المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حوار



حكماوي
29-12-2005, 12:25 PM
جمع عدته وأخرج أوراقه، حين اختمرت الفكرة في دماغه ليصبها على الورق، أغلق عليه باب مكتبه، بعدما نامت الزوجة والأولاد، وضع فنجان القهوة السوداء على حافة المكتب، أشعل سيجارته المفضلة، وإن كانت زوجه تمنع عليه التدخين في حجرة النوم أو حجرة الأولاد.

حدد الشخوص والأحداث ووزع الأدوار، ولم يبق إلا تحريك الممثلين على مسرح الورق، الحجرة يلفها سكون الأموات إلا من رنين الحاسوب الذي يتركة مشغلا دائما، وخشخشة الورق. قد يكسر سكون الليل صوت محرك سيارة في الشارع البعيد، أو أحد معربدي آخر الليل يسب ويلعن أعداء مجهولين.

شرع في كتابة قصته وخص الجزء الأول منها للبطل الذي سماه أحمد، أسكنه براكة في حي قصديري، جعل له زوجة ونصف دزينة من الأولاد والبنات، وعملا بسيطا، أعياه التجوال بين المعامل والشركات بحثا عن عمل قار يعيل به الأفواه الجائعة. لم يتم الوصف بعد حتى وصلت رسالة على بريده الإلكتروني، شعر أن يدا عابثة اقتحمت موقعه المحصن، ومازالت تتجول فيه بكل حرية.

ضغط على الأزرار ليربط الاتصال بالمتجسس:

- من تكون أيها الجاسوس الذي اقتحم موقعي؟ وكيف دخلت بدون استئذان؟

- أنا صديقك وبطلك أحمد، أرسلني شخوص قصتك لأحاورك من أجل تحسين وضعيتنا داخل كتاباتك. لا أسألك عملا أعول به تلك الأفواه الجائعة التي كتبت علي أن أعيلها، لا أستجديك. بل أدافع عن حقي في العيش الكريم، أنا وكل المقهورين المستغلين في القصص والروايات.

- لا يمكن أن تكون أحمد بطل قصتي، فهو رجل أمي، عامل بسيط، يحصل بالكاد على قوت عياله، وأنت متمرن على الإبحار في عالم الأنترنيت، واقتحام المواقع لا يقدر عليه إلا الهاكرز المحترفون.

- تسألني كيف اقتحمت موقعك ولا تسأل كيف دخلت مخيلتك قبل أن أدخل الموقع؟ ما الأصعب اقتحام موقع على الشبكة أم اقتحام مخيلة؟ إنك أنت الذي خلقتني وزرعت في الروح وجعلتني أتجول في مخيلتك. تلومني أني هاجمت موقعك المحصن وتجسست عليك واطلعت على أشيائك الحميمة، لكني لم أنشرها على الناس كما تفعل أنت وأمثالك، بل سترتك، أما أنت فجاسوس ومغتاب ونمام، ألم تطلع الناس على كل عيوبي، ولم تترك خصلة ذميمة إلا وألصقتها بي، كما تنقل أقوالي وأفعالي لكل الناس، وتسترزق من نقل عيوبي للناس.

- يالك من ضيف وقح! تقول إني اختلقتك، وتعاملني بهذه الوقاحة.

- قل لي بربك ألا تحسن إلا الحديث عن البؤساء والمقهورين وتعريهم أمام الملأ؟ تسكنني براكة وتزوجني وتعطيني نصف دزينة من الصبيان لا أستطيع إعالتهم، أليس هذا ظلما منك؟ أم أن مخيلتك لا تتسع للقصور والفيلات، أم أن الفقر الذي يسكنك هو الذي يملي عليك هذا الكلام؟

اصفر وجهه وارتعدت يداه وهو يتابع الكلمات على الشاشة، توقف لبعض الوقت، أشعل سيجارة ثانية، رشف من فنجان القهوة بشفتين مرتعشتين حتى سقطت نقط من السائل الأسود على المنامة، تلمس الأزرار ليجيب هذا الضيف الوقح.

- أولا أنا لم أكتب قصتك بعد، ولم يطلع عليها أحد، ومازلت مشروعا في مخيلتي.

- ولهذا قدمت إليك لتغير مجرى القصة قبل أن يطلع عليها الناس، ويتم استنساخي أنا والآخرين.

- كيف تتحدث عن عملية استنساخك مع الآخرين، ونحن لسنا في مختبر تجارب؟

- اسمع يا مختلقنا أنا أحمد الذي تتصور في مخيلتك، نسخة واحدة، لكن بمجرد أن يقرأ الآخرون القصة أصبح من النسخ بعدد القراء، فكل قاىء يتصورني رجلا آخر غير الذي رسمت أنت في مخيلتك، أليس هذا استنساخا؟

- ومن أعطاك صفة الكلام باسم الآخرين؟ ألست أنا الذي اختلقك في مخيلتي كما تعترف، وأستطيع أن أفعل بك ما أشاء، وأمحيك من الوجود؟

- لا تكن عنيفا، وهدىء من روعك، أعلم أنك بدأت تفقد أعصابك، ويبدو ذلك من كثرة الأخطاء التي بدأت تظهر في كتابتك، أنا أقرأ أفكارك قبل أن تنقلها على الحاسوب. ثم إني أتكلم بصفتي مكلفا من مكتب نقابة المقهورين في القصة القصيرة والرواية، ولولا إلحاح جميع الأعضاء على محاورتك والوصول إلى حل، لانسحبت وقمنا بإضراب غير محدود عن التعامل معك، وتوقفت الكتابة لديك، أليس باستغلالنا تتكسب؟ تخلقنا وتفعل بنا ما تشاء، وتنشر عيوبنا، لتلهية القراء. إنها مصلحة مشتركة بيننا، نحن نعيش داخل قصصك وأنت تعيش من إيراداتها.

أصبحت اللعبة أكثر تسلية، وخف عنه التردد والخوف، وظهر له أنه أصبح الأقوى في هذا الحوار، فواصل معقبا:

- ها نحن دخلنا السياسة من بابها الواسع، تهددونني بالإضراب لتتوقف الكتابة، سأسحقكم وآتي بآخرين خيرا منكم ويكونون طوع بناني. ولتذهبوا إلى الجحيم. فالأرض مليئة بالسوقة والرعاع والمنبوذين والمتسولين، ولا يكلفني الأمر سوى خربشات ويظهر آخرون.

- عجبا لك تتصرف مثل واقعكم، تظن أنك قادر على تغيير نظرتنا، سينضم أشخاصك الذين تنوي اختلاقهم إلى نقابتنا بمجرد التفكير في الموضوع، وستؤدي لنا خدمة بانضمام أفراد آخرين، وسينقلبون عليك مثلنا، إذا لم تهتم بهم مثلنا.

- ما رأيك لو غيرت واقعك من عامل بسيط يسكن كوخا إلى مستشار أو نائب برلماني، وأسكنتك فيلا واسعة، ويصبح لديك خدم، وسائق خاص، وحصانة برلمانية تأكل بها عباد الله، ورصيد في البنك؟ لن تؤدي فاتورة الماء ولا الكهرباء، ولا الهاتف؟

- والمقابل؟ أتنصل من مسؤوليتي طبعا، ,أخون الأمانة التي وضعت في عنقي؟ أعمل هذا مع ناس من واقعك، أما نحن فمستحيل أن يقع هذا بيننا أو حتى أن نفكر فيه. ثم إذا أصبحت كما تدعي فسأنتقل من قطاع المقهورين إلى قطار الأثرياء، وستصبح قصتك مثل الأفلام الهندية التي تنتهي نهاية سعيدة بزواج البطل بالبطلة. هذا مستحيل، وكما يقول إخواننا المصريون: اللي يبص الفوق يتعب.

- وهل للأغنياء قطاع داخل نقابتكم؟ وما هي مطالبهم؟ ألم نجعلهم يملكون كل شيء، بدون مشاكل؟

- هذا ما يبدو لك من أول وهلة، فهم لهم مشاكلهم وإن اختلفت عنا، مشاكل مع الأولاد، مع بعضكم أنتم. إنهم أشبه بالممثل الذي يقوم بدور السلطان ولا يملك قوت يومه. دائما تفكرون في شراء الذمم، والبحث عن الخونة والمتعاونين معكم.

ابتعد عن الأزرار والشاشة إلى أوراقه يفكر في الخروج من الورطة التي وضعه فيها بطله. أطفأ الحاسوب، وشرع في الكتابة، متناسيا الإضراب اللامحدود لنقابة المقهورين في القصة والرواية حتى يستشير محاميه.

حكماوي عبد الرزاق سلا، ماي 2002