SAID ABO NAASA
29-08-2005, 11:22 AM
والشعــراء يكتشفــون
تخـلّـّف
عن النزول من الحافلة، وترك لباقي الركاب أفضلية الترجّل، ولم يجد بُداً من المغادرة بعد أن زكم السائق أذنيه بقوله: " ساحة البرج.. آخر محطة يا أستاذ".
انتصب واقفاً على الرصيف، بعد أن نفض رجليه مُعيداً الأعصاب والعضلات إلى وضعها الطبيعي ،وراح يحلّ ربطة عنقه قليلاً، بعد أن تمددت رقبته، وصعب عليه تنفس هواء (بيروت) المشبع بالدخان وبخار الماء وضجيج المارة.
كشط بسبابته اليمنى ما ندّ عن جبهته من عرق غزير،ثم نفض إصبعه تجاه الأرض، وشرع يجوس تفاصيل الحياة بنظراتٍ نهمة، والركاب يتدافعون من حوله للصعود إلى الحافلة ، في رحلة العودة إلى ( بعلبك ) .
تحسّس جيب سترته الداخلي مرات عديدة ،مطمئنا إلى نقوده، وقد أحكمت زوجه إغلاق الجيب بدبوس كبير ،لا يتناسب وعدد الليرات الخمس التي تشكّل ثروة الأستاذ.
حذّرته بكلمات واثقة ،إنّ بيروت عاصمة تجعل الحليم حيران ،ولا مكان فيها للمتسكع الأرعن، وإن النشالين يسرقون الكحل من العين؛ وأنّ عليه أن يشمّر عن ساعد الجدّ، ويسعى ليل نهار، للبحث عن عمل يتناسب مع شاعر مثقف ،يحفظ عشرات الدواوين، ويضاهي ( سيبويه ) في إتقان اللغة العربية وآدابها.
وهذه ( بيروت ) ،أم الشرائع ،وعاصمة الحرف ،ومنشأ الكتاب ؛فلا حُجّة له إذاً ،وقد توافقت مواهبه مع متطلبات المدينة التي يزورها لأول مرة.
استوقفه منظر الباعة المتجولين، وأهازيجهم الذكية، وهم ينادون على بضاعتهم بقافية مدورسة وترغيب مُنمّق. ومشهد الحمّال وقد ناء تحت سلة كبيرة من القش، تأتزر بحزام يلفّها ويلف جبهته الماطرة ؛ وصاحب الحمل يتبعه كظلّه، مسرعاً أن أسرع ومبطئاً أن فعل.
وجد نفسه مضطراً إلى التحرك من مكانه، بعد أن سأله معاون سائق الحافلة عشر مرات:
" ع بعلبك أستاذ ؟!"
لم ينس أن يكحل عينيه برؤية (الترام)، وهو يخترق الجموع الهادرة، والركاب يتسلقونه ويتقاذفون من أحشائه أثناء سيره الهادئ.
من أين أبدأُ؟ (قال في سرّه)
وراح يلتهم الأزقة خبط عشواء، باحثاً عن المدارس الخاصة ،ليعرض خدماته عليها. سمع جواباً واحداً، من المدراء الذين قدّر له أن يلتقيهم:
" حضرتك أجنبي يا أستاذ وتحتاج إلى إجازة عمــل،ومن يحمل مثل جنسيتك لا تُعطى له هذه الإجازة "
كان هذا اكتشافه الأول.
لم تغب عن باله إمكانية عمله لدى دور النشر والصحف والمجلات الإعلامية، وهو الذي دبّج أعذب المقالات، لإحدى الصحف المقدسية يوم كان محرراً أدبيا قارّاً، قبل اضطراره إلى اللجوء إلى لبنان.
سيقول لرؤساء التحرير : " إن مقالاته الافتتاحية ،كانت كافية لتحريك الشارع الفلسطيني، ولإشعال أتون الثورة ضد الإنجليز واليهود ".
ثم اقنع نفسه مؤكداً : " لن اسفح ماء وجهي وأطلب العمل، فإنّ مجرّد ذِكر اسمي أَمامَهم، كفيل بتكالبهم أو لِنَـقُل تسابقهم إلى الفوز بقلمي.
أوقف سيارة ( تاكسي )، طالباً نقله إلى مبنى إحدى الصحف التي يعرفها السائق، وعاجله السائق الثرثار بثلّة من المواضيع المكررة ،حول الطقس والسياسة ومشاكل الأولاد وطلباتهم ،التي تثقل الكاهل وتمتص الجيوب ،لكنّ موضوعا واحدا كدّر
( الشاعر) الأنيق، حين طفق السائق يتبرّم من اختناق سوق العمل، وضآلة الفرص، ضارباً المثل بابنه الصحفي الجهبذ ،الذي أفنى نعلين، سعيا وراء وظيفة ،ناعتا الحياة بأنها وكر مافيا كبير، فأجابه الشاعر بثقة : "إبنك متخرج جديد، ولو كان خبيرا مثلي لاختصر المعاناة ".
حدجه السائق بنظرة ينضح منها عدم الاكتراث، هازاً برأسه مختتماً النقاش بقوله:
" إنما الرزق على رب العباد" .
توجّه الشاعر مباشرة نحومبنى الصحيفة، وقد رَسَم على وجهه ابتسامة عريضة أمام الحارس المتجهّم ؛وقرر الشاعر عندها ،أن مشاكل الكون كلها تنبع من قسمات هذا الحارس اللّعين.
وقبل أن يختار تحية مناسبة للموقف، بادره الحارس بكلمة واحدة :" أْمُور" (ماذا تريد).
- طالب عمل .
- (عمل شو؟(
- محرّر صحفي.فأنا شاعر.
وراح الحارس يدلق في أذنيه سيلا من الأسئلة ،سالخاً وقتاً طويلا،ً مستفسراً عما شرد وورد من أمور الشاعر الخاصة والعامة، وعن رحلة العذاب من فلسطين إلى لبنان، مستطرداً في الأسئلة، بحيث أَلَمّ بخيوط القضية الفلسطينية، وعندما توقف الحارس عن طرح الأسئلة ،قال الشاعر:
"نسيت أن تسألني عن نمرة حذاء زوجتي .المهمّ هل أحظى بمقابلة أحد المسؤولين؟ "
- لست بحاجة إلى ذلك، دونك ذاك القرار المعلق على لوحة الإعلانات فاقرأه :
( لا داعي للإحراج. لا توجد لدينا وظائف شاغرة.)
استشاط الشاعر غضباً بسبب إضاعة وقته ،لكنه كظم غيظه موجهاً حديثه إلى الحارس:
" إسمع يا أخي: تربطني ورئيس التحرير عروة وثقى ،هي زمالة الكلمة، فهلا أعلمته بوجودي ."
شعر الحارس بعطف مفاجئ نحو الإنسان الواقف أمامه ، وأذِن له بالدخول.
تلقّفه عند ميمنة البهو موظف الاستعلامات صارخاً من بعيد:
- هيه لوين يا أفندي؟
- عفواً . لقد سُمِح لي بالدخول لمقابلة رئيس التحرير.
- ومن ذاك الصعلوك ،الذي سمح لك وسمح لنفسه بتخطّي حدود التراتب الوظيفي؛
أنا موظف الاستقبال هنا، تفضّل ، هل لديك موعد مع الأستاذ؟
- كلا . ولكن..
- لا لكن ولا أخواتها. لا بدّ لك من موعد ، ثم من أنت بلا مؤاخذة؟
- أنا......
وراح الشاعر يسرد في حضرة الموظف قصته التي سكبها قبل لحظات في أذني الحارس، بينماكان الموظف يقاطعه مراراً للرد على الهواتف ،وعلى استفسارات الزوار قائلا: (باردون ... لحظة) ، ثم يبتسم له ابتسامة دبلوماسية صفراء قائلا : (أوكي وين صرنا) ويتحاذق الشاعر لاستلهام أدوات الربط الملائمة للحديث المفروم:
وفجأة ، زوى الموظف عينيه ،وقد استوعب نُـتفا من القصة قائلاً:
( إذاً حضرتك مش لبناني؟ )
- (عليك نور) ومطّ الشاعر حرف الواو .
- معنى ذلك أن (شَغْلتك عويصة). وكان هذا هو الاكتشاف الثاني.
عندها، رفع الموظف سماعة الهاتف محادثا شخصاً آخر، مستخدماً ثلاث لغات لإيصال المغزى إليه.
ثم أشار بيده للشاعر، كي يعرج إلى الطابق الخامس لمقابلة الأستاذ.
سرت نسائم التفاؤل في أعماق الشاعر، وراح يختزل الأدراج بخفّة ونشاط ،وهو يرسل حواسه في شعاب الطوابق ،التي شابهت خلية نحل حقيقية ؛ وتخيّـل نفسه للحظة، أنه في القدس ،حيث كان يزاول عمله ،في مثل هذا الجو العابق بالكلمات والأقلام والمشاحنات اللغوية والمهاترات السياسية والإشكالات التنظيمية؛ وأيقن انه لا محالة فائز بوظيفة هنا.
وصل لاهثا إلى مكتب الأستاذ ، ليجد سكرتيرة جميلة ترد على هاتفين في لحظة واحدة، وقد وجدت متسعاً في عقلها لتعاين الشاعر وتطلب إليه الإنتظار.
ثم بسمت له قائلة : " تفضل مسيو شو بتغيد (تريد) "
- لقد أخبركِ موظف الاستقبال شيئاً عني قبل لحظات.
- "عفواً .. ألَدَيك مانعٌ من تذكيري؟" قالتها ،بعد أن جفّت بسمتها وانقلبت تقاسيمها لترسم اللؤم على محياها الفاتن)
- حسنا ، يا آنستي الفاضلة ،أنا.....
وراح الشاعر يكرّر بِمَلل ظاهر، جُملاً متهدّجة شرح بها قصّته مرتين، قبل هذه الوقفة.بينما تشاغلت السكرتيرة عنه طيلة الوقت ،بالردّ على المكالمات الهاتفية، والتفتيش بين الأوراق المتناثرة أمامها ،وهي تقضم بأطراف شفتيها قطعا مستديرة من البسكوت. لكنها رغم ذلك ،قبضت على زبدة الكلام قائلة : " أفهم من جنابك أنك تبحث عن عمل؟ "
- ما شاء الله ! أجل يا آنسة . أجل .
- وما علاقة الأستاذ بالأمر،عليك بمراجعة مكتب شؤون الموظفين ،في الطابق الأول.
تجرّع الشاعر خيبته ،ودون أن يُعلّق بكلمة راح يهبط الدرج، متّكئا على الحائط تارة وعلى مرارة حظّه تارة أخرى.
وكما تقضي الأعراف الإدارية، وجد في الطابق الأول سكرتيرة أقلّ جمالا من سكرتيرة الأستاذ، وهي كالعادة، تمضع لبانا، يتحول أحيانا إلى بالون صغير أمام ثغرها، ما يفتأ أن ينفجر، وهي تتضاحك قائلة لمحدثها بصوت خافت:
( ياي.. إنّه أمامي كما وَصَفْتِه لي .. رفيعٌ ،يلُقّ في سرواله ،وقد تغضّن الكَمَر على خصره،كقروي يلبس بذلةً لأول مرّة؛لكنّ جمالَ طلعته وقسماته التي تضج بالرجولة تشفع له عندي ، ولسوف أساعده.
ثم تظاهرت بالمفاجأة أمامه، وقامت تصافحه؛ وقبل أن تبادره بالأسئلة قال:
-انا......
وشرع يروي ،بِجُمل سريعة ،وبنَزَقٍ ظاهر بعض المحطات البارزة ،في قصة بحثه عن عمل؛ والحضور يقهقهون ويعلّقون على لباسه.
أدركت السكرتيرة غور معاناته، فتجمّدت ضحكتها، وصارت أقرب إلى الرزانة فقالت بتودّد : " تفضّل يا عمّ بالانتظار، ريثما يسمح وقت المدير بلقائك .
قال لها في سره : "(عمى الدّبب ) أُقسم إنني أصغر منك سناً أيتها المتصابية "؛ واتّخذ سبيله بين المنتظرين ،الذين سلطوا سهام أبصارهم نحوه ؛وعاجله أحد المنتظرين قائلاً: " لا يضيقَنّ صدرك يا خواجة فنحن نتثاءب هاهنا منذ الصباح ،رغم أننا على موعد مسبق مع سعادته."
أجابه الشاعر: " لو كنت أسكن بيروت لهان الأمر ، ولكنني.......
وتحلّق الجمع حوله، يُنصتون خاشعين إلى ملحمة مشوّقة ،أضفى عليها القاصّ من بلاغة بيانه ما جعل الموقف دراميا،ً مؤثراً، تفاعَلَ السامعون معه استفساراً وتعليقا، مما أنساهم ضجر الانتظار.
ووقف الجميع ،عندما خرج عليهم المدير مُعلنا اضطراره للمغادرة، وأخذ يقرّب أُذُنَه من كل واحد منهم على حدة ،ممسكا بجوهر قضيته ،ومحددا له موعداً جديداً.
وحين وصل الدور إلى الشاعر ،قال له المدير: " وأنت يا أستاذ، ما مهنتك؟ "
قال الشاعر : " باختصار شديد، أنا شاعر و....."
ردّ المدير حانقاً: " سألتك عن مهنتك ،لا عن هوايتك؛ بسرعة ( خلّصني).
تعثرت المفردات في حلق الشاعر ،وأُرتِج عليه ،مما حدا بالمدير أن يُنهي المشهد مُصدراً أوامره للسكرتيره قائلا: قدّمي له طلب استخدام ليملأه رغم أننا...
فقاطعه الشاعر ، بعد أن جمع نفْسَه وصار قرب الباب:
" لا داعي للطلب ، فلن أعمل في مؤسسة صحفية تعتبر الأدب هواية كمالية.
وهذا هو اكتشافي الثالث ، أيها المدير النطاسي.
وصل الشاعر إلى( ساحة البرج) فوجد الحافلة المتّجهة إلى( بعلبك )على وشك الانطلاق.
جلس إلى جانب قرويّ هَرِم ،وقبل أن يلتقط أنفاسه، تحرش به العجوز قائلاً :
( من وين حضرة الأستاذ؟)
فردّ بعصبيةٍ لافتة : ( أي ...بدي ألعن الأستاذ ، و اللّي أستذه)
وقام يفتش عن مقعد جديد.
================
سعيد أبو نعسة
Said6610@hotmail.com
تخـلّـّف
عن النزول من الحافلة، وترك لباقي الركاب أفضلية الترجّل، ولم يجد بُداً من المغادرة بعد أن زكم السائق أذنيه بقوله: " ساحة البرج.. آخر محطة يا أستاذ".
انتصب واقفاً على الرصيف، بعد أن نفض رجليه مُعيداً الأعصاب والعضلات إلى وضعها الطبيعي ،وراح يحلّ ربطة عنقه قليلاً، بعد أن تمددت رقبته، وصعب عليه تنفس هواء (بيروت) المشبع بالدخان وبخار الماء وضجيج المارة.
كشط بسبابته اليمنى ما ندّ عن جبهته من عرق غزير،ثم نفض إصبعه تجاه الأرض، وشرع يجوس تفاصيل الحياة بنظراتٍ نهمة، والركاب يتدافعون من حوله للصعود إلى الحافلة ، في رحلة العودة إلى ( بعلبك ) .
تحسّس جيب سترته الداخلي مرات عديدة ،مطمئنا إلى نقوده، وقد أحكمت زوجه إغلاق الجيب بدبوس كبير ،لا يتناسب وعدد الليرات الخمس التي تشكّل ثروة الأستاذ.
حذّرته بكلمات واثقة ،إنّ بيروت عاصمة تجعل الحليم حيران ،ولا مكان فيها للمتسكع الأرعن، وإن النشالين يسرقون الكحل من العين؛ وأنّ عليه أن يشمّر عن ساعد الجدّ، ويسعى ليل نهار، للبحث عن عمل يتناسب مع شاعر مثقف ،يحفظ عشرات الدواوين، ويضاهي ( سيبويه ) في إتقان اللغة العربية وآدابها.
وهذه ( بيروت ) ،أم الشرائع ،وعاصمة الحرف ،ومنشأ الكتاب ؛فلا حُجّة له إذاً ،وقد توافقت مواهبه مع متطلبات المدينة التي يزورها لأول مرة.
استوقفه منظر الباعة المتجولين، وأهازيجهم الذكية، وهم ينادون على بضاعتهم بقافية مدورسة وترغيب مُنمّق. ومشهد الحمّال وقد ناء تحت سلة كبيرة من القش، تأتزر بحزام يلفّها ويلف جبهته الماطرة ؛ وصاحب الحمل يتبعه كظلّه، مسرعاً أن أسرع ومبطئاً أن فعل.
وجد نفسه مضطراً إلى التحرك من مكانه، بعد أن سأله معاون سائق الحافلة عشر مرات:
" ع بعلبك أستاذ ؟!"
لم ينس أن يكحل عينيه برؤية (الترام)، وهو يخترق الجموع الهادرة، والركاب يتسلقونه ويتقاذفون من أحشائه أثناء سيره الهادئ.
من أين أبدأُ؟ (قال في سرّه)
وراح يلتهم الأزقة خبط عشواء، باحثاً عن المدارس الخاصة ،ليعرض خدماته عليها. سمع جواباً واحداً، من المدراء الذين قدّر له أن يلتقيهم:
" حضرتك أجنبي يا أستاذ وتحتاج إلى إجازة عمــل،ومن يحمل مثل جنسيتك لا تُعطى له هذه الإجازة "
كان هذا اكتشافه الأول.
لم تغب عن باله إمكانية عمله لدى دور النشر والصحف والمجلات الإعلامية، وهو الذي دبّج أعذب المقالات، لإحدى الصحف المقدسية يوم كان محرراً أدبيا قارّاً، قبل اضطراره إلى اللجوء إلى لبنان.
سيقول لرؤساء التحرير : " إن مقالاته الافتتاحية ،كانت كافية لتحريك الشارع الفلسطيني، ولإشعال أتون الثورة ضد الإنجليز واليهود ".
ثم اقنع نفسه مؤكداً : " لن اسفح ماء وجهي وأطلب العمل، فإنّ مجرّد ذِكر اسمي أَمامَهم، كفيل بتكالبهم أو لِنَـقُل تسابقهم إلى الفوز بقلمي.
أوقف سيارة ( تاكسي )، طالباً نقله إلى مبنى إحدى الصحف التي يعرفها السائق، وعاجله السائق الثرثار بثلّة من المواضيع المكررة ،حول الطقس والسياسة ومشاكل الأولاد وطلباتهم ،التي تثقل الكاهل وتمتص الجيوب ،لكنّ موضوعا واحدا كدّر
( الشاعر) الأنيق، حين طفق السائق يتبرّم من اختناق سوق العمل، وضآلة الفرص، ضارباً المثل بابنه الصحفي الجهبذ ،الذي أفنى نعلين، سعيا وراء وظيفة ،ناعتا الحياة بأنها وكر مافيا كبير، فأجابه الشاعر بثقة : "إبنك متخرج جديد، ولو كان خبيرا مثلي لاختصر المعاناة ".
حدجه السائق بنظرة ينضح منها عدم الاكتراث، هازاً برأسه مختتماً النقاش بقوله:
" إنما الرزق على رب العباد" .
توجّه الشاعر مباشرة نحومبنى الصحيفة، وقد رَسَم على وجهه ابتسامة عريضة أمام الحارس المتجهّم ؛وقرر الشاعر عندها ،أن مشاكل الكون كلها تنبع من قسمات هذا الحارس اللّعين.
وقبل أن يختار تحية مناسبة للموقف، بادره الحارس بكلمة واحدة :" أْمُور" (ماذا تريد).
- طالب عمل .
- (عمل شو؟(
- محرّر صحفي.فأنا شاعر.
وراح الحارس يدلق في أذنيه سيلا من الأسئلة ،سالخاً وقتاً طويلا،ً مستفسراً عما شرد وورد من أمور الشاعر الخاصة والعامة، وعن رحلة العذاب من فلسطين إلى لبنان، مستطرداً في الأسئلة، بحيث أَلَمّ بخيوط القضية الفلسطينية، وعندما توقف الحارس عن طرح الأسئلة ،قال الشاعر:
"نسيت أن تسألني عن نمرة حذاء زوجتي .المهمّ هل أحظى بمقابلة أحد المسؤولين؟ "
- لست بحاجة إلى ذلك، دونك ذاك القرار المعلق على لوحة الإعلانات فاقرأه :
( لا داعي للإحراج. لا توجد لدينا وظائف شاغرة.)
استشاط الشاعر غضباً بسبب إضاعة وقته ،لكنه كظم غيظه موجهاً حديثه إلى الحارس:
" إسمع يا أخي: تربطني ورئيس التحرير عروة وثقى ،هي زمالة الكلمة، فهلا أعلمته بوجودي ."
شعر الحارس بعطف مفاجئ نحو الإنسان الواقف أمامه ، وأذِن له بالدخول.
تلقّفه عند ميمنة البهو موظف الاستعلامات صارخاً من بعيد:
- هيه لوين يا أفندي؟
- عفواً . لقد سُمِح لي بالدخول لمقابلة رئيس التحرير.
- ومن ذاك الصعلوك ،الذي سمح لك وسمح لنفسه بتخطّي حدود التراتب الوظيفي؛
أنا موظف الاستقبال هنا، تفضّل ، هل لديك موعد مع الأستاذ؟
- كلا . ولكن..
- لا لكن ولا أخواتها. لا بدّ لك من موعد ، ثم من أنت بلا مؤاخذة؟
- أنا......
وراح الشاعر يسرد في حضرة الموظف قصته التي سكبها قبل لحظات في أذني الحارس، بينماكان الموظف يقاطعه مراراً للرد على الهواتف ،وعلى استفسارات الزوار قائلا: (باردون ... لحظة) ، ثم يبتسم له ابتسامة دبلوماسية صفراء قائلا : (أوكي وين صرنا) ويتحاذق الشاعر لاستلهام أدوات الربط الملائمة للحديث المفروم:
وفجأة ، زوى الموظف عينيه ،وقد استوعب نُـتفا من القصة قائلاً:
( إذاً حضرتك مش لبناني؟ )
- (عليك نور) ومطّ الشاعر حرف الواو .
- معنى ذلك أن (شَغْلتك عويصة). وكان هذا هو الاكتشاف الثاني.
عندها، رفع الموظف سماعة الهاتف محادثا شخصاً آخر، مستخدماً ثلاث لغات لإيصال المغزى إليه.
ثم أشار بيده للشاعر، كي يعرج إلى الطابق الخامس لمقابلة الأستاذ.
سرت نسائم التفاؤل في أعماق الشاعر، وراح يختزل الأدراج بخفّة ونشاط ،وهو يرسل حواسه في شعاب الطوابق ،التي شابهت خلية نحل حقيقية ؛ وتخيّـل نفسه للحظة، أنه في القدس ،حيث كان يزاول عمله ،في مثل هذا الجو العابق بالكلمات والأقلام والمشاحنات اللغوية والمهاترات السياسية والإشكالات التنظيمية؛ وأيقن انه لا محالة فائز بوظيفة هنا.
وصل لاهثا إلى مكتب الأستاذ ، ليجد سكرتيرة جميلة ترد على هاتفين في لحظة واحدة، وقد وجدت متسعاً في عقلها لتعاين الشاعر وتطلب إليه الإنتظار.
ثم بسمت له قائلة : " تفضل مسيو شو بتغيد (تريد) "
- لقد أخبركِ موظف الاستقبال شيئاً عني قبل لحظات.
- "عفواً .. ألَدَيك مانعٌ من تذكيري؟" قالتها ،بعد أن جفّت بسمتها وانقلبت تقاسيمها لترسم اللؤم على محياها الفاتن)
- حسنا ، يا آنستي الفاضلة ،أنا.....
وراح الشاعر يكرّر بِمَلل ظاهر، جُملاً متهدّجة شرح بها قصّته مرتين، قبل هذه الوقفة.بينما تشاغلت السكرتيرة عنه طيلة الوقت ،بالردّ على المكالمات الهاتفية، والتفتيش بين الأوراق المتناثرة أمامها ،وهي تقضم بأطراف شفتيها قطعا مستديرة من البسكوت. لكنها رغم ذلك ،قبضت على زبدة الكلام قائلة : " أفهم من جنابك أنك تبحث عن عمل؟ "
- ما شاء الله ! أجل يا آنسة . أجل .
- وما علاقة الأستاذ بالأمر،عليك بمراجعة مكتب شؤون الموظفين ،في الطابق الأول.
تجرّع الشاعر خيبته ،ودون أن يُعلّق بكلمة راح يهبط الدرج، متّكئا على الحائط تارة وعلى مرارة حظّه تارة أخرى.
وكما تقضي الأعراف الإدارية، وجد في الطابق الأول سكرتيرة أقلّ جمالا من سكرتيرة الأستاذ، وهي كالعادة، تمضع لبانا، يتحول أحيانا إلى بالون صغير أمام ثغرها، ما يفتأ أن ينفجر، وهي تتضاحك قائلة لمحدثها بصوت خافت:
( ياي.. إنّه أمامي كما وَصَفْتِه لي .. رفيعٌ ،يلُقّ في سرواله ،وقد تغضّن الكَمَر على خصره،كقروي يلبس بذلةً لأول مرّة؛لكنّ جمالَ طلعته وقسماته التي تضج بالرجولة تشفع له عندي ، ولسوف أساعده.
ثم تظاهرت بالمفاجأة أمامه، وقامت تصافحه؛ وقبل أن تبادره بالأسئلة قال:
-انا......
وشرع يروي ،بِجُمل سريعة ،وبنَزَقٍ ظاهر بعض المحطات البارزة ،في قصة بحثه عن عمل؛ والحضور يقهقهون ويعلّقون على لباسه.
أدركت السكرتيرة غور معاناته، فتجمّدت ضحكتها، وصارت أقرب إلى الرزانة فقالت بتودّد : " تفضّل يا عمّ بالانتظار، ريثما يسمح وقت المدير بلقائك .
قال لها في سره : "(عمى الدّبب ) أُقسم إنني أصغر منك سناً أيتها المتصابية "؛ واتّخذ سبيله بين المنتظرين ،الذين سلطوا سهام أبصارهم نحوه ؛وعاجله أحد المنتظرين قائلاً: " لا يضيقَنّ صدرك يا خواجة فنحن نتثاءب هاهنا منذ الصباح ،رغم أننا على موعد مسبق مع سعادته."
أجابه الشاعر: " لو كنت أسكن بيروت لهان الأمر ، ولكنني.......
وتحلّق الجمع حوله، يُنصتون خاشعين إلى ملحمة مشوّقة ،أضفى عليها القاصّ من بلاغة بيانه ما جعل الموقف دراميا،ً مؤثراً، تفاعَلَ السامعون معه استفساراً وتعليقا، مما أنساهم ضجر الانتظار.
ووقف الجميع ،عندما خرج عليهم المدير مُعلنا اضطراره للمغادرة، وأخذ يقرّب أُذُنَه من كل واحد منهم على حدة ،ممسكا بجوهر قضيته ،ومحددا له موعداً جديداً.
وحين وصل الدور إلى الشاعر ،قال له المدير: " وأنت يا أستاذ، ما مهنتك؟ "
قال الشاعر : " باختصار شديد، أنا شاعر و....."
ردّ المدير حانقاً: " سألتك عن مهنتك ،لا عن هوايتك؛ بسرعة ( خلّصني).
تعثرت المفردات في حلق الشاعر ،وأُرتِج عليه ،مما حدا بالمدير أن يُنهي المشهد مُصدراً أوامره للسكرتيره قائلا: قدّمي له طلب استخدام ليملأه رغم أننا...
فقاطعه الشاعر ، بعد أن جمع نفْسَه وصار قرب الباب:
" لا داعي للطلب ، فلن أعمل في مؤسسة صحفية تعتبر الأدب هواية كمالية.
وهذا هو اكتشافي الثالث ، أيها المدير النطاسي.
وصل الشاعر إلى( ساحة البرج) فوجد الحافلة المتّجهة إلى( بعلبك )على وشك الانطلاق.
جلس إلى جانب قرويّ هَرِم ،وقبل أن يلتقط أنفاسه، تحرش به العجوز قائلاً :
( من وين حضرة الأستاذ؟)
فردّ بعصبيةٍ لافتة : ( أي ...بدي ألعن الأستاذ ، و اللّي أستذه)
وقام يفتش عن مقعد جديد.
================
سعيد أبو نعسة
Said6610@hotmail.com