تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية



حسـن
03-10-2005, 03:26 AM
ومما يقرب المسافة بين الداعين إلى الإسلام في الأمور الخلافية: تجنب القطع في المسائل الاجتهادية، التي تحتمل
وجهين أو رأيين أو أكثر، وكذلك تجنب الإنكار فيها على الآخرين. ولهذا قرر علماؤنا: أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بله أن ينكر على مجتهد.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟

فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم.

وسئل في مقام آخر رحمه الله: عمن ولي أمرا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوز "شركة الأبدان" فهل يجوز له منع الناس من العمل بها؟

فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك. لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.

وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.

ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على "موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه (كتاب الاختلاف) ولكن سمه (كتاب السنة).

ولهذا كان بعض العلماء يقول: اجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا أجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا. وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة، مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره. والتوضؤ من مس الذكر، والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة، وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا، أو جهرا، وترك ذلك، وتنجيس بول ما يوكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم.

وهذا هو موقف الصحابة من القضايا الاجتهادية التي تقبل أكثر من فهم، وأكثر من تفسير:

روي أن عمر رضي الله عنه قضى في المسألة المعروفة باسم (المسألة الحجرية) في الميراث بعدم التشريك بين الأخوة الأشقاء والأخوة الأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى، فقضى فيها بالتشريك، فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا‍! فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم.

وبهذا فسر ابن القيم قول عمر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري "ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".

وروي أن عمر لقي رجلا فقال: ما صنعت ـ يعني في مسألة كانت معروضة للفصل فيها ـ فقال الرجل: قضى علي وزيد بكذا.. فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا.. قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي المشترك.



نقلا عن كتاب: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع و التفرق المذموم
ليوسف القرضاوي