونها مخلوقة لخالق نظمها بأوامره ونواهيه، ثم لأن تلك الدعوة تبعد الناس عن تفهم حقيقة المجتمع ومقوماته وتجعلهم يظنون خطأً بأن الفضائل الفردية تبني الأمم وتقيم المجتمعات، مما يؤدي الى جهل الوسائل الحقيقية لرقيّ الحياة. فمثل هذه الدعوة توهم ان الدعوة الاسلامية دعوة خلقية، وتطمس الصورة الفكرية عن الاسلام، وتصرف الناس عن فهمه والسير في طريقته الوحيدة الموصلة الى تطبيقه، ألا وهي اقامة الدولة الاسلامية في الارض.
ولكن الاخلاق تبقى جزءا من تنظيم علاقة الانسان بنفسه، فكيف لا تكون نظاماً؟
ان ذلك عائد الى ان الشريعة الاسلامية لم تجعلها كذلك مثل العبادات والمعاملات، وإنما جعلتها أوامر ونواهٍ لتحقيق قيمة معينة هي القيمة الخلقية. فالمسلم عندما يلبّي أمر الله بالصدق فيكون صادقاً، وأمره بالأمانة فيكون أميناً، وحينما يلبّي نهي الله عن الغش فيتجنّبه، وعن الحسد فيبتعد عنه، فانه يحقق من القيام بأمر الله هذا المتصل بالصفات الخلقية القيمة الخلقية. ولكن حصول هذه الصفات من نتائج الاعمال كالصفة من الصلاة، او التزامها عند المعاملات، كوجوب الصدق في البيع، فانه لا يحقق قيمة خلقية وذلك لعدم تقصدها عند القيام بالعمل، وإنما يحقق قيمة روحية عند أداء الصلاة، وقيمة مادية عند ممارسة اعمال البيع، وإن إتصف في نفس الوقت بالصفات الحميدة.
فما هي الصفات التي اعتبرها الشرع خلقاً حسناً، وتلك التي اعتبرها خلقاً سيئاً؟
لقد أمر الله بالصدق والأمانة والحياء وبرّ الوالدين وصلة الرحم وتفريج الكربات وغير ذلك، وحثّ على الالتزام بها. بينما نهى عن أضدادها من كذب وخيانة وفجور وعقوق وغيرها.
ولكن كيف يتوصل الى غرسها في نفوس الافراد والمجتمع؟
أما في المجتمع فتتحقق عن طريق ايجاد المشاعر والافكار الاسلامية. ومتى تحققت في الجماعة، تتحقق في الافراد بالضرورة … فكيف يتم ذلك؟
انه يتم بايجاد جماعة او كتلة اسلامية تعمل على العمل بالاسلام كله، لا بالحث على التزام الاخلاق فحسب، ويكون الافراد فيها أجزاء في جماعة لا مستقلين، ليقوموا بحمل الدعوة الاسلامية الكاملة في المجتمع، عاملين لايجاد المشاعر الاسلامية والافكار الاسلامية فيه. مما يجعل الناس يلتزمون الاخلاق كأفواج كما التزموا الاسلام كله كأفواج، سواء كان ذلك بدخولهم الاسلام ابتداءاً او بتفهّمهم للاسلام وأحكامه والتزامهم لها ككل ومنها الاخلاق.
وهذا القول يدعونا للتساؤل عن الصفات التي تشكل مقومات الفرد ؟!
انها اربع صفات، هي: العقائد، والعبادات، والمعاملات، والاخلاق. ولا بد من اجتماع هذه المقومات في شخصية الفرد حتى تكتمل عناصر بنائه كاملة بحيث إن نقصت ولو واحدة كانت ناقصة ولم تكتمل. ولو تلونا الآيات الكريمات من سورة لقمان التي تبتدئ بآية "وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم" وتنتهي بآية "واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير" لوجدنا هذه المقومات الاربعة. كذلك نجدها في سورة الفرقان ولو تلونا الآيات من الآية "وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا، واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" الى الآية "اولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقّون فيها تحية وسلاما، خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاما". كما نجدها في سورة الإسراء عندما نتلو الآيات من الآية "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" الى الآية "ولا تمشِ في الارض مرحاً إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيّئه عند ربك مكروها". فكل مجموعة من الآيات تشكل وحدة كاملة تعرض الصفات المختلفة التي تشكل مقومات الفرد المسلم وتبين الشخصية الاسلامية المتميزة عن غيرها.
فماذا نلاحظ عن تلاوة أية مجموعة منها؟
نلاحظ أنها أوامر ونواهٍ منه تعالى. منها أحكام تتصل بالعقيدة، ومنها أحكام تتصل بالعبادات، ومنها أحكام تتصل بالمعاملات، وأخيراً منها أحكام تتصل بالاخلاق. كما نلاحظ أنها لم تقتصر على الصفات الخلقية. بل اشتملت على العقيدة والعبادات والمعاملات كما اشتملت على الاخلاق سواءاً بسواء. ذلك لأنها في مجموعتها تكوّن الشخصية الاسلامية المتميزة. وأن واحدة منها لو اقتصرت عليها لا يمكن ان تتشكل وتوجد هذه الشخصية الكاملة.
كما نلاحظ انها تستهدف تحقيق غاية وجودها في الفرد المسلم ، ألا وهي بناء الشخصية المتميزة الكاملة المبنية على الاساس الروحي، ألا وهو العقيدة الاسلامية، بحيث لا يتميز بشيء من هذه الصفات الا بناءا على هذه العقيدة. أي انه لا يصدق مثلاً لذات الصدق وإنما لأن الله أمر به، وإن كان يحرص على تحقيق القيمة الخلقية حين يصدق.
ثم لما كانت الاخلاق تأتي من نتائج العبادة لمن يلتزم بأدائها بحق تصديقاً لقوله تعالى "وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، وأنها مما يجب أن يراعى في المعاملات التزاماً بقوله صلى الله عليه وسلم "الدين المعاملة" بالاضافة الى كونها أوامر ونواهي معينة، فان ذلك مما يثبتها في نفس المسلم بشكل شيمة لازمة.
ولكننا نلاحظ أنها صفات مندمجة مع غيرها في الحياة، فكيف نفصلها عن باقي مكونات شخصية الفرد المسلم؟
صحيح أنها مندمجة بباقي انظمة الحياة من عقائد وعبادات ومعاملات. ولكنها تبقى صفات مستقلة. فالفرد يؤمن ويكذب، ولذلك نلاحظ ان الرسول عليه السلام قد أمر بالتحلّي بصفة الصدق لكل مؤمن. وقد يصلّي ويغشّ، ولذلك نلاحظ انه عليه السلام قد أمر المسلم بتجنب الغش فكان أمره عاماً "ليس منا من غش" وفي رواية اخرى "من غشّنا ليس منّا". وقد يتعامل بالتجارة ويخون الشراكة، ولذلك نلاحظ ان الرسول عليه السلام قد شدّد على الأمانة بين الشركاء في التجارة . فهي إذن صفات مندمجة مع جميع انظمة الحياة ولكنها تبقى في نفس الوقت صفات مستقلة عن كل منها، بحيث تلتقي بالواحد منها وقد تفترق. ولكن الاسلام عندما أمر بها ونهى فانه اراد ان تكون شخصية المسلم مكونة تكوينا صالحا متكاملا على اساس روحي، أي على اساس الالتزام بها استجابة لأمره تعالى واجتنابا لنهيه. لا لأن هذه الاخلاق تنفع او تضرّ في الحياة، الأمر الذي يجعلها مع ارتباطها الدائم بهذا الاساس دائمية وثابتة بمقدار ما يداوم المسلم ويثبت على القيام بتطبيق الاسلام ابتغاء نوال رضوان الله لا سعياً وراء منفعة او تجنّباً لمضرّة. ذلك أن المسلم عندما يلتزم بها يقصد الوصول الى القيمة الخلقية فقط، ويستبعد القيمة المادية او الانسانية او الروحية، بل لا يسمح بتدخّلها عند اتّصافه بها خشية أن يحصل اضطراب في القيام او الإتّصاف بها. خاصة وأن مثل هذا الاضطراب- بتداخل المنافع والفوائد مع التحلّي بتلك الصفات - يعرضها للخطر الفعلي.
كل هذا بالنسبة للفرد المسلم، فأين هي الاخلاق بالنسبة لمقومات المجتمع؟
لما كانت الاخلاق من مقومات الفرد المسلم، ولبناء شخصيته، فانها حتماً لا تتخطى الناحية الفردية الى المجتمع لتكون من مقوماته. وذلك أن المجتمع لا يصلح اذا صلحت الاخلاق، بل لا يصلح بالاخلاق، وإنما يصلح بالافكار الاسلامية والمشاعر الاسلامية اذا التزمت والانظمة الاسلامية اذا طُبّقت. أي أن مقومات المجتمع غير مقومات الفرد، وإن كانت تستوعبها وتتجاوزها الى أوسع منها. فالعقائد الاسلامية لا بد منها للمجتمع، كالفرد، ولكنها لا تقف عند لزوم الفرد بل تتسع لتشمل جميع الافكار الاسلامية المتصلة بالعقائد وبغيرها من عبادات ومعاملات واخلاق، وبذلك تغطي جميع الجوانب الحياتية. وكذلك لا بد للمجتمع من المشاعر الاسلامية التي تتشكل من الميول والرغبات والعواطف التي تنضبط بالحلال والحرام، فتميل حيث الحلال وتنفر حيث الحرام، وهي تؤدي في المجتمع الى تشكل الأعراف والتقاليد الاسلامية، وهي تستغرق الفرد في المجتمع المسلم بالضرورة لتتجاوزه الى عموم الافراد. وأخيراً لا بد للمجتمع من الانظمة الاسلامية التي بتطبيقها تنضبط العلاقات بين الافراد والجماعات في المجتمع المسلم. وهكذا تصبح مقومات المجتمع أوسع وأشمل من تلك الخاصة بالفرد، وإن استوعبتها. مما يفرض حتماً صلاح الفرد تبعاً لصلاح المجتمع، ودوام صلاحه تبعاً لدوام صلاح المجتمع. كما يقضي حتماً عدم صلاح المجتمع بعدم صلاح الفرد مهما كثر الافراد الصالحون، ما دامت العلاقات التي تنظمها الانظمة وتتحكم بها أعراف المشاعر الاسلامية وتوجهها الافكار الاسلامية، ما دامت هذه العلاقات غير منضبطة بهذه الضوابط الثلاث.
وعليه، فان الاخلاق ليست من مقومات المجتمع، وإنما فقط من مقومات الفرد، ولكن الفرد لا يصلح بها وحدها، بل لا بد ان تكون معها العقائد والعبادات والمعاملات اللازمة للفرد. وهذا يعني ان الفرد لا يعتبر مسلماً اذا كانت اخلاقه حسنة بينما عقيدته غير اسلامية، كما لا يعتبر مسلماً سوياً اذا كانت اخلاقه حسنة وهو مقصر في أداء العبادات، او غير سائر في معاملاته وفقاً للأحكام الشرعية.
وهكذا، حتى يتحقق تقويم الفرد لا بد من وجود العقيدة، والعبادات، والمعاملات، والاخلاق جنباً الى جنب، بحيث لا يتحقق له ذلك اذا تحققت له الاخلاق الحسنة فقط ولم يتوفر له غيرها. وهذا يؤكد عدم جواز العناية بالاخلاق وحدها لتقويم الفرد وترك باقي الصفات، بل لا يجوز العناية بأي شيء قبل الاطمئنان الى العقيدة، كما أنه لا بد أن يُحرَص على توفير الأمر الأساسي في الاخلاق وهو بناؤها على العقيدة الاسلامية، وأن يتصف بها المؤمن على اساس أنها أوامر الله ونواهيه.
rajaab
24-07-2005, 06:14 PM
المناقشة:
س- هل يقتصر تنظيم علاقة الانسان بخالقه على العقائد والعبادات؟
ج- نعم، وإن كانت أوامر الله ونواهيه تشمل جميع جوانب الحياة. الا ان الصلة المباشرة بين الخالق والمخلوق تنتظم فقط بالعقائد والعبادات، بينما المعاملات والعقوبات فصلتها مباشرة فيما بين الناس بعضهم ببعض، والاخلاق صلتها بالانسان مع نفسه.
س- كيف يصلح الاسلام مشاكل الانسان ككل لا يتجزأ؟
ج- يكون ذلك عندما يجعل للمعالجات كلها أساسا واحدا هو العقيدة الاسلامية التي تعني ان الله سبحانه وتعالى هو الخالق لهذا الانسان، والمدبر له بتنظيم جميع جوانب حياته بأوامره ونواهيه الشاملة.
س- هل في كتب الفقه على جميع المذاهب تفصيل من ابواب وفصول لتنظيم علاقات الانسان الثلاثة مع خالقه ونفسه وغيره من الناس؟
ج- نعم، هناك تفصيلات وفيرة. ولكنها تقتصر على علاقتي الانسان بخالقه وغيره من الناس، دون العلاقة الثالثة وهي مع نفسه. فلا تجعل للاخلاق أبواباً وفصولاً، وإنما تمرّ عليها مروراً كأوامر ونواهي لله تعالى.
س- لماذا لم يفرَد للأخلاق باب خاص في الفقه الاسلامي؟
ج- لأن الفقه يشتمل على تنظيم علاقات المجتمع، بينما الاخلاق خاصة بالفرد ولا تؤثر على مقومات المجتمع، وإن وجب وجودها وتوفرها في الفرد كجزء من المجتمع.
س- هل من علاقة بين العرف العام في المجتمع وبين الاخلاق؟
ج- نعم، لأن العرف العام يتكون من الافكار والمفاهيم المسيّرة للحياة. والاخلاق توجد كصفات لدى الفرد المسلم كنتيجة لما لديه من افكار ومفاهيم عن الأشياء في الحياة. ومن هنا يلتقي العرف مع الاخلاق. فيقال ان الصدق مثلا هو عرف عام لدى المجتمع المسلم الذي يسود فيه الالتزام بأوامر الله ونواهيه. كما يقال ان الكذب قد شاع في المجتمع فأصبح عرفاً عاماً فيه نتيجة غياب ذلك الالتزام.
س- ماذا تعني الدعوة الى الاخلاق؟
ج- تعني ان يُدعى الفرد والمجتمع لإلتزام الاخلاق، من باب الظن أنها تقوّم الفرد كما تقوّم المجتمع. مع أنها لا يمكن أن تنفرد في تقويم أي منهما ولا بحال من الاحوال.
س- إذن لماذا قال الشاعر: إنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ج- قالها من باب التألم على ما رآه من حال المسلمين وإنفلاتهم من الالتزامات الشرعية. فظنَ – متأثراً بدعوات غريبة عن الاسلام – أن الأمم تتكون بالاخلاق، وأن ما على المسلمين اذا أرادوا بقاء أمتهم الا أن يلتزموا بالاخلاق الحميدة ويتجنبوا الاخلاق السيئة.
س- ولكن الشاعر هنا يتحدث عن الأمم وليس المجتمعات، فهل من فرق بين الأمة والمجتمع؟
ج- نعم، هناك فرق كبير بين الأمة والمجتمع. إذ أن الأمة مجموعة من الناس تعتنق عقيدة لها نظامها بغض النظر عن تطبيق هذا النظام والتزام أنظمته في الحياة كالأمة الاسلامية التي تعتنق الاسلام ولكنها لا تطبق الانظمة المنبثقة عنه في حياتها. وأما المجتمع فهو مجموعة من الناس تعيش على انظمة العقيدة التي تعتنقها بتنظيم جميع جوانب حياتهم وفقاً لها. فالاخلاق لا تكون ولا تشكل أمة، كما أنها لا تكون ولا تشكل مجتمعاً، وتبقى في اطار مقومات الفرد ليس غير.
س- هل تنفرد الاخلاق بتقويم الفرد في المجتمع، أم لا بد من عناصر اخرى معها لتقويمه؟
ج – لا تكفي الاخلاق لتقويم شخصية الفرد، إذ هي جزء واحد منها. ولا بد معها من العقائد والعبادات والمعاملات اللازمة للفرد في حياته مع الاخرين.
س- كيف لا تكون الاخلاق من مقومات المجتمع، وأفراد المجتمع مطلوب منهم أن يتحلّوا بتلك الحميدة منها في علاقاتهم مع بعضهم البعض؟
ج- ان الفرد في المجتمع عندما يصدق في تعامله مع الاخرين إنما يتحلى بالصدق كصفة طيبة أمره الله بها، فالصدق يندمج هنا مع التعامل التجاري الذي يقوم به ابتغاء المنفعة والربح وكسب الرزق في الحياة. فجاء الصدق هنا ليس كجزء من المعاملة التجارية لأنه لا علاقة له بتحقيق المنفعة كقيمة مادية مقصودة من المعاملات المالية، وإنما علاقته بهذه المعاملة من حيث أن الله قد نهى أن تكون المعاملة هذه بعيدة عن الحق والحقيقة لينال كل طرف فيها حقه دون زيادة ولا نقص. هذا هو الصدق في المعاملة، وهو كصفة حسنة، يظهر في العبادة ايضاً عندما يصدق الانسان مع خالقه في صلاته فيجعلها بحق لوجهه الكريم ليس غير ودون تزييف ولا نفاق لأحد. وكما يندمج الخلق الطيب في جوانب الحياة، فانه ينفصل عنها. ولكنه يبقى عند تميزه التزاماً بأمر الله ونهيه، ويحقق منه الفرد القيمة الخلقية. ومن هنا شاعت الاخلاق كأوامر ونواهي في مقومات المجتمع من أفكار ومشاعر وأنظمة دون أن تنفرد عنها وتتميز منها وأن تحقق معها ذلك في مقومات الفرد.
س- فما دامت الاخلاق هذه هي مكانتها في الحياة الاسلامية فردية ومجتمعية، فكيف قامت دعوات تدعو لها لتقويم الأمة والمجتمع؟
ج- عندما اتصل العالم الاسلامي والمجتمع الاسلامي بالعالم الآخر، وأخذت المؤثرات الفكرية تأخذ طريقها الى العقول الاسلامية ظهرت هذه الدعوات الغريبة عن الاسلام والمسلمين. فالمعروف ان الحركات التي ظهرت طيلة جميع العهود الاسلامية قبل سقوط الخلافة الاسلامية كانت تركز على المجتمع وإعادة بنائه او تقويمه وفقاً للأنظمة الاسلامية. ولم تظهر الدعوة للأخلاق الا بعد ان انهار المجتمع الاسلامي بسقوط الخلافة. وأخذت الدعوة تركز على الفرد المسلم وإصلاحه وتقويمه. وكانت تلك الدعوة رد فعل دخيلاً على الاسلام وأهله، لأنها نظرت الى المجتمع نفس النظرة الفردية التي جاءت من الغرب الرأسمالي الديمقراطي، عالم الحريات الفردية، بدلاً من النظرة الاسلامية التي لا ترى ان المجتمع مكون من افراد، كما يقول الغربيون الديمقراطيون، ولا مكون من جماعة لا خيار للفرد فيها الا كخيار السن في الدولاب، كما يقول الاشتراكيون الشيوعيون في الغرب والشرق. بل ترى ان الفرد جزء من المجتمع، له كيانه الخاص في الوقت الذي يتمتع فيه المجتمع بكيانه الخاص، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر بأن يحرص على حقه كما يطالبه بواجباته. فالتأثر او الغزو الفكري الذي زحف على بلاد الاسلام وأخذ طريقه الى عقول أهلها تركهم أسرى فكرة الفردية الديمقراطية، بحيث لم يروا عند الدعوة الى الاسلام الا الدعوة الفردية. ولأن الاخلاق من مكونات الفرد، والبارزة عليه ومعه في عباداته ومعاملاته، فقد انصبت تلك الدعوات الفردية على الاخلاق. فحقق الغرب بمكره ودهائه إبعاد رجال الدعوات الاسلامية - رغم حرصهم في أكثريتهم، ورغم حسن نية هذه الأكثرية – حقق إبعادهم عن حقيقة الدعوة الاسلامية من أنها فكرية وأنها يجب ان تنصبّ، كما فعل الرسول عليه السلام، على العقيدة الاسلامية كأساس للحياة الاسلامية في حضارتها وفي تنظيماتها، وأنه يجب الا تفردها كمقوم للفرد، بل تجعلها أساس مقومات المجتمع من افكار اسلامية ومشاعر اسلامية وأنظمة اسلامية. وبهذا تكون العقيدة الاسلامية، وليس الاخلاق الاسلامية، هي أساس تكوين المجتمع الاسلامي وتكوين علاقاته كلها.
تم بحمد الله وشكره
في 1/1/1414هـ
20/6/1993م
جميع حقوق برمجة vBulletin محفوظة ©2025 ,لدى مؤسسة Jelsoft المحدودة.
جميع المواضيع و المشاركات المطروحة من الاعضاء لا تعبر بالضرورة عن رأي أصحاب شبكة المنتدى .