المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفرق بين الإيمان والعمل



rajaab
21-09-2005, 06:49 PM
بسم الله الرحمن الرحيم



الفرق بين الإيمان والعمل



مما لا شك فيه أن الغيبيات نوع من المخرج السهل من الضيق والأزمات، بدلاً من تعميق التفكير في الأسباب والمسببات وهو الطريق الصحيح للخروج من الضيق والأزمات. ولقد مرت الأمّة الإسلامية في فترات صعبة كثيرة، وكانت تخرج من الضيق والأزمات بالتفكير المستنير لاجتياز تلك الأزمات، بمعرفة الأسباب والمسببات، وبالتالي التفكير في الأسباب والمسببات، ولكنها في العصر الهابط وما بعده اختلط عليها التفكير من جراء الغشاوات التي غشت العقول وحرفت الأفكار ففشا فيها نوع من الغيبيات أقعدها عن التفكير المستنير فلجأت للغيبيات وسلكت طريق المخرج السهل، فأدى ذلك إلى عدم وجود القدرة لديها لاجتياز الفترات الصعبة، فازدادت الصعوبات وطالت مدة الفترات الصعبة، فوقعت في المحذور إلى أن انهارت.



واختيار المرء للمخرج السهل طبيعي في الإنسان من حيث هو إنسان، ولذلك فإن سلوك المخرج السهل، أياً كان، سواء أكان في الغيبيات أو غيرها، إلاّ أن الغيبيات أشد خطراً على بني الإنسان من أي شيء آخر. ولذلك فإن اللجوء إليها يصيب المقتل ويكون مدمراً للإنسان.



والثغرة التي يدخل منها اللجوء إلى الغيبيات لدى المسلمين هي الإيمان بالقضاء والقدر، واليقين بأن الله هو الذي يخلق كل شيء، ويفعل كل شيء، فكان المخرج السهل أن يتكل المرء على القدر. ذلك أن الأمر مقدر، وأن الله هو الفعال، فلتكن مشيئة الله، وليكن ما أراده الله. هكذا بكل بساطة، يجري القعود عن التفكير بالأسباب والمسببات ويُستسلم للأقدار.



والحقيقة هي أن الله كما قال: (فَلَم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) قد قال: (انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)، وكما قال: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم) قد قال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص). والحقيقة كذلك هي أن الله أراد بنا أشياء وأراد منا أشياء، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا به. فنحن لم نطّلع على قدر الله لأنه مطوي عنا، فلا نعلمه ولا يمكن أن نعلمه، وأما ما أراده منا فقد أمرنا بالقيام به، أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار، وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا، وأراد منا قتال الكفار وقتال البغاة وإن كان يعلم أننا سنُهزم أمامهم، وأراد منا أن نكون دولة واحدة ولو في الأرض كلها وإن كان يعلم أن المسلمين سيكونون دولاً متعددة وأن البقعة الصغيرة ستكون عدة دول، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا وإن كان يعلم أن بأسنا بيننا سيكون شديداً، قال عليه الصلاة والسلام: (سألتُ الله ثلاثاً، فأجابني باثنتين ولم يجبني الثالثة، سألته أن لا يُهلك أمتي بالطاعون فأجابني، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنين (أي القحط) فأجابني، وسألته أن لا يجعل بأس أمتي بينها شديداً فلم يجبني)، فالله حين يأمرنا بشيء لا يعني أنه لم يقدر علينا ضده، وحين ينهانا عن شيء لا يعني أنه لم يكتب علينا خلافه، فنحن لسنا مأمورين بما قدره لنا أو كتبه علينا، وإنما مأمورون بتنفيذ ما يأمرنا به، بغض النظر عما هو مقدر لنا ومكتوب علينا.



والغيبيات هي الاستسلام لما نزعم أنه مقدّر علينا ومكتوب لنا، وعدم القيام بما أُمرنا به من الله. ذلك أن الاستسلام أسهل من تنفيذ الأوامر، والمرء بطبيعته يختار الأسهل الأهون على الأشق الأصعب. لهذا يختار الاستسلام على الاضطلاع بالأشق والأصعب، ويتخذ الإيمان بالقدر تكئة لهذا الاختيار. إن الله أمرنا بالإيمان بالقدر خيره وشره، ولكنه لم يُعلمنا بما قدره لنا وكتبه علينا. بل أمرنا بأوامره ظاهرة، ونهانا عن نواه معينة، أعلمنا بها، وبيّنها لنا. فخلْط الإيمان بما أُمرنا أن نؤمن به، بالأوامر التي أُمرنا بتنفيذها هو الذي يلبس علينا وجه العمل، وكيفية السير. لذلك كان هذا الخلط هو الذي تتسرب إلينا منه الغيبيات، وهو الذي يسهل اتخاذ هذه الغيبيات تكئة لاختيار الأسهل الأهون على الأشق الأصعب. لذلك كان هذا الخلط هو الذي يأتي منه خطر الاستسلام، وخطر القعود عن الأعمال.



صحيح أن الله هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، ولكن الله جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها، وجعل للأشياء قوانين تتشكل بحسبها، وتتحول أو تبقى وفق هذه القوانين. وهو إن كان قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، ولكنه لا يخرقها إلاّ لنبي، ولا ينقضها إلاّ لرسول، فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين، لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم لا يأخذون بأسباب النصر، لأن النصر بدون الأخذ بأسبابه مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل. فكون الله قادر على الشيء لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمّة قادرة عليه، فقدرة الله هي صفة خاصة به، وقدرة العبد خاصة به، ولا علاقة لها بقدرة الله. فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها، وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب. إن الله تعالى يقول: (ولينصُرَن الله من ينصره) أي يقسم بأنه ناصر من ينصره، وهذا نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة. فالإيمان به فرض، وإنكاره كفر، ما في ذلك شك. ولكن خلط هذا الإيمان بالعمل، يُقعِد من ينصر الله عن العمل لأنه سينصره حتماً. فمن ينصر الله قد أمره الله بالعمل مع أنه أعلمه بأنه سينصره، ولكنه في نفس الوقت أمره بالعمل. فاعتماده على وعد الله وعدم قيامه بالعمل، هو عصيان لله وليس نصراً له. فقعوده عن العمل ينفي عنه أنه ينصر الله. ولذلك فإن عدم النصر لمن يدعي أنه ينصر الله ولا يعمل، لا يعني أن الله قد أخلف وعده. بل يعني أن الرجل بعدم قيامه بما أمر الله من اتخاذ أسباب النصر، قد عصى الله، فخرج عن كونه ينصر الله، لأن نصر الله هو القيام بأوامره واجتناب نواهيه، ولذلك فإن الله لن ينصره، ما دام لم ينصر الله بالقيام بما أمره به من الأعمال. فالخلط بين الإيمان بما أُمر بالإيمان به، وبين القيام بما أمره الله به من الأعمال، يؤدي إلى الحرمان مما وعده الله به من جراء القعود وعدم العمل.



وإقامة دولة، أي دولة، في جماعة، أي جماعة، لها قوانين ونواميس، وهي أن تتقبل تلك الجماعة أو الفئة الأقوى فيها للمفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقوم عليها تلك الدولة، وما لم تتقبل تلك المفاهيم والمقاييس لا يمكن أن تقوم فيها الدولة، ولو تسلط عليها متسلطون، وتولى السلطة فيها أقوياء. فالأصل في إقامة الدولة هو تقبل الجماعة أو الفئة الأقوى لتلك المفاهيم والمقاييس والقناعات. فالخطوة الأولى هي المفاهيم والمقاييس والقناعات. هذه هي نواميس الجماعات، وهذه هي قوانين الحكم والسلطان. فهذه القوانين مشاهَدة منظورة، فمحاولة تجاهلها وأخذ السلطة بالقوة والقهر، لا يمكن أن يوجِد الدولة، وإن كان يمكن أن يوجِد المتسلطين إلى حين. وإزالة الدولة المستعمِرة عن البلاد التي تستعمرها لها قوانين ونواميس، وهي أن تكون لدى من يعملون لإزالتها القوة المادية التي تتغلب على قواها المادية، والقوة الفكرية التي تمكنها من إدراك الأحابيل، وإدراك معنى القوة المادية. فما لم توجَد القوة الفكرية والقوة المادية لا يمكن إزالة الدولة المستعمِرة. وانتفاضات الأمم مهما عظمت لا يمكن أن تزيل الاستعمار ولو كان عدو الله. لذلك لا بد من معرفة قوانين ونواميس الله في التسلط والاستعمار. وهكذا كل شيء في الوجود، فالله تعالى قد خلق الوجود، وخلق له قوانين، وخلق الناس، وخلق لعيشهم قوانين. وأمرهم بأوامر ونهاهم عن نواه، فيجب أن لا يخلطوا إيمانهم به بما أمرهم ونهاهم، أي أن لا يخلطوا ما أمرهم بالإيمان به من الأمور بما أمرهم بالقيام به من الأعمال، فهذا الخلط هو الذي يسبب الغيبية ويتخذ تكئة للجوء إليها. فهو لم يأمرهم بالعمل على أنه قادر على خرق القوانين والنواميس، وإنما أمرهم بالإيمان بأنه قادر على كل شيء، وأمرهم بالعمل وفق هذه القوانين والنواميس. وهو أمرهم بالإيمان بوجود الجنة والنار، ووعدهم بالرحمة والغفران، ولكنه لم يأمرهم بالجنة والنار ولا بالعمل بما وعدهم، بل أمرهم بالعمل بما يدخل الجنة ويقي من النار، وأمرهم بعدم الاعتماد على رحمته، فهو رحيم، ولكنه كذلك منتقم، يعاقب العاصي ويثيب الطائع، فيجب أن لا يخلطوا بين ما أمرهم بالإيمان به، وما أمرهم بالعمل فيه. كذلك يجب أن يفرقوا بين ما أمرهم بالإيمان به، وما أمرهم بالعمل فيه.

فالغيبيات كلها تأتي من الخلط بين ما يجب التصديق به تصديقاً جازماً، وبين ما يجب القيام به من الأعمال، فإذا لم يوجَد هذا الخلط لم توجَد الغيبيات، لذلك يجب التفريق بين ما يجب الإيمان به وما يجب العمل فيه، وما لم يحصل هذا التفريق ويُتقى الخلط فإنه ستظل الغيبيات تتسرب إلى النفوس، وستظل الناس تتخذ الغيبيات تكئة للخروج إلى الأسهل الأهون في الضيق والأزمات، ولا سيما في الفترات الصعبة من الحياة.