Y a z e e d
10-10-2005, 07:16 AM
أيام المرحلة الإعداديّة ، قدم إلى مدرستي مدرّس جديد ، يحضّر ماجستير في الأدب العربي ، كان جميلاً أن نحوز على مدرس كهذا، إذ فور قدومه بدأ تنظيم ندوات طلابيّة جميلة و حلقات نقاش مطوّلة، كانت أحدها عن السفير السعودي في لندن - آنذاك - غازي القصيبي .
أهداني ذاكَ الرائع أعمال القصيبي الكاملة الصادرة عن تهامة وكذلك رواية دنسكو، الأول كان جميلاً في نهايته و يتضح في تحسن و قفز في مستوى القصيبي ، أما الرواية فصدمتني ولم تكن بالمستوى الذي توقعته و كنت ذاك الوقت أقرأ الأدب العالمي فقط ، وبالإنجليزية ولذلك لم أكن معتاداً على السرد بالعربيّة أوثيمتها الخاصّة التي تضاف على أي نص مكتوب بها.
في يومٍ كنت أتجوّل في مكتبة الساقي في لندن، لتقع بين يديَّ " حكايةُ حبّ " ، و " رجلٌ جاء .. وذهب " ، وعدّة كتب أخرى من Queensway ، ذاكَ الشارع الجميل يبدأ بحديقة هادئة على عكس حدائق لندن ، وتنتشر فيه مكتبات عربيّة مكتظة بالكتب العربيّة و المحظورة في البلدان العربيّة خصوصاً.
في حكايةِ حبّ، تفوقَ القصيبي على نفسهِ فكانت الرواية هادئة، حالمة، وتسرق القارئ إلى جوّ الرواية، يعقوب - المريض باللوكيميا - و الكاتب الشهير برواية تلامس الخطوط الحمراء، و البائعة المتزوّجة، و حبّهما ، و حديث يعقوب للممرضات و الجوّ الحالم في المصحّة، باختصار رواية من أجمل ما مرّ علي، أمّا رجلٌ جاءَ .. وذهب ، فكانت أقل جمالاً ولكن بتفصيل أكثر لمغامرات يعقوب و شتاته.
العصفورية، رسالة الغفران الحديثة !، تذكرني استطرادات البروفسور العبقرية باستطرادات المعرّي ، وكلاهما استعراض للموسوعيّة و المعارف المختلفة و نقد للمجتمع بكافة أشكاله - مع فارق المقارنة بين القصيبي و المعري - فأبو العلاء فوق المُزِن عند مقارنته بكلّ الكُتاب الحديثين عموماً.
7 ، سبعة ، هذهِ الأخرى كانت تحتوي نقد لاذع لكلِّ شيء ، السياسيين العرب ، والشعراء، ومدعي الفلسفة و أصحاب البلايين ، وعرّافي لندن ( أثناء تجوّلك في الإجوارد رود يصادفك مراهق عربي يوزّع أوراق إعلان للعرّافة الفلانية صاحبة الكشوف العظيمة ! ) ، المهم أن الروايّة كانت جميلة فكراً وفلسفةً ، و القصيبي كذلك تحدّث بخفّة دم جميلة ورشاقة لغة ( حسناً لا أستطيع مقارنتها بالعصفوريّة مثلاً ، ولكنها كانت جميلة ) الشخصيات السبع : شاعر ، فيلسوف ، طبيب نفسي ، فلكي روحاني ، سياسي ، رجل أعمال و .. و .. نسيت الشخصية السابعة ، الصحفي مسعود ربّما .
شقّة الحريّة ، جاءت في البدء . مختلفة تماماً ، لا تحس فيها أنك تقرأ قصيبي العصفوريّة أو قصيبي أبو شلاّخ الجميل !، كان القصيبي يكتب نفسه في مرحلة معيّنة ، بل و مقسوماً على شخصيّتين ( فؤاد و يعقوب ) مع إضافات كثيرة ، كما ربط الكثير من الشخوص الواقعيّة بالرواية و أحداثها، كانت مملة في بعض أجزائها ، والسرد يهتز أحياناً ( خصوصاً حين يتحدّث عن أولى مغامرات فؤاد النسائيّة ) يقع القصيبي في مصيدة الإيجاز المخلّ، و يغرق في الإسهاب الممل أحياناً ! ، ولا داعي لأذكر أن الحشر المتكرر لقصص فؤاد و عبدالرؤوف ( المطوّلة و السيئة أحياناً ) في الرواية بغير داعٍ في كثيرٍ من المقاطع كان عاملاً سلبياً.
كتب أخرى للقصيبي أعجبتني كثيراً : هُما ، مثلاً ، كانت جميلة جداً ، وبفكرة مميزة فعلاً ، وقد استطاع القصيبي فعلاً فيها أن يسكن في الشخصيتين ( بعكس سبعة مثلاً ، والتي تلاحظ فيها شبهاً في الشخصيّات ، وعميق كذلك ) نقاشات عزيز وعزيزة في الرواية جميلة ، وتدفعك لقلب الصفحات متتابعة دون توقّف، و أعتقد أن الدكتور غازي لو منحها المزيد من الوقت لأخرج لنا أحد أجمل الأعمال العربيّة الحديثة .
شعر القصيبي ، و كيف أتحدث عنه ؟ ، غازي صافٍ في شعرهِ كالبلّور ، منهمرٌ كالمطر ، جلّيٌ و واضح المعنى كطلعة الفجر، في الواقع.. القصيبي من أجمل شعراء العربيّة ( وشعراء العربيّة هم الأفضل عالمياً بطبيعة الحال )، بكلّ تأكيد لا يوازي غازي نزار ، أو المتنبي ،أو السيّاب ، إلا أن الجميل في غازي ، أنه كان الروائي ، و الشاعر ، و السياسي ، والأكاديمي ، والدبلوماسي .. وتطول القائمة. و نجح فيها جميعاً دون أدنى استثناء !، وهذا ما يعكس شخصية عبقريّة استطاعت أن تحكم هذا الشتات بكلّ تفانٍ ، حياة في الإدارة - مثلاً - كان الأجمل عربيّاً في مجال الإدارة ( ليست السياسيّة و التجاريّة فحسب ) بل في شتّى مجالات الحياة.
أمنيتي الأخيرة .. أن ينتهي غازي أديباً ، أن يدع السياسة لأهلها فالسياسة تموت ، وغازي خُلقَ ليخلد، لو كرّس غازي نفسه للأدب ، لربّما وُلد شكسبير للعربيّة أوحد لا يقاربه أحد. وهوَ بلا شك منارة لهذا البلد، و صورة ثقافيّة خالدة ، سنبقى نتبختر بها ما طال الزمان.
ــــ
ثرثرة شخص يريد النوم ، والنوم لا يريده .. ذهب السبب و بطل الحديث ، أحسّه يطرق عليَّ بإصرار ، "يخاف إنّي أحوس الدعوة زود !"
يزيد
أهداني ذاكَ الرائع أعمال القصيبي الكاملة الصادرة عن تهامة وكذلك رواية دنسكو، الأول كان جميلاً في نهايته و يتضح في تحسن و قفز في مستوى القصيبي ، أما الرواية فصدمتني ولم تكن بالمستوى الذي توقعته و كنت ذاك الوقت أقرأ الأدب العالمي فقط ، وبالإنجليزية ولذلك لم أكن معتاداً على السرد بالعربيّة أوثيمتها الخاصّة التي تضاف على أي نص مكتوب بها.
في يومٍ كنت أتجوّل في مكتبة الساقي في لندن، لتقع بين يديَّ " حكايةُ حبّ " ، و " رجلٌ جاء .. وذهب " ، وعدّة كتب أخرى من Queensway ، ذاكَ الشارع الجميل يبدأ بحديقة هادئة على عكس حدائق لندن ، وتنتشر فيه مكتبات عربيّة مكتظة بالكتب العربيّة و المحظورة في البلدان العربيّة خصوصاً.
في حكايةِ حبّ، تفوقَ القصيبي على نفسهِ فكانت الرواية هادئة، حالمة، وتسرق القارئ إلى جوّ الرواية، يعقوب - المريض باللوكيميا - و الكاتب الشهير برواية تلامس الخطوط الحمراء، و البائعة المتزوّجة، و حبّهما ، و حديث يعقوب للممرضات و الجوّ الحالم في المصحّة، باختصار رواية من أجمل ما مرّ علي، أمّا رجلٌ جاءَ .. وذهب ، فكانت أقل جمالاً ولكن بتفصيل أكثر لمغامرات يعقوب و شتاته.
العصفورية، رسالة الغفران الحديثة !، تذكرني استطرادات البروفسور العبقرية باستطرادات المعرّي ، وكلاهما استعراض للموسوعيّة و المعارف المختلفة و نقد للمجتمع بكافة أشكاله - مع فارق المقارنة بين القصيبي و المعري - فأبو العلاء فوق المُزِن عند مقارنته بكلّ الكُتاب الحديثين عموماً.
7 ، سبعة ، هذهِ الأخرى كانت تحتوي نقد لاذع لكلِّ شيء ، السياسيين العرب ، والشعراء، ومدعي الفلسفة و أصحاب البلايين ، وعرّافي لندن ( أثناء تجوّلك في الإجوارد رود يصادفك مراهق عربي يوزّع أوراق إعلان للعرّافة الفلانية صاحبة الكشوف العظيمة ! ) ، المهم أن الروايّة كانت جميلة فكراً وفلسفةً ، و القصيبي كذلك تحدّث بخفّة دم جميلة ورشاقة لغة ( حسناً لا أستطيع مقارنتها بالعصفوريّة مثلاً ، ولكنها كانت جميلة ) الشخصيات السبع : شاعر ، فيلسوف ، طبيب نفسي ، فلكي روحاني ، سياسي ، رجل أعمال و .. و .. نسيت الشخصية السابعة ، الصحفي مسعود ربّما .
شقّة الحريّة ، جاءت في البدء . مختلفة تماماً ، لا تحس فيها أنك تقرأ قصيبي العصفوريّة أو قصيبي أبو شلاّخ الجميل !، كان القصيبي يكتب نفسه في مرحلة معيّنة ، بل و مقسوماً على شخصيّتين ( فؤاد و يعقوب ) مع إضافات كثيرة ، كما ربط الكثير من الشخوص الواقعيّة بالرواية و أحداثها، كانت مملة في بعض أجزائها ، والسرد يهتز أحياناً ( خصوصاً حين يتحدّث عن أولى مغامرات فؤاد النسائيّة ) يقع القصيبي في مصيدة الإيجاز المخلّ، و يغرق في الإسهاب الممل أحياناً ! ، ولا داعي لأذكر أن الحشر المتكرر لقصص فؤاد و عبدالرؤوف ( المطوّلة و السيئة أحياناً ) في الرواية بغير داعٍ في كثيرٍ من المقاطع كان عاملاً سلبياً.
كتب أخرى للقصيبي أعجبتني كثيراً : هُما ، مثلاً ، كانت جميلة جداً ، وبفكرة مميزة فعلاً ، وقد استطاع القصيبي فعلاً فيها أن يسكن في الشخصيتين ( بعكس سبعة مثلاً ، والتي تلاحظ فيها شبهاً في الشخصيّات ، وعميق كذلك ) نقاشات عزيز وعزيزة في الرواية جميلة ، وتدفعك لقلب الصفحات متتابعة دون توقّف، و أعتقد أن الدكتور غازي لو منحها المزيد من الوقت لأخرج لنا أحد أجمل الأعمال العربيّة الحديثة .
شعر القصيبي ، و كيف أتحدث عنه ؟ ، غازي صافٍ في شعرهِ كالبلّور ، منهمرٌ كالمطر ، جلّيٌ و واضح المعنى كطلعة الفجر، في الواقع.. القصيبي من أجمل شعراء العربيّة ( وشعراء العربيّة هم الأفضل عالمياً بطبيعة الحال )، بكلّ تأكيد لا يوازي غازي نزار ، أو المتنبي ،أو السيّاب ، إلا أن الجميل في غازي ، أنه كان الروائي ، و الشاعر ، و السياسي ، والأكاديمي ، والدبلوماسي .. وتطول القائمة. و نجح فيها جميعاً دون أدنى استثناء !، وهذا ما يعكس شخصية عبقريّة استطاعت أن تحكم هذا الشتات بكلّ تفانٍ ، حياة في الإدارة - مثلاً - كان الأجمل عربيّاً في مجال الإدارة ( ليست السياسيّة و التجاريّة فحسب ) بل في شتّى مجالات الحياة.
أمنيتي الأخيرة .. أن ينتهي غازي أديباً ، أن يدع السياسة لأهلها فالسياسة تموت ، وغازي خُلقَ ليخلد، لو كرّس غازي نفسه للأدب ، لربّما وُلد شكسبير للعربيّة أوحد لا يقاربه أحد. وهوَ بلا شك منارة لهذا البلد، و صورة ثقافيّة خالدة ، سنبقى نتبختر بها ما طال الزمان.
ــــ
ثرثرة شخص يريد النوم ، والنوم لا يريده .. ذهب السبب و بطل الحديث ، أحسّه يطرق عليَّ بإصرار ، "يخاف إنّي أحوس الدعوة زود !"
يزيد