تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ‎ مجموعة من القصص القصيرة الهادفة



_Oni_
08-10-2005, 01:10 PM
أُجـرة الحمـار:jester:

حكم القاضي بمصر بإفلاس رجلٍ كَثُرت ديونُه، فأركبه حماراً وطوَّف به في البلد ليحترز الناس من معاملته بعد ذلك. ‏ ‏ فلما أُنزِل عن الحمار قال له صاحبُ الحمار:‏ ‏ أين أجرةُ الحمار؟‏ ‏ فقال له: يا أبله، فَفِيم كُنّا طول النهار؟! من كتاب "الكشكول" لبهاء الدين العاملي.




إبراهيم الموصلي وزائره الغريب:o
‏ قال المغنـِّي إبراهيم الموصلي: ‏ ‏ استأذنتُ هارون الرشيد في أن يَهَبَ لي في كل أسبوع يومًا أخلو فيه مع جواري، فأذِن لي في يوم الأحد. وقال: ‏ ‏ هو يومٌ أسْتَثـْقـِلُه. ‏ ‏ فلما كان في بعض الآحاد أتيتُ الدارَ فدخلت، وأمرتُ الحجـّابَ ألاّ يأذنوا لأحد عليّ، وأغلقت الأبواب. ‏ ‏ فما هو إلا أن جلست حتى دخل عليَّ شيخ حسنُ السَّمْتِ والهيئة، على رأسه قلنسوة صغيرة، وفي رجله خُفـّان أحمران، وفي يده عصا مُقَمَّعَة بفضـَّة. ‏ ‏ فلما رأيتـُه امتلأتُ غيظـًا، وقلت: ألم آمر الحجـّاب ألا يأذنوا لأحد؟ ثم فكرت وقلت: ‏ ‏ لعلهم علموا من الشيخ ظَرْفًا وهيئة، فأحبوا أن يُؤْنسوني به في هذا اليوم. ‏ ‏ وسلـّم الشيخ، فلما أمرته بالجلوس جلس، وقال: ‏ ‏ يا إبراهيم، ألا تغنّيني صوتـًا؟ ‏ ‏ فامتلأت عليه غيظـًا، ولم أجد إلى ردّه سبيلاً لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة. فأخذتُ العود وضربتُ وغنيت ووضعت العود. ‏ ‏ فقال لي: ‏ ‏ لِمَ قطعت هزارك؟ ‏ ‏ فزادني غيظـًا، وقلت: لا يُسـَيِّدُني ولا يُكَنِّيني ولا يقول أحسنت! فأخذت العود فغنّيت الثانية، فقال لي: ‏ ‏ أحسنت! فكِدْت واللّه أشقّ ثيابي! وغنّيت تمامَ الهزار. فقال: أحسنت يا سيدي! ثم قال: ناولني العود. ‏ ‏ فواللّه لقد أخذه فوضعه في حِجره ثم جَسَّه من غير أن يكون ضَرَب بأَنْمـُلَة، فواللّه لقد خِلْتُ زوال نعمتي في جَسِّه. ‏ ‏ ثم ضرب وغنّى: ‏ وقــد زعمـوا أن المـحبّ إذا دنـا يُمـَلُّ، وأن النـَّأْيَ يُسلي من الوَجـْدِ بكــلٍّ تداوينا فلـم يـُشـْفَ ما بنا ‏ ‏ على أن قربَ الدار خيرٌ من البُعـْدِ ‏ فواللّه لقد خِلـْت كل شيء في الحضرة يتغنّى معه حتى الأبواب والستور والنمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني. ثم قال: ‏ ‏ يا أبا إسحاق! هذا الغناء الماخوريّ، تعلـّمه وعلـِّمه جواريك. ‏ ‏ ثم وضع العود من حِجره وقام إلى الدار، فلم أره. فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة، فسألت الحجّاب عن الرجل، فقالوا لي: ‏ ‏ لم يدخل عليك أحدٌ حتى يخرج. ‏ ‏ فأمرت بدابّتي فأُسْرِجت، وركبت من فوري إلى دار الخليفة، واستأذنت. فلما رآني قال ألم تنصرف آنفـًا على نيّة المقام في منزلك والخلوة بأهلك؟ ‏ ‏ قلت: ‏ ‏ يا سيدي، جئتُ بغريبة. ‏ ‏ وقصصت عليه القصة. فضحك الرشيد حتى رفع الوسائد برجليه. وقال لي: ‏ ‏ كان نديمُك اليوم إبليس يا أبا إسحاق. ودِدتُ أنه لو مَتَّعَنَا بنفسه كما متـَّعك! ‏ من كتاب "جمع الجواهر في المُلـَح والنوادر" للحـُصـْري.

قصة أبي نواس مع شاعر الأندلس:06:
‎ ‏ كان عباس بن ناصح، الشاعر الأندلسي، لا يَقْدم من المشرق قادمٌ إلا سأله عمَّن نَجَمَ هناك في الشعر، حتى أتاه رجل من التجار فأعلمه بظهور أبي نواس، وأنشده من شعره قصيدتين؛ إحداهما قوله: ‏ ‏ جَرَيْتُ مع الصِّبا طَلـْقَ الجُمُوحِ ‏ ‏ والثانية: ‏ ‏ أما ترى الشمس حَلـَّت الحَمَلا ‏ ‏ فقال عباس: ‏ ‏ هذا أشعرُ الجن والإنس. واللّه لا حبسني عنه حابس. ‏ ‏ فتجهَّز إلى المشرق. فلما حلَّ بغداد نزل منزِلة المسافرين، ثم سأل عن منزل أبي نواس، فأُرشـِد إليه، فإذا بقصر على بابه الخـُدَّام. فدخل مع الداخلين، ووجد أبا نواس جالسًا في مقعد نبيل، وحولَه أكثرُ متأدّبي بغداد، يجري بينهم التمثل والكلام في المعاني. فسلّم عباس وجلس حيث انتهى به المجلس، وهو في هيئة السفر. ‏ ‏ فلما كاد المجلس ينقضي، قال له أبو نواس: مَن الرجل؟ ‏ ‏ قال: باغي أدب. ‏ ‏ قال: أهلاً وسهلاً. من أين تكون؟ ‏ ‏ قال: من المغرب الأقصى. وانتسب له إلى قرطبة. ‏ ‏ فقال له: أَتَرْوي من شعر أبي المخشيّ شيئًا؟ ‏ ‏ قال: نعم. ‏ ‏ قال: فانشِدني. ‏ ‏ فأنشده شعره في العمى. فقال أبو نواس: ‏ ‏ هذا الذي طَلَبَتْه الشعراء فَأَضَلَّتْه. أنشـِدني لأبي الأجرب. ‏ ‏ فأنشده. ثم قال: أنشدني لبكْر الكنانيّ. ‏ ‏ فأنشده. ثم قال أبو نواس: ‏ ‏ شاعر البلد اليوم عباسُ بن ناصح؟ ‏ ‏ قال عباس: نعم. ‏ ‏ قال: فأنشِدني له. فأنشده: ‏ ‏ فَأَدْتُ القَريض ومَنْ ذا فَأَدْ ‏ ‏ فقال أبو نواس: أنت عباس؟ ‏ ‏ ‍‍‍‍‍قال: نعم! ‏ ‏ فنهض أبو نواس إليه فاعتنقه إلى نفسه، وانحرف له عن مجلسه. فقال له مَن حضَر المجلس: ‏ ‏ من أين عرفَته أصلحك اللّه؟ ‏ ‏ قال أبو نواس: ‏ ‏ إني تأمّلته عند إنشاده لغيره، فرأيته لا يُبالي ما حدث في الشعر من استحسان أو استقباح. فلما أنشدني لنفسه استَبَنْتُ عليه وَجْمَةً، فقلت: ‏ ‏ إنه صاحبُ الشِّعر! ‏ ‎‎ من كتاب "طبقات النحويين واللغويين" للزُّبيدي الأندلسي.

أحمد بن طولون والصيّاد:reporter:
ركب أحمد بن طولون فاجتاز بشاطئ النيل فوجد عنده شيخًا صيادًا عليه ثوب خلق لا يواريه، ومعه صبي في مثل حاله من العُرْي وقد رمى الشبكة في البحر. ‏ ‏ فرثى لهما أحمد بن طولون، وقال لنسيم الخادم: ‏ ‏ يا نسيم، ادفع إلى هذا الصياد عشرين دينارًا. ‏ ‏ ثم رجع ابن طولون عن الجهة التي كان قصدها واجتاز بموضع الصياد فوجده ملقى على الأرض وقد فارق الدنيا والصبي يبكي ويصيح. فظن ابن طولون أن شخصًا قتله وأخذ الدنانير منه. فوقف بنفسه عليه وسأل الصبي عن خبره فقال الصبي: ‏ ‏ هذا الرجل ـ وأشار إلى نسيم الخادم ـ وضع في يد أبي شيئا ومضى، فلم يزل أبي يقلبه من يمينه إلى شماله ومن شماله إلى يمينه حتى سقط ميتًا. ‏ ‏ فقال ابن طولون لغلمانه: فتشوا الشيخ. ‏ ‏ ففتشوه فوجدوا الدنانير معه. وأراد ابن طولون الصبي على أن يقبض دنانير أبيه إليه فأبى، وقال: ‏ ‏ أخاف أن تقتلني كما قتلت أبي. ‏ ‏ فقال أحمد بن طولون لمن معه: ‏ ‏ الحق معه، فالغِنَى يحتاج إلى تدريج وإلا قَتَل صاحبَه. ‏ من كتاب "سيرة أحمد بن طولون" لابن الدَّاية.


أذان بـــلال:05:
رُوي أن بلالاً رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له:‏ ‏ ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني يا بلال، فانتبه حزيناً وجلا خائفاً، فركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يبكي عنده، ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له:‏ ‏ نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها، فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله، خرجت العواتق من خدورهن وقلن:‏ ‏ أبـُعـِثَ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال:‏ ‏ فما رأيت يوماً أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
أنحـس مركــوب:afraid:
اشترى رجل دابة من دميرة، فوجد بها عيوباً كثيرة، فحضر إلى القاضي يشكو البائع فقال:‏ ‏ أيها القاضي، إني بحكمك راض. اشتريت من هذا الغريم دابة، ادعى فيها الصحة والسلامة، فوجدت بها عيوباً، أعقبتني ندامة. فقال القاضي ما عيوبها؟ فقال:‏ ‏ كلها عيوب وذنوب، وهي أنحس مركوب، إن ركبتها رفست، وإن سقتها رقدت، وإن نزلت عنها شردت، حدباء جرباء. لا تقوم حتى تحمل على الخشب. ولا تنام حتى تكبل بالسلب. إن قربت من الجرار كسرتها. وإن دنت من الصغار رفستهم، وإن دار حولـَها أهل الدار كدمتهم. تمشي في سنة أقل من مسافة يوم، الويل لراكبها إن وثب عليه القوم. متى حملتها لا تنهض، تقرض حبلها، وتجفل من ظلها، ولا تعرف منزل أهلها. حرونة ملعونة مجنونة. تقلع الوتد، وتمرض الجسد، وتفتت الكبد، ولا تركن إلى أحد. واقعة الصدر، محلولة الظهر، عمشاء العينين. قصيرة الرجلين. مقلـَّعة الأضراس. كثيرة النعاس. مشيها قليل، وجسمها نحيل، وراكبها بين الأعزاء ذليل، تجفل من الهوى، وتعثر بالنوى، تحشر صاحبها في كل ضيق. وتنقطع به في الطريق، وتعض ركبة الرفيق. فإن قبلها فأكرم جانبه ولا تحوجني أن أضاربه. فضحك القاضي وحكم برَدّها.



فما جوابك إلا السكـوت:196:
‏ قال أبو الحسن المدائني:‏ ‏ دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مسلم والي خُراسان في مِدْرعَةِ صوف، فقال له:‏ ‏ ما يَدْعُوك إلى لباس هذه؟‏ ‏ فسكت، فقال له قتيبة:‏ ‏ أُكلِّمُك فلا تُجيبني؟‏ ‏ قال: ‏ ‏ أكرهُ أن أقول زُهْداً فأزكِّيَ نفسي، أو أقول فقراً فأشكو ربي، فما جوابك إلا السكوت.


ابن صبيح والفضل بن يحيى:05:
اعتلّ الفضلُ بن يحيى.‏ ‏ فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يـَزد على السلام عليه والدُّعاء له.‏ ‏ ويخفـّف في الجلوس، ثم يلـْقـَى حاجبـَه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه.‏ ‏ وكان غيره يـُطيل الجلوس.‏ ‏ فلما أفاق من علـَّته، قال:‏ ‏ ما عادني في علـّتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح.



بيـت لا فـرش فيه:bigeyes: ‎
قال ابن درّاج الطُّفَيلي: ‏ ‏ مرّت بي جنازة ومعي ابني، ومع الجنازة امرأة تبكي الميت وتقول:‏ ‏ بك يذهبون إلى بيت لا فرش فيه ولا وِطاء، ولا ضيافة ولا غطاء، ولا خبز فيه ولا ماء.‏ ‏ فقال لي ابني:‏ ‏ يا أبة، إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة! ‏ ‏ ‏ ‏


ابن حـزم والجـارية:11:
ألفْتُ في أيام صباي ألفة المحبة جاريةً نشأتْ في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما. وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مليحة الصدود، كثيرة الوقار، لا تُوَجَّه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها. فوجهها جالبٌ كل القلوب، وحالها طاردٌ من أَمَّها. تزدان في المنع والبخل ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل. ‏ ‏ وكانت تحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها وأحببتُها حبًا مفرطًا. وسعيتُ عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، فما وصلتُ من ذلك إلى شيء البتة. ‏ ‏ وأذكر حفلا كان في دارنا تَجَمَّعَت فيه نساء كثيرات، ثم انتقلن إلى مكان في الدار يُشرف على بستاننا وعلى جميع قرطبة وبيوتها. وأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي عنده، أنسًا بقُربها، متعرّضًا للدنو منها، فما هي إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة. فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الانتقال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما كنا فيه، لأنهن كن عددًا كثيرًا. ‏ ‏ ثم نزلن إلى البستان. فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها. فَأمَرتْها، فأخذت العود وسوّته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنُه في عين مستحسنه. ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول: ‏ ليست من الأنس إلا في مناسبة ولا من الجـن إلا في التصـاوير فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة والريـح عنبره، والكل من نـور فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلا يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها. ‏ ‏ ثم انتقل أبي رحمه الله من دارنا بالجانب الشرقي من قرطبة، إلى دارنا القديمة في الجانب الغربي منها. وانتقلتُ أنا بانتقاله، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شُغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتُحِنّا بالاعتقال والمراقبة والغرامات الفادحة و الاستتار. وتوفى أبي الوزير رحمه الله واتّصلت بنا تلك الحال بعده، إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها. ‏ ‏ رأيتها في المأتم وسط نساء في جملة البواكي والنوادب، فأثارت وجدا دفينًا وحرّكتْ ساكنًا، وذكّرتني عهدًا قديمًا وحبًا تليدًا ودهرًا ماضيًا، فجدّدت أحزاني. ‏ ‏ ثم ضرب الدهر ضرباته، وأُجلينا عن منازلنا، وتغلّب علينا جند البربر، فخرجت من قرطبة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام. ثم دخلتُ قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلتُ على بعض نسائنا، فرأيتها هنالك، ولم أميّزها حتى قيل لي هذه فلانة. فإذا هي وقد تغيرت محاسنها، وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وخاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، ولم يبق إلا البعض المُميز من الكل، وذلك لقلة اعتنائها بنفسها، وافتقادها الصيانة التي كانت غذّيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، واضطرارها إلى الخروج فيما لا بدّ لها منه مما كانت تُصان عنه قبل ذلك. وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبناءً متى لم يُصن تهدّم. ‏ ‏ ولو أني كنت قد نلتُ منها أقلّ وصل، أو كانت أنست لي بعض الأنس لطربتُ وفرحتُ لرؤيتها. غير أن ذلك الصد منها هو الذي صبّرني وأسلاني. وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه معذور وغير ملوم، إذا لم تنشأ علاقة توجب الوفاء، ولا وقع عهد يقتضي المحافظة ويُلام المرء على تضييعه ونسيانه.‏ من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم.

ابن حمدون النديم ووزير المعتضد:D
‏ قال عبد اللّه بن حمدون: ‏ ‏ قلتُ للخليفة المعتضد: إِلامَ أُضْحِكُكَ ولا تضحكُني؟ ‏ ‏ قال: خـُذ! وأعطاني دينارًا. ‏ ‏ قلت: خليفة يُجيز نديمَه بدينار واحد؟! ‏ ‏ قال: لا أجد لك في بيت المال حقـّا أكثر من هذا. ولكني أحتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار. ‏ ‏ فقبَّلتُ يده. فقال: ‏ ‏ إذا كان غذًا وجاء القاسم بن عبيد اللّه، أسارّك حين تقع عيني عليه سرارًا طويلاً وألتفتُ إليه كالمُغضَب، وانظُرْ أنت إليه في خلال ذلك نظر المشفق. فإذا انقطع السرار فاخرجْ ولا تبرح الدهليز حتى يخرج. فإذا خرج خاطبك بجميل وسألك عن حالك، فاشك الفقر والحاجة وثقل ظهرك بالدَّين والعيال، وخذ ما يعطيك. فإذا أخذتَها فسيسألك عما جرى فحدّثه بالحديث كله وإيّاك أن تكذبه. وليكن إخبارك إيّاه بذلك بعد امتناع شديد، وبعد أن تأخذ كل ما يعطيك إيّاه. ‏ ‏ فلما كان من غد حضر القاسم. فحين رآه المعتضد بدأ يسارني، وجرت القصة على ما وصفني. فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني. فقال لي: ‏ ‏ يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ ما تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟ ‏ ‏ فاعتذرتُ إليه باتصال الخدمة عليّ، فقال: ‏ ‏ ما تقنعني إلا أن تزورني اليوم. ‏ ‏ فقلت: أنا خادم الوزير. ‏ ‏ ومضيت معه وجعل يسألني عن حالي وأخباري وأشكو إليه الدَّين والبنات، فيتوجَّع ويقول: مالي لك، ولو عرَّفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك. ‏ ‏ وبلغنا داره فصعدنا، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني. وقـُدّمت الفاكهة فجعل يلقمني بيده. ثم وقّع لي بثلاثة آلاف دينار فأخذتها، وأحضرني ثيابًا وطيبًا، .وكانت بين يديّ صينية فضّة وقدح بلور فأمر بحملهما إلى داري وقال: هذا للبنات. ‏ ‏ فلما انفرط المجلس قال: ‏ ‏ يا أبا محمد. أنت عالم بحقوق أبي عليك، ومودتي لك. ‏ ‏ فقلت: أنا خادم الوزير. ‏ ‏ فقال: أريد أن أسألك عن شيء وتحلف أنك تصدقني عنه. ‏ ‏ فقلت: السمع والطاعة. ‏ ‏ قال: بأي شيء سارك الخليفة اليوم في أمري؟ ‏ ‏ فأخبرته بكل ما جرى، وشكرتُه وانصرفت! ‏ من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي.


مالـي ولهــذا:(
‏ لما فرغ عمر بن عبد العزيز، من دفن سليمان بن عبد الملك، سمع للأرض رجة، فإذا مراكب الخلافة، البراذين والخيل والبغال، ولكل دابة سائس.‏ ‏ فقال: ما هذه؟‏ ‏ قالوا: مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قربت إليك لتركبها.‏ ‏ فقال: مالي ولها، نحوها عني، دابتي أوفق لي. ثم لمح صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة.‏ ‏ فقال له تنح عني، مالي ومالك، إنما أنا رجل من المسلمين.‏ ‏ وكان الخليفة إذا مات، فما لبس من الثياب أو مسَّ من الطيب، كان لولده، وما لم يلبس من الثياب وما لم يمس من الطيب، فهو للخليفة بعده.‏ ‏ فلما أن جاء عمر بن عبد العزيز قال له أهل سليمان: هذا لك، وهذا لنا.‏ ‏ فقال لهم: وما هذا وما هذا؟‏ ‏ قالوا: هذا ما لبس الخليفة من الثياب ومسَّ من الطيب، فهو لولده، وما لم يمس ولم يلبس، فهو للخليفة بعده، وهو لك.‏ ‏ فقال عمر: ما هذا لي ولا لسليمان، ولا لكم، ولكن يا مزاحم، ضم هذا كله إلى بيت مال المسلمين.





أبو حنيفة وتلميذه أبو يوسف:vereymad:

‏ مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أستاذه أبو حنيفة مرارًا. فلما صار إليه آخر مرة، رآه ثقيلاً، فاسترجع، ثم قال: لقد كنتُ أُؤَمّله بعدي للمسلمين، ولئن أُصيبَ الناسُ به ليموتَنّ علمٌ كثير. ‏ ‏ ثم رُزق أبو يوسف العافية، وخرج من العِلَّة. فلما أُخبِر بقول أبي حنيفة فيه، ارتفعت نفسُه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسـًا في الفقه، وقصـَّر عن لُزوم مجلس أبي حنيفة. ‏ ‏ وسأل أبو حنيفة عنه فأُخبر أنه عقد لنفسه مجلسًا بعد أن بلغه كلام أستاذه فيه. فدعا أبو حنيفة رجلاً وقال له: ‏ صـِرْ إلى مجلس أبي يوسف، فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قَصَّار ثوبًا ليصبغه بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء، وأنكره. ثم إن صاحب الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مصبوغًا، أَلَه أجرُه؟ فإن قال أبو يوسف: له أجره، فقل له: أخطأت. وإن قال: لا أجرَ له فقل له: أخطأت! ‏ ‏ فصار الرجل إلى أبي يوسف وسأله، فقال أبو يوسف: ‏ ‏ له الأجرة. ‏ ‏ قال الرجل: أخطأت. ‏ ‏ ففكر ساعة، ثم قال: ‏ ‏ لا أجرة له. ‏ ‏ فقال له: أخطأت! ‏ ‏ فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة. فقال له: ‏ ‏ ما جاء بك إلا مسألةُ القصَّار. ‏ ‏ قال: أجل. ‏ ‏ فقال أبو حنيفة: ‏ ‏ سبحان اللّه! من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسًا يتكلم في دين اللّه، لا يُحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟! ‏ ‏ فقال: ‏ ‏ يا أبا حنيفة، علِّمني. ‏ ‏ فقال: ‏ ‏ إنْ صبغه القصار بعدما غَصَبه فلا أجرة له، لأنه صبغ لنفسه، وإن كان صبغه قبل أن يغصبه، فله الأجرة، لأنه صبغه لصاحبه. ‏ ‏ ثم قال: مَن ظن أن يستغني عن التعلُّم فَلْيَبكِ على نفسه. ‏ من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي.


أرجو تقييم الموضوع:biggthump


تحياتي :ciao: :ciao: