المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [ سراديبُ العزلة ]



Y a z e e d
20-10-2005, 11:31 AM
http://tn3-1.deviantart.com/fs8/300W/i/2005/287/1/9/Interview_with_Bleuz_by_kea_etc.jpg


كم أحببت تلكَ الأرضَ، أتيتُ إليها وليداً أو دونَ ذلكَ فقد وُلدتُ خديجاً لسبعةِ أشهر، كنتُ أسكنُ الشامَ أرضاً، وكانتِ الشامُ تسكنُ قلبي.. حينَ أداهمُ أبي بخواطري و رغباتي بالبقاءِ في هذهِ الأرضِ يأخذُ بالحديثِ عن أرضَ يثربَ الموعودة ، وعن نصوص الصحائفِ التي تعدُّ برجلِ الفصلِ في واحةٍ بين حرّتينِ، ولا أعلمُ شيئاً بتلكَ الأرضِ لي سوى أمٍّ أشقتها الحياةُ بينَ قومها، و أحاديثُ متواترةٌ عن قبائلَ ثلاثَ مِنّا ، هجرتَ الشامَ الخضراء إلى مكانٍ في عمقِ الصحراء لأجلٍ آمالٍ ساذجة، حسناً لا أكترثُ بهذا كلّهُ، فكلّ ما أراهُ رقاعٌ صفراءَ، ونصوص خاوية من المعاني يتناقلها الأحبارُ عن بعضهم، لا أكترثُ بحكايات موسى وعجائبهِ التي لم أرها، ولا بفرعون الذي استحيى أحد جدّاتي البعيدات ( هل أكون إذن من نسلِ فِرعون ؟! )، لا أكترث بأمورٍ لا أعلمُ عنها سوى موروثات مجرّدة، وأحاديثَ وطقوسَ غامضة مجوّفة لا أرى فيها قداسةً ولا ارتقاءَ روح، أوهامٌ فحسبْ، كلّ ما أعلمهُ، أنّي من هذا المكان.

كانَ شابٌ متوسطُ العمرِ -ربّما يكبرني ببضعِ أعوام- يأتي غداةً في أيامٍ معدودةٍ من السنة، فينكبُ في حديثٍ مع أبي حتى العِشيِ ويمضي إلى الجنوبِ، كان مقدمهُ الأخيرُ مختلفاً، إذ أن الارتباكَ كانَ على وجههِ بادياً جليّاً، وقد انتقلَ هذا إلى أبي، والذي أخذَ هوَ الآخر يحدثهُ حديثاً لا أفهمهُ، كانا يتجادلان بعنفٍ، حتى أشارَ عليهِ أبي بالانصرافِ، والتفتَ عليَّ طالباً منّي تجهيزَ عُدّةَ السفرِ .. إلى الجنوبِ، كانَ غامضاً ولمْ يحدثني عن الأسباب، و اكتفى بأنصافِ كلماتٍ يبترها ويهمهم بالبقيّة لنفسهِ وينتقل إلى الصراخِ عليَّ أن أُعجّلَ في الاستعدادِ.

الأحدُ كانَ موعدَ مسيرنا، وقد اصطفت القافلةٌ أمامِ أورشليمَ بانتظامَ وفيها يهودٌ كثر أعرفُ بعضهم، وبعضهم يبدونَ مألوفين، كانَ حبرُ أورشليمَ الأعظمُ "أيوبَ" واقفاً معهم، وهوَ من سلالةِ يهوذا ، سلالةِ المُلكِ المفقودِ، ودائماً ما يتحدثُ عنهُ أبي بإجلالٍ جلّيٍ وتقديرٍ بادٍ، و كيفَ أنّهُ تغلّب على عقدةِ سلالتهِ في البحثِ عن المُلْكِ التائه، وانضمَ إلى سلكِ الدين و القداسة.

كانَ الطريقُ طويلاً ، وتوقفنا كثيراً، وقد طوت الطريقَ حكايات أبي، عن طفولته في يثرب أول نزوح اليهود إليها ، وعن مغامراتهِ الصبيانيّة، واكتشفتُ تطابقاً عظيماً بيني وبين أبي -العظيمِ في عينيَّ وقتها- وحدثني عمّا دفعَ القبيلة لنفيهِ و إبعاده و حديثُ دخولهم على سكّانِ يثربَ المتحاربين، و عن فرسانهم و أيامهم، وعن أرضِ العرب، ومبادئهم ، وحياتهم ، وفروقها العظيمة عن الشام و أهلها. انسلَ إلى نفسيَ بعضُ الاحترام لتلكَ القبائل. حدثني عن الرجل الجديد في يثرب وعن جلائهِ لأهلنا إلى خيبر، وكيف أنّه لم يتبقَ إلا بنو قريظةَ في يثرب. و نَقْعُ معركة عشواء في الأفق يهدد وجودنا، وعلى القبيلة أن تختارَ موقفها، بسرعة، وسريّة وسوفَ نصلُ و المعركة قد قامت أو ربّما انتهتْ.

حينَ قَدِمنا إلى يثربَ، كان الليلُ قد أرخى سدولهُ، ولمعتْ النجومِ جواهراً على ليل الصحراء الحالم، استقبلنا أهلها بحفاوة، وتلقفتنا البيوتُ و المضيّفون، لم يكن الجوُّ مشوباً بشائبةٍ لحظتها. كانَ تعبٌ غامض يسكن وجوهَ أهلَ هذا الحصنِ الصغير.

عندَ خروجي بعدها بساعةٍ كانت السماء شهباءَ اللون، دكنت معالمها، والقمرُ استحالَ قرطاساً أصفراً بتفاصيلَ مشوّهة. هبّت رياحُ عاتيّة ليلتها، عظيمة، لمْ أرى مثلها بحياتي، كانت السماءُ تصرخُ، والكواكب تهوي، وأصواتٌ من البعيدْ تتردد في ألم، كانَ الموتى من بين أيدينا و من خلفنا يهمسُ في آذانا حيناً ويصرخُ آخراً بشكلٍ مريعْ، هربتُ إلى فراشي. اجتمعَ الرجال عندَ مضيفِ أبي، وأخذوا يتحدثون بريبةٍ وخوف، وانفضّوا إلى شؤونهم، وعلى كلٍّ منهم قلقٌ لا يخفى.

عندَ الفجرِ، بقيت الأبوابُ مغلقةً ولمْ يفتحها الحرس، وكان كل شيءٍ هادئاً و يدور بيسرٍ، و أخذت أتجولُ في تلكَ البيئة الغريبة، لمْ أكنْ أعرفها، ولا تعرفني، بيوتهم مختلفة، رجالهم مختلفون، و الصبية كذلك، ولمْ أرى الكثيرَ منهم بطبيعة الحالِ حتى العصر، سمعتُ هاتفاً يصرخُ من بطنِ الوادي ، وارتعدَ القومُ ، كانت الأحداثُ مختلطة وسريعة، أحدهم يدخل ويحاورهم ساعةً ويشير إلى رقبته، أبي يتحدث عن مذبحة عظيمة، والقومُ في وصبٍ و نصب، فلمْ يَنم أيٌّ منهم بعد عاصفة البارحة. بعدها دخلوا في نقاشٍ طويل، ومن ثمَ وقف أحدهم في القومِ خطيباً، وفُتحت البواباتُ، وخرجوا جميعاً.

لحقتُ بهم، ولمْ أدخل مع الجمعِ، بل تسلّقتُ نخلةً على تلّةٍ وأخذتُ أرقبُ ما يحدث باهتمام، اصطفَ رجالٌ آخرونَ بعدّةِ حربهم ، وعلى رأسهم رجلٌ على سيماهُ حكمةُ الأحبار، ورزانةُ الكهنة، وهدوءٌ آخرَ ، لا أفهمهُ ولمْ أرى لهُ شبيهاً. كانَ ينظرُ نظرةً فيها من الغضبِ ما لا تحملهُ صواعقُ السماءِ، و بعد ساعةٍ من الوقوفِ بلا حديثٍ، أتوا برجلٍ على حمارٍ، لحيتهُ سوداءُ مخضّبةٌ بماء أو شيءٍ ما، وعلى يدهِ دماءٌ تقطرُ.. وفي عينيهِ بريقُ الموتِ.

تحدثوا ساعةً، وارتجفَ الرجالُ وكأن الأرضَ قد خُسفت بهم، واخذَ الرجلٌ الواقفُ على رأسٍ القوم بالإشارة إلى السماء ببهجة و الحديث و التبسم للقادم الجديد ، أخذَ الغرباء بتكبيل القوم ، وحفرِ شيءٍ ما على الأرضِ لا أميّزهُ ، أحدهم انتزعَ أمّي من بين النساء وهي تصرخُ، مع ساعدها ومضى ولم يكمل معهم، أمسك أحدهم بمضيف أبي ، و أبي ، و على الأرضِ ألقوا بهمْ ، قربَ الحفرةِ ، كان تسارعُ الأمور عظيماً، هوتْ سيوفٌ و تطايرتُ رؤوسٌ و انتثرت دماء، كان أبي يرتعدُ بشدّةٍ عظيمةٍ .. بلا رأس.

انكبّت عليَّ السماءُ ، و الأرضُ انشقّت بصدعٍ وابتلعتني، فلمْ أعدُ أدركُ ماضياً من حاضرٍ أو أمساً من غدٍ من أمسِ غدٍ، كان الحسُّ مختلطاً، وموطئي من الأرضُ يضمحلُ تحتَ أقدامي، وتلكَ الصحراءُ الصامتة انفرجت عن أغلالٍ تقيّدني بتلكَ الأرضِ. هربتُ، و مخالبُ الموتِ على عُنُقي ، لا أفهم ! ، بالأمس فقط أتينا ، واليوم انتهى إلى الموتِ أمرنا، بفراقِ روحٍ كما فعلوا، أو بخوضٍ .. في سراديبِ العزلة الذاهلة..كما أفعلُ.

Kubaj
20-10-2005, 07:50 PM
مسكة.. مابعدها من مسكة.

Darkness withiN
20-10-2005, 08:24 PM
السـلام عليكم ورحمة الله وبركاتـه

مساء الخير..أسعد الإله مساءكم بكـل خير


--


بعد حوار ونقاش مع كاتب الموضوع..بعد إذن منه أريد توضيح أمور حتى لايتهجم أحد على الكاتب.. لإنه سيغيب أسبوعاً تقريباً:




1-الموضوع لايعبر بالضرورة عن رأي الكاتب



2-مصدر القصة هو عطية القرظي أحد اليهود الذين كانوا هناك وأسلم بعدها




3-مجال القصة هو الإرتباط بكاتب معين..من حيث الأفكار وغيره..يعني تلبس فكر الكاتب فالموضوع لايعدو عن كونه تصوير ونقل لرؤية كاتب



4-المصادر الأخرى للقصة بوجهة نظر إسلامية وحقائق تاريخية موثقة هي:


محاضرة وقصة للداعية عائض القرني بأسلوب مشوق (http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=11671)




كتب السير..مثل زاد المعاد ورحلة إبن خلدون وغيرها




كتاب أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم للكاتب محمد خالد ثابت




-عبارة عن كتاب يروي قصص عدد من الصحابة بأسلوب دقيق وأدبي شائق جداً تنطق فيه البلاغة والفصاحة مع جمال الصور والتشبيهات-




--




-أستودعكم الله على أمل اللقاء-

احلامو ادوماتو
23-10-2005, 06:00 PM
جميل

قدرتك الخروج عن ذاتك لوصف الحالة النفسية و الفكرية بشكل انساني بلا غبش من آرائك الشخصية ، مذهلة حقيقة ...

فكرت انك تكتب رواية ؟؟؟

(آسف على تأخر الرد ، ثلاث أيام أقرى فيها ، و الآن فقط امتلكت الشجاعة للرد :))

دمت بود :arabchatr

ثريول
24-10-2005, 12:46 PM
العزيز / يزيد,

عرفت منك وجهة نظرك في سياق الحكاية وروايتها من مصدرها, وهي وجهة نظر أحترمها وإن كنت لا أراها مناسبة وغير مناسبة تحديداً مع الوقوف الفجائي في نهاية القصّة. أرى أنه من الخطأ الاهتمام برؤية الحدث بهذه الصورة المشحونة بالبراءة في شخصيَّة القصّة وذويه القادمين من الشام, فلو أمسك قاصٌ يهودي ملامح القصة وزاد فيها, لكانت خير موضوع يتناوله سبيليرج أو رومان بولانسكي!. ثم إن النهاية غير مقنعة وغير مكملة لسير الأحداث في قصة الصحابي الجليل "عطيّة القرضي" , وكان من الممكن إضافة لمحات لما بعد الحدث.

كما قلت, لك رأي في النظر للأمر أحترمه وأختلف معه, وأتفق مع الكثيرين غيري أن القصة جزلة اللفظ فخمة البناء, بديعة الشكل لطيفة الأجواء, تشم منها وبها وفيها رائحة الإبل والصحراء.. فشكراً ألف شكرٍ على هذا العطاء :).