المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغزو الفكري ساعد على طمس أحكام الطريقة:



rajaab
31-12-2005, 10:44 PM
الغزو الفكري ساعد على طمس أحكام الطريقة:

فمن حيث الواقع نرى أن المسلمين قد تعرضوا لغزو فكري هائل نجح فيه الكفار الغربيون في إبعاد المسلمين عن الفهم الصحيح للإسلام. وصار المسلمون بنتيجته يؤولون الإسلام بما يتفق والقواعد الفكرية الغربية المنبثقة من عقيدة فصل الدين عن الحياة. هذا الأمر سهّل على الغرب أن يقوم بخطوته التالية وهي إقصاء الإسلام عن حياة المسلمين بهدم الخلافة الإسلامية وتمزيقها إلى ما يزيد عن أربع وأربعين دولة مستقلة استقلالاً صورياً. ثم نصب على كل دولة حاكماً تابعاً له، كان قد صنعه على عينه ليكون ناطوراً يحافظ له على خيرات البلاد، ويمنع أي عمل مخلص يقضي على مكتسباته. ووضع له الأنظمة، وسخر أجهزة الإعلام للدعاوة لأفكاره، ووضع مناهج التعليم لكي يضمن نشوء أجيال من أبناء جلدتنا تابعين فكرياً له ... كل هذا وغيره مكّن الكفار من المسلمين ومن استمرار إبعاد الإسلام عن الواقع.

وكان جراء هذا أن اختلط على المسلمين الحق والباطل. فصارت أفكارهم متأثرة بالفكر الغربي، وحياتهم قائمة على الطراز الغربي حيث أخذت النفعية تتحكم بنظرتهم للحياة. وصارت مشاعرهم خليطاً من المشاعر الروحية والوطنية والقومية ، فانقطعت الأواصر بين شعوبهم. وصار المسلمون يخضعون لأنظمة الكفر ولا يرون بأساً إذا لم يكن لهم دولة إسلامية . وبذلك اقتصر الإسلام على بعض الأحكام الشرعية الفردية، وبعض الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية، وبعبارة أخرى صارت حياة المسلمين شبيهة بحياة الغربيين من حيث فصل الدين عن الحياة. فزاد تعلق المسلمين بالأرض وقل تطلعهم إلى السماء.

وكان من نتيجة هذا، أن وقعت سنة الله، التي لا تحابي أحداً، على المسلمين ، فصارت معيشتهم ضنكاً فيها الفقر، والظلم، والحرمان، والجهل في أمور الدين والدنيا، والأخلاق السيئة، والعلاقات الفاسدة …

وتجاه هذا الواقع، على الجماعة أن تميّز بين المرض الأساسي وبين عوارضه، فمن لم يميِّز كأن يعتبر أن الفقر هو علة العلل أو أنها الأخلاق السيئة أو أنه الجهل ... فإنه سيخرج إلى المسلمين بعمل جزئي يتناول عارضاً من أعراض المرض، وليس المرض الأساسي. ومن يدرس الواقع دراسة دقيقة عميقة يتبين له أن غياب الدولة الإسلامية كان هو السبب الذي أدى إلى غياب الإسلام غياباً تاماً عن حياة المسلمين، وضياعهم، وتحكم الكفار فيهم، وتفشي كل هذه العوارض فيهم من جهل وفقر وظلم ... ولإعادة الإسلام منفَّذاً في واقع حياة المسلمين، على الجماعة أن تدرك أنه يجب تحويل الدار من دار كفر يعيش فيها المسلمون اليوم إلى دار إسلام يخضع فيها المسلمون لأحكام الإسلام جميعها، من غير استثناء. وأنه يجب تحويل المجتمع الحاضر من مجتمع غير إسلامي إلى مجتمع إسلامي يؤمن أفراده بأفكار الإسلام وتلتقي مشاعرهم عليه، ويحكمون ويتحاكمون لأنظمة الإسلام فيوجد بعدها الإسلام كاملاً.

وبهذا تكون قد وضحت الغاية. وهي العمل على إيجاد دار الإسلام، وإقامة الدولة الإسلامية على العقيدة الإسلامية المنبثقة عنها أنظمتُها، والتي يعيش المسلمون في كنفها حياة إسلامية قائمة على الالتزام بأوامر الله ونواهيه.

وبعد أن تحدد الجماعة الغاية ، يمكنها أن تنتقل إلى بحث الطريق الشرعية التي يجب سلوكها، والأعمال الشرعية التي يجب التقيد بها لبلوغ هذه الغاية. ولمعرفة ذلك لا بد من الرجوع إلى الفترة التي كان يعيش فيها الرسول r في مكة حيث كانت الدار دار كفر، وكانت دعوة الرسول r تشق طريقها للظهور، لتقتبس منها الجماعة معالم الطريق وأعمالها ومراحلها.

الطريقة اليوم هي طريقة الرسول r نفسها:

ومن هنا ، فإن على الجماعة أن تدرس ما قام به الرسول r من أعمال أدت إلى قيام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة . نعم إن خطوات الطريق تؤخذ من الرسول r، والدعوة تعرف أحكامها من تلك الفترة، وتشق طريقها بصبر وأناة بالرغم من كل الصعاب. فسنّة الدعوات الحقّة لا يشذّ عنها أحد. وهي كما قال ورقة بن نوفل للرسول r حين بدء نزول الوحي إليه: "لتكذبنه، ولتؤذينّه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنه" فقال له الرسول r: «أو مخرجيَّ هم» قال له ورقة: ما أتى قبلك من رسول إلاّ وقد أخرجه قومه. ويقول تعالى: ]وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ[.

فطريقة العمل هي نفس طريقة الرسول r، فقد عاش في مكة وهي دار كفر. وقام بأعمال مقصودة أدت به إلى إيجاد دار الإسلام في المدينة. وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة، حيث أقيمت الدولة الإسلامية، حركة الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وهنا يرد سؤال: هل يعني كلامنا هذا أنه يجب أن تمر الدعوة اليوم في مرحلتين: مرحلة مكية ومرحلة مدنية، كما كانت زمن الرسول r؟.

والجواب على ذلك أنه زمن الرسول r مرت الدعوة في مرحلتين:

1 – مرحلة مكية نزلت فيها على الرسول r أكثر آيات العقائد وقليل من آيات الأحكام. ولم يكن المسلم مكلفاً فيها بأكثر مما نزل. وكان الرسول r مأموراً فيها بالصفح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وبالكف عن استعمال السلاح ، والصبر على احتمال الأذى.

2 – ومرحلة مدنية نزلت فيها على الرسول r باقي آيات العقائد واكتمل فيها نزول الأحكام. وكان الرسول r مأموراً فيها بإقامة أحكام الإسلام ، وإنزال العقوبات، وإعلان الجهاد وفتح البلاد، ورعاية شؤون العباد. وفي هذه المرحلة صار المسلم مسؤولاً عن الإسلام كله.

واليوم نحن مسؤولون عن الإسلام كله سواء ما نزل منه في مكة أو في المدينة. وأي تقصير في أي حكم يحاسب المسلم عليه. فأحكام الطلاق والزواج وأحكام البيع والجهاد، وأحكام الصيام والحج، وأحكام العقوبات والبينات وأحكام الأراضي والملكيات، إلى آخر ما هنالك من الأحكام التي نزلت في المدينة صار المسلم مسؤولاً عنها. ولكنْ هناك أحكام أُنيطَ تنفيذها بخليفة المسلمين فلا يستطيع الفرد القيام بها، وذلك كأحكام العقوبات على الإجمال، وأحكام جهاد المبادأة لنشر الدعوة، وأحكام ملكية الدولة وأحكام الخلافة. وهناك أحكام لم تُنَطْ بالخليفة، وعلى المسلم أن يلتزم بها في كل الأحوال، ويحاسب على تقصيره، سواء ما نزل منها في مكة، وما نزل في المدينة. حتى أن الإسلام أوجب الهجرة على المسلم من البلد الذي لا يستطيع القيام بالأحكام الفردية فيه، يقول تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً @ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً@ فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً[.

وعلى هذا فإنه لا يصح تسمية مرحلة مكية ومرحلة مدنية في وضعنا اليوم. ولكن نأخذ ونتأسى بما فعله الرسول r وهو في مكة فقط فيما يتعلق بمراحل سيره في الدعوة والأعمال التي قام بها وأدت إلى إيجاد دار الإسلام. وهذا فيما يتعلق بالعمل لإقامة دار الإسلام وتبقى الأحكام الفردية مطلوبة من المسلم يقوم بها سواء كان في دار الكفر أو في دار الإسلام.

rajaab
31-12-2005, 10:48 PM
كيفية إقامة دار

الإسلام

والآن نعود إلى تحديد الأعمال المطلوبة شرعاً، والمراحل التي يجب السير بحسبها لإقامة دار الإسلام.

ولنقسم البحث قسمين:

قسم نتناول فيه منهج الرسول r في التغيير.

وقسم نتناول فيه منهج الجماعة أو الحزب في العمل للتغيير وذلك بعد التأسي بمنهج الرسول r .



دور التثقيف في زمنه r:

حين بُعِث r صار يدعو الناس، فآمن به من آمن، وكفر من كفر، حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتحدث الناس به. وكان يطوف على الناس في أول أمره في منازلهم. ويدعو الناس للإسلام في مكة جهراً. امتثالاً لقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ @ قُمْ فَأَنذِرْ[ ويكتلهم على أساس هذا الدين سراً. لذلك كان أصحابه يستخفون في صلاتهم في الشعاب من قومهم. وكان يرسل لمن يدخل في الإسلام جديداً مَنْ يعلمه القرآن: فقد أرسل خَبّاب بن الأَرَتّ ليعلم زينب بنت الخطاب وزوجها سعيداً القرآن في بيت سعيد. وهي الحَلْقة التي أسلم على يدها سيدنا عمر. واتخذ دار الأرقم مركزاً للكتلة المؤمنة، ومدرسة لهذه الدعوة الجديدة. حيث كان يقرئهم فيها القرآن ويأمرهم باستظهاره وفهمه. وظل النبي r يخفي أمره ويستتر به، ويكتل معه من يؤمن به، ويعلمه سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى نزل قوله تعالى: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ... [.

وكان r يدعو في أول أمره من أنس فيه الاستعداد لقبول هذه الدعوة. بغض النَظر عن سنه ومكانته، وبغض النظر عن جنسه وأصله. فتكتل معه على هذا الأمر نيّف وأربعون شخصاً، حتى أُمِرَ بإظهار دينه، ما بين رجل وامرأة من مختلف البيئات والأعمار. وأكثرهم من صغار الشباب. وكان فيهم الضعيف والقوي والغني والفقير.

ولما نضج هؤلاء الصحابة في ثقافتهم، وتكونت عقليتهم وصارت عقلية إسلامية، وأصبحت نفسيتهم نفسية إسلامية. واطمأن الرسول r إلى أنّ كتلته صارت كتلة قوية قادرة على مجابهة المجتمع كله أظهرها حين أمره الله .

وكان أمر الدعوة الإسلامية ظاهراً من أول يوم بعث به. فكان الناس في مكة يعرفون أن محمداً r يدعو لدين جديد ويعرفون أنه أسلم معه كثيرون، ويعرفون أن محمداً r يكتل أصحابه ويسهر عليهم، ويعرفون أن المسلمين يستخفون عن الناس في تكتلهم وفي اعتناقهم الدين الجديد. وكانت هذه المعرفة تشعر أن الناس كانوا يحسون بالدعوة الجديدة، ويحسون بوجود المؤمنين بها وان كانوا لا يعرفون أين يجتمعون. ومن هم هؤلاء الذين يجتمعون من المؤمنين، ولم يكن إعلان الرسول r للإسلام شيئاً جديداً. إنما كان الشيء الجديد هو ظهور هذه الكتلة المؤمنة.

وعندما نزل على الرسول r قوله تعالى: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ @ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ @ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[ أظهر الرسول r الدعوة وجهر بها، وانتقل بذلك من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان، ومن دور الاتصال بمن يأنس فيهم الاستعداد إلى دور مخاطبة الناس جميعاً. وبدأ الاصطدام بين الإيمان والكفر وبدأ الاحتكاك بين الأفكار الصحيحة وبين الأفكار الفاسدة. وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التفاعل والكفاح. وهي أشد ما عرف روعة في العصور جميعها. فقد كان منزل الرسول r يرجم. وكانت أم جميل زوجة أبي لهب تلقي النجس أمام بيته، وكان يكتفي بأن يزيله. وكان أبو جهل يلقي عليه رحم الشاة مذبوحة ضحية للأصنام فيحتمل الأذى، ولا يزيده ذلك إلا إصراراً وصبراً على الدعوة. وكان المسلمون يُهدَّدون ويؤذَوْن. ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. فهذا بلال وهذا عمار وأمه وأبوه وغيرهم الكثير يعطون أروع الأمثلة في الصبر والمعاناة والتحمل.

لم يُعْنَ الكفار بدعوة الرسول r أول الأمر لظنهم أن حديثه لن يزيد عن حديث الرهبان والحكماء. وأن الناس سيرجعون إلى دين آبائهم، لذلك لم ينفروا منه ولم ينكروا عليه. وكانوا إذا مرَّ في مجالسهم يقولون: هذا ابن عبد المطلب يكلّم من السماء. ولكن لما بادأهم الرسول r وتصدى لهم بأن ذكر آلهتهم وعابهم، وسفه أحلامهم، وضلل آباءهم ناصبوه العداوة وأجمعوا على خلافه وعداوته ومحاربته.

فأرادوا الحطَّ من شأنه بتكذيبه فيما يزعم من نبوته. فسألوه عن معجزاته بأسلوب تهكمي لاذع، ويقولون: ما بال محمد لا يحيل الصفا والمروة ذهباً، ولا ينزل عليه كتاب مخطوط من السماء، ولماذا لا يظهر عليهم جبريل، ولماذا لا يحيي الموتى ... ويطول بهم اللجاج، ويبقى الرسول r على دعوته الناس إلى أمر ربه. واستعملوا جميع الطرق لإرجاعه عن دعوته، فمن التعذيب لأتْباعه إلى الإشاعات إلى المقاطعة إلى غيرها من الأساليب التي لم تزد الرسول r إلا اعتصاماً بحبل الله وتمسكاً، وحماسة في الدعوة.

وبلغت أخبارُ الرسول r وتحمُّلهُ القبائلَ فذاع أَمر الدعوة، وصار ذكر الإسلام يفشو في الجزيرة، وتتحدث به الركبان. ولم يكن يتاح للمسلمين أن يختلطوا بالناس ويتحدثوا إليهم إلا في الأشهر الحرم حيث كان ينزل الرسول r إلى الكعبة ويدعو العرب إلى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عذابه وعقابه.

دور التفاعل في زمنه r:

كان اصطدام قريش بالدعوة أمراً طبيعياً لأن الرسول r أظهر الكتلة، وحمل الدعوة سافرة متحدية. فالدعوة تَحْمِلُ بذاتها كفاح قريش والمجتمع في مكة. فقد كانت تدعو لتوحيد الله وعبادته وحده، وخلع ما دونه، والإقلاع عن النظام الفاسد الذي يعيشونه، فكان يعيب آلهتهم ويندد بحياتهم الرخيصة، وينعي على وسائل عيشهم الظالمة، ويهاجمهم بالحق ويهاجمونه بالدعاوات والإشاعات الكاذبة. وكان يدعو بكل صراحة لا يكني ولا يلين ولا يستكين ولا يحابي ولا يداهن، رُغْمَ كل ما لاقاه من صنوف الأذى والتكذيب والتشريد والإشاعة والمقاطعة. وقد استطاع الرسول r أن يصل إلى الناس، وأخذ الإسلام ينتشر.

ولما حدث أن توفي عمه وزوجه واشتد أذى قريش عليه خرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة، ويرجو إسلامهم، ولكنهم ردوه شر رد. فصار لا يستطيع دخول مكة إلا بجوار. ودخل يومها بجوار المطعم بن عدي . فازدادت قريشٌ أذىً لرسول الله r. وشددت النكير عليه ، وأخذت تمنع الناس من الاستماع إليه، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة، وجعل يعرض نفسه في المواسم على القبائل يدعوهم إلى الإسلام ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدّقوه، وكان عمه أبو لهب يتعرض له بالتكذيب، ويحرض الناس حتى لا يستمعوا إليه، فأثر ذلك عليهم وانصرفوا عن سماعه، فأتى كِنْدة في منازلها، وكلباً وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، فلم يسمع له أحد، وكان بعضهم يرده رداً قبيحاً. ومما زاد من إعراض القبائل عن الرسول r أنهم كانوا يرون أن قريشاً تجعل كل نصير له عدواً لها وعوْناً عليها، فزاد الإعراض عنه من الناس كأفراد ومن القبائل، وزادت عزلة الرسول r وصارت الدعوة صعبة في مكة وما حولها، وظهر المجتمع المكي في جمود الكفر والعناد. وعندما اشتد إيذاء الصحابة جاء عبد الرحمن بن عوف مع بعض أصحابه يستأذن الرسول r باستعمال السلاح وقالوا: "يا نبيّ الله، كنّا في عِزّة ونحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّة"، فمنعهم الرسول r بقوله: «إني أُمِرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا القوم» [رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم].

وبهذا يكون الرسول r قد سار في مكة في دورين متتاليين:

- دور التعليم والتثقيف والإعداد الفكري والروحي وهو دور فهم الأفكار وتجسيدها في أشخاص وتكتلهم حولها.

- ودور نشر الدعوة والكفاح، وهو دور نقل الأفكار إلى قوة دافعة في المجتمع تدفعه لأن يطبقها في معترك الحياة فتؤمن بها الجماهير وتفهمها وتحملها وتكافح في سبيل تطبيقها.

أما الدور الأول فهو دور دعوة الناس إلى الإسلام وتثقيفهم بأفكاره وتلقينهم أحكامه، وتكتيل من يستطيع التكتل على أساس العقيدة الإسلامية، وهو دور التكتل السري في الدعوة حيث كان الرسول r لا يفتر عن الدعوة ويدأب على تثقيف من يدخلون في الإسلام بالأفكار ويجمعهم في دار الأرقم، ويتكتلون، ويزداد كل يوم إيمانهم، وتزداد كل يوم صِلاتهم ببعضهم، ويزداد إدراكهم لحقيقة المهمة التي يحملونها، فيستعدون للتضحية في سبيلها، حتى غُرِست هذه الدعوة في نفوسهم، وسرى الإسلام فيهم سريان الدم في عُروقِهم، فصاروا إسلاماً يمشي على الطريق. وبذلك لم تستطع الدعوة أن تبقى حبيسة في نفوسهم رغم استخفائهم ورغم سرية تكتلهم والحرص على إخفاء تجمعهم، فأخذوا يتحدثون إلى من يثقون بهم وإلى من يأنسون منهم استعداداً لقبول الدعوة. وبهذا أحس الناس على دعوتهم وعلى وجودهم، فاجتازت الدعوة بذلك نقطة الابتداء وصار لا بد أن تنطلق، ووجدت المحاولات لانطلاقها ومخاطبة الناس جميعاً بها. وبذلك انتهى الدور الأول. وهو دور التكتل السري والتثقيف الذي يبني هذا التكتل.

ثم بدأ دور آخر هو دور التفاعل والكفاح، بإفهام الناس الإسلام فيتجاوبون معه ويقبلون عليه، فيختلط بنفوسهم أو يردونه ويحملون عليه، فيصطدمون بأفكاره. ويحصل من هذا الاصطدام أن يُهزم الكفر والفساد ويستقر الإيمان والصلاح وينتصر الفكر الصحيح. وهكذا بدأ التفاعل، وبدأ فيه الكفاح بين فكر وفكر، بين مسلمين وكافرين، بدأ حين صار الرسول r ينشر الدعوة على الناس كافة جهاراً نهاراً سافراً متحدياً. وصارت الآيات تنزل على الرسول r في الدعوة إلى التوحيد والحملة على أفكار الوثنية والشرك، والنعي على تقليد الآباء والأجداد من غير نظر، وصارت تنزل في الحملة على المعاملات الفاسدة فتهاجم التجارة الفاسدة والغش في الكيل والميزان. وصار الرسول r يتحدث إلى الناس جماعات ويطلب إليهم أن يسلموا وأن يؤازروه، وتزداد الخصومة بين قريش والنبي r، وصارت تجمع الدعوة إلى التثقيف المركز، بالحلقات في البيوت وفي الشعاب، وفي دار الأرقم، تثقيفاً جماعياً، وتنتقل من دعوة من يؤنس فيه الخير إلى دعوة الناس جميعاً. فكان لهذه الدعوة الجماعية والتثقيف الجماعي أثر على قريش، إذ ازداد حقدها، وأحست بالخطر يقترب منها، وبدأت تتخذ الخطوات الجدية للمقاومة بعد أن كانت لا تأبه لمحمد r ولا لدعوته؛ فيزداد الأذى والاضطهاد. ولكن كان لهذه الدعوة الجماعية أثر في الدعوة نفسها. فقد أسمعت الناس جميعاً كلمة الإسلام وانتشرت الدعوة إلى دين الله بين أهل مكة، ودخل الناس في الإسلام رجالاً ونساءاً. وكان للدعوة الجماعية أثر نقلها إلى أفق أوسع، وان كان نَقَلَ حَمَلَتَها إلى المشقة والعذاب وتحمل صنوف الأذى. وكان يزيد النار اشتعالاً في نفوس زعماء قريش مهاجمةُ الرسول r للظلم والقسوة والاستعباد الذي كان يسود مكة، وكشفه لأحوال الكفار وأعمالهم. وكانت مرحلة من أشق المراحل على الرسول r وصحابته.

ولئن كان الانتقال من دور الثقافة إلى دور التفاعل هو من أدق الأدوار، لأنه يحتاج إلى حكمة وصبر ودقة في التصرف. فإن دور التفاعل هو من أشق الأدوار، لأنه يحتاج إلى جرأة وصراحة وتحدٍ دون أن يحسب للنتائج والأوضاع أي حساب، وتحصل فيه فتنة المسلمين عن دينهم. ويظهر فيه الإيمان وقوة الاحتمال، ويظهر ما في النفس من صدق اللقاء.

هكذا سار الرسول r مع صحابته يتحملون الأذى والظلم والإرهاق؛ فكان منهم من هاجر إلى الحبشة فراراً بدينه؛ ومنهم من مات تحت التعذيب، ومنهم من احتمل. واستمروا على ذلك مدة كافية لتحويل مجتمع مكة، ولكن شدة الأذى هي التي حالت دون ذلك. وصار العرب وكثير من الناس يقفون موقف المتفرج، ولم يتقدموا خطوة نحو الإيمان، لأنهم كانوا يسعون لعدم إغضاب قريش. وصار العمل للانتقال إلى دور ثالث وهو دور تطبيق الإسلام خارج مكة حيث راح الرسول r يطلب النصرة والمنعة من القبائل حتى يستطيع أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم

rajaab
31-12-2005, 10:52 PM
كيفية إقامة دار

الإسلام

والآن نعود إلى تحديد الأعمال المطلوبة شرعاً، والمراحل التي يجب السير بحسبها لإقامة دار الإسلام.

ولنقسم البحث قسمين:

قسم نتناول فيه منهج الرسول r في التغيير.

وقسم نتناول فيه منهج الجماعة أو الحزب في العمل للتغيير وذلك بعد التأسي بمنهج الرسول r .



دور التثقيف في زمنه r:

حين بُعِث r صار يدعو الناس، فآمن به من آمن، وكفر من كفر، حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتحدث الناس به. وكان يطوف على الناس في أول أمره في منازلهم. ويدعو الناس للإسلام في مكة جهراً. امتثالاً لقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ @ قُمْ فَأَنذِرْ[ ويكتلهم على أساس هذا الدين سراً. لذلك كان أصحابه يستخفون في صلاتهم في الشعاب من قومهم. وكان يرسل لمن يدخل في الإسلام جديداً مَنْ يعلمه القرآن: فقد أرسل خَبّاب بن الأَرَتّ ليعلم زينب بنت الخطاب وزوجها سعيداً القرآن في بيت سعيد. وهي الحَلْقة التي أسلم على يدها سيدنا عمر. واتخذ دار الأرقم مركزاً للكتلة المؤمنة، ومدرسة لهذه الدعوة الجديدة. حيث كان يقرئهم فيها القرآن ويأمرهم باستظهاره وفهمه. وظل النبي r يخفي أمره ويستتر به، ويكتل معه من يؤمن به، ويعلمه سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى نزل قوله تعالى: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ...[.

وكان r يدعو في أول أمره من أنس فيه الاستعداد لقبول هذه الدعوة. بغض النَظر عن سنه ومكانته، وبغض النظر عن جنسه وأصله. فتكتل معه على هذا الأمر نيّف وأربعون شخصاً، حتى أُمِرَ بإظهار دينه، ما بين رجل وامرأة من مختلف البيئات والأعمار. وأكثرهم من صغار الشباب. وكان فيهم الضعيف والقوي والغني والفقير.

ولما نضج هؤلاء الصحابة في ثقافتهم، وتكونت عقليتهم وصارت عقلية إسلامية، وأصبحت نفسيتهم نفسية إسلامية. واطمأن الرسول r إلى أنّ كتلته صارت كتلة قوية قادرة على مجابهة المجتمع كله أظهرها حين أمره الله .

وكان أمر الدعوة الإسلامية ظاهراً من أول يوم بعث به. فكان الناس في مكة يعرفون أن محمداً r يدعو لدين جديد ويعرفون أنه أسلم معه كثيرون، ويعرفون أن محمداً r يكتل أصحابه ويسهر عليهم، ويعرفون أن المسلمين يستخفون عن الناس في تكتلهم وفي اعتناقهم الدين الجديد. وكانت هذه المعرفة تشعر أن الناس كانوا يحسون بالدعوة الجديدة، ويحسون بوجود المؤمنين بها وان كانوا لا يعرفون أين يجتمعون. ومن هم هؤلاء الذين يجتمعون من المؤمنين، ولم يكن إعلان الرسول r للإسلام شيئاً جديداً. إنما كان الشيء الجديد هو ظهور هذه الكتلة المؤمنة.

وعندما نزل على الرسول r قوله تعالى: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ @ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ @ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[ أظهر الرسول r الدعوة وجهر بها، وانتقل بذلك من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان، ومن دور الاتصال بمن يأنس فيهم الاستعداد إلى دور مخاطبة الناس جميعاً. وبدأ الاصطدام بين الإيمان والكفر وبدأ الاحتكاك بين الأفكار الصحيحة وبين الأفكار الفاسدة. وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التفاعل والكفاح. وهي أشد ما عرف روعة في العصور جميعها. فقد كان منزل الرسول r يرجم. وكانت أم جميل زوجة أبي لهب تلقي النجس أمام بيته، وكان يكتفي بأن يزيله. وكان أبو جهل يلقي عليه رحم الشاة مذبوحة ضحية للأصنام فيحتمل الأذى، ولا يزيده ذلك إلا إصراراً وصبراً على الدعوة. وكان المسلمون يُهدَّدون ويؤذَوْن. ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. فهذا بلال وهذا عمار وأمه وأبوه وغيرهم الكثير يعطون أروع الأمثلة في الصبر والمعاناة والتحمل.

لم يُعْنَ الكفار بدعوة الرسول r أول الأمر لظنهم أن حديثه لن يزيد عن حديث الرهبان والحكماء. وأن الناس سيرجعون إلى دين آبائهم، لذلك لم ينفروا منه ولم ينكروا عليه. وكانوا إذا مرَّ في مجالسهم يقولون: هذا ابن عبد المطلب يكلّم من السماء. ولكن لما بادأهم الرسول r وتصدى لهم بأن ذكر آلهتهم وعابهم، وسفه أحلامهم، وضلل آباءهم ناصبوه العداوة وأجمعوا على خلافه وعداوته ومحاربته.

فأرادوا الحطَّ من شأنه بتكذيبه فيما يزعم من نبوته. فسألوه عن معجزاته بأسلوب تهكمي لاذع، ويقولون: ما بال محمد لا يحيل الصفا والمروة ذهباً، ولا ينزل عليه كتاب مخطوط من السماء، ولماذا لا يظهر عليهم جبريل، ولماذا لا يحيي الموتى ... ويطول بهم اللجاج، ويبقى الرسول r على دعوته الناس إلى أمر ربه. واستعملوا جميع الطرق لإرجاعه عن دعوته، فمن التعذيب لأتْباعه إلى الإشاعات إلى المقاطعة إلى غيرها من الأساليب التي لم تزد الرسول r إلا اعتصاماً بحبل الله وتمسكاً، وحماسة في الدعوة.

وبلغت أخبارُ الرسول r وتحمُّلهُ القبائلَ فذاع أَمر الدعوة، وصار ذكر الإسلام يفشو في الجزيرة، وتتحدث به الركبان. ولم يكن يتاح للمسلمين أن يختلطوا بالناس ويتحدثوا إليهم إلا في الأشهر الحرم حيث كان ينزل الرسول r إلى الكعبة ويدعو العرب إلى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عذابه وعقابه.

دور التفاعل في زمنه r:

كان اصطدام قريش بالدعوة أمراً طبيعياً لأن الرسول r أظهر الكتلة، وحمل الدعوة سافرة متحدية. فالدعوة تَحْمِلُ بذاتها كفاح قريش والمجتمع في مكة. فقد كانت تدعو لتوحيد الله وعبادته وحده، وخلع ما دونه، والإقلاع عن النظام الفاسد الذي يعيشونه، فكان يعيب آلهتهم ويندد بحياتهم الرخيصة، وينعي على وسائل عيشهم الظالمة، ويهاجمهم بالحق ويهاجمونه بالدعاوات والإشاعات الكاذبة. وكان يدعو بكل صراحة لا يكني ولا يلين ولا يستكين ولا يحابي ولا يداهن، رُغْمَ كل ما لاقاه من صنوف الأذى والتكذيب والتشريد والإشاعة والمقاطعة. وقد استطاع الرسول r أن يصل إلى الناس، وأخذ الإسلام ينتشر.

ولما حدث أن توفي عمه وزوجه واشتد أذى قريش عليه خرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة، ويرجو إسلامهم، ولكنهم ردوه شر رد. فصار لا يستطيع دخول مكة إلا بجوار. ودخل يومها بجوار المطعم بن عدي . فازدادت قريشٌ أذىً لرسول الله r. وشددت النكير عليه ، وأخذت تمنع الناس من الاستماع إليه، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة، وجعل يعرض نفسه في المواسم على القبائل يدعوهم إلى الإسلام ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدّقوه، وكان عمه أبو لهب يتعرض له بالتكذيب، ويحرض الناس حتى لا يستمعوا إليه، فأثر ذلك عليهم وانصرفوا عن سماعه، فأتى كِنْدة في منازلها، وكلباً وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، فلم يسمع له أحد، وكان بعضهم يرده رداً قبيحاً. ومما زاد من إعراض القبائل عن الرسول r أنهم كانوا يرون أن قريشاً تجعل كل نصير له عدواً لها وعوْناً عليها، فزاد الإعراض عنه من الناس كأفراد ومن القبائل، وزادت عزلة الرسول r وصارت الدعوة صعبة في مكة وما حولها، وظهر المجتمع المكي في جمود الكفر والعناد. وعندما اشتد إيذاء الصحابة جاء عبد الرحمن بن عوف مع بعض أصحابه يستأذن الرسول r باستعمال السلاح وقالوا: "يا نبيّ الله، كنّا في عِزّة ونحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّة"، فمنعهم الرسول r بقوله: «إني أُمِرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا القوم» [رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم].

وبهذا يكون الرسول r قد سار في مكة في دورين متتاليين:

- دور التعليم والتثقيف والإعداد الفكري والروحي وهو دور فهم الأفكار وتجسيدها في أشخاص وتكتلهم حولها.

- ودور نشر الدعوة والكفاح، وهو دور نقل الأفكار إلى قوة دافعة في المجتمع تدفعه لأن يطبقها في معترك الحياة فتؤمن بها الجماهير وتفهمها وتحملها وتكافح في سبيل تطبيقها.

أما الدور الأول فهو دور دعوة الناس إلى الإسلام وتثقيفهم بأفكاره وتلقينهم أحكامه، وتكتيل من يستطيع التكتل على أساس العقيدة الإسلامية، وهو دور التكتل السري في الدعوة حيث كان الرسول r لا يفتر عن الدعوة ويدأب على تثقيف من يدخلون في الإسلام بالأفكار ويجمعهم في دار الأرقم، ويتكتلون، ويزداد كل يوم إيمانهم، وتزداد كل يوم صِلاتهم ببعضهم، ويزداد إدراكهم لحقيقة المهمة التي يحملونها، فيستعدون للتضحية في سبيلها، حتى غُرِست هذه الدعوة في نفوسهم، وسرى الإسلام فيهم سريان الدم في عُروقِهم، فصاروا إسلاماً يمشي على الطريق. وبذلك لم تستطع الدعوة أن تبقى حبيسة في نفوسهم رغم استخفائهم ورغم سرية تكتلهم والحرص على إخفاء تجمعهم، فأخذوا يتحدثون إلى من يثقون بهم وإلى من يأنسون منهم استعداداً لقبول الدعوة. وبهذا أحس الناس على دعوتهم وعلى وجودهم، فاجتازت الدعوة بذلك نقطة الابتداء وصار لا بد أن تنطلق، ووجدت المحاولات لانطلاقها ومخاطبة الناس جميعاً بها. وبذلك انتهى الدور الأول. وهو دور التكتل السري والتثقيف الذي يبني هذا التكتل.

ثم بدأ دور آخر هو دور التفاعل والكفاح، بإفهام الناس الإسلام فيتجاوبون معه ويقبلون عليه، فيختلط بنفوسهم أو يردونه ويحملون عليه، فيصطدمون بأفكاره. ويحصل من هذا الاصطدام أن يُهزم الكفر والفساد ويستقر الإيمان والصلاح وينتصر الفكر الصحيح. وهكذا بدأ التفاعل، وبدأ فيه الكفاح بين فكر وفكر، بين مسلمين وكافرين، بدأ حين صار الرسول r ينشر الدعوة على الناس كافة جهاراً نهاراً سافراً متحدياً. وصارت الآيات تنزل على الرسول r في الدعوة إلى التوحيد والحملة على أفكار الوثنية والشرك، والنعي على تقليد الآباء والأجداد من غير نظر، وصارت تنزل في الحملة على المعاملات الفاسدة فتهاجم التجارة الفاسدة والغش في الكيل والميزان. وصار الرسول r يتحدث إلى الناس جماعات ويطلب إليهم أن يسلموا وأن يؤازروه، وتزداد الخصومة بين قريش والنبي r، وصارت تجمع الدعوة إلى التثقيف المركز، بالحلقات في البيوت وفي الشعاب، وفي دار الأرقم، تثقيفاً جماعياً، وتنتقل من دعوة من يؤنس فيه الخير إلى دعوة الناس جميعاً. فكان لهذه الدعوة الجماعية والتثقيف الجماعي أثر على قريش، إذ ازداد حقدها، وأحست بالخطر يقترب منها، وبدأت تتخذ الخطوات الجدية للمقاومة بعد أن كانت لا تأبه لمحمد r ولا لدعوته؛ فيزداد الأذى والاضطهاد. ولكن كان لهذه الدعوة الجماعية أثر في الدعوة نفسها. فقد أسمعت الناس جميعاً كلمة الإسلام وانتشرت الدعوة إلى دين الله بين أهل مكة، ودخل الناس في الإسلام رجالاً ونساءاً. وكان للدعوة الجماعية أثر نقلها إلى أفق أوسع، وان كان نَقَلَ حَمَلَتَها إلى المشقة والعذاب وتحمل صنوف الأذى. وكان يزيد النار اشتعالاً في نفوس زعماء قريش مهاجمةُ الرسول r للظلم والقسوة والاستعباد الذي كان يسود مكة، وكشفه لأحوال الكفار وأعمالهم. وكانت مرحلة من أشق المراحل على الرسول r وصحابته.

ولئن كان الانتقال من دور الثقافة إلى دور التفاعل هو من أدق الأدوار، لأنه يحتاج إلى حكمة وصبر ودقة في التصرف. فإن دور التفاعل هو من أشق الأدوار، لأنه يحتاج إلى جرأة وصراحة وتحدٍ دون أن يحسب للنتائج والأوضاع أي حساب، وتحصل فيه فتنة المسلمين عن دينهم. ويظهر فيه الإيمان وقوة الاحتمال، ويظهر ما في النفس من صدق اللقاء.

هكذا سار الرسول r مع صحابته يتحملون الأذى والظلم والإرهاق؛ فكان منهم من هاجر إلى الحبشة فراراً بدينه؛ ومنهم من مات تحت التعذيب، ومنهم من احتمل. واستمروا على ذلك مدة كافية لتحويل مجتمع مكة، ولكن شدة الأذى هي التي حالت دون ذلك. وصار العرب وكثير من الناس يقفون موقف المتفرج، ولم يتقدموا خطوة نحو الإيمان، لأنهم كانوا يسعون لعدم إغضاب قريش. وصار العمل للانتقال إلى دور ثالث وهو دور تطبيق الإسلام خارج مكة حيث راح الرسول r يطلب النصرة والمنعة من القبائل حتى يستطيع أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم

راجي الخير
31-12-2005, 10:56 PM
جزاك الله خيرا أخينا الفاضل على موضوعك الهام .

وتدعيما لموضوعك فهناك محاضرة رائعه للشيخ محمد إسماعيل المقدم بعنوان

إبطال بدعة القول بمرحلية الأحكام .

وهي على الرابط التالي للإستماع أو التحميل

http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=49232

والسلام عليكم ورحمة الله .

راجي الخير
31-12-2005, 10:57 PM
جزاك الله خيرا أخانا الفاضل على موضوعك الهام .


وتدعيما لموضوعك فهناك محاضرة رائعه للشيخ محمد إسماعيل المقدم بعنوان


إبطال بدعة القول بمرحلية الأحكام .


وهي على الرابط التالي للإستماع أو التحميل


http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=49232

والسلام عليكم ورحمة الله .

rajaab
31-12-2005, 11:00 PM
الرسول r يعرض الإسلام على القبائل:

ذلك أن أبا طالب عم الرسول r وزوجه خديجة رضي الله عنها هلكا في عام واحد. فعظمت المصيبة على الرسول r بهلاكهما. ووصلت قريش من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه قبل وفاة عمه. حتى نثر بعضهم على رأسه التراب. وكان الرسول r يقول: «ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»[سيرة ابن هشام]. فلما تُوفي أبو طالب خرج الرسول r إلى الطائف يلتمس النصرة والمنعة له من قومه. عمد إلى نفر من ثقيف هم يؤمئذ سادة ثقيف وأشرافهم وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه؛ فرفضوا عرضه وأوصلوا خبره إلى قومه مع أنه r طلب منهم الكتمان. ولم يستطع دخول مكة إلا بجوار.

وكان الرسول r يقف على منازل القبائل ويقول: «يا بني فلان اني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعُوا ما تعبدون من دونه من هذا الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به» [سيرة ابن هشام]. وكان عمه أبو لهب يقف وراءه ويرد عليه ما يقول ويكذبه. ولم يقبل منه أحد، وكانوا يقولون: قومك أعلم بك حيث لم يتبعوك. ويكلمونه ويجادلونه ويكلمهم ويدعوهم إلى الله ويقول: «اللهم لو شئتَ لم يكونوا هكذا».

وجاء في سيرة ابن هشام: (وحدّث الزهري أن رسول الله r أتى كندة في منازلهم وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه، وأنه أتى كلباً في منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وأنه أتى بني حنيفة في منازلهم وطلب منهم النصرة والمنعة فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم؛ وأنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه. فقال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرَك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال له الرسول r: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». فقال بيحرة: أَفَنُهْدِفُ نحورنا للعرب دونك. فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك).

بقي الرسول r على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام؛ ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، لا يسمع بقادم يقدم من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده .

وكان من سُمِّيَ من القبائل الذين أتاهم رسول الله r ودعاهم وعرض نفسه عليهم فلم يستجب منهم أحد: 1 – بنو عامر بن صعصعة، 2 – محارب بن خصفه، 3 – فزارة، 4 – غسان، 5 – مرة، 6 – حنيفة، 7 – سُلَيم، 8 – عبس، 9 – بنو نضر، 10 – بنوا البكاء، 11 – كندة، 12 – كلب، 13 – الحارث بن كعب، 14 – عذرة، 15 – الحضارمة. وذلك حسب طبقات ابن سعد.

استجابة أهل المدينة:

وأقام رسول الله r ما أقام يدعو القبائل إلى الله ويعرض نفسه عليهم كل سنة بمجنة وعكاظ ومنى أن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة. فليست قبيلة من العرب تستجيب له ويؤذى ويُشتَم حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه وإنجاز ما وعده، فساقه إلى هذا الحي من الأنصار فانتهى إلى نفر منهم وهم يحلقون رؤوسهم. فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فاستجابوا لله ورسوله فأسرعوا وآمنوا وصدقوا.

ثم قدِموا المدينةَ ودعوْا قومهم إلى الإسلام. فأسلم من أسلم.

ولما جاء الموسم من العام المقبل وافاه اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا من الأوس والخزرج من أهل المدينة فلقوه r بالعقبة: وهي العقبة الأولى فبايعوه بيعة النساء. وبعث رسول الله r معهم مصعب بن عمير بناء على طلبهم. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين. وكان يُسمّى (المقرئ) وكان منزله على أسعد بن زرارة. ثم حدث أن آمن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ .. وهما سيدا قومهما. ولما أسلم هذا الأخير قال لقومه:كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال لهم: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل وامرأة إلا مسلماً ومسلمة.

بيعة العقبة:

ثم إنّ مصعباً رجع إلى مكة. وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك فواعدوا رسول الله r العقبة من أوسط أيام التشريق. وجاءهم الرسول r واجتمع معهم وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين. وكان معه العباس عمه فقط. قال أسعد بن زرارة: وكان العباس عم الرسول r هو أول من تكلم فقال: "يا معشر الخزرج إنكم قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه إليه. ومحمد من أعز الناس في عشيرته يمنعه والله منا من كان على قوله، ومن لم يكن منا على قوله يمنعه للحسب والشرف. وقد أبى محمد الناس كلهم غيركم، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فارتأوا رأيكم وأتمروا بينكم ولا تفترقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع. فإن أحسن الحديث أصدقه".

قالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلم الرسول r: فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وشرط لربه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» [سيرة ابن هشام] فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا. فبايعْنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهلُ الحَلْقة ورثناها كابراً عن كابر.

فاعترض أبو الهيثم بن التيهان والبراء يتكلم فقال: يا رسول الله ان بيننا وبين الرجال حبالاً – يعني اليهود – وإنا قاطعوها، فهل عسيت ان نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله r ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» [سيرة ابن هشام].

فقالوا نبايعه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. ثم قال البراء: أبسط يدك يا رسول الله. ثم ضرب السبعون كلهم على يده وبايعوه. فلما بايع القوم وكملوا صاح الشيطان على العقبة بأبعد صوت سمع: يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصبأة معه قد أجمعوا على حربكم. فقال الرسول r: «أَخْرِجوا لي منكم اثنى عشر نقيباً ليكونوا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم – وأنا كفيل على قومي». فاخرجوا منهم ذلك. وهكذا تمت البيعة في هذا الجو الإيماني الخالص. حتى أن العباس بن عبادة قال للرسول r : والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال الرسول r: «لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» [سيرة ابن هشام].

وانتهى الموسم وغادر القوم مكة التي جُنَّ جنونها عندما بلغها خبر البيعة. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته عن عروة عن عائشة قالا: "لما صدر السبعون من عند رسول الله r طابت نفسه وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة. وجعل البلاء يشتد على المسلمين. فشكا ذلك أصحاب رسول الله r واستأذنوه بالهجرة. ثم أخبرهم الرسول r أنه قد أخبر بدار هجرتهم وأنها يثرب. ومن أراد الخروج فليخرج إليها. قال r: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهبَ وَهلِي إلى أنها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة يثرب» [رواه البخاري ومسلم].

إن محاولات طلب النصرة من القبائل وبيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية تدل جميعها على أن الرسول r كان يريد كياناً عنده قوة ومنعة لنصرة هذا الدين. ولم يعد الأمر يقتصر على الدعوة فحسب واحتمال الأذى، بل يتجاوزه إلى أن تكون هناك قوة يدفع بها المسلمون عن أنفسهم، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك أيضاً إلى إيجاد النواة التي تكون حجر الزاوية والدعامة الأولى في إقامة دولة الإسلام تطبقه في المجتمع، وتحمله رسالة عالمية للناس، وتحمل معه القوة التي تحميه وتزيل من أمامه كل حاجز مادي يقف في سبيل نشره. وحدثت الهجرة وكان فيها ترك للمال وللوطن والزوج والأهل. وكانت الهجرة إلى المدينة تختلف كلياً عن الهجرة إلى الحبشة.

فالهجرة إلى الحبشة كانت هجرة أفراد فراراً بدينهم، وخوفاً عليهم من الفتنة. وقد جعلها الله للمسلمين المضطهدين في مكة فرجة فتحها عليهم لكي يغيروا أجواءهم، فلا يبقون تحت المطارق. بل ترتاح فيها النفوس لتأخذ الاستعداد من جديد على حمل الدعوة نشيطة قوية. ولم تشكل خطوة من خطوات الطريق حيث يقوم المهاجرون بالعمل من الخارج وبالتعاون مع الأنظمة التي هاجروا إلى بلادها لقلب الحكم في المكان الأصل في حمل الدعوة.

الهجرة إلى المدينة:

بينما شكلت الهجرة إلى المدينة انتقالاً للدعوة من طور الكلام والصبر إلى طور التنفيذ بعد إنشاء الكيان أي الدولة الإسلامية. وهي حركة انتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام التي أقامها الرسول r في المدينة، حيث سيُحمل الإسلام بصورة مختلفة تماماً وذلك عن طريق دولة تحكم به وتطبقه وتدعو له بالحجة والبرهان، وتحمله بالقوة التي تحمي هذه الدعوة من قوى الشر والطغيان.

ولما وصل الرسول r إلى المدينة استقبله عدد كبير من أهلها. فأقام أول ما قام مسجداً. وكان المسجد مكاناً للصلاة وللتشاور ولإدارة شؤون المسلمين والقضاء بينهم، وأخذ يهيئ أجواء المدينة للقتال. فيشكل السرايا ويعين قوادها ويرسلها خارج المدينة. وعقد معاهدات مع اليهود. وعلى الإجمال صار الرسول r يتصرف في المدينة تصرف الحاكم رئيس الدولة.

وهذا هو ما قام به الرسول r حتى أقيمت دار الإسلام فما هو المتعلق بذمتنا من فعله r.

ونحن تأسياً بسيرة الرسول r يجب علينا أن نسير سيرته. وإذا كان العمل لإقامة دولة الإسلام فرضاً فإن سلوك الطريق التي سلكها الرسول r تأخذ نفس الحكم، إذ أن بيان فعله تابع للمبيَّن في الوجوب. يقول تعالى: ]قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...[.

وعليه فإن علينا أن نقسم عملنا إلى دورين أو مرحلتين كما فَعَلَ الرسول r:

- مرحلة التثقيف والتأسيس.

- مرحلة التفاعل والكفاح.

- ففي المرحلة الأولى علينا أن نقوم بما قام به الرسول r من أعمال؛ وذلك بإيجاد الثقافة الإسلامية المركزة عند من يقبل تحمل أعباء الدعوة؛ وبناء الشخصية الإسلام المتميزة عنده، وذلك بتكوين العقلية الإسلامية النيّرة والنفسية الإسلامية الخيّرة. ويكون ذلك عن طريق الحلقات المركزة. كما كان يفعل الرسول r ويدعو كل من يؤنس فيه الخير لقبول هذه الدعوة بغض النظر عن السن والمكانة، وبغض النظر عن الجنس والأصل، ويتكتلون على ذلك. ونبقى على ذلك حتى يتحقق في هذه الكتلة الناشئة:

- النضج في الثقافة، بأن تتكون عقليتهم ونفسيتهم بحسب الإسلام . فيصبحون قادرين على مجابهة فساد الواقع.

- أن لا يطيقوا أن تبقى الدعوة حبيسة في نفوسهم. فيصيرون يتطلعون إلى نشر ما عندهم ويبدأون ذلك مع من يأنسون فيه الخير ثم يتوسعون.

- أن يحس الناس على دعوتهم وعلى وجودهم وعلى اجتماعهم.

حتى إذا وجدت فينا هذه الأمور الثلاثة التي وجدت في الصحب الأول للرسول r أمكننا أن ننتقل إلى الدور الثاني أو المرحلة الثانية.

وفي هذه المرحلة يجب علينا أن نجهر بالدعوة كما فعل الرسول r، وأن نبادئ المجتمعات القائمة ونتصدى لأفكارها وعاداتها وأنظمتها وبيان خطئها وفسادها وتبيان أفكار الإسلام ومفاهيمه وأنظمته الحقة بالمقابل. ويجب علينا أن ندعو كما كان الرسول r يدعو بكل صراحة وجرأة وقوة، فلا نلين ولا نستكين، ولا نحابي ولا نداهن، ودون أن نحسب أي حساب لعادات أو تقاليد أو أديان أو مبادئ أو حكام أو سوقة، ويجب أن نحمل الدعوة بحيث تكون السيادة المطلقة للمبدأ الإسلامي، بغض النظر عما إذا وافق الناس أم خالفهم، وتَمشّى مع عاداتهم أم ناقضها، قبل به الناس أم رفضوه وقاوموه. بل يُتمسك بالمبدأ ويُصبر عليه حتى يُغيَّر الآخرون بناء عليه. ولما كان الزعماء سيقفون حائلاً في وجه هذه الدعوة كما وقفوا أيام الرسول r، فإن ذلك سيقتضي كفاحاً سياسياً ضدهم ، وذلك بكشفهم وكشف ألاعيبهم وكشف ولائهم ، وكشف تآمرهم ومهاجمتهم تماماً كما هاجمهم الرسول r. فها هو القرآن يهاجم أبا لهب ويذكرهُ باسمه حيث يقول: ]تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ @ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ @ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ[ بالرغم من شرفه ومكانته في بني هاشم. كذلك تعرض القرآن بالتهديد لسيد بني مخزوم الوليد بن المغيرة بقوله تعالى: ]ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً @ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً[ إلى أن يقول: ]سَأُصْلِيهِ سَقَرَ[ وبقوله فيه في سورة نون والقلم وما يسطرون: ]عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ[وبقوله في أبي جهل:]كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ @ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ[.

وحَمْلُنا للدعوة يجب أن يظهر عليه ما ظهر على دعوة الرسول r من حرص على هداية الآخرين ، حيث كان دأب الرسول r في هذه المرحلة أن يفهم الناس مبدأ الإسلام ليكون مبدأهم، ولتصبح غايته غايتهم، أي أن نريد من الناس أن يتبنوا عن قناعة ما نحمله لهم.

وكما حدث مع الرسول r الرد والصد والتكذيب والتشريد والإشاعة والمقاطعة فكذلك يحدث معنا اليوم.

وكما نشأ عند الصحابة شعور بالحاجة إلى استعمال السلاح وطلبوا من الرسول r ذلك، ومنعهم من ذلك بقوله: «إني أُمِرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا القوم»كذلك يجب أن نمتنع عن حمل السلاح واستعماله من أجل الوصول إلى الحكم قبل طلب النصرة.

وكما طلب الرسول r النصرة لينتقل إلى الدور الثالث وهو دور التمكين والحكم عن طريقها ، فكذلك علينا أن نطلب النصرة لنصل إلى إقامة الحكم عن طريقها كما تبيَّنا ذلك من فعل الرسول r.

rajaab
31-12-2005, 11:02 PM
طلب النُّصْرة:

ولنقف قليلاً أمام حكم مهم من أحكام الطريقة وهو (طلب النصرة). ولنراجعه بتمهل ونستخلص منه ما يلزمنا، خاصة وأن هناك من يعمل لإقامة الدولة الإسلامية ولا ينظر إلى النصرة أدى نظر. وكأنها أمر فرعي ليس له وزن، أو كأن سندها ضعيف ولا يجوز الأخذ بها. ولم يقفوا عند هذا الحد بل راحوا يهاجمون هذا الحكم ويهاجمون من يفعله. مع أن السيرة كلها تعرضت لهذا الحكم مع اختلاف ضئيل لا يذكر في التفاصيل. فكتَّاب السيرة لم يكونوا منتمين إلى أحد من جماعات هذه الأيام، ومع ذلك فقد قالوا بها . والقرآن نفسه قد ذكر الذين: ]آوَواْ وَّنَصَرُواْ[ وسماهم (الأنصار) وهو وصف فيه مدح، ووصف لأبرز ما اتصفوا به.

والناظر في السيرة يرى أن الرسول r قد طلب النصرة من الزعماء الذين يملكون القوة. وأنه بالرغم من الرد القبيح الذي تتالى عليه من قبيلة إلى قبيلة فإنه بقي مصراً على الطلب وكرره ولم يهدأ بطلبه. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته خمس عشرة قبيلة وبطناً. فهذا الإصرار إنْ دل على شيء فإنه ليدل بشكل واضح على أنّ طلب النصرة كان أمراً من الله له بفعله.

وتسمية القرآن لمن استجاب له في هذا الأمر بأنهم الأنصار دليل آخر على ذلك. فقد أثنى عليهم القرآن في أكثر من موضع وتاب عليهم الله. وتقع مرتبتهم بعد المهاجرين مباشرة.

والألفاظ التي تضمنها طلب النصرة تدل على أن هذا الطلب هو حكم شرعي. فالرسول r كان يقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ... وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به»[سيرة ابن هشام] فهناك أمر من الله ورسوله. والأمر هو حكم شرعي. تتخذ له الأساليب المناسبة لتنفيذه. وليس هو بحد ذاته مجرد أسلوب.

ثم إن المناقشات التي دارت بين الرسول r وبين من كان يطلب منهم النصرة، وبينه وبين من كان يبايعه في العقبة الثانية لتدل بشكل واضح على أن الرسول r كان يرمي بهذا العمل الذي كان يصر عليه إلى إقامة هذا الدين، وإقامة الكيان الذي يحميه ويطبقه وينشره. فكيف نهمله وهو الحكم الذي كان عن طريقة تغيير وجه الدعوة والانتقال بها إلى الدار التي تطبقها وتنشرها. ولحساب من يكون هذا الإهمال؟!.

- فقد فهم الكفار أن وراء هذا العمل مبايعة وإظهاراً للدين. فها هو وفد بني عامر بن صعصعة يفهم أن الأمر يتعلق بالحكم. وها هم كفار مكة يجن جنونهم لما علموا بأمر العقبة الثانية. وقولهم: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا. وها هو الشيطان يصيح بأبعد صوت بعدما تمت بيعة العقبة الثانية بقوله: يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصبأة معه قد أجمعوا على حربكم.

وأثناء بيعة العقبة الثانية قال البراء: فبايِعْنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحَلْقة. وقال أبو الهيثم بن التيهان: ان بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها فهل عسيت إنْ أظهرك الله أن تتركنا وتعود إلى قومك.

وقال أسعد بن زرارة: إن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة وقتل خياركم وان تعضكم السيوف.

وكلام العباس بن عبادة: ان شئت لنميلَنّ على أهل منى بأسيافنا.

وقال الرسول رداً على أبي الهيثم: «بل الدمَ الدمَ والهدمَ والهدمَ أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».

وها هي عائشة تقول عن الرسول r بأن نفسه قد طابت وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة.

وها هو ابن هشام يقول عن الرسول r في موضوع طلب النصرة: "ولما أراد الله إعزاز نبيه ونصر دينه ساقه لهذا الحي من الأنصار".

فهذه الألفاظ تعطي دلالة واضحة على أهمية هذا الحكم، وتمنع أن يصرف معناها إلى أن من يُدعى إلى الإسلام فيستجيب يكون قد نصر هذا الدين. فألفاظ البيعة، وإظهار الدين ، والنصر، والحرب، وأن يقتل الأشراف، وان تعضهم السيوف، وأن فيها مفارقة للعرب كافة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأُزُرَهم، كل هذه ألفاظ تجعل فهم طلب النصرة على الوجه الذي طلبه الرسول r هو طلب الحماية ولو باستعمال القوة لتبليغ الدين، وطلب إقامة الدولة التي تحمي الدين ودعاته، وتطبق أحكامه وتنشر إلى العالم رسالته.

ويلاحظ في هذا المجال أن الرسول r:

- قد طلب المنَعَةَ والجوار لحماية أشخاص ولحماية الدعوة. وهذه تطلب ولو من مشركين كما حدث مع عمه حيث حماه ومنعه ومنع أي أحد من التعرض له. وكما حدث مع المطعم بن عدي عندما أجاره بعد رجوعه من الطائف. وهذه لا يصح أن تتخذ للضغط على المسلم الذي يُجار أو أن يساوم على دينه. فالرسول r قد قال لعمه حين طلب منه أن يخفف من زخم دعوته: «والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» [سيرة ابن هشام].

- أن الرسول كان يتصل بالسادة ويطمع بإيمانهم طمعاً في إيمان من وراءهم، وهذا من شأنه أن يجعل الدعوة أسهل انتشاراً وأكثر تقبلاً. وتساهم جيداً في صنع القاعدة الشعبية.

- أن الرسول r قد طلب النصرة والمنعة عن طريق أهل القوة، وشرط لها الإسلام كما حدث في بيعة العقبة الثانية.

وطلب النصرة هذا من أهل القوة كان واقعه زمن الرسول r أنها كانت تطلب من الزعماء الذين كانوا يجمعون إلى جانب الزعامة القوة الشعبية. فالزعيم كان حينها هو نفسه الحاكم وهو نفسه القائد العسكري، وهو نفسه الذي يعود الناس إلى رأيه.

أما اليوم فإن الحاكم يملك القوة بالإكراه، ويفقد الشعبية. وما يرى له من شعبية فإنها في الغالب ليست حقيقية. ونحن علينا أن نفعل ما فعله الرسول r من حيث أننا يجب أن نتصل بمن لهم ثقل ووزن في المجتمع لفتح الباب أمام من وراءهم، وتأمين القاعدة الشعبية، ويجب أن نطلب النصرة من أهل القوة مثل ضباط الجيش للوصول إلى الحكم. وعند اشتداد الأذى على أفراد الجماعة فلا بأس من أن يجاروا من معارفهم أو أقاربهم شرط أن لا يشكل ذلك ضغطاً ومساومة على إيمان الفرد المُجار، وبهذا نكون قد قمنا بما قام به الرسول r، آخذين بعين الاعتبار الواقع الذي نعيشه.

هذه هي الطريق التي سار عليها الرسول r، وهذه هي الطريق التي يجب أن نسير عليها متأسين بفعل الرسول r، فنوجد بذلك:

1 – الشباب المعدين إعداداً من شأنه أن يقيم الإسلام على أيديهم، كما أعد الرسول r المهاجرين الذين قام على أكتافهم حمل الدعوة في مكة وإقامة الدولة مع الرسول r وقيادة الأمة من بعده.

2 – الرأي العام للفكرة المنبثق عن الوعي العام ، أي إيجاد القاعدة الشعبية التي لا ترضى إلا بالإسلام كنظام حكم، وتحتضنه حين يقام، كما حدث مع أهل المدينة حيث صاروا يريدون الإسلام ومستعدين لحمايته.

3 – أهل القوة والمنعة التي نصل عن طريقها إلى استلام الحكم.

ومتى تهيأت لنا هذه الأمور، فقد تهيأ لنا قيام الأمر على الطريقة نفسها التي سلكها الرسول r. والله سبحانه قد وعد المؤمنين الملتزمين بشريعته بالنصر حيث قال: ]وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[ وقال: ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ وقال: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاًً[.