المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأسرة الدولية



rajaab
16-08-2005, 04:08 PM
الأسرة الدولية
والأعراف والقوانين الدولية
لا بد من إلقاء نظرة خاطفة على العرف الدولي ، والقانون الدولي ، لإدراك واقع الأعمال السياسية وكيفية القيام بالأعمال السياسية من ناحية دولية .
أما العرف الدولي فهو قديم قدم الدول والإمارات والكيانات ، وهو مجموعة القواعد التي نشأت من جراء العلاقات البشرية في حالة الحرب وفي حالة السلم ، فصارت من جراء اتباع المجموعات لها أمداً طويلاً أعرافاً دولية ، ثم استقرت هذه المجموعة من القواعد لدى الدول ، وصارت الدولة تعتبر نفسها ملتزمة بهذه الأعراف التزاماً طوعياً وصارت أشبه بالقانون ، وهذا الالتزام التزام معنوي وليس التزاماً مادياً ، وكانت المجموعات البشرية تتبعه طوعياً ، وخوفاً من الرأي العام ، ومن لا يتبعه يتعرض لنقمة الرأي العام ، ويُعيَّر في ذلك ، ويعتبر من هذا القبيل ، أي من قبيل الأعراف الدولية اصطلاح العرب قبل الإسلام على منع القتال في الشهر الحرام ، ولذلك فإن قريشاً أقامت النكير على الرسول  حين قامت سرية عبد الله بن جحش بقتل عمرو بن الحضرمي وأسر رجلين من قريش وأخذ قافلة التجارة ، أقامت قريش النكير على ذلك ، ونادت في كل مكان أن محمداً وأصحابه استحلوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدماء وأخذوا فيه الأموال وأسروا الرجال ، فاستعدت الرأي العام عليه لأنه خالف الأعراف الدولية .
وهكذا كانت بين جميع المجموعات البشرية قواعد متعارف عليها يتبعونها في الحرب والسلم ومنها الرسل أو من يسمون ( السفراء ) ، ومنها غنائم الحرب ، إلى غير ذلك . إلاّ أن هذه الأعراف منها ما هو عام تتبعها جميع المجموعات البشرية مثل السفراء أي الرسل ، ومنها ما هو خاص بمجموعات معينة ، وكان هذا العرف يتطور وفقاً لحاجات الدول والإمارات والكيانات ، أي وفقاً لحاجات المجموعات البشرية في علاقاتها مع بعضها كمجموعات ، فكانت هذه الأعراف الدولية يحتكم فيها الناس للرأي العام ويعير بمخالفتها ، فكانت تتبع طوعاً واختياراً بالتأثير المعنوي ليس غير ، ولم تكن هناك قوة مادية تطبقها ، فاستناداً إلى هذه الأعراف كانت تقوم أعمال سياسية من قبل المجموعات البشرية .
وأما ما يسمى بالقانون الدولي فإنه نشأ ووجد ضد الدولة الإسلامية حين كانت تتمثل في الدولة العثمانية . وذلك أن الدولة العثمانية بوصفها دولة إسلامية قامت بغزو أوروبا وأعلنت الجهاد على النصارى في أوروبا ، وأخذت تفتح بلادهم بلداً بلداً ، فاكتسحت ما يسمى باليونان ورومانيا وألبانيا ويوغسلافيان والمجر والنمسا حتى وقفت على أسوار فينا ، وأثارت الرعب في جميع النصارى في أوروبا ، ووجد عرف عام لدى النصارى أن الجيش الإسلامي لا يغلب ، وأن المسلمين حين يقاتلون لا يبالون بالموت لاعتقادهم بأن لهم الجنة إذا قتلوا ، ولاعتقادهم بالقدر ، والأجل ، وقد رأى النصارى من شجاعة المسلمين وشدة فتكهم ما جعلهم يفرون من وجههم ، مما سهل على المسلمين اكتساح البلاد ، وإخضاعها لسلطان الإسلام ، وكان النصارى الأوروبيون في هذا العصر عبارة عن إمارات وإقطاعيات ، فكانت دولاً مفككة ، كل دولة مفككة إلى إمارات ، يحكم كلاً منها سيد إقطاعي يقاسم الملك في السلطات ، مما جعل الملك لا يستطيع إجبار هذه الإمارات على القتال ، ولا يملك التعبير عنها أمام الغازين ، وفي كل ما يسمى بالشؤون الخارجية ، فسهل ذلك على المسلمين الغزو والفتح .
وظل حال الدول الأوروبية كذلك حتى العصور الوسطى ، أي حتى نهاية القرن السادس عشر ، وفي القرن السادس عشر أي في العصور الوسطى أخذت الدول الأوروبية تتجمع لتكون عائلة واحدة تستطيع أن تقف في وجه الدولة الإسلامية ، وكانت الكنيسة هي التي تسيطر عليها ، والدين النصراني هو الذي يجمعها ، لذلك أخذت تقوم بمحاولات لتكون عائلة نصرانية من مجموعة الدول ، وأخذوا يحددون العلاقات بينهم ، فنشأ عن ذلك قواعد اصطلحوا عليها لتنظيم علاقاتهم مع بعضهم ، فكان ذلك أول نشوء ما سمي فيما بعد بالقانون الدولي ، فأساس نشأة القانون الدولي أن الدول الأوروبية النصرانية في أوروبا تجمعت على أساس الرابطة النصرانية من أجل الوقوف في وجه الدولة الإسلامية ، فأدى ذلك إلى نشوء ما يسمى بالأسرة الدولية النصرانية ، واتفقت على قواعد فيما بينها ، منها التساوي بين أفراد هذه الدول بالحقوق ، ومنها أن لهذه الدول نفس المبادئ والمثل المشتركة ، ومنها أن جميع هذه الدول تسلم للبابا الكاثوليكي بالسلطة الروحية العليا على اختلاف مذاهبها ، فكانت هذه القواعد نواة للقانون الدولي ، إلاّ أن اجتماع هذه الدول النصرانية لم يؤثر ، فإن القواعد التي اتفقت عليها لم تستطع جمعها ، فإن نظام الإقطاع ظل حائلاً دون قوة الدولة ، ودون تمكينها من مباشرة العلاقات الخارجية ، وكان تسلط الكنيسة على الدول جاعلاً لها تابعاً من توابع الكنيسة ، وسالباً منها سيادتها واستقلالها ، ولذلك حصل صراع في الدولة لكي تتغلب على أمراء الإقطاع وانتهى بتغلب الدولة وزوال نظام الإقطاع ، وفي نفس الوقت حصل صراع بين الدولة والكنيسة أدى إلى إزالة سلطة الكنيسة عن الشؤون الداخلية والخارجية للدولة بعد أن كانت الكنيسة تتحكم فيها ، ولكن ظلت الدولة نصرانية ، وكل ما في الأمر أنها نظمت علاقة الدولة بالكنيسة على شكل يؤكد استقلال الدولة .
وقد أدى هذا إلى وجود دول قوية في أوروبا ، ولكنها مع ذلك لم تستطع الوقوف في وجه الدولة الإسلامية ، وظل الحال كذلك حتى منتصف القرن السابع عشر أي حتى سنة 1648 ، وفي هذه السنة عقدت الدول الأوروبية النصرانية مؤتمراً هو مؤتمر وستفاليا وفي هذا المؤتمر وضعت القواعد الثابتة لتنظيم العلاقات بين الدول الأوروبية النصرانية ، ونظمت أسرة الدول النصرانية في مقابلة الدولة الإسلامية ، فقد وضع المؤتمر القواعد التقليدية لما يسمى بالقانون الدولي ، ولكنه لم يكن قانوناً دولياً عاماً وإنما كان قانوناً دولياً للدول الأوروبية النصرانية ليس غير ، ويحظر على الدولة الإسلامية الدخول في الأسرة الدولية ، أو انطباق القانون الدولي عليها ، ومن ذلك التاريخ وجد ما يسمى بالجماعة الدولية ، وكانت تتكون من الدول الأوروبية النصرانية جميعاً بلا تمييز بين الدول الملكية والدول الجمهورية أو بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستانتية . وكانت قاصرة على دول غرب أوروبا في أول الأمر ، ثم انضمت إليها فيما بعد سائر الدول الأوروبية النصرانية ، ثم شملت الدول النصرانية غير الأوروبية ، ولكنها ظلت محرمة على الدولة الإسلامية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث أصبحت الدولة الإسلامية في حالة هزال وسميت بالرجل المريض ، وحينئذ طلبت الدولة العثمانية الدخول في الأسرة الدولية فرفض طلبها ، ثم ألحت بذلك إلحاحاً شديداً فاشترطت عليها شروط قاسية ، منها عدم تحكيم الإسلام في علاقاتها الدولية ، ومنها إدخال بعض القوانين الأوروبية ، فقبلت الدولة العثمانية هذه الشروط ، وخضعت لها ، وبعد قبولها أن تتخلى عن كونها دولة إسلامية في العلاقات الدولية قُبِلَ طلبها ، وأدخلت الأسرة الدولية سنة 1856 ميلادية ، ثم بعد ذلك دخلت الأسرة الدولية دول أخرى غير نصرانية كاليابان .
ولذلك يعتبر مؤتمر وستفاليا الذي عقد في سنة 1648 هو الذي نظم القواعد التقليدية للقانون الدولي وبناء على قواعده هذه وجدت الأعمال السياسية بشكل متميز ووجدت الأعمال الدولية الجماعية .
وكان من أبرز هذه القواعد فكرتان خطيرتان إحداهما : فكرة التوازن الدولي ، والثانية فكرة المؤتمرات الدولية ، أما فكرة التوازن الدولي فهي تقضي بأنه إذا حاولت إحدى الدول التوسع على حساب الدول الأخرى فإن سائر الدول تتكتل لتحول بينها وبين التوسع ، محافظة على التوازن الدولي الذي هو كفيل بمنع الحروب وانتشار السلام ، وأما فكرة المؤتمرات الدولية فإن المؤتمر يتألف من مختلف الدول الأوروبية وينعقد لبحث مشاكلها وشؤونها في ضوء المصالح الأوروبية ، ثم تطورت هذه الفكرة إلى مؤتمرات الدول الكبرى التي تنعقد للنظر في شؤون العالم على ضوء مصالح هذه الدول الكبرى . وهاتان الفكرتان كانتا أساساً لما يعانيه العالم من الصعوبات التي يلاقيها في سبيل رفع سلطة الدول الاستعمارية والدول الكبرى .
هذا هو أصل القانون الدولي وهذا هو الذي أوجد المبررات للتدخل وأتاح للدول الكبرى أن تتحكم في الدول الأخرى ، وهذا هو الذي إليه تستند الأعمال السياسية التي تقوم فيها لقضاء مصالحها ، أو لمزاحمة الدولة الأولى ، إلاّ أن هذه القواعد الدولية قد طرأ عليها شيء من التحويل ، ولكنه كله تحويل في صالح الدول الكبرى ومن أجل تنظيم مطامعها أو بعبارة أخرى تقسيم منافع العالم فيما بينها على وجه لا يؤدي إلى الحروب والنزاع المسلح . هذا التحويل الذي طرأ على العلاقات الدولية فتحولت من مؤتمرات إلى منظمة دولية تقوم هي على حفظ الأمن الدولي ، ولكن هذا التطور لم يغير شيئاً ، وظلت الدول الكبرى تتنازع على المغانم إلى أن وقعت الحرب العالمية الثانية ، وبعد الحرب العالمية الثانية رأت الدول الكبرى أن إنشاء منظمة دولية هو خير وسيلة لتنظيم العلاقات فيما بينها ، وجعلتها في أول الأمر منظمة للدول التي دخلت الحرب ، ثم وسعتها وجعلتها منظمة عالمية ، يتاح دخولها لجميع دول العالم . ونظمت العلاقات الدولية بميثاق هذه المنظمة وبهذا تكون العلاقات الدولية قد تحوّلت من مؤتمر للدول الكبرى للسيطرة على العالم وتوزيع المغانم بينها والحيلولة دون نشوء دولة كبرى غيرها ، تحوّل إلى منظمة دولية لتنظيم العلاقات بينها وضمان سيطرة الدول الكبرى ، ثم إلى منظمة دولية تصبح كدولة عالمية تنظم شؤون دول العالم وتسيطر عليها .
والدول النصرانية هذه ، أو الدول الرأسمالية لم تترك أمر تنفيذ القواعد التقليدية والتي صارت فيما بعد القانون الدولي ، إلى العامل المعنوي ، كما هي الحال في الأعراف الدولية ، وفي الاتفاقيات الدولية ، بل لم تتركها تنفذ على من التزم بها فقط ، بل جعلتها تنفذ بقوة السلاح ، وجعلت تنفيذها على جميع دول العالم ، سواء من التزم بها أم من لم يلتزم . وقبل الحرب العالمية الأولى كانت الدول النصرانية الأوروبية نفسها مجتمعة أو منفردة تجعل من نفسها البوليس الدولي في العالم لتنفيذ النظام الدولي ، وحتى بعد قيام عصبة الأمم ، ثم بعد قيام هيئة الأمم المتحدة ، ظلت الدول الرأسمالية تجعل من نفسها البوليس الدولي في العالم لتنفيذ القانون والنظام . فكان هذا العمل من أفظع الأعمال ، وكان سبباً من أسباب شقاء العالم بالأسرة الدولية بمفهومها الأوروبي ، وبما يسمى بالقانون الدولي . لذلك لا بد من علاج هذه المسألة من أجل تخليص العالم وإنقاذه من الشقاء .
وعلاج هذه المسألة هو أنه إذا كان لا بد من إيجاد الجماعة الدولية في المجتمع الدولي فيجب أن لا يقاس المجتمع الدولي على المجتمع العادي ، فالمجتمع العادي لا بد له من كيان يرفع المظالم ويزيل التخاصم ، ويفصل المنازعات بين الناس ، لذلك كان لا بد لكل مجتمع من دولة ، ولا بد له من سلطان ، ولا بد من قانون ولا بد من تنفيذ إجباري على الناس . أما المجتمع الدولي فهو عبارة عن مجموعات بشرية ، تنشأ بينها علاقات ، وليس أفراداً تنشأ بينهم علاقات ، ولكل مجموعة من هذه المجموعات حق السيادة ، وحق الإرادة ، بشكل مطلق غير مقيد ، فأي إجبار خارجي لهذه المجموعة أو هذه الدولة يعني سلب السيادة عنها ، وهذه هي العبودية ، وهو يتمثل في الاستعمار وفرض السيطرة والإجبار بالقوة ، وأي منع لهذه المجموعة أو هذه الدولة عن تنفيذ ما تقرره يعني تصفيداً لها بالأغلال ، وإصابتها بالشلل والكساح ، لذلك لا يصح أن توجد قوة فوق المجموعات البشرية تكون سلطة كسلطة المجموعة الواحدة . وبعبارة أخرى لا يصح أن يصبح المجتمع الدولي مجموعة تقوم عليها سلطة ، لها صلاحية رعاية الشؤون ، أي لا يصح أن توجد دولة عالمية تحكم عدة دول ، ولا يصح أن يسمح بوجود دولة عالمية لها سلطة على عدة مجموعات بشرية ، بل يجب أن تظل المجموعات البشرية مجموعات لها كيانها ، ولها سيادتها ، ولها إرادتها . وإذا كان لا بد من تكوين جماعة دولية من هذه المجموعات ، فيجب أن لا تكون دولة عالمية ، ويجب أن تنشأ هذه المجموعة تأسيساً ممن يريد مختاراً أن يكون فيها ، لا أن تقوم بإنشائها دولة معينة لها مفاهيم معينة ، أو دول معينة تتمتع بقوة تفوق قوة سواها ، كما لا يصح أن تكون دولة عالمية ، بل يقوم بتأسيس هذه الجماعة الدولية جميع الذين يرغبون مختارين بتأسيسها ، بغض النظر عن نوع مفاهيمهم وبغض النظر عن مقدار قوتهم ومدى نفوذهم ، وأن تترك الحرية لكل دولة لم تشترك في التأسيس أن تشترك في الجماعة الدولية في كل وقت تريد ، ويكون لها ما للمؤسسين من الحقوق والواجبات ، وأن يكون للجميع حرية ترك الجماعة الدولية في أي وقت يريد تركها ، وأن لا يفرض على أي أحد تنفيذ المقررات بالقوة ، بذلك تكون الجماعة الدولية جماعة دولية بحق ، لا عائلة دولية معينة يطلق عليها زوراً وبهتاناً أنها أسرة دولية ، ولا دولة عالمية يطلق عليها زوراً وبهتاناً اسم هيئة الأمم المتحدة .
أما الموقف الذي يجب أن يُتخذ من مجلس الأمن ومن مؤسسات الأمم المتحدة ، فيكون بالعمل على هدمها ، وأن تستبدل منظمة عالمية جديدة بهما ، لا يكون للدول العظمى عليها هيمنة ، ولا سلطان ، ولا تكون بمثابة دولة عالمية ، وأن تكون هيئة عالمية تقوم على إنصاف المظلوم ، ومنع الظلم ، وإشاعة العدل بين البشرية جمعاء ، بما لها من قوة معنوية تتمتع بها ، ومن قوة رأي عام عالمي يؤازرها ويوليها تأييده ويمنحها احترامه وثقته ، لكونها منظمة لا تعمل لحساب دولة من الدول ، وإنما تعمل لمصلحة البشرية جمعاء . مثل حلف الفضول الذي قام قبل البعثة ، والذي حضره رسول الله  قبل أن يبعث وقال عنه بعد البعثة ، " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " وتكون هذه المنظمة العالمية كذلك مجالاً لطرح العقائد والأفكار والحضارات فيها لمناقشتها ، وأخذ الصحيح منها ، ليصبح هو فكر العالم وعقيدته وحضارته .
أما مسألة القانون الدولي وتنفيذه على الناس بالقوة فلا يصح أن يوجد قانون دولي ، ولا يجوز أن يوضع ، وذلك لأن القانون هو أمر السلطان ، ولا يوجد دولة عالمية أو سلطان عالمي ، بل لا يصح أن توجد دولة عالمية تكون سلطة على جميع الدول ، لأن ذلك مستحيل الوجود ، ولأن الزعم بوجوده يعني وجود الحروب والمنازعات الدموية ، لذلك لا يجوز أن توجد دولة عالمية أو سلطة عالمية ، وإذن لا يصح أن يوجد قانون دولي ، أو يوضع قانون دولي . وأما تنفيذ هذا القانون الدولي على الناس بالقوة فإنه لا يصح أن يكون ، وذلك أن هذا التنفيذ إن كان من سلطة عالمية ، أي من دولة عالمية ، فإنه يستحيل ، لأنه لا وجود للدولة العالمية . وإن كان من مجموعة دول كبرى ، دولتين أو أكثر ، فإنه يعتبر عدواناً وليس تنفيذاً لقانون ، لأنه لو أن إحدى الدولتين أو الدول التي تقوم بالتنفيذ خالفت القانون فإن باقي الدول لا يمكن أن تنفذه عليها . لأن ذلك معناه الحرب ، ولو أن الدولتين اللتين تقومان بالتنفيذ أو مجموع الدول التي تقوم به خالفت القانون فمن الذي ينفذه عليها ؟ ! بالطبع لا أحد ، وبذلك يكون تنفيذ الدول القوية القانون على الدول الصغيرة أو الضعيفة عدواناً ، وليس تنفيذاً للقانون الدولي ، وبذلك يظهر بوضوح بأنه لا وجود لتنفيذ القانون الدولي العام على جميع الدول ، فلا يصح أن يفكر بفكرة تنفيذ القانون الدولي بالقوة ، لأن ذلك لا يكون إلاّ عدوانا .
ومن هذا كله يتبين أنه لا يصح أن يوجد قانون دولي بل لا يمكن وجوده عملياً ، وإنما الموجود هو اتفاقات تحصل بين الدول ، وأعراف يتعارفون عليها بشأن هذه الاتفاقات ، وبشأن علاقات الحرب وعلاقات السلم ، بين المجموعات البشرية ، وعليه إذا كان ولا بد من إيجاد جماعة دولية ، فإنه لا يكون لها إلاّ قانون إداري ، ويكون عملها النظر في الأعراف الدولية ، وفي مخالفتها ، وتدخل فيها الأعراف بشأن الاتفاقات الدولية من حيث عقدها ، وتنفيذها ، والتحلل منها ، وما شاكل ذلك .
وهذا العرف الدولي لا يصح أن يفكر بتنفيذه على الدول بالقوة ، بل ينفذ عن طريق الرأي العام ، وبالعامل المعنوي ، فإن الدول المشتركة في الجماعة الدولية ما قررت اعتبار القاعدة الفلانية أو الأمر الفلاني عرفاً دولياً إلاّ بعد أن تحققت من صيرورته عرفاً ، وحينئذ يكون اعتقاد هذه الدول بأن هذا العرف واجب الاتباع موجوداً ، وعليه لا توجد هناك حاجة للتنفيذ بالقوة . وفضلاً عن ذلك فإن قوة الرأي العام ضد الدولة المخالفة للعرف يجبر الدول إجباراً طوعياً وذاتياً أكثر من الإجبار الخارجي المادي ، وخوف المجموعات البشرية من أن تعيّر بسبب مخالفتها العرف العام أكثر تأثيراً عليها من خوفها من التنفيذ المادي ، ولذلك يترك للرأي العام والعامل المعنوي أن يتولى تنفيذ قرارات الجماعة ، ويكون ذلك هو طريقة تنفيذها .