حكماوي
04-01-2006, 10:27 PM
تكالبت على السيد أحمد كل مصائب الدنيا دفعة واحدة فقد تم نعيينه منذ تخرجه في قرية من قرى الجبل النائية؛ وسط الغابات والأحجار. قضى سنته الأولى في حجرة دراسية مع تلاميذ المستويين الأول والثاني. حيث رتب في الجزء الخلفي مجموعة من الطاولات ليشكل سريرا وضع عليه الفراش؛ الذي نسجته الوالدة خصيصا له. وفي النصف الأمامي كدس بقية المقاعد، ليجلس عليها خمسة تلاميذ ثلاثة في القسم الأول واثنان في الثاني. في السنة الثانية استبشر خيرا إذ ظن أن التلميذين المنتقلين إلى القسم الثالث سيتكلف بهما معلم آخر يشاطره الحجرة. فإذا به تنضاف إليه مهمة تدريسهما أيضا؛ الفرنسية والعربية، إضافة إلى المستويين الآخرين.
قضى سنته الثانية بنفس الوثيرة، جرب حظه مثل بقية الزملاء، وتسلم جواز سفر؛ عله يجد عملا أثناء العطلة الصيفية في الخارج. اصطدم بصعوبة العيش، ورجع وفي جيبه بضع قطع نقدية أجنبية علقها في متحف الفصل. ذلك كل رأس ماله من الخرجة.
ابتسم له الحظ مرة واحدة، ولم يدر أي دعوة صالحة أصابته، جاء الفرج بالحركة الانتقالية، وتم نقله إلى أحد الدواوير القريبة من الفيلاج حيث اكترى دارا بربع الأجرة. فكر السي أحمد كما أصبح يلقب في إكمال دينه؛ وتزوج بنت خالته بالاقتراض، وأثث المنزل بالاقتراض. جلب كل شيء من كأس الماء إلى البارابول مرورا بالثلاجة والفراش؛ والدراجة الناريةبالاقتراض. قسم الأجرة على أربع : نصيب للكراء ؛ والآخر لسداد الدين والثالث للوالدين والرابع لمعيشة. قرر الذهاب لخارج مرة أخرى، لكنه عدل عن الفكرة في آخر لحظة بسبب قلة ذات اليد. وفد عليه أخوه المعطي ليقضي عنده بضعة أيام بحثا عن عمل، فلما لم يوفق؛ خرج بدون وداع ولا وجهة معروفة.
مرت بضعة شهور هنية على السي أحمد؛ وأحست زوجه بالوحم. اشتهت بعض الفواكه التي لم يكن السي أحمد يستطيع القدرة على شرائها. وعدها أن يفرحها آخر الشهر. ذهب كعادته وأخذ الصف مع بقية الموظفين المنتظرين آخر الشهر. دفع الشيك وهو يمني نفسه بمذاق الفاكهة اللذيذة. رفع الموظف رأسه بعد أن ضغط على بضعة أزرار وقال بنبرة يشوبها العطف والحزن:
-<< آسف يا السي أحمد لم تدخل أجرتك هذا الشهر>>.
اسود وجه السي أحمد بعدما كان لعابه يسيل عند تذكر الفاكهة اللذيذة، وجف الريق من حلقه. رجع إلى المنزل كسيرا حزينا يجر رجلا ويؤخر أخرى. تصور كل الاحتمالات:
- هل توقفت الأجرة بسبب الغياب ؟ ولكن تغيباته كلها مبررة بشواهد طبية. هل وقع خطأ ما؟ ألا يقع هذا الخطأ اللعين إلا عندما أراد أن يشتري فاطهة لزوجه أثناء فترة الوحم؟ هل يقترض من عند الأصدقاء؟
أعاد الكرة عند البنك ثلاثة أيام متتالية بدون نتيجة. تلقى نفس الجواب: << للأسف ليت يتم تزويد رصيدك، ولم يتم التوصل بحوالتك، ابحث عن حل لمشكلتك>>.
اقترض أجرة الطاكسي ذهابا وإيابا إلى النيابة، لم يجد جوابا شافيا ولا أذنا صاغية. لم يجد مكانا يدفن فيه أحزانه وخيبته. رجع يجر رجليه من المحطة إلى المنزل. تهالك على الفراش الذي لم يؤد ثمنه بعد. مازالت أمامه ثلاثون شهرا بالتمام والكمال كلها اقتطاعات. سمع طرقات عاى الباب قطعت عليه حبل تفكيره. فتح الباب فإذا ساعي البريد يحمل رسالة. تسلمها دون يبادل الساعي التحية. وبسرعة فتحها علها تحمل الفرج.
ضرب كفا بكف وقال: هذه مصيبة تنزل على رأسك يا سيد أحمد! أقبلت زوجه من المطبخ ودموع البصل على خديها. رأت وجهه ولم تستطع السؤال أو لعل الكلمات جفت في حلقها. رفع عينيه الذابلتين وقال:
- << هذه رسالة إنذار من مؤسسة القرض تطالب بدفع قسط هذا الشهر الذي لم تتوصل به، وتمهلني أسبوعين وإلا ستضطر لعرض القضية على المحكمة ثم الحجز أي السيزي بلغة أهل البلد. سيباع الأثاث في المزاد العلني >>.
والتفت جانبا وقال:
- وأي أثاث دعهم يبيعونه!
سمع جسد زوجه يرتطم بالأرض. حملها بين دراعيه. كانت ذابلة اليدين ووجهها أصفر أكثر من اللازم. مددها على السرير الذي لم يسدد ثمنه بعد. ونادى على جارتها عائشة. أقبلت المرأة مسرعة ونظرت إلى الجسد المدد على السرير نظرة المتفحص وقالت للسيد أحمد:
- << خذ زوجتك إلى الطبيب أظن أنها فقدت الجنين، ومن الأحسن إنقاذها قبل قبل فوات الأوان، كما وقع للالة ارحيمو زوج علي الجزار، هل تتذكرها؟ الله يرحمها مسكينة>>.
وضع السيد أحمد رأسه بين يديه، ودفعته عائشة قائلة:
- << انهض ليس هذا وقت الحزن >>.
وخرج يجري للبحث عن عربة مجرورة لحمل زوجه إلأى المستوصف. وفعلا تم إنقاذ زوج السيد أحمد لكن دون الجنين الذي فضل أن يغادر الدنيا قبل أن يشاهد مصائب أبيه. وقضى بجانب زوجه ليلتين بالمستوصف؛ دفع رشوة من أجل ذلك؛ اقترضها من الزملاء؛ وأدخل غرفة أخرى باعتباره مريضا. ثم عادا إلى المنزل على العربة المجرورة، كانت زوجه غائرة العينين. تلعن في قرارة نفسها الأجرة الملعونة التي كانت كل الآمال معلقة عليها. ورأت في طريق العودة طيورا بدت لها متعبة وهي تحلق في أرجاء السماء الفسيحة.
مضت عشرة أيام والسي أحمد ينتظر عل الفرج يأتي . يذهب إلى القسم في الصباح على متن الدراجة النارية التي يسدد ثمنها بعد، وقد تباع في المزاد العلني. لا يعود إلا في آخر النهار. دخل المنزل وخلع اللباس السميك الذي يقيه برد الدراجة. ودخل على زوجه ورائحة العرق تفوح منه، قال:
- << هل سأل عني أحد من المحكمة؟>>.
لم يكد يتم السؤال حتى سمع طرقات لعينة على الباب. لقد باتت دقات الباب لا تحمل وراءها إلا المصائب. كان يقطع المسافة الفاصلة من غرفة النوم حيث ترقد زوجه إلى الباب يسائل نفسه من يكون هذا الطارق؟ هل هو استدعاء من المحكمة لحجز الأثاث الذي لم يسد ثمنه بعد؟ أم من الشرطة؟ لا بد أن تأتي الشرطة أولا كما كان يعتقد. فتح الباب وهو يتوقع أسوأ الاحتمالات.
كان الوجه الكريه لصاحب المنزل يحذق فيه بوقاحة قائلا:
- لقد مضت عشرة أيام ... يا السي أحمد ... وكانت الطريقة التي نطق بها << السي أحمد>> كافية لشل الركبتين والعمود الفقري.
اعتذر له السي أحمد عن التأخير الخارج عن إرادته. وحكى له عن الحوالة التي تأخرت هذا الشهر بسبب خطأ لا يدري مصدره. قال الرجل الوقح:
- شوف آ السي أحمد، تعرف أني أسترزق من هذا المنزل الذي بعت فيه كل ما أملك في الدوار فلا أستطيع أصبر أكثر، سأعطيك مهلة خمسة أيام أخرى.
قال السي أحمد في نفسه:
- << أنت الآخر تعطيني مهلة تتزامن و مهلة البنك، هل اتفقتم كلكم علي؟>>.
اقترض السي أحمد من زملائه وذهب إلى النيابة فلم يجد جوابا، لكن تسلم إذنا بدخول الوزارة للبحث عن أجرته المعتقلة.
نام باكرا ليمتطي الحافلة التي تمر في الرابعة فجرا، أيقظته زوجه في الثانية والنصف قائلة:
- أسرع قبل أن تنفد التذاكر فتضطر للذهاب واقفا، وأنت تريد أن تتم نومك في الحافلة.
حلق دقنه وكوى قميصه حتى يبدو مظهرا مقبولا أمام موظفي الوزارة. فقد قال ل زملاؤه إن المظهر الجيد نصف قضاء الحوائج. بحث عن الفرشاة ولمع حذاءه بدون دهن. جمع ملفه الإداري وشواهده وغياباته المبررة ووضع الكل في محفظة جلدية صغيرة، اشتراها منذ سنوات التدريب. لم يرد أن يلبس كثيرا مخافة العرق في النهار، ورائحته المقيتة. خرج في جنح الليل يتفادى تراب الدرب خوفا على حذائه. أمامه أكثر من ساعة لوصول الحافلة. سيشرب كأس شاي يدفىء به عظامه في مقهى المحطة ويتي برودة الليل. كانت المحطكة شبه خالية إلا من بعض السكارى الذين يبحثون عن ثمن قنينة كحول، وبعض الحمالين بعرباتهم المدفوعة، ينتظرون الزبناء المثقلين بأكياس القمح القادمة من الدواوير المحيطة بالفيلاج. تهالك على كرسي في أقصى المقهى حتى يتسنى له مراقبة ما يجري أمام المقهى والمحطة في آن واحد.
كلما رشف رشفة من كاسه أدخل يديه بين رجليه وضمهما بشدة ليشعر ببعض الدفء. جاءت الحافلة، وجلس على مقعد في الوسط قرب النافذة، حتى لا يزعجه أحد؛ بمطالبته بالنهوض كلما توقفت الحافلة في محطة أوبدون محطة. انكمش في مقعده حتى جعل ركبتيه عند دقنه. ووضع محفظته الجلدية الصغيرة التي اشتراها أثناء فترة التدريب بينه وبين الحديد. تظاهر بالنوم، لا يهمه متى أقلعت الحافلة ولا من أين مرت، لا المنحدرات ولا المنعرجات ولا حواجز الدرك، ولا هدير الآلة الحديدية، ما يهمه هو الرباط ومن الرباط الوزارة ومن الوزارة أجرته المعتقلة منذ عشرة أيام، وأثاثه الذي لم يسدد ثمنه بعد والذي قد يباع في المزاد العلنيح إن لم يطلق سراح حوالته في أقرب الآجال.
لم يستيقظ إلا على صوت مساعد السائق في القامرة يصيح:
- << على سلامتكم؛ هاهي الرباط أيها المشتكون>>.
إنه يعرف أن الرباط لا يأتيها إلا صاحب دعوى أو شكوى أو نزاع على الأرض. وهو واحد من الثلاثة .
كانت الساعة تشير إلى الثامنة. مازال أمامه نصف ساعة حتى يصل الموظفون إلى الوزارة وأكثر من نصف ساعة أخرى حتى تستقر الأمور داخل المكاتب. لا بأس أن يقطع المسافة على قدميه ليوفر بعض الدراهم هو في حاجة إليها، لا يعلم ما تخبؤه له الأيام من مفاجآت، وحذاؤه ملمع وسرواله مكوي مثل أهل الرباط. لكن من أين يبدأ؛ فالرباط متاهة، أخرج ورقة مطوية على أربع، كان قد رسم عليها تصميم الطريق من القامرة إلى أكدال ثم باب الرواح وصولا إلى حسان.
سوى قميصه وأزال بعض غبار الدرب كان علق بالحذاء، وانطلق حيث يشير السهم في الورقة المطوية على أربع.أفواج من الموظفين يتسابقون على أبواب الحافلاتالعمومية وعلى النقل الخاص، ومنهم فضل المشي على قدميه. أمواج من الطلبة والطالبات يقطعون خط السكة الحديدية في طريقهم إلى مدينة العرفان التي قرا اسمها على البوابة الكبيرة؛ قبل أن ينحرف يسارا.
سأل الموظف عن سبب توقف الأجرة بعدما قدم الاسم ورقم التأجير. ضغط الموظف على مجموعة من الأزرار ورفع رأسه إلى السي أحمد سائلا:
- من تكون أنت بالنسبة للسيد أحمد الفرياش؟
- أنا هو أحمد الفرياش يا سيدي.
ركز الموظف عينيه جيدا على الشخص الواقف أمامه متسائلا بصوت مسموع:
- لا يمكن أن تكون أحمد الفرياش، لأن هذا الشخص توفي منذ مدة قصيرة.
اسودت الدنيا في وجه السيد أحمد ولكنه استطاع أن يقول:
- أنا... أنا أحمد الفرياش ... وهذه بطاقتي الوطنية.
أعاد الموظف الضغط على الأزرار قائلا:
- لا يمكن؛ أحمد الفرياش توفي وجاءتنا رسالة لتوقيف حوالته، فما عليك إلا أن تلأخذ سيارة أجرة وتتوجه إلى الوزارة للتأكد من صحة الخبر.
خرج السي أحمد يجر قدميه قائلا:
- يا للهول مت وأنا حي! من قتلني على الورق؟ هل هذه مزحة؟ ألا تكون هذه المزحة إلا عندما أردت أن أشتري فاكهة لزوجي في وحمها الذي لم يتم.
أخرج الورقة المطوية على أربع وسار إلى باب الرواح. كانت الشمس قد ارتفعت في لسماء وبدأ يشعر بالدفء . مد الترخيص إلى الشاوش وسأله عن المكتب المكلف بالحوالات المعلقة. صعد السلم حسب تعليمات الشاوش حتى وصل إلى مكتب به ثلاث نساء ورجل. فضل أن يتوجه عند الرجل مباشرة وإن كان منهمكا في تدوين شيئ ما على ورقة. سأله عن مشكلته دون أن يرفع رأسه عن الورقة.
ماذا يقول السي أحمد؟ هل يقول لقد توقفت حوالتي بسبب وفاتي؟ أم يسأل الموظف هل توفي السيد أحمد الفرياش فعلا؟ كل هذه التساؤلات دارت في رأسه قبل أن يقول؛ وهويقدم رقم تأجيره:
- لم أتوصل بحوالة هذا الشهر ولا ادري ما السبب.
طلب الرجل من إحدى النساء الثلاث أن تبحث عن الرقم في الحاسوب الموضوع أمامها. استدارت المرأة على الكرسي الدوار بعدما كانت تتحدث مع صديقاتها وضغطت على مجموعة أزرار قائلة:
- تسأل عن السيد أحمد الفرياش المعلم بمجموعة مدارس آيت علي أو المكي ؟ لقد توفي منذ مدة.
جمع السي أحمد كل قواه ليقول:
- غـ... غـ... غلط يا سيدتي غــ غلط! لأن الواقف أمامك هو أحمد الفرياش بلحمه وعظمه، وقد انتقلت من هذه المجموعة التي ذكرت.
فاجأ الجواب السيدة، وظلت مشدوهة للحظات ثم أعادت الضغط على الأزرار كأنها تتأكد من الوفاة. طلبت من السيدة الجالسة بجانبها أن تذهب إلى أحد المكاتب وتسأل عن يوم كذا، هل وصلت وثيقة من الوثائق تثبت وفاة السيد أحمد الفرياش أم ماذا وقع؟
قامت السيدة متثاقلة بعدما سجلت المعلومات على ورقة وغابت لبعض الوقت. أخرج السي أحمد منديله المطوي على أربع ليمسح حبات العرق التي انسابت على وجهه الحليق، وهو يتساءل من قتلني على الورق؟ وعادت السيدة وفي يدها ورقة صغيرة وقرأت:
- << في ذلك اليوم وصلنا فاكس من وزارة الخارجية يقول: إن السيد أحمد الفرياش وجد مقتولا تحت الجسور قرب ميلانو وليس في جيبه سوى جواز سفره وشهادة مغادرة التراب الوطني؛ وبعض القطع النقدية المغربية>>.
أغمي على السي أحمد في مكتب الوزارة. وأفاق بعد لحظات وقد شعر ببرودة الماء على جبينه وصدره.
واصلت السيدة القراءة:
- وقد أخبرتنا السفارة المغربية التي أخبرتها السلطات الأيطالية بميلانو، أن المسمى قيد حياته أحمد الفرياش مهنته معلم رقم تأجيره كذا وعنوانه مجموعة مدارس آيت علي أو المكي؛ فرعية آيت احماد هو القتيل؛ واتصلت بالسلطات التابعة لها هذه الفرعية إلا أنها لم تجد أحدا بالعنوان المذكور، وتم تسجيله تحت عنوان مجهول، وطلبت منا التشطيب عليه من لائحة موظفي الدولة، انتهى كلام السفارة؛ والفاكس.
سأل السي دون أن يوجه كلامه لأحد من الموظفين الأربعة:
-<< وما العمل لأثبت أني مازلت حيا أرزق؟>>.
أجابه الموظف الوحيد بين ثلاث نساء:
- ما عليك إلا أن تثبت قانونيا أنك على قيد الحياة، من خلال دعوى ترفعها ضد الوزارة التي قتلتك.
خرج السي أحمد إلى شارع النصر يجر رجليه تحت الأشجار الوارفة الظل، ومئات التساؤلات والاحتمالات تدور في رأسه:
- جواز السفر وشهادة مغادرة التراب الوطني اختفيا من القمطر، والمعطي لم يظهر له أثر منذ خروجه من المنزل. هل يكون المعطي فعلها؟ فالشبه كبير بينهما، وكثير من الناس يحتار أيهما المعطي وأيهما أحمد.
استند إلى جدع شجرة في شارع النصر قبل أن ينطلق إلى القامرة؛ وسأل نفسه والشجرة في آن:
- هل أنا حي أم ميت؟
ثم قام وقعد على الرصيف:
- من جهة ... فأنا ميت حسب الوزارة والأوراق! ومن جهة ثانية فأنا حي... بدليل أني... ( وشرع يلمس جسده) ما هذا الهراء؟
امتطى حافلة الثانية عشرة والنصف. وأكل سندويشا في الطريق لا يتذكر طعمه. وصل إلى قريته . وجد الخبر قد سبقه من النيابة التي عينت معلما مكان المرحوم السيد أحمد الفرياش . دخل المنزل وهو يصيح:
- لقد مت يا خديجة، لقد قتلني الطليان وأرسلوا شهادة وفاتي إلى الوزارة.
أغمي على خديجة زوجة المرحوم أحمد الفرياش. وأفاقت بعد لحظات وقد أحست ببرودة الماء على جبهتها وصدرها.
انطلق السي أحمد يجمع الوثائق التي تثبت أنه حي بدءا بالمقدم والشيخ وصولا إلى المحكمة. لكن كيف نلغي حكما غير موجود ؛ يقول أحد موظفي المحكمة فلا السي أحمد ولا المحكمة تملك وثيقة تثبت وفاته.
- والحل ؟ تساءل السي أحمد
- عليك أن تقتل نفسك أولا ثم تقيم الحجة على أنك مازلت حيا.
- كيف هل أنتحر؟
- يجب إحضار شهادة تثبت أنك ميت وبناء عليها وعلى الوثائق الأخرى يتم إلغاؤها وبالتالي إثبات أنك حي. والجهة التي تملك وثيقة وفاتك هي وزارة الخارجية التي جاءت بالخبر.
اقترض السي أحمد مرة أخرى من الزملاء وأيقظته زوجه في الثانية والنصف صباحا. كوى قميصه؛ ولمع حذاءه ، أخذ تذكرته وجلس على مقعد وسط الحافلة قرب النافذة، وتظاهر بالنوم، وقد حرص على ضم حقيبته الجلدية الصغيرة بين ركبتيه وصدره؛ ونظر من النافذة، ورأى طيورا تضرب بأجنحتها في الفضاء الواسع...
ماي 98
قضى سنته الثانية بنفس الوثيرة، جرب حظه مثل بقية الزملاء، وتسلم جواز سفر؛ عله يجد عملا أثناء العطلة الصيفية في الخارج. اصطدم بصعوبة العيش، ورجع وفي جيبه بضع قطع نقدية أجنبية علقها في متحف الفصل. ذلك كل رأس ماله من الخرجة.
ابتسم له الحظ مرة واحدة، ولم يدر أي دعوة صالحة أصابته، جاء الفرج بالحركة الانتقالية، وتم نقله إلى أحد الدواوير القريبة من الفيلاج حيث اكترى دارا بربع الأجرة. فكر السي أحمد كما أصبح يلقب في إكمال دينه؛ وتزوج بنت خالته بالاقتراض، وأثث المنزل بالاقتراض. جلب كل شيء من كأس الماء إلى البارابول مرورا بالثلاجة والفراش؛ والدراجة الناريةبالاقتراض. قسم الأجرة على أربع : نصيب للكراء ؛ والآخر لسداد الدين والثالث للوالدين والرابع لمعيشة. قرر الذهاب لخارج مرة أخرى، لكنه عدل عن الفكرة في آخر لحظة بسبب قلة ذات اليد. وفد عليه أخوه المعطي ليقضي عنده بضعة أيام بحثا عن عمل، فلما لم يوفق؛ خرج بدون وداع ولا وجهة معروفة.
مرت بضعة شهور هنية على السي أحمد؛ وأحست زوجه بالوحم. اشتهت بعض الفواكه التي لم يكن السي أحمد يستطيع القدرة على شرائها. وعدها أن يفرحها آخر الشهر. ذهب كعادته وأخذ الصف مع بقية الموظفين المنتظرين آخر الشهر. دفع الشيك وهو يمني نفسه بمذاق الفاكهة اللذيذة. رفع الموظف رأسه بعد أن ضغط على بضعة أزرار وقال بنبرة يشوبها العطف والحزن:
-<< آسف يا السي أحمد لم تدخل أجرتك هذا الشهر>>.
اسود وجه السي أحمد بعدما كان لعابه يسيل عند تذكر الفاكهة اللذيذة، وجف الريق من حلقه. رجع إلى المنزل كسيرا حزينا يجر رجلا ويؤخر أخرى. تصور كل الاحتمالات:
- هل توقفت الأجرة بسبب الغياب ؟ ولكن تغيباته كلها مبررة بشواهد طبية. هل وقع خطأ ما؟ ألا يقع هذا الخطأ اللعين إلا عندما أراد أن يشتري فاطهة لزوجه أثناء فترة الوحم؟ هل يقترض من عند الأصدقاء؟
أعاد الكرة عند البنك ثلاثة أيام متتالية بدون نتيجة. تلقى نفس الجواب: << للأسف ليت يتم تزويد رصيدك، ولم يتم التوصل بحوالتك، ابحث عن حل لمشكلتك>>.
اقترض أجرة الطاكسي ذهابا وإيابا إلى النيابة، لم يجد جوابا شافيا ولا أذنا صاغية. لم يجد مكانا يدفن فيه أحزانه وخيبته. رجع يجر رجليه من المحطة إلى المنزل. تهالك على الفراش الذي لم يؤد ثمنه بعد. مازالت أمامه ثلاثون شهرا بالتمام والكمال كلها اقتطاعات. سمع طرقات عاى الباب قطعت عليه حبل تفكيره. فتح الباب فإذا ساعي البريد يحمل رسالة. تسلمها دون يبادل الساعي التحية. وبسرعة فتحها علها تحمل الفرج.
ضرب كفا بكف وقال: هذه مصيبة تنزل على رأسك يا سيد أحمد! أقبلت زوجه من المطبخ ودموع البصل على خديها. رأت وجهه ولم تستطع السؤال أو لعل الكلمات جفت في حلقها. رفع عينيه الذابلتين وقال:
- << هذه رسالة إنذار من مؤسسة القرض تطالب بدفع قسط هذا الشهر الذي لم تتوصل به، وتمهلني أسبوعين وإلا ستضطر لعرض القضية على المحكمة ثم الحجز أي السيزي بلغة أهل البلد. سيباع الأثاث في المزاد العلني >>.
والتفت جانبا وقال:
- وأي أثاث دعهم يبيعونه!
سمع جسد زوجه يرتطم بالأرض. حملها بين دراعيه. كانت ذابلة اليدين ووجهها أصفر أكثر من اللازم. مددها على السرير الذي لم يسدد ثمنه بعد. ونادى على جارتها عائشة. أقبلت المرأة مسرعة ونظرت إلى الجسد المدد على السرير نظرة المتفحص وقالت للسيد أحمد:
- << خذ زوجتك إلى الطبيب أظن أنها فقدت الجنين، ومن الأحسن إنقاذها قبل قبل فوات الأوان، كما وقع للالة ارحيمو زوج علي الجزار، هل تتذكرها؟ الله يرحمها مسكينة>>.
وضع السيد أحمد رأسه بين يديه، ودفعته عائشة قائلة:
- << انهض ليس هذا وقت الحزن >>.
وخرج يجري للبحث عن عربة مجرورة لحمل زوجه إلأى المستوصف. وفعلا تم إنقاذ زوج السيد أحمد لكن دون الجنين الذي فضل أن يغادر الدنيا قبل أن يشاهد مصائب أبيه. وقضى بجانب زوجه ليلتين بالمستوصف؛ دفع رشوة من أجل ذلك؛ اقترضها من الزملاء؛ وأدخل غرفة أخرى باعتباره مريضا. ثم عادا إلى المنزل على العربة المجرورة، كانت زوجه غائرة العينين. تلعن في قرارة نفسها الأجرة الملعونة التي كانت كل الآمال معلقة عليها. ورأت في طريق العودة طيورا بدت لها متعبة وهي تحلق في أرجاء السماء الفسيحة.
مضت عشرة أيام والسي أحمد ينتظر عل الفرج يأتي . يذهب إلى القسم في الصباح على متن الدراجة النارية التي يسدد ثمنها بعد، وقد تباع في المزاد العلني. لا يعود إلا في آخر النهار. دخل المنزل وخلع اللباس السميك الذي يقيه برد الدراجة. ودخل على زوجه ورائحة العرق تفوح منه، قال:
- << هل سأل عني أحد من المحكمة؟>>.
لم يكد يتم السؤال حتى سمع طرقات لعينة على الباب. لقد باتت دقات الباب لا تحمل وراءها إلا المصائب. كان يقطع المسافة الفاصلة من غرفة النوم حيث ترقد زوجه إلى الباب يسائل نفسه من يكون هذا الطارق؟ هل هو استدعاء من المحكمة لحجز الأثاث الذي لم يسد ثمنه بعد؟ أم من الشرطة؟ لا بد أن تأتي الشرطة أولا كما كان يعتقد. فتح الباب وهو يتوقع أسوأ الاحتمالات.
كان الوجه الكريه لصاحب المنزل يحذق فيه بوقاحة قائلا:
- لقد مضت عشرة أيام ... يا السي أحمد ... وكانت الطريقة التي نطق بها << السي أحمد>> كافية لشل الركبتين والعمود الفقري.
اعتذر له السي أحمد عن التأخير الخارج عن إرادته. وحكى له عن الحوالة التي تأخرت هذا الشهر بسبب خطأ لا يدري مصدره. قال الرجل الوقح:
- شوف آ السي أحمد، تعرف أني أسترزق من هذا المنزل الذي بعت فيه كل ما أملك في الدوار فلا أستطيع أصبر أكثر، سأعطيك مهلة خمسة أيام أخرى.
قال السي أحمد في نفسه:
- << أنت الآخر تعطيني مهلة تتزامن و مهلة البنك، هل اتفقتم كلكم علي؟>>.
اقترض السي أحمد من زملائه وذهب إلى النيابة فلم يجد جوابا، لكن تسلم إذنا بدخول الوزارة للبحث عن أجرته المعتقلة.
نام باكرا ليمتطي الحافلة التي تمر في الرابعة فجرا، أيقظته زوجه في الثانية والنصف قائلة:
- أسرع قبل أن تنفد التذاكر فتضطر للذهاب واقفا، وأنت تريد أن تتم نومك في الحافلة.
حلق دقنه وكوى قميصه حتى يبدو مظهرا مقبولا أمام موظفي الوزارة. فقد قال ل زملاؤه إن المظهر الجيد نصف قضاء الحوائج. بحث عن الفرشاة ولمع حذاءه بدون دهن. جمع ملفه الإداري وشواهده وغياباته المبررة ووضع الكل في محفظة جلدية صغيرة، اشتراها منذ سنوات التدريب. لم يرد أن يلبس كثيرا مخافة العرق في النهار، ورائحته المقيتة. خرج في جنح الليل يتفادى تراب الدرب خوفا على حذائه. أمامه أكثر من ساعة لوصول الحافلة. سيشرب كأس شاي يدفىء به عظامه في مقهى المحطة ويتي برودة الليل. كانت المحطكة شبه خالية إلا من بعض السكارى الذين يبحثون عن ثمن قنينة كحول، وبعض الحمالين بعرباتهم المدفوعة، ينتظرون الزبناء المثقلين بأكياس القمح القادمة من الدواوير المحيطة بالفيلاج. تهالك على كرسي في أقصى المقهى حتى يتسنى له مراقبة ما يجري أمام المقهى والمحطة في آن واحد.
كلما رشف رشفة من كاسه أدخل يديه بين رجليه وضمهما بشدة ليشعر ببعض الدفء. جاءت الحافلة، وجلس على مقعد في الوسط قرب النافذة، حتى لا يزعجه أحد؛ بمطالبته بالنهوض كلما توقفت الحافلة في محطة أوبدون محطة. انكمش في مقعده حتى جعل ركبتيه عند دقنه. ووضع محفظته الجلدية الصغيرة التي اشتراها أثناء فترة التدريب بينه وبين الحديد. تظاهر بالنوم، لا يهمه متى أقلعت الحافلة ولا من أين مرت، لا المنحدرات ولا المنعرجات ولا حواجز الدرك، ولا هدير الآلة الحديدية، ما يهمه هو الرباط ومن الرباط الوزارة ومن الوزارة أجرته المعتقلة منذ عشرة أيام، وأثاثه الذي لم يسدد ثمنه بعد والذي قد يباع في المزاد العلنيح إن لم يطلق سراح حوالته في أقرب الآجال.
لم يستيقظ إلا على صوت مساعد السائق في القامرة يصيح:
- << على سلامتكم؛ هاهي الرباط أيها المشتكون>>.
إنه يعرف أن الرباط لا يأتيها إلا صاحب دعوى أو شكوى أو نزاع على الأرض. وهو واحد من الثلاثة .
كانت الساعة تشير إلى الثامنة. مازال أمامه نصف ساعة حتى يصل الموظفون إلى الوزارة وأكثر من نصف ساعة أخرى حتى تستقر الأمور داخل المكاتب. لا بأس أن يقطع المسافة على قدميه ليوفر بعض الدراهم هو في حاجة إليها، لا يعلم ما تخبؤه له الأيام من مفاجآت، وحذاؤه ملمع وسرواله مكوي مثل أهل الرباط. لكن من أين يبدأ؛ فالرباط متاهة، أخرج ورقة مطوية على أربع، كان قد رسم عليها تصميم الطريق من القامرة إلى أكدال ثم باب الرواح وصولا إلى حسان.
سوى قميصه وأزال بعض غبار الدرب كان علق بالحذاء، وانطلق حيث يشير السهم في الورقة المطوية على أربع.أفواج من الموظفين يتسابقون على أبواب الحافلاتالعمومية وعلى النقل الخاص، ومنهم فضل المشي على قدميه. أمواج من الطلبة والطالبات يقطعون خط السكة الحديدية في طريقهم إلى مدينة العرفان التي قرا اسمها على البوابة الكبيرة؛ قبل أن ينحرف يسارا.
سأل الموظف عن سبب توقف الأجرة بعدما قدم الاسم ورقم التأجير. ضغط الموظف على مجموعة من الأزرار ورفع رأسه إلى السي أحمد سائلا:
- من تكون أنت بالنسبة للسيد أحمد الفرياش؟
- أنا هو أحمد الفرياش يا سيدي.
ركز الموظف عينيه جيدا على الشخص الواقف أمامه متسائلا بصوت مسموع:
- لا يمكن أن تكون أحمد الفرياش، لأن هذا الشخص توفي منذ مدة قصيرة.
اسودت الدنيا في وجه السيد أحمد ولكنه استطاع أن يقول:
- أنا... أنا أحمد الفرياش ... وهذه بطاقتي الوطنية.
أعاد الموظف الضغط على الأزرار قائلا:
- لا يمكن؛ أحمد الفرياش توفي وجاءتنا رسالة لتوقيف حوالته، فما عليك إلا أن تلأخذ سيارة أجرة وتتوجه إلى الوزارة للتأكد من صحة الخبر.
خرج السي أحمد يجر قدميه قائلا:
- يا للهول مت وأنا حي! من قتلني على الورق؟ هل هذه مزحة؟ ألا تكون هذه المزحة إلا عندما أردت أن أشتري فاكهة لزوجي في وحمها الذي لم يتم.
أخرج الورقة المطوية على أربع وسار إلى باب الرواح. كانت الشمس قد ارتفعت في لسماء وبدأ يشعر بالدفء . مد الترخيص إلى الشاوش وسأله عن المكتب المكلف بالحوالات المعلقة. صعد السلم حسب تعليمات الشاوش حتى وصل إلى مكتب به ثلاث نساء ورجل. فضل أن يتوجه عند الرجل مباشرة وإن كان منهمكا في تدوين شيئ ما على ورقة. سأله عن مشكلته دون أن يرفع رأسه عن الورقة.
ماذا يقول السي أحمد؟ هل يقول لقد توقفت حوالتي بسبب وفاتي؟ أم يسأل الموظف هل توفي السيد أحمد الفرياش فعلا؟ كل هذه التساؤلات دارت في رأسه قبل أن يقول؛ وهويقدم رقم تأجيره:
- لم أتوصل بحوالة هذا الشهر ولا ادري ما السبب.
طلب الرجل من إحدى النساء الثلاث أن تبحث عن الرقم في الحاسوب الموضوع أمامها. استدارت المرأة على الكرسي الدوار بعدما كانت تتحدث مع صديقاتها وضغطت على مجموعة أزرار قائلة:
- تسأل عن السيد أحمد الفرياش المعلم بمجموعة مدارس آيت علي أو المكي ؟ لقد توفي منذ مدة.
جمع السي أحمد كل قواه ليقول:
- غـ... غـ... غلط يا سيدتي غــ غلط! لأن الواقف أمامك هو أحمد الفرياش بلحمه وعظمه، وقد انتقلت من هذه المجموعة التي ذكرت.
فاجأ الجواب السيدة، وظلت مشدوهة للحظات ثم أعادت الضغط على الأزرار كأنها تتأكد من الوفاة. طلبت من السيدة الجالسة بجانبها أن تذهب إلى أحد المكاتب وتسأل عن يوم كذا، هل وصلت وثيقة من الوثائق تثبت وفاة السيد أحمد الفرياش أم ماذا وقع؟
قامت السيدة متثاقلة بعدما سجلت المعلومات على ورقة وغابت لبعض الوقت. أخرج السي أحمد منديله المطوي على أربع ليمسح حبات العرق التي انسابت على وجهه الحليق، وهو يتساءل من قتلني على الورق؟ وعادت السيدة وفي يدها ورقة صغيرة وقرأت:
- << في ذلك اليوم وصلنا فاكس من وزارة الخارجية يقول: إن السيد أحمد الفرياش وجد مقتولا تحت الجسور قرب ميلانو وليس في جيبه سوى جواز سفره وشهادة مغادرة التراب الوطني؛ وبعض القطع النقدية المغربية>>.
أغمي على السي أحمد في مكتب الوزارة. وأفاق بعد لحظات وقد شعر ببرودة الماء على جبينه وصدره.
واصلت السيدة القراءة:
- وقد أخبرتنا السفارة المغربية التي أخبرتها السلطات الأيطالية بميلانو، أن المسمى قيد حياته أحمد الفرياش مهنته معلم رقم تأجيره كذا وعنوانه مجموعة مدارس آيت علي أو المكي؛ فرعية آيت احماد هو القتيل؛ واتصلت بالسلطات التابعة لها هذه الفرعية إلا أنها لم تجد أحدا بالعنوان المذكور، وتم تسجيله تحت عنوان مجهول، وطلبت منا التشطيب عليه من لائحة موظفي الدولة، انتهى كلام السفارة؛ والفاكس.
سأل السي دون أن يوجه كلامه لأحد من الموظفين الأربعة:
-<< وما العمل لأثبت أني مازلت حيا أرزق؟>>.
أجابه الموظف الوحيد بين ثلاث نساء:
- ما عليك إلا أن تثبت قانونيا أنك على قيد الحياة، من خلال دعوى ترفعها ضد الوزارة التي قتلتك.
خرج السي أحمد إلى شارع النصر يجر رجليه تحت الأشجار الوارفة الظل، ومئات التساؤلات والاحتمالات تدور في رأسه:
- جواز السفر وشهادة مغادرة التراب الوطني اختفيا من القمطر، والمعطي لم يظهر له أثر منذ خروجه من المنزل. هل يكون المعطي فعلها؟ فالشبه كبير بينهما، وكثير من الناس يحتار أيهما المعطي وأيهما أحمد.
استند إلى جدع شجرة في شارع النصر قبل أن ينطلق إلى القامرة؛ وسأل نفسه والشجرة في آن:
- هل أنا حي أم ميت؟
ثم قام وقعد على الرصيف:
- من جهة ... فأنا ميت حسب الوزارة والأوراق! ومن جهة ثانية فأنا حي... بدليل أني... ( وشرع يلمس جسده) ما هذا الهراء؟
امتطى حافلة الثانية عشرة والنصف. وأكل سندويشا في الطريق لا يتذكر طعمه. وصل إلى قريته . وجد الخبر قد سبقه من النيابة التي عينت معلما مكان المرحوم السيد أحمد الفرياش . دخل المنزل وهو يصيح:
- لقد مت يا خديجة، لقد قتلني الطليان وأرسلوا شهادة وفاتي إلى الوزارة.
أغمي على خديجة زوجة المرحوم أحمد الفرياش. وأفاقت بعد لحظات وقد أحست ببرودة الماء على جبهتها وصدرها.
انطلق السي أحمد يجمع الوثائق التي تثبت أنه حي بدءا بالمقدم والشيخ وصولا إلى المحكمة. لكن كيف نلغي حكما غير موجود ؛ يقول أحد موظفي المحكمة فلا السي أحمد ولا المحكمة تملك وثيقة تثبت وفاته.
- والحل ؟ تساءل السي أحمد
- عليك أن تقتل نفسك أولا ثم تقيم الحجة على أنك مازلت حيا.
- كيف هل أنتحر؟
- يجب إحضار شهادة تثبت أنك ميت وبناء عليها وعلى الوثائق الأخرى يتم إلغاؤها وبالتالي إثبات أنك حي. والجهة التي تملك وثيقة وفاتك هي وزارة الخارجية التي جاءت بالخبر.
اقترض السي أحمد مرة أخرى من الزملاء وأيقظته زوجه في الثانية والنصف صباحا. كوى قميصه؛ ولمع حذاءه ، أخذ تذكرته وجلس على مقعد وسط الحافلة قرب النافذة، وتظاهر بالنوم، وقد حرص على ضم حقيبته الجلدية الصغيرة بين ركبتيه وصدره؛ ونظر من النافذة، ورأى طيورا تضرب بأجنحتها في الفضاء الواسع...
ماي 98