الناقد العربي
02-08-2005, 08:08 AM
رسالة توفيق الحكيم
آراؤها و مناقشتها
* د.عبد الكريم محمد حسين.
هذه مقالة تتناول فن الرسالة المفيدة النافعة،الفصيحة بآرائها،سهلة اللغة بأدائها،وغرضنا من عرضها و مناقشتها،ملاحظة الفرق في المنهج و الموضوع بين الأمس واليوم،فقد كنا مع رسالة فاطمة بنت الحسين في خطابها الوجيز لأمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز،فصرنا ننظر في رسالة أرسلها توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي أندريه،و قد عاش في كنفه،و كنف أسرته يوم كان موفداً لفرنساو من باب رد الجميل مواصلة ذلك الفرنسي،ليطمئن على ما غرسه في قلب توفيق الحكيم ونفسه من آراء و أفكار،و قيم،و من باب استدرار الإعجاب كانت هذه الرسالة.و لا شك أن الفرنسي مُستَقبِل الرسالة كان مهتماً بثمار مجهوداته ومواقفه ومشروعاته التي غرسها في طينة توفيق الحكيم،و حريصاً على معرفة آثارها في دوامة المعترك الجديد،في غربتها عن أرضها بصحبة سفير للثقافة الفرنسية على أرض الحضارات ( مصر ).نظراً لأن رسالة توفيق الحكيم ليست رسالة إخاء يطمئن فيها عن حال الأسرة الفرنسية بل رسالة ولاء نسبي يطمئنها على قيمها المزروعة في صدور تلاميذ التغريب،و لو ادعوا براءة الغربيين من دعواهم الباطلة عند جماهير الشرق المتخلف عندهم بكل شيء.
فرسالة توفيق الحكيم تبرز الخلاف في الموضوع و المنهج إلى حد ما،و تظهر طريقة التدليس عند هؤلاء القادمين من الغرب،و هم يحملون رؤيته و صورته وتجربته ومثاله و معاني واقع تركوه خلفهم بأرض المهجر،لكنهم مازالوا يحلمون بنقله إلينا - بعجره و بجره - لو استطاعوا إلى ذلك سبيل
و سيكون منهج تحليل الرسالة منصرفاً إلى منهج كتابة الرسالة،و أثر المنهج العربي القديم فيها من حيث لا يدري الحكيم،أو من جهة تأثر الغربيين بمناهج آبائنا الغالبين فيما مضى على عقول الشعوب و قلوبها،فكانت موضع محاكاة،واحترام و تقدير لديهم.
و سيكون من منهج الدراسة الوقوف على أفكار الرسالة،و إبراز حجج الحكيم وتوضيحها مما جاء في الكتاب نفسه،لأنه يحمل طبيعة الرسالة نفسها،و لأن المخاطب برسائله كلها في هذا الكتاب رجل واحد هو أندريه.
و ستكون الدراسة بعد إثبات النص ليكون الكلام عليه من باب الحديث على النص المعروف و المعروض،على طريقة العرب:البكاء على رأس الميت.و في حضور النص دعوة لاجتماع القوى النفسية و العقلية للمشاركة في فهم النص،وقبوله أو رده بحسب فهم المتلقين للرسالة،و سأعرض ما فهمته و ما قبلته و ما رددته على متلقي هذا البحث من غير ادعاء العصمة فيما ذهبت إليه، ولست حابساً أحداً على قولي،وتجنباً للتكرار فسأجعل مناقشة أفكاره مقرونة بالحديث عن منهجه في بناء رسالته .و حسبي أني أثرت القضية ليقوم أهل العلم بالرجل و أدبه بمعالجة هذه القضايا برويةٍ وحكمةٍ من غيرِ تعجلٍ،ولا مغالطة يخدعون بها أنفسهم قبل غيرهم.
* نص رسالة الحكيم:
" الإسكندرية في ..
عزيزي ( أندريه )!
إني الآن غارق في الأدب العربي…أريدُ أن أدرسَ قضيته من أساسها .. أريد أن أعيدَ النظرَ في أمر اللغة العربيةِ - لغتي - و أكشفَ أسرارَها،و أضع إصبعي على مواطن ضعفها و قوتها..
هذا هو خير وقتٍ أستطيع فيه أن أرى،و أميزَ،و أحسنَ الحكمَ،فلي عينان طافتا - منذ أمدٍ ليس بالبعيد - بمختلف الآداب العالمية.و لقد نجحت فكرتي حقاً!..إني أقرأ نصوص هذا الأدب في عصوره المتعاقبة بعين جديدةٍ،عينٍ عامرةٍ بالصور،حافلة بالمقارناتِ،و بنفسٍ رحيمةٍ عادلةٍ صابرةٍ،تلتمسُ العللَ و الأسبابَ، وتطيلُ التريث و البحث،قبل أن تصدرَ الأحكامَ!..
2
قبل كلِّ شيء أحب أن أقول لك:إن أولئك الذين علمونا اللغة العربية،في المدارس الابتدائيةوالثانوية،كان يجهلون لا معنى اللغة العربية وحدها،بل معنى اللغة على الإطلاق..
إنك لن تجد مستنيراً في مصر لا يقول لك:إن اللغة العربية - للأسف - قاصرة عن التعبير في شتى ضروب العلوم و الفلسفة و التفكير العالي،بل منهم من يقول:إنها ليست لغة تفكيرٍ،إنما هي لغة بهرجٍ و تنميقٍ.لماذا ؟ السبب بسيط :هو أن النماذج التي وضعت في أيدينا - و نحن صغار - للبلاغة في اللغة العربية كانت كتباً غثةَ المعنى،متكلفة المبنى،لو كتب بها شخص اليوم لأثار سخريةَ الناسِ!..نعم ..إنهم يعلموننا في المدرسة لغة إذا استعملناها في الحياة ضحك منا الناس!..من ذا يستطيعُ بعد انتهاء دراسته أن يكتب رسالة على نمط (عبد الحميد الكاتب)،أو مقالاً أو بحثاً على طريقة الحريري،دون أن يتعرض لسخرية الساخرين؟!..
3
ليس من اليسير أن أطلعك أو أترجم لك مثل هذا الأسلوب (النموذجي)!..ولكني أقول لك:إنه أسلوب يستخدم اللغة استخدام الجواري للعود في مجالس الأنس و السكر بقصور (هارون الرشيد)!..أسلوب غايته قبل كل شيء أن يبهر السمع النائم و يطرب الأذن المسترخية!..لست أدري!..أيجوز أن تجعل لغة من اللغات وسيلة لهو و أداة براعة؛كفنون المغنين،و ألعاب الحواة،أم أن اللغة أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة؟
إني أفهم أن يضرب مثل هذا الأسلوب مثلاً للضعف و السقم،لا للسلامة والبلاغة،فإن التكلف أبرز عيوب الفن.
كان ( جويو ) يقول:إن الرشاقة في فن الرقص هي أداء الحركة الجثمانية العسيرة،دون تكلف يشعرك بما بذل فيها من مجهود…تلك أولى خصائص الأسلوب في كل فن..حتى الحاوي الماهر،هو ذلك الذي يخفي عن الأعين مهارته،و يحدث الأعاجيب في جو من البساطة و البراءة..
لعل الكاتب الوحيد الذي ضربوه للطلاب مثلاً فصدقوا هو ( ابن المقفع ) في ترجمته (كليلة و دمنة ).
هذا كاتب تصنع بأسلوبه هو الآخر،و لكن بخفة ومهارة،و طلاه و جمَّله ولكن بذوقٍ و كياسة،فلم يبد عليه سماجة التكلف ولا ثقل الصناعة!..
إنه ذلك الحاوي البارع!…أو تلك الحسناء الذكية التي تطلي وجهها بالأصباغ،ثم تمسح أثرها الصارخ،فتظهر،و كأن نضارتها نضارة الأصل والفطرة…
إن ابن المقفع يجهدُ في أسلوبه ليخفي أثر الجهدِ!… إنه تلك الراقصة الرائعة التي تخفي حركاتها العسيرة فلا تبدو لنا منها إلا تموجات رشيقة يسيرة…هذا الكاتب هو على كل حال مثل طيب للصناعة في الكتابة..
على أنك إذا أردت أن تعرف حقاً جلال اللغة العربية؛في بساطتها وسيرها قدماً نحو الغرض:فاقرأها عند الفلاسفة و المؤرخين العرب! أولئك عندهم حقيقة ما يقولون،فهم لا يضيعون أوقاتهم و أوقاتنا في العبث اللفظي و الطلاء السطحي؛إنما هم يحدثوننا في شؤون فكرية واجتماعية و أخلاقية و دينية في لغة سهلة مستقيمة،لا لعب فيها،و لا لهو ،و لا ادعاء…
4
إني لأدهش كيف أن مؤلفين مثل (ابن خلدون )و (الطبري ) و ( ابن رشد) و(الغزالي ) لم يعرضوا علينا قط في دراساتنا للأدب العربي بالمدارس؟!..كيف نعرف لغة بدون أن نطالع فلاسفتها و مؤرِّخيها..؟أ نستطيع معرفة الفكر اللاتيني دون أن نقرأ ( سنيكا ) و ( مارك أوريل)و ( تيتوس ليفيوس ) و (كور نليوس تاسيت )؟!..
لو أنه عرضت علينا صفحة واحدة مع شرحها،لكل فيلسوف بارز و مؤرخ مشهور من فلاسفة العرب و مؤرخيهم؛لتغير رأي أكثر المستنيرين عندنا في اللغة العربية،و قدرتها على التعبير عن أدق الأفكار و أعلاها و أعمقها و أنبلها.
أ و ليس بهذه اللغة نقل ( ابن رشد ) و ( ابن سينا ) أعمق آراء فلاسفة الإغريق إلى أوربا المتعطشة للمعرفة ؟!..أنتم معشر الفرنسيين فعلتم ذلك في تدريس الأدب الفرنسي!…
ما من كتاب مدرسي - صغر أو كبر - لا يذكر فيه نماذج من أسلوب (مونتابي) الفلسفي،و أسلوب (روسو ) الاجتماعي،و ( بوسويه ) الديني،و(فولتير) التاريخي،بل حتى أسلوب (موليير) الفكاهي أحياناً إلى حد التهريج!…
ذلك أن المدارس الفرنسية أدركت أن تدريس اللغة يجب أن يشمل كل نواحي التعبير بها…أما قصرُ تعليمها على نماذج البلاغة اللفظية الجوفاء؛فهو امتهان لكرامة اللغة،و انتقاص من قدرتها على الأداء!…
في العربية كاتب متعدد النواحي،له باع طويل في الجد و الهزل،هو (الجاحظ)!… هذا أيضاً لم نقرأ له سطراً في المدارس…كل كاتب عربي بسيط الأسلوب،نافع لنا في الحياة،يقصونه عنا إقصاءً بحجة أنه غير بليغ!…و يأتون إلينا بالكاتب الذي لا ينفع في حياتنا إلا نموذجاً لإثارة السخرية.
5
حتى الشعر، و هو مفخرة اللغة العربية،الشعر الذي كان يجب أن ترى فيه نفوسنا المتفتحة أول لون من ألوان الفن…ماذا انتخبوا لنا منه؟…قصائد المواعظ والحكم!…
هنالك حقاً أنواع من الموعظة و الحكمة يعرف الشاعرُ الحق كيف يلبسها ثوباً من الصور الحسية و الذهنية،ترفعها إلى مرتبة الفن العالي…كما فعل ( أبو العلاء ) و(المتنبي ) و ( النابغة الذبياني) في بعض قصائدهم.و لكن الفرز و التمييز والتخير في هذا الباب يحتاج إلى حاسة فنية لا يملكها القائمون بهذا العمل..
حتى الشعر الموسيقى و الشعر التصويري الذي عرضوا علينا بعض نماذجه في أعمال ( البحتري ) و ( ابن الرومي ) على الأخص،لم يكن من خير آثارهما…
ليس كل شعر فناً عالياً؛لأنه يعظ أو يصور أو يرنم!..فالشعر الحق هو شيء أبعد كثيراً من مجرد إصابة الأهداف الظاهرة،أو تحقق الأغراض المباشرة،بل ربما انحط شعر في عرف الفن العالي؛لأنه اقتصر على صياغة حكمةٍ،أو تصوير منظر،أو إحداث جرسٍ…
إنما الشعر الحق قد يتوسل بهذه الأشياء لبلوغ مأربٍ أسمى:هو الارتفاع بالناس إلى سحبٍ لا تبلغ،و الرحيل بهم إلى عوالم لا تنظر!…هو أن يريهم من خلال كلماته البسيطة و وسائله البادية أشياء لم تكن بادية و لا طافيةً،في محيط ضمائرهم الواعية.
هو بالاختصار ذلك السحر الذي يوسع ذاتية الناس،فيرون أبعد مما ترى عيونهم،و يسمعون أكثر مما تسمع آذانهم،و يعون أعمق مما تعي عقولهم..هذا هو الشعر…و هذا هو المقصود من كلمة الشعر في إطلاقها على كافة الفنون!ما من فن عظيم بغير شعر،أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني،ما لا يدركون بحواسهم و ملكاتهم!..
لقد أثقلت عليك يا أندريه بهذا الحديث في موضوع لا يعنيك كثيراً،و لكن من غيرك أبثه خواطري…؟ تحمل !.."[1] (http://www.montada.com/newthread.php?do=newthread&f=312#_ftn1)
بعد عرض هذه الرسالة لا بد من الوفاء بالشروط التي عقدناها في مطلع المقالة،و هي دراسة منهج الحكيم فيها،و مناقشة أفكاره التي جاد بها على قرائه،مراعين في النظر إليها أنها رسالة حنين و وفاء للأسرة التي عاش معها حيناً من الدهر.
آراؤها و مناقشتها
* د.عبد الكريم محمد حسين.
هذه مقالة تتناول فن الرسالة المفيدة النافعة،الفصيحة بآرائها،سهلة اللغة بأدائها،وغرضنا من عرضها و مناقشتها،ملاحظة الفرق في المنهج و الموضوع بين الأمس واليوم،فقد كنا مع رسالة فاطمة بنت الحسين في خطابها الوجيز لأمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز،فصرنا ننظر في رسالة أرسلها توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي أندريه،و قد عاش في كنفه،و كنف أسرته يوم كان موفداً لفرنساو من باب رد الجميل مواصلة ذلك الفرنسي،ليطمئن على ما غرسه في قلب توفيق الحكيم ونفسه من آراء و أفكار،و قيم،و من باب استدرار الإعجاب كانت هذه الرسالة.و لا شك أن الفرنسي مُستَقبِل الرسالة كان مهتماً بثمار مجهوداته ومواقفه ومشروعاته التي غرسها في طينة توفيق الحكيم،و حريصاً على معرفة آثارها في دوامة المعترك الجديد،في غربتها عن أرضها بصحبة سفير للثقافة الفرنسية على أرض الحضارات ( مصر ).نظراً لأن رسالة توفيق الحكيم ليست رسالة إخاء يطمئن فيها عن حال الأسرة الفرنسية بل رسالة ولاء نسبي يطمئنها على قيمها المزروعة في صدور تلاميذ التغريب،و لو ادعوا براءة الغربيين من دعواهم الباطلة عند جماهير الشرق المتخلف عندهم بكل شيء.
فرسالة توفيق الحكيم تبرز الخلاف في الموضوع و المنهج إلى حد ما،و تظهر طريقة التدليس عند هؤلاء القادمين من الغرب،و هم يحملون رؤيته و صورته وتجربته ومثاله و معاني واقع تركوه خلفهم بأرض المهجر،لكنهم مازالوا يحلمون بنقله إلينا - بعجره و بجره - لو استطاعوا إلى ذلك سبيل
و سيكون منهج تحليل الرسالة منصرفاً إلى منهج كتابة الرسالة،و أثر المنهج العربي القديم فيها من حيث لا يدري الحكيم،أو من جهة تأثر الغربيين بمناهج آبائنا الغالبين فيما مضى على عقول الشعوب و قلوبها،فكانت موضع محاكاة،واحترام و تقدير لديهم.
و سيكون من منهج الدراسة الوقوف على أفكار الرسالة،و إبراز حجج الحكيم وتوضيحها مما جاء في الكتاب نفسه،لأنه يحمل طبيعة الرسالة نفسها،و لأن المخاطب برسائله كلها في هذا الكتاب رجل واحد هو أندريه.
و ستكون الدراسة بعد إثبات النص ليكون الكلام عليه من باب الحديث على النص المعروف و المعروض،على طريقة العرب:البكاء على رأس الميت.و في حضور النص دعوة لاجتماع القوى النفسية و العقلية للمشاركة في فهم النص،وقبوله أو رده بحسب فهم المتلقين للرسالة،و سأعرض ما فهمته و ما قبلته و ما رددته على متلقي هذا البحث من غير ادعاء العصمة فيما ذهبت إليه، ولست حابساً أحداً على قولي،وتجنباً للتكرار فسأجعل مناقشة أفكاره مقرونة بالحديث عن منهجه في بناء رسالته .و حسبي أني أثرت القضية ليقوم أهل العلم بالرجل و أدبه بمعالجة هذه القضايا برويةٍ وحكمةٍ من غيرِ تعجلٍ،ولا مغالطة يخدعون بها أنفسهم قبل غيرهم.
* نص رسالة الحكيم:
" الإسكندرية في ..
عزيزي ( أندريه )!
إني الآن غارق في الأدب العربي…أريدُ أن أدرسَ قضيته من أساسها .. أريد أن أعيدَ النظرَ في أمر اللغة العربيةِ - لغتي - و أكشفَ أسرارَها،و أضع إصبعي على مواطن ضعفها و قوتها..
هذا هو خير وقتٍ أستطيع فيه أن أرى،و أميزَ،و أحسنَ الحكمَ،فلي عينان طافتا - منذ أمدٍ ليس بالبعيد - بمختلف الآداب العالمية.و لقد نجحت فكرتي حقاً!..إني أقرأ نصوص هذا الأدب في عصوره المتعاقبة بعين جديدةٍ،عينٍ عامرةٍ بالصور،حافلة بالمقارناتِ،و بنفسٍ رحيمةٍ عادلةٍ صابرةٍ،تلتمسُ العللَ و الأسبابَ، وتطيلُ التريث و البحث،قبل أن تصدرَ الأحكامَ!..
2
قبل كلِّ شيء أحب أن أقول لك:إن أولئك الذين علمونا اللغة العربية،في المدارس الابتدائيةوالثانوية،كان يجهلون لا معنى اللغة العربية وحدها،بل معنى اللغة على الإطلاق..
إنك لن تجد مستنيراً في مصر لا يقول لك:إن اللغة العربية - للأسف - قاصرة عن التعبير في شتى ضروب العلوم و الفلسفة و التفكير العالي،بل منهم من يقول:إنها ليست لغة تفكيرٍ،إنما هي لغة بهرجٍ و تنميقٍ.لماذا ؟ السبب بسيط :هو أن النماذج التي وضعت في أيدينا - و نحن صغار - للبلاغة في اللغة العربية كانت كتباً غثةَ المعنى،متكلفة المبنى،لو كتب بها شخص اليوم لأثار سخريةَ الناسِ!..نعم ..إنهم يعلموننا في المدرسة لغة إذا استعملناها في الحياة ضحك منا الناس!..من ذا يستطيعُ بعد انتهاء دراسته أن يكتب رسالة على نمط (عبد الحميد الكاتب)،أو مقالاً أو بحثاً على طريقة الحريري،دون أن يتعرض لسخرية الساخرين؟!..
3
ليس من اليسير أن أطلعك أو أترجم لك مثل هذا الأسلوب (النموذجي)!..ولكني أقول لك:إنه أسلوب يستخدم اللغة استخدام الجواري للعود في مجالس الأنس و السكر بقصور (هارون الرشيد)!..أسلوب غايته قبل كل شيء أن يبهر السمع النائم و يطرب الأذن المسترخية!..لست أدري!..أيجوز أن تجعل لغة من اللغات وسيلة لهو و أداة براعة؛كفنون المغنين،و ألعاب الحواة،أم أن اللغة أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة؟
إني أفهم أن يضرب مثل هذا الأسلوب مثلاً للضعف و السقم،لا للسلامة والبلاغة،فإن التكلف أبرز عيوب الفن.
كان ( جويو ) يقول:إن الرشاقة في فن الرقص هي أداء الحركة الجثمانية العسيرة،دون تكلف يشعرك بما بذل فيها من مجهود…تلك أولى خصائص الأسلوب في كل فن..حتى الحاوي الماهر،هو ذلك الذي يخفي عن الأعين مهارته،و يحدث الأعاجيب في جو من البساطة و البراءة..
لعل الكاتب الوحيد الذي ضربوه للطلاب مثلاً فصدقوا هو ( ابن المقفع ) في ترجمته (كليلة و دمنة ).
هذا كاتب تصنع بأسلوبه هو الآخر،و لكن بخفة ومهارة،و طلاه و جمَّله ولكن بذوقٍ و كياسة،فلم يبد عليه سماجة التكلف ولا ثقل الصناعة!..
إنه ذلك الحاوي البارع!…أو تلك الحسناء الذكية التي تطلي وجهها بالأصباغ،ثم تمسح أثرها الصارخ،فتظهر،و كأن نضارتها نضارة الأصل والفطرة…
إن ابن المقفع يجهدُ في أسلوبه ليخفي أثر الجهدِ!… إنه تلك الراقصة الرائعة التي تخفي حركاتها العسيرة فلا تبدو لنا منها إلا تموجات رشيقة يسيرة…هذا الكاتب هو على كل حال مثل طيب للصناعة في الكتابة..
على أنك إذا أردت أن تعرف حقاً جلال اللغة العربية؛في بساطتها وسيرها قدماً نحو الغرض:فاقرأها عند الفلاسفة و المؤرخين العرب! أولئك عندهم حقيقة ما يقولون،فهم لا يضيعون أوقاتهم و أوقاتنا في العبث اللفظي و الطلاء السطحي؛إنما هم يحدثوننا في شؤون فكرية واجتماعية و أخلاقية و دينية في لغة سهلة مستقيمة،لا لعب فيها،و لا لهو ،و لا ادعاء…
4
إني لأدهش كيف أن مؤلفين مثل (ابن خلدون )و (الطبري ) و ( ابن رشد) و(الغزالي ) لم يعرضوا علينا قط في دراساتنا للأدب العربي بالمدارس؟!..كيف نعرف لغة بدون أن نطالع فلاسفتها و مؤرِّخيها..؟أ نستطيع معرفة الفكر اللاتيني دون أن نقرأ ( سنيكا ) و ( مارك أوريل)و ( تيتوس ليفيوس ) و (كور نليوس تاسيت )؟!..
لو أنه عرضت علينا صفحة واحدة مع شرحها،لكل فيلسوف بارز و مؤرخ مشهور من فلاسفة العرب و مؤرخيهم؛لتغير رأي أكثر المستنيرين عندنا في اللغة العربية،و قدرتها على التعبير عن أدق الأفكار و أعلاها و أعمقها و أنبلها.
أ و ليس بهذه اللغة نقل ( ابن رشد ) و ( ابن سينا ) أعمق آراء فلاسفة الإغريق إلى أوربا المتعطشة للمعرفة ؟!..أنتم معشر الفرنسيين فعلتم ذلك في تدريس الأدب الفرنسي!…
ما من كتاب مدرسي - صغر أو كبر - لا يذكر فيه نماذج من أسلوب (مونتابي) الفلسفي،و أسلوب (روسو ) الاجتماعي،و ( بوسويه ) الديني،و(فولتير) التاريخي،بل حتى أسلوب (موليير) الفكاهي أحياناً إلى حد التهريج!…
ذلك أن المدارس الفرنسية أدركت أن تدريس اللغة يجب أن يشمل كل نواحي التعبير بها…أما قصرُ تعليمها على نماذج البلاغة اللفظية الجوفاء؛فهو امتهان لكرامة اللغة،و انتقاص من قدرتها على الأداء!…
في العربية كاتب متعدد النواحي،له باع طويل في الجد و الهزل،هو (الجاحظ)!… هذا أيضاً لم نقرأ له سطراً في المدارس…كل كاتب عربي بسيط الأسلوب،نافع لنا في الحياة،يقصونه عنا إقصاءً بحجة أنه غير بليغ!…و يأتون إلينا بالكاتب الذي لا ينفع في حياتنا إلا نموذجاً لإثارة السخرية.
5
حتى الشعر، و هو مفخرة اللغة العربية،الشعر الذي كان يجب أن ترى فيه نفوسنا المتفتحة أول لون من ألوان الفن…ماذا انتخبوا لنا منه؟…قصائد المواعظ والحكم!…
هنالك حقاً أنواع من الموعظة و الحكمة يعرف الشاعرُ الحق كيف يلبسها ثوباً من الصور الحسية و الذهنية،ترفعها إلى مرتبة الفن العالي…كما فعل ( أبو العلاء ) و(المتنبي ) و ( النابغة الذبياني) في بعض قصائدهم.و لكن الفرز و التمييز والتخير في هذا الباب يحتاج إلى حاسة فنية لا يملكها القائمون بهذا العمل..
حتى الشعر الموسيقى و الشعر التصويري الذي عرضوا علينا بعض نماذجه في أعمال ( البحتري ) و ( ابن الرومي ) على الأخص،لم يكن من خير آثارهما…
ليس كل شعر فناً عالياً؛لأنه يعظ أو يصور أو يرنم!..فالشعر الحق هو شيء أبعد كثيراً من مجرد إصابة الأهداف الظاهرة،أو تحقق الأغراض المباشرة،بل ربما انحط شعر في عرف الفن العالي؛لأنه اقتصر على صياغة حكمةٍ،أو تصوير منظر،أو إحداث جرسٍ…
إنما الشعر الحق قد يتوسل بهذه الأشياء لبلوغ مأربٍ أسمى:هو الارتفاع بالناس إلى سحبٍ لا تبلغ،و الرحيل بهم إلى عوالم لا تنظر!…هو أن يريهم من خلال كلماته البسيطة و وسائله البادية أشياء لم تكن بادية و لا طافيةً،في محيط ضمائرهم الواعية.
هو بالاختصار ذلك السحر الذي يوسع ذاتية الناس،فيرون أبعد مما ترى عيونهم،و يسمعون أكثر مما تسمع آذانهم،و يعون أعمق مما تعي عقولهم..هذا هو الشعر…و هذا هو المقصود من كلمة الشعر في إطلاقها على كافة الفنون!ما من فن عظيم بغير شعر،أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني،ما لا يدركون بحواسهم و ملكاتهم!..
لقد أثقلت عليك يا أندريه بهذا الحديث في موضوع لا يعنيك كثيراً،و لكن من غيرك أبثه خواطري…؟ تحمل !.."[1] (http://www.montada.com/newthread.php?do=newthread&f=312#_ftn1)
بعد عرض هذه الرسالة لا بد من الوفاء بالشروط التي عقدناها في مطلع المقالة،و هي دراسة منهج الحكيم فيها،و مناقشة أفكاره التي جاد بها على قرائه،مراعين في النظر إليها أنها رسالة حنين و وفاء للأسرة التي عاش معها حيناً من الدهر.