rajaab
05-09-2005, 07:53 PM
واقع من لم يحكم بما أنزل الله
السؤال
إن الله تعالى يقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فهذا حكم من الله على من لم يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر، ولم يذكر الاعتقاد ولا سواه، بل أطلق الحكم ولم يقيده، فعلى أي أساس يقول الحزب بأن من يحكم بغير ما أنزل الله مسلم إذا لم يعتقد بالكفر ولا يكفر إلا إذا اعتقده؟
الجواب
هذه الآية وآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وآية (فأولئك هم الفاسقون) نزلت في حق الكفار ولم تنزل في حق المسلمين. إلا أنه لما جاء لفظ ٍ(من) عاماً وهو من ألفاظ العموم، ثم لكونها ختمت الآية بما يفيد العموم فإن ذلك يدل على أنه يدخل فيها المسلمون، فتشملهم ولا تكون من قبيل شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، فإن ما جاء في القرآن مما هو لمن قبلنا إذا وجدت معه قرينة تبين أنه لنا فإنه يكون من شرعنا ولو نزل على أنه من شريعة قبلنا، وهنا جاء التعميم قرينة على أنه لنا نحن المسلمين، كما هو لمن قبلنا، فهو من شرعنا، ولذلك ينطبق على المسلمين كما ينطبق على الكفار. إلا أن كون من يحكم بغير ما أنزل الله من المسلمين لا يكفر إلا إذا اعتقد به وإذا لم يعتقد به لا يكفر، فإن هناك قرائن تدل على أن الاعتقاد بغير ما أنزل الله هو الذي يجعله كافراً لا مجرد الحكم.
فأولاً: إن الآيات الثلاث نزلت في حادثة واحدة فكونه قال: ٍ(فاسقون) وٍ(ظالمون) قرينة تدل على أن قوله: ٍ(كافرون) يراد منه من يعتقد الكفر، فالموضوع واحد وهو الحكم بغير ما أنزل الله والموصوف متعدد وهو الكفر والفسق والظلم، فلا شك أن لكل وصف من هذه الأوصاف الثلاثة حالة تحصل في الموضوع فيوصف حينئذ بها. فالإعتقاد حالة إذا وُجدت مع الحكم بغير ما أنزل الله كان الحاكم كافراً، وإذا لم توجد كان فاسقاً أو ظالماً. فإذا حكم بغير ما أنزل الله غير معتقد به وأعطى ذا الحق حقه كان فاسقاً لأنه حكم بغير ما أنزل الله ولم يكن كافراً ولا ظالماً. وإذا حكم بغير ما أنزل الله ولم يعتقد به ولكنه لم يعط ذا الحق حقه كان فاسقاً وظالماً، فاسقاً لارتكابه معصية بالحكم بغير ما أنزل الله وظالماً لأنه ظلم صاحب الحق. فتعدد الموصوف لموضوع واحد قرينة على أن قوله: ٍ(فأؤلئك هم الكافرون)، أي إذا اعتقد بذلك، ونظيره قول الرسول صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة: ٍ(ومن تركها فقد كفر) ومع ذلك فتارك الصلاة لا يكفر، إلا إذا تركها غير معتقد بوجوبها.
وثانياً: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار وجاءت بعد وصف كفرهم، فالتعميم يكون على مثل هؤلاء لا على جميع الناس، لأن قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مقيدة في الموضوع الذي نزلت به لا عموم ما تنطبق عليه. والموضوع هنا رد الكفار لما أنزل عليهم وعدم حكمهم به فكفروا بذلك؛ أي كفروا بما أُنزل إليهم، فكونهم كفروا بما أُنزل إليهم وحكموا على خلافه معتقدين بما حكموا به فصاروا بذلك كفاراً، فيكون من لم يحكم بغير ما أنزل الله راداً له فإن هؤلاء هم الكافرون، ولا يقال إن الموضوع هنا هو عدم الحكم بما أنزل الله، لأن هذا يخالف الحادثة التي نزلت فيها الآية، فالحادثة نزلت في رد اليهود لرجم الزاني المحصن وحكمهم عليه بخلاف ذلك وهو الجلد، فالموضوع أمران: أحدهما رد ما أنزل الله عليهم لأنهم يرونه غير صالح، والثاني حكمهم بخلافه، ولذلك كان الرد لما أنزل الله شرطاً أساسياً في اعتبارهم كافرين إذا حكموا بغير ما أنزل الله.
وثالثاً: إن الحكم فعل وليس اعتقاداً، والفعل إن كان مخالفاً لما أمر الله به كان معصية ولم يكن كفراً، إلا أن يكون العمل ذاته كفراً. أو ذلك أن العمل إما أن يكون لما أمر الله به من الأحكام أو مخالفاً لما أمر الله به من الاعتقاد، فإن كان مخالفاً ما أمر الله به من الأحكام كان معصية، ولا يكون كفراً إلا إن جاء نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت على أنه كفر، فطاعة الوالدين قد أمرنا بالقيام بها، ولا يتضمن الأمر أمراً بالاعتقاد، ولهذا فإن عاق والديه عاص وليس بكافر، بخلاف السجود لله، فإنه قد أمرنا بالاعتقاد به وأمرنا بالعمل به تبعاً لذلك الاعتقاد، ولهذا لو سجد مسلم للصنم أو صلى بالكنيسة فإنه يكفر، لأن معنى ٍ(لا إله إلا الله) -التي أُمرنا بالاعتقاد بها- لا معبود إلا الله، ومن هنا كان القيام بخلافه كفراً لكن لو كان ترك عمل من أعمال الصلاة كترك القنوت فإنه لا شيء فيه، لو ترك السجود لم تصح صلاته. فمخالفة أوامر الله لا تكون كفراً، إلا إذا كانت مصحوبة بالاعتقاد بعدم صلاحها أو بعدم الاعتقاد بها، فالشرع أمر بالاعتقاد وأمَر بالعمل، ويختلف حكم مخالف الأمر بالاعتقاد عن حكم مخالف الأمر بالعمل، ولمّا كان الحكم بغير ما أنزل الله مخالفاً للأمر بالعمل وليس مخالفاً للأمر بالاعتقاد فقد كان معصية ولم يكن كفراً. على أن واقع الحكم بغير ما أنزل الله ليس عمل كفر، وذلك لسببين، أحدهما: أن الشرع لم يقل عنه إنه كفر ولذلك لا يعتبر عمل كفر، ويؤيد هذا أن معاوية أخذ البيعة ليزيد بالإكراه على مرأى ومسمع من الصحابة، وهو حكم بغير ما أنزل الله، ولا نعلم أن أحداً قال إنه كفر بذلك. والسبب الثاني: هو أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس فرعاً عن عقيدة كالسجود للصنم والصلاة مع النصارى، ولذلك لم يكن عمل كفر، فهو من نوع مخالفة ما أمر الله به وليس من نوع ما أمر بالاعتقاد به، فلو أن حاكماً حابى أحد أقربائه وهو سارق فحكم عليه بالسجن ولم يقطع يده فهذا عاصٍ وليس بكافر، بخلاف ما لو حكم على سارق بالسجن دون القطع راداً حكم القطع معتقداً خطأ قطع اليد وصواب الحكم بالسجن فهذا كافر. فكلا الحاكمين حكم بغير ما أنزل الله وكلا الحكمين حكم بغير ما أنزل الله، ولكن قد فُرِّق بينهما فكان أحدهما عاصياً وكان الآخر كافراً. والتفريق بينهما إنما جاء بالاعتقاد، فلو كان الحكم بغير ما أنزل الله عمل كفر لكان من حكمها واحداً. ولهذا فإن الحكم بغير ما أنزل الله لا يعتبر عمل كفر بل هو عمل كسائر الأعمال التي تعتبر معصية، على أن الحاكم لو حكم بغير ما أنزل الله ولم يعتقد به لأنه ظني الثبوت أو ظني الدلالة لا يكفر، وإنما يكفر إذا كان ما حكم به ولم يعتقد به قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهذا دليل على أن الحكم بغير ما أنزل الله وحده لا يكفر فاعله إلا إذا صحب ذلك الاعتقاد، وكان الاعتقاد برد ما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة.
على أن الحكم بغير ما أنزل الله من قبل الحكام المسلمين يحتمل التأويل فيحتمل أن يكون الحاكم حكم لأنه يرى أنه لا يخالف الإسلام وهذا موجود عند جمهرة المسلمين، أو حكم لأنه يرى أن الإسلام يريد المصلحة وهذا مصلحة المسلمين، أو حكم لأنه لا يستطيع أن يظل على كرسي الحكم لو حكم بالإسلام إما خوفاً من الكفار أو خوفاً من المسلمين لمخالفة الإسلام لمصالحهم في المجتمع الرأسمالي الذي يعيشون فيه كالربا مثلاً أو كإبطال عقد التأمين أو غير ذلك. فهنا يوجد احتمال تأويل العمل فيخرج عن كونه عمل كفر يكفر فاعله. وعليه فإن معنى الآية يكون ومن حكم بغير ما أنزل الله راداً له كما فعل اليهود الذين نزلت في حقهم هذه الآية حين حكموا بغير ما أنزل الله عليهم رادين له غير معتقدين بصلاحه لهم فهو كافر. ومفهوم المخالفة له أن من حكم بغير ما أنزل الله، غير راد له، فليس بكافر. وهذا الرأي في فهم هذه الآية هو رأي كبار المفسرين. قال الطبري في تفسيره: حدثني المثنى قال: حدثنا عبدالله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ٍ(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق، ثم قال ما نصه: فإن قال قائل فإن الله تعالى ذِكره قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بغير ما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟ قيل إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم بكتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم عن سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بغير ما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حُكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي، وقال أبو عبدالله محمد القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ما نصه قوله تعالى: ٍ(ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الكافرون) و(الظالمون) و(الفاسقون) نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم، وعلى هذا المعظَم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه: ومن لم يحكم بما أنزل الله رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قال ابن عباس ومجاهد. فالآية عامة على هذا، قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بغير ما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد إنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفر. وعلى هذا فإن كل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله إذا لم يعتقد بأحكام الكفر راداً القرآن فإنه مسلم قد ارتكب معصية ولا يكفر، أما من حكم بغير ما أنزل الله راداً للقرآن أي لأحكام الإسلام معتقداً بالكفر فهو كافر ولا شك.
22 ربيع الثاني 1381
2/10/1961
السؤال
إن الله تعالى يقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فهذا حكم من الله على من لم يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر، ولم يذكر الاعتقاد ولا سواه، بل أطلق الحكم ولم يقيده، فعلى أي أساس يقول الحزب بأن من يحكم بغير ما أنزل الله مسلم إذا لم يعتقد بالكفر ولا يكفر إلا إذا اعتقده؟
الجواب
هذه الآية وآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وآية (فأولئك هم الفاسقون) نزلت في حق الكفار ولم تنزل في حق المسلمين. إلا أنه لما جاء لفظ ٍ(من) عاماً وهو من ألفاظ العموم، ثم لكونها ختمت الآية بما يفيد العموم فإن ذلك يدل على أنه يدخل فيها المسلمون، فتشملهم ولا تكون من قبيل شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، فإن ما جاء في القرآن مما هو لمن قبلنا إذا وجدت معه قرينة تبين أنه لنا فإنه يكون من شرعنا ولو نزل على أنه من شريعة قبلنا، وهنا جاء التعميم قرينة على أنه لنا نحن المسلمين، كما هو لمن قبلنا، فهو من شرعنا، ولذلك ينطبق على المسلمين كما ينطبق على الكفار. إلا أن كون من يحكم بغير ما أنزل الله من المسلمين لا يكفر إلا إذا اعتقد به وإذا لم يعتقد به لا يكفر، فإن هناك قرائن تدل على أن الاعتقاد بغير ما أنزل الله هو الذي يجعله كافراً لا مجرد الحكم.
فأولاً: إن الآيات الثلاث نزلت في حادثة واحدة فكونه قال: ٍ(فاسقون) وٍ(ظالمون) قرينة تدل على أن قوله: ٍ(كافرون) يراد منه من يعتقد الكفر، فالموضوع واحد وهو الحكم بغير ما أنزل الله والموصوف متعدد وهو الكفر والفسق والظلم، فلا شك أن لكل وصف من هذه الأوصاف الثلاثة حالة تحصل في الموضوع فيوصف حينئذ بها. فالإعتقاد حالة إذا وُجدت مع الحكم بغير ما أنزل الله كان الحاكم كافراً، وإذا لم توجد كان فاسقاً أو ظالماً. فإذا حكم بغير ما أنزل الله غير معتقد به وأعطى ذا الحق حقه كان فاسقاً لأنه حكم بغير ما أنزل الله ولم يكن كافراً ولا ظالماً. وإذا حكم بغير ما أنزل الله ولم يعتقد به ولكنه لم يعط ذا الحق حقه كان فاسقاً وظالماً، فاسقاً لارتكابه معصية بالحكم بغير ما أنزل الله وظالماً لأنه ظلم صاحب الحق. فتعدد الموصوف لموضوع واحد قرينة على أن قوله: ٍ(فأؤلئك هم الكافرون)، أي إذا اعتقد بذلك، ونظيره قول الرسول صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة: ٍ(ومن تركها فقد كفر) ومع ذلك فتارك الصلاة لا يكفر، إلا إذا تركها غير معتقد بوجوبها.
وثانياً: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار وجاءت بعد وصف كفرهم، فالتعميم يكون على مثل هؤلاء لا على جميع الناس، لأن قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مقيدة في الموضوع الذي نزلت به لا عموم ما تنطبق عليه. والموضوع هنا رد الكفار لما أنزل عليهم وعدم حكمهم به فكفروا بذلك؛ أي كفروا بما أُنزل إليهم، فكونهم كفروا بما أُنزل إليهم وحكموا على خلافه معتقدين بما حكموا به فصاروا بذلك كفاراً، فيكون من لم يحكم بغير ما أنزل الله راداً له فإن هؤلاء هم الكافرون، ولا يقال إن الموضوع هنا هو عدم الحكم بما أنزل الله، لأن هذا يخالف الحادثة التي نزلت فيها الآية، فالحادثة نزلت في رد اليهود لرجم الزاني المحصن وحكمهم عليه بخلاف ذلك وهو الجلد، فالموضوع أمران: أحدهما رد ما أنزل الله عليهم لأنهم يرونه غير صالح، والثاني حكمهم بخلافه، ولذلك كان الرد لما أنزل الله شرطاً أساسياً في اعتبارهم كافرين إذا حكموا بغير ما أنزل الله.
وثالثاً: إن الحكم فعل وليس اعتقاداً، والفعل إن كان مخالفاً لما أمر الله به كان معصية ولم يكن كفراً، إلا أن يكون العمل ذاته كفراً. أو ذلك أن العمل إما أن يكون لما أمر الله به من الأحكام أو مخالفاً لما أمر الله به من الاعتقاد، فإن كان مخالفاً ما أمر الله به من الأحكام كان معصية، ولا يكون كفراً إلا إن جاء نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت على أنه كفر، فطاعة الوالدين قد أمرنا بالقيام بها، ولا يتضمن الأمر أمراً بالاعتقاد، ولهذا فإن عاق والديه عاص وليس بكافر، بخلاف السجود لله، فإنه قد أمرنا بالاعتقاد به وأمرنا بالعمل به تبعاً لذلك الاعتقاد، ولهذا لو سجد مسلم للصنم أو صلى بالكنيسة فإنه يكفر، لأن معنى ٍ(لا إله إلا الله) -التي أُمرنا بالاعتقاد بها- لا معبود إلا الله، ومن هنا كان القيام بخلافه كفراً لكن لو كان ترك عمل من أعمال الصلاة كترك القنوت فإنه لا شيء فيه، لو ترك السجود لم تصح صلاته. فمخالفة أوامر الله لا تكون كفراً، إلا إذا كانت مصحوبة بالاعتقاد بعدم صلاحها أو بعدم الاعتقاد بها، فالشرع أمر بالاعتقاد وأمَر بالعمل، ويختلف حكم مخالف الأمر بالاعتقاد عن حكم مخالف الأمر بالعمل، ولمّا كان الحكم بغير ما أنزل الله مخالفاً للأمر بالعمل وليس مخالفاً للأمر بالاعتقاد فقد كان معصية ولم يكن كفراً. على أن واقع الحكم بغير ما أنزل الله ليس عمل كفر، وذلك لسببين، أحدهما: أن الشرع لم يقل عنه إنه كفر ولذلك لا يعتبر عمل كفر، ويؤيد هذا أن معاوية أخذ البيعة ليزيد بالإكراه على مرأى ومسمع من الصحابة، وهو حكم بغير ما أنزل الله، ولا نعلم أن أحداً قال إنه كفر بذلك. والسبب الثاني: هو أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس فرعاً عن عقيدة كالسجود للصنم والصلاة مع النصارى، ولذلك لم يكن عمل كفر، فهو من نوع مخالفة ما أمر الله به وليس من نوع ما أمر بالاعتقاد به، فلو أن حاكماً حابى أحد أقربائه وهو سارق فحكم عليه بالسجن ولم يقطع يده فهذا عاصٍ وليس بكافر، بخلاف ما لو حكم على سارق بالسجن دون القطع راداً حكم القطع معتقداً خطأ قطع اليد وصواب الحكم بالسجن فهذا كافر. فكلا الحاكمين حكم بغير ما أنزل الله وكلا الحكمين حكم بغير ما أنزل الله، ولكن قد فُرِّق بينهما فكان أحدهما عاصياً وكان الآخر كافراً. والتفريق بينهما إنما جاء بالاعتقاد، فلو كان الحكم بغير ما أنزل الله عمل كفر لكان من حكمها واحداً. ولهذا فإن الحكم بغير ما أنزل الله لا يعتبر عمل كفر بل هو عمل كسائر الأعمال التي تعتبر معصية، على أن الحاكم لو حكم بغير ما أنزل الله ولم يعتقد به لأنه ظني الثبوت أو ظني الدلالة لا يكفر، وإنما يكفر إذا كان ما حكم به ولم يعتقد به قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهذا دليل على أن الحكم بغير ما أنزل الله وحده لا يكفر فاعله إلا إذا صحب ذلك الاعتقاد، وكان الاعتقاد برد ما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة.
على أن الحكم بغير ما أنزل الله من قبل الحكام المسلمين يحتمل التأويل فيحتمل أن يكون الحاكم حكم لأنه يرى أنه لا يخالف الإسلام وهذا موجود عند جمهرة المسلمين، أو حكم لأنه يرى أن الإسلام يريد المصلحة وهذا مصلحة المسلمين، أو حكم لأنه لا يستطيع أن يظل على كرسي الحكم لو حكم بالإسلام إما خوفاً من الكفار أو خوفاً من المسلمين لمخالفة الإسلام لمصالحهم في المجتمع الرأسمالي الذي يعيشون فيه كالربا مثلاً أو كإبطال عقد التأمين أو غير ذلك. فهنا يوجد احتمال تأويل العمل فيخرج عن كونه عمل كفر يكفر فاعله. وعليه فإن معنى الآية يكون ومن حكم بغير ما أنزل الله راداً له كما فعل اليهود الذين نزلت في حقهم هذه الآية حين حكموا بغير ما أنزل الله عليهم رادين له غير معتقدين بصلاحه لهم فهو كافر. ومفهوم المخالفة له أن من حكم بغير ما أنزل الله، غير راد له، فليس بكافر. وهذا الرأي في فهم هذه الآية هو رأي كبار المفسرين. قال الطبري في تفسيره: حدثني المثنى قال: حدثنا عبدالله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ٍ(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق، ثم قال ما نصه: فإن قال قائل فإن الله تعالى ذِكره قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بغير ما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟ قيل إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم بكتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم عن سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بغير ما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حُكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي، وقال أبو عبدالله محمد القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ما نصه قوله تعالى: ٍ(ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الكافرون) و(الظالمون) و(الفاسقون) نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم، وعلى هذا المعظَم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه: ومن لم يحكم بما أنزل الله رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قال ابن عباس ومجاهد. فالآية عامة على هذا، قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بغير ما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد إنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفر. وعلى هذا فإن كل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله إذا لم يعتقد بأحكام الكفر راداً القرآن فإنه مسلم قد ارتكب معصية ولا يكفر، أما من حكم بغير ما أنزل الله راداً للقرآن أي لأحكام الإسلام معتقداً بالكفر فهو كافر ولا شك.
22 ربيع الثاني 1381
2/10/1961