rajaab
07-01-2006, 06:02 PM
طريقة الإسلام في
فهم الأحكام
إن عمل الجماعة أو الحزب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلق بإقامة الدين لا بد من أن يقوم على العلم الشرعي المطلوب، لأنه كما بيّنا سابقاً لا عمل قبل العلم ولا عبادة لله إلا بعلم مع إخلاص النية له سبحانه.
فما هي حدود العلم الشرعي المطلوب من هذه الجماعة ، وما هي الثقافة التي يجب أن تتثقف بها، وتبني شبابها على أساسها وتهيء الأمة لها؟.
إنه بناءً على هذا العلم الشرعي المطلوب من الجماعة والتقيد به يجري الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذه الجماعة أو الحزب. فإن هي خالفت ما هو مطلوب منها شرعاً نُصحت، وإن اعوجت قُومت، وإنه ليطالها من هذه الفريضة ما يطال غيرها. والأمر كله تقيد واتباع، ولا تجوز المخالفة. والنصيحة تطال الجميع .
والذي يجدر البدء به في هذا المجال هو أن هناك طريقة ثابتة للتوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية كلها، سواء منها الأحكام الشرعية المتعلقة بحمل الدعوة أو بالعبادات أو بالمعاملات أو العقوبات أو بالمطعومات أو بالملبوسات أو بالأخلاق ...
وهذه الطريقة الثابتة أملاها الإسلام وطبيعته، لا عبقرية المسلمين وذكاؤهم. ذلك أن العقيدة الإسلامية تملي على المسلم أن لا يأخذ، ولو حكماً واحداً، من خارج الشرع، وأن يتقيد باستنباطه بحدود ما تدل عليه النصوص. فكان لا بد من الطريقة التي تحفظ عليه هذا المنحى، وتضبط فهمه بحيث يقتصر على الوحي فقط، وبحيث تتكامل النظرة إلى العقيدة مع النظرة إلى الفقه وضوابطه.
وهذه الطريقة الثابتة في الاجتهاد هي من الأهمية بحيث تأتي في المرتبة الأولى من ثقافة الجماعة أو الحزب. فهي التي تؤدي إلى استنباط الأحكام. فإن كانت طريقة الاستنباط صحيحة أدت إلى وجود الأحكام الشرعية الصحيحة، على غلبة الظن، ووجد الأجر عليها. وإلاّ فلا عبرة بأي رأي لا يقوم على طريقة الاستنباط الشرعية الثابتة، وإن سمى شرعياً زوراً. فليست العبرة بالتسمية بل بالواقع الذي يصح أن تطلق عليه هذه التسمية. لذلك فهي مُلْزِمة.
ونحن اليوم أحوج من الأمس للتمثل بهذه الطريقة التي تمنع المسلمين من التأثر بالفكر الغربي وطريقة استنباطه، وهو مرض العصر الذي وقع فيه كثير ممن يسمون بالعلماء. حيث صارت اجتهاداتهم وفتاويهم متحللة من الضوابط، تسير مع الهوى الغربي وليس مع الهُدى الرباني.
إذاً فلجوء المسلم إلى الشرع له طريقة ثابتة في الاجتهاد يجب أن يجتمع عليها كل المسلمين وإن اختلفت نتيجة اجتهاداتهم، ونحن هنا سنعرض لهذه الطريقة بإجمال. وهي كما كانت طريقة للسلف كذلك يجب أن تكون للخلف ولخلفهم حتى قيام الساعة.
فهم الواقع :
وطريقة الإسلام هذه تقوم على فهم المشكلة الحادثة فهماً عميقاً، ثم الإتيان بالأدلة الشرعية اللازمة لمعالجة هذه المشكلة وفهمها ودراستها، ومن ثم يصار إلى استنباط الحكم من هذه الأدلة.
فوجود الجماعة أو الحزب الذي يعمل للتغيير مرتبط بالواقع الذي وجد فيه، من حيث أنه يجب أن يتبنى الأحكام الشرعية اللازمة لتغيير هذا الواقع.
وفهم الواقع يقتضي وضع دراسات مستفيضة عنه.
وفهم الشرع يقتضي تحديد مصادر الأدلة الشرعية، وتحديد قواعد الأصول وهي القوانين التي يجري بحسبها الاستنباط. وعملية الاستنباط هذه تحتاج إلى المجتهد الذي يملك المقدرة على إنزال الأحكام على وقائعها وإجراء الأحكام على عللها.
إذاً فقيام أية جماعة أو حزب مرتبط بالواقع الذي نشأ فيه، فهو يريد أن يغيره فيجعله موضع التفكير، وموضع التغيير. من هنا كان على الحزب أو الجماعة أن تدرس الواقع دراسة عميقة، ودقيقه، وتحدد المشاكل التي يجب معالجتها. والمشاكل الكثيرة يجب أن يميّز بينها: هل هي مشاكل ناتجة عن مشاكل، أو مشاكل ناتجة عنها مشاكل. وهذا يتطلب التمييز بين المشكلة وظواهرها، وبين المرض الأساسي وعوارضه. وبهذا الفهم يتحدد واقع المرض الأساسي، وما نتج عنه من عوارض مرضية، وبعد الانتهاء من تشخيص الداء ينتقل إلى تشخيص الدواء.
وهنا يلفت النظر إلى أن الطبيب الماهر يجب أن لا تخدعه العوارض عند تحديد المرض الأساسي، فإذا كان مرض في المعدة عند إنسان ما، أدى إلى وجود حساسية عنده، وبالتالي أدت هذه الحساسية إلى طفرة جلدية مع وجود بعض الحرارة، فإن الطبيب إذا اكتفى بمعالجة الطفرة الجلدية والحرارة بأن أعطى الدواء المناسب لهما وغفل عن معالجة المعدة، فإن مثل هذا العلاج قاصر، ومثل هذا الطبيب فاشل. فلا بد أولاً من معالجة الأصل الذي هو مرض المعدة. حتى إذا عولج ذهب المرض وذهبت معه عوارضه، ومن ثم يحدد هذا الطبيب الماهر إن كانت هذه العوارض تذهب بمعالجة أو من غير معالجة. فقد تذهب تلقائياً بمجرد معالجة السبب الذي أنتجها. وقد تترك آثاراً لا بد من معالجتها. ولكن تبقى معالجة العوارض جزئية. وهكذا..
كذلك الواقع الذي نعيش فيه اليوم. فإننا نعلم أن فيه مشاكل أساسية نتجت عنها مشاكل فرعية كثيرة. فمن المشاكل الأساسية التي تصيب الأمة اليوم البعد عن تمثل حاكمية الله في حياة المسلمين. وأنتج هذا كثيراً من المشاكل الجزئية الناجمة عنه (كالفقر الناجم عن الظلم، والجهل، وفشوّ الأخلاق السيئة وتحكم العلاقات الفاسدة ...) وفي هذا يقول تعالى مبيناً السبب الأساسي في ذلك: ]وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً[.
وهذه المشاكل الجزئية وجدت بوجوده، ومعالجتها الجذرية الدائمة لا تكون إلا عن طريق تغييره أولاً، فما لم يصبّ العمل على استئناف الحياة الإسلامية، وذلك بجعل العقيدة الإسلامية عقيدة سياسية تسيّر أعمال المسلم كلها في الحياة بحسب أوامر الله ونواهيه، وتدفعه لإقامة الحكم بما أنزل الله، فإنه ما لم يصبّ العمل على هذا فلن يقضى على كل آثار التحاكم لغير ما أنزل الله تعالى.
لذلك لم تكن المشكلة الأساسية تعليمية ولا أخلاقية ولا اقتصادية، ولا الموضوع الرئيسي هو موضوع استنقاذ حقوق المسلمين، ولا تدعيم مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. بل الموضوع هو موضوع الحاكمية بجانبيه العقائدي والعملي. وأَنّ هذه الحاكمية هي لله وحده. فمن حيث الواقع يجب إعادة ثقة المسلمين بأحكام إسلامهم، وذلك بإعادة ما فقدته العقيدة في نفوسهم من الاهتمام بإيجاد النظام المنبثق عن هذه العقيدة في حياتهم، ومن التطلع إلى الجنة والشوق لها، والخوف من جهنم والفرار منها، ومن الاهتمام بأحوال المسلمين جميعهم، بل بأحوال الناس كل الناس من خلال العقيدة الإسلامية.
لذلك فإن الجماعة، بهذا الإدراك، تحدد المرض الأساسي وتعلم حقاً وصدقاً أنه متى تمّتْ معالجة هذا المرض تم القضاء على كل عوارضه. ومن هنا تتبيّن لنا أهمية الوعي على الواقع.
وهذا ما يسمى عند الأصوليين بالمناط. فلا بد من تحقيق المناط قبل الشروع في جمع الأدلة الشرعية.
والوعي على الواقع والتفقه فيه أصعب من التفقه في الأحكام المتعلقة به. ويتطلب الدقة، لأننا إذا فهمنا الواقع بشكل خاطئ، وانطبع في ذهننا هذا الفهم الخاطئ للواقع، ثم ذهبنا نتلمس الأدلة الشرعية التي تعالج الواقع فإننا لا بد سنأتي بالأدلة التي تعالج الواقع الخطأ الذي انطبع في ذهننا وليس الواقع المُعاش، لذلك فإننا سنورد الأدلة في غير محلها.
وفهم الواقع والتفقه فيه يحتاج إلى العقل. ولا يجوز اعتبار الواقع مصدراً للتفكير ، ولا ينشأ من الواقع أي حكم بل يفهم الواقع كما هو على حقيقته.
فهم الشرع:
ثم بعد معرفة الواقع على حقيقته بواسطة العقل تأتي المعالجة الشرعية لهذا الواقع، المستنبطةُ من الأدلة الشرعية. ولا يجوز استعمال العقل في المعالجة كحَكَم أو كمصدر، وإنما عمل العقل هنا هو أن يفهم المعالجة الموجودة في الأدلة الشرعية.
وفهم الشرع يقتضي معرفة المصادر التي تستقي منها الجماعة الشرع، ومعرفة القواعد الأصولية التي تعتمد عليها في فهم الشرع الذي تريد أن تغير الواقع السيئ به. وبالتالي تعطي التصور الصحيح بنظرها للواقع الذي تريد نقل الناس إليه ومعرفة الطريقة التي تتبعها في عملية الاجتهاد أي طريقة الاستدلال.
مصادر الشرع:
فليس هناك حكم إلاّ وله مصدر صدر منه، لذلك يجب تبني المصدر بعد البحث والاقتناع القطعي به. ومعلوم أن المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي وهي الكتاب والسنة غير مختلف عليهما، أما المصادر التبعية كالإجماع والقياس والاستحسان ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا فهذه كلها مختلف فيها. وتَبَيُّنُ ما يصلح لأن يكون دليلاً عند الجماعة يعطي صورة عن اتجاهها في أخذ الشرع.
ومعلوم أن تبني المصادر التبعية يعتمد على أدلة قطعية، أي يجب أن يأتي من القرآن والسنة ما يثبت قطعاً أنها أدلة شرعية يعتمد عليها كمصدر للتشريع، أي أن المصدرين الأساسيين قد ارشدا إلى الأخذ بهذا المصدر أو ذلك بشكل قطعي. ولا يكفي في أخذ المصادر الشرعية بالتقليد، فهي من الكليات التي يجب فيها القطع، والتقليد لا يوصل إلى القطع.
فإذا حصرت مصادر التشريع عرفنا أي الينابيع التي تعبّ منها هذه الجماعة، وأياً منها التي لا يجوز الأخذ منها. وتحديد المصادر من الأهمية بمكان لأن الخطأ في واحد منها فقط يؤدي إلى الخطأ في كل الأحكام المتعلقة به. وتحديد المصادر يجب أن يسبق تحديد الأحكام الشرعية المتعلقة بعمل الجماعة، فليس مقبولاً أن تقوم جماعة تحمل رسالة الإسلام من غير تبنٍ للمصادر الشرعية.
وليس مقبولاً أن تتبنى كل المصادر التبعية ظناً منها أنها بذلك تحمل الخير الكثير، بل ستحمل بذلك الغث والسمين وتخلط بينهما، وسيؤدي بها هذا إلى إخضاع الشرع للواقع أو للعقل أو للأهواء أو للعواطف أو للمصلحة، ويكون عند ذلك الدليل في خدمتها وليس العكس كما هو مطلوب.
فالأصل في الجماعة أن تحدد مصادرها قبل أن تعطي رأيها في تغيير الواقع، وبعيداً عن التأثر بالواقع، بل تتأثر بالنصوص فقط ودلالاتها القطعية في إثبات المصادر أو عدم إثباتها. ثم إن ما تثبته الجماعة من مصادر تثبته لنفسها وتكون أصولاً بحقها ولا تلزم الآخرين بها، بل تناقش الآخرين بما عندها لتحملهم عليه بالحجة والإقناع، خصوصاً أن ما عندها قطعي في نظرها، وإلا فإنها تضييق على نفسها وعلى الآخرين.
أصول فهم الشرع:
وبعد أن تثبت الجماعة المصادر التي تستقي منها الشرع تنتقل إلى معرفة كيفية التعامل والأخذ من هذه المصادر. أي تنتقل إلى معرفة القواعد التي يوصل البحث فيها إلى استنباط الأحكام من مصادرها، ولا شك أن الفقيه حين يعرض ليأخذ حكماً شرعياً يكون في ذهنه قاعدة من قواعد الأصول يبني عليها حكمه. فلا علم من غير أصول سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة.
والنصوص الشرعية فيها العام والخاص، وفيها المجمل والمفصَّل، وفيها المطلق والمقيد، وفيها الأوامر والنواهي، وفيها الناسخ والمنسوخ وفيها مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وفيها المنطوق والمفهوم والمعقول من النص، وفيها خبر الواحد وأين يحتج به وأين لا يحتج به…الخ. والجماعة يجب أن تحدد قواعدها الأصولية وتتبناها وتُعرّف بها.
إن هذه القواعد الأصولية هي في معظمها خلافية. ومعلوم أن كل قاعدة يتشعب عنها كثير من الفروع. وبما أنها خلافية فيجب أن تخرج من دائرة الخلاف بالتبني فيها لما تراه الجماعة أنه الصواب، وبعد تبنيها يجري الفهم للفروع بحسب هذه القواعد.
وبعد معرفة الأصول والقواعد الأصولية تكون الجماعة قد ملكت القدرة على فهم الشرع من مصادره، وليس عليها بعد ذلك إلا أن تتبع طريقة الاجتهاد المعروفة الثابتة. وهذا ما يجب أن تمتاز به الجماعة عن غيرها. وهذا ما يجب أن تخرج به للناس عن طريق تثقيف شبابها به. وهذا أول ما يجب أن تقوم هذه الجماعة على أساسه.
نعم إن عمل المجتهد كعمل الطبيب. أول ما يفعله أنه يسمع للمريض وصف حاله. ثم بعد هذا يحدد المرض الأساسي الذي يشكو منه هذا المريض بعد أن يبعد عنه التأثر بأعراض المرض. ثم بعد هذا يعود بالذاكرة إلى العلم الذي اكتسبه أيام الدراسة، وقد يراجع الكتب التي تعينه على وصف العلاج، ثم بعدها العلاج أي إنه انتقل إلى الناحية النقلية في وصف العلاج.
نعم إن الجماعة التي تريد التغيير وتقوم به، إذا كانت جماعة إسلامية فيجب أن يكون تغييرها إسلامياً. وأن يكون التغيير بناء على الدليل الشرعي وليس بناء على الرأي الشخصي ولا الهوى ولا المصلحة العقلية ولا الواقع والظروف. بل الشرع هو الذي يجب أن يملي على الجماعة الحكم الشرعي. وليست محبة الإسلام والغيرة على أوضاع المسلمين هي التي تُملي على الجماعة أي حكم، فمصلحة المسلمين يحددها الشرع. والشرع جاء بمصلحة المسلمين. وهنا لا بد من بعض التفصيل الذي يجلو نظرة الإسلام إلى المصلحة. ومتى تكون المصلحة معتبرة شرعاً.
المصلحة:
المصلحة هي جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي إما أن يقررها العقل، وإما أن يقررها الشرع. فإن ترك تقريرها للعقل استغلق على الناس تقرير المصلحة الحقيقية، وذلك أن العقل محدود . وهو لا يستطيع الإحاطة بكنه الإنسان وحقيقته. فلا يستطيع أن يقرر ما هو مصلحة له لأنه لا يدرك حقيقته حتى يدرك أن هذا الشيء هو مصلحة أو مفسدة. ولا يدرك حقيقة الإنسان إلاّ خالقه. ولا يمكن أن يقرر مصلحته على وجه التحقيق إلاّ خالقه، وهو الله سبحانه وتعالى. نعم إن الإنسان يمكنه أن يظن أن هذا الشيء مصلحة أو مفسدة ولكنه لا يمكنه الجزم بذلك. لذلك كان ترك تقرير المصلحة بناء على الظن يؤدي إلى الوقوع في المهالك. إذ قد يظن الشيء مفسدة ثم يظهر أنه مصلحة ، فيكون قد أبعد الخير عنه. وقد يظن الشيء مصلحة ثم يظهر أنه مفسدة، فيكون قد أوقع الضرر بنفسه. وقد يحكم العقل اليوم على الشيء أنه مفسدة ثم يتبين له غداً أنه مصلحة، أو يتبين له أنه مفسدة اليوم بعد أن كان حكم عليه بالأمس أنه مصلحة. وهذا لا يجوز في الحكم على الشيء. وهذا ما تشتهر به الأنظمة الوضعية، فواضعوها من البشر يتوخون بها الخير للناس. فإننا نراهم دائمي التغيير والتعديل في القوانين، حتى أصبح تطوير النظام من مستلزمات حلهم لمشاكلهم، لأنهم في الواقع لم يستطيعوا حتى الآن التوصل إلى الحكم على الأشياء والأفعال الحكم النهائي الصحيح. ومن هنا حكمهم بأن الذي لا يطور نظامه فهو جامد متحجر، ومن هنا نرى تأثر المسلمين بالكفار في هذه الناحية. فدفاعاً عن أنفسهم ودينهم، ولبعدهم عن الفهم الصحيح لطبيعة الإسلام نراهم ينساقون مع عدوهم في تبني طبيعة التفكير هذه.
إن الخالق وحده هو الذي يدبر أمر الإنسان ويحل له مشاكله الناشئة عن حاجاته وغرائزه ويشبعها الإشباع الصحيح. والمطلوب هو المعالجة الصحيحة المنطبقة على الواقع الذي يراد معالجته. وبما أن واقع الإنسان هو هو لا يتغير فتكون معالجاته ثابتة لا تتغير، فالرجل من حيث هو رجل يحتاج بحسب طبيعته الثابتة إلى إشباع ميله نحو المرأة. وبما أن الرجل والمرأة كواقعين هما ثابتان لا يتغيران، فالأصل في العلاقة أن تبقى ثابتة فليس من المقبول أن نضع نظاماً يحدد علاقة الرجل بالمرأة ثم نعود ونغير هذا النظام بعد فترة بحجة التطور طالما أن واقعهما لم يتغير. وهكذا.
فهم الأحكام
إن عمل الجماعة أو الحزب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلق بإقامة الدين لا بد من أن يقوم على العلم الشرعي المطلوب، لأنه كما بيّنا سابقاً لا عمل قبل العلم ولا عبادة لله إلا بعلم مع إخلاص النية له سبحانه.
فما هي حدود العلم الشرعي المطلوب من هذه الجماعة ، وما هي الثقافة التي يجب أن تتثقف بها، وتبني شبابها على أساسها وتهيء الأمة لها؟.
إنه بناءً على هذا العلم الشرعي المطلوب من الجماعة والتقيد به يجري الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذه الجماعة أو الحزب. فإن هي خالفت ما هو مطلوب منها شرعاً نُصحت، وإن اعوجت قُومت، وإنه ليطالها من هذه الفريضة ما يطال غيرها. والأمر كله تقيد واتباع، ولا تجوز المخالفة. والنصيحة تطال الجميع .
والذي يجدر البدء به في هذا المجال هو أن هناك طريقة ثابتة للتوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية كلها، سواء منها الأحكام الشرعية المتعلقة بحمل الدعوة أو بالعبادات أو بالمعاملات أو العقوبات أو بالمطعومات أو بالملبوسات أو بالأخلاق ...
وهذه الطريقة الثابتة أملاها الإسلام وطبيعته، لا عبقرية المسلمين وذكاؤهم. ذلك أن العقيدة الإسلامية تملي على المسلم أن لا يأخذ، ولو حكماً واحداً، من خارج الشرع، وأن يتقيد باستنباطه بحدود ما تدل عليه النصوص. فكان لا بد من الطريقة التي تحفظ عليه هذا المنحى، وتضبط فهمه بحيث يقتصر على الوحي فقط، وبحيث تتكامل النظرة إلى العقيدة مع النظرة إلى الفقه وضوابطه.
وهذه الطريقة الثابتة في الاجتهاد هي من الأهمية بحيث تأتي في المرتبة الأولى من ثقافة الجماعة أو الحزب. فهي التي تؤدي إلى استنباط الأحكام. فإن كانت طريقة الاستنباط صحيحة أدت إلى وجود الأحكام الشرعية الصحيحة، على غلبة الظن، ووجد الأجر عليها. وإلاّ فلا عبرة بأي رأي لا يقوم على طريقة الاستنباط الشرعية الثابتة، وإن سمى شرعياً زوراً. فليست العبرة بالتسمية بل بالواقع الذي يصح أن تطلق عليه هذه التسمية. لذلك فهي مُلْزِمة.
ونحن اليوم أحوج من الأمس للتمثل بهذه الطريقة التي تمنع المسلمين من التأثر بالفكر الغربي وطريقة استنباطه، وهو مرض العصر الذي وقع فيه كثير ممن يسمون بالعلماء. حيث صارت اجتهاداتهم وفتاويهم متحللة من الضوابط، تسير مع الهوى الغربي وليس مع الهُدى الرباني.
إذاً فلجوء المسلم إلى الشرع له طريقة ثابتة في الاجتهاد يجب أن يجتمع عليها كل المسلمين وإن اختلفت نتيجة اجتهاداتهم، ونحن هنا سنعرض لهذه الطريقة بإجمال. وهي كما كانت طريقة للسلف كذلك يجب أن تكون للخلف ولخلفهم حتى قيام الساعة.
فهم الواقع :
وطريقة الإسلام هذه تقوم على فهم المشكلة الحادثة فهماً عميقاً، ثم الإتيان بالأدلة الشرعية اللازمة لمعالجة هذه المشكلة وفهمها ودراستها، ومن ثم يصار إلى استنباط الحكم من هذه الأدلة.
فوجود الجماعة أو الحزب الذي يعمل للتغيير مرتبط بالواقع الذي وجد فيه، من حيث أنه يجب أن يتبنى الأحكام الشرعية اللازمة لتغيير هذا الواقع.
وفهم الواقع يقتضي وضع دراسات مستفيضة عنه.
وفهم الشرع يقتضي تحديد مصادر الأدلة الشرعية، وتحديد قواعد الأصول وهي القوانين التي يجري بحسبها الاستنباط. وعملية الاستنباط هذه تحتاج إلى المجتهد الذي يملك المقدرة على إنزال الأحكام على وقائعها وإجراء الأحكام على عللها.
إذاً فقيام أية جماعة أو حزب مرتبط بالواقع الذي نشأ فيه، فهو يريد أن يغيره فيجعله موضع التفكير، وموضع التغيير. من هنا كان على الحزب أو الجماعة أن تدرس الواقع دراسة عميقة، ودقيقه، وتحدد المشاكل التي يجب معالجتها. والمشاكل الكثيرة يجب أن يميّز بينها: هل هي مشاكل ناتجة عن مشاكل، أو مشاكل ناتجة عنها مشاكل. وهذا يتطلب التمييز بين المشكلة وظواهرها، وبين المرض الأساسي وعوارضه. وبهذا الفهم يتحدد واقع المرض الأساسي، وما نتج عنه من عوارض مرضية، وبعد الانتهاء من تشخيص الداء ينتقل إلى تشخيص الدواء.
وهنا يلفت النظر إلى أن الطبيب الماهر يجب أن لا تخدعه العوارض عند تحديد المرض الأساسي، فإذا كان مرض في المعدة عند إنسان ما، أدى إلى وجود حساسية عنده، وبالتالي أدت هذه الحساسية إلى طفرة جلدية مع وجود بعض الحرارة، فإن الطبيب إذا اكتفى بمعالجة الطفرة الجلدية والحرارة بأن أعطى الدواء المناسب لهما وغفل عن معالجة المعدة، فإن مثل هذا العلاج قاصر، ومثل هذا الطبيب فاشل. فلا بد أولاً من معالجة الأصل الذي هو مرض المعدة. حتى إذا عولج ذهب المرض وذهبت معه عوارضه، ومن ثم يحدد هذا الطبيب الماهر إن كانت هذه العوارض تذهب بمعالجة أو من غير معالجة. فقد تذهب تلقائياً بمجرد معالجة السبب الذي أنتجها. وقد تترك آثاراً لا بد من معالجتها. ولكن تبقى معالجة العوارض جزئية. وهكذا..
كذلك الواقع الذي نعيش فيه اليوم. فإننا نعلم أن فيه مشاكل أساسية نتجت عنها مشاكل فرعية كثيرة. فمن المشاكل الأساسية التي تصيب الأمة اليوم البعد عن تمثل حاكمية الله في حياة المسلمين. وأنتج هذا كثيراً من المشاكل الجزئية الناجمة عنه (كالفقر الناجم عن الظلم، والجهل، وفشوّ الأخلاق السيئة وتحكم العلاقات الفاسدة ...) وفي هذا يقول تعالى مبيناً السبب الأساسي في ذلك: ]وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً[.
وهذه المشاكل الجزئية وجدت بوجوده، ومعالجتها الجذرية الدائمة لا تكون إلا عن طريق تغييره أولاً، فما لم يصبّ العمل على استئناف الحياة الإسلامية، وذلك بجعل العقيدة الإسلامية عقيدة سياسية تسيّر أعمال المسلم كلها في الحياة بحسب أوامر الله ونواهيه، وتدفعه لإقامة الحكم بما أنزل الله، فإنه ما لم يصبّ العمل على هذا فلن يقضى على كل آثار التحاكم لغير ما أنزل الله تعالى.
لذلك لم تكن المشكلة الأساسية تعليمية ولا أخلاقية ولا اقتصادية، ولا الموضوع الرئيسي هو موضوع استنقاذ حقوق المسلمين، ولا تدعيم مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. بل الموضوع هو موضوع الحاكمية بجانبيه العقائدي والعملي. وأَنّ هذه الحاكمية هي لله وحده. فمن حيث الواقع يجب إعادة ثقة المسلمين بأحكام إسلامهم، وذلك بإعادة ما فقدته العقيدة في نفوسهم من الاهتمام بإيجاد النظام المنبثق عن هذه العقيدة في حياتهم، ومن التطلع إلى الجنة والشوق لها، والخوف من جهنم والفرار منها، ومن الاهتمام بأحوال المسلمين جميعهم، بل بأحوال الناس كل الناس من خلال العقيدة الإسلامية.
لذلك فإن الجماعة، بهذا الإدراك، تحدد المرض الأساسي وتعلم حقاً وصدقاً أنه متى تمّتْ معالجة هذا المرض تم القضاء على كل عوارضه. ومن هنا تتبيّن لنا أهمية الوعي على الواقع.
وهذا ما يسمى عند الأصوليين بالمناط. فلا بد من تحقيق المناط قبل الشروع في جمع الأدلة الشرعية.
والوعي على الواقع والتفقه فيه أصعب من التفقه في الأحكام المتعلقة به. ويتطلب الدقة، لأننا إذا فهمنا الواقع بشكل خاطئ، وانطبع في ذهننا هذا الفهم الخاطئ للواقع، ثم ذهبنا نتلمس الأدلة الشرعية التي تعالج الواقع فإننا لا بد سنأتي بالأدلة التي تعالج الواقع الخطأ الذي انطبع في ذهننا وليس الواقع المُعاش، لذلك فإننا سنورد الأدلة في غير محلها.
وفهم الواقع والتفقه فيه يحتاج إلى العقل. ولا يجوز اعتبار الواقع مصدراً للتفكير ، ولا ينشأ من الواقع أي حكم بل يفهم الواقع كما هو على حقيقته.
فهم الشرع:
ثم بعد معرفة الواقع على حقيقته بواسطة العقل تأتي المعالجة الشرعية لهذا الواقع، المستنبطةُ من الأدلة الشرعية. ولا يجوز استعمال العقل في المعالجة كحَكَم أو كمصدر، وإنما عمل العقل هنا هو أن يفهم المعالجة الموجودة في الأدلة الشرعية.
وفهم الشرع يقتضي معرفة المصادر التي تستقي منها الجماعة الشرع، ومعرفة القواعد الأصولية التي تعتمد عليها في فهم الشرع الذي تريد أن تغير الواقع السيئ به. وبالتالي تعطي التصور الصحيح بنظرها للواقع الذي تريد نقل الناس إليه ومعرفة الطريقة التي تتبعها في عملية الاجتهاد أي طريقة الاستدلال.
مصادر الشرع:
فليس هناك حكم إلاّ وله مصدر صدر منه، لذلك يجب تبني المصدر بعد البحث والاقتناع القطعي به. ومعلوم أن المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي وهي الكتاب والسنة غير مختلف عليهما، أما المصادر التبعية كالإجماع والقياس والاستحسان ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا فهذه كلها مختلف فيها. وتَبَيُّنُ ما يصلح لأن يكون دليلاً عند الجماعة يعطي صورة عن اتجاهها في أخذ الشرع.
ومعلوم أن تبني المصادر التبعية يعتمد على أدلة قطعية، أي يجب أن يأتي من القرآن والسنة ما يثبت قطعاً أنها أدلة شرعية يعتمد عليها كمصدر للتشريع، أي أن المصدرين الأساسيين قد ارشدا إلى الأخذ بهذا المصدر أو ذلك بشكل قطعي. ولا يكفي في أخذ المصادر الشرعية بالتقليد، فهي من الكليات التي يجب فيها القطع، والتقليد لا يوصل إلى القطع.
فإذا حصرت مصادر التشريع عرفنا أي الينابيع التي تعبّ منها هذه الجماعة، وأياً منها التي لا يجوز الأخذ منها. وتحديد المصادر من الأهمية بمكان لأن الخطأ في واحد منها فقط يؤدي إلى الخطأ في كل الأحكام المتعلقة به. وتحديد المصادر يجب أن يسبق تحديد الأحكام الشرعية المتعلقة بعمل الجماعة، فليس مقبولاً أن تقوم جماعة تحمل رسالة الإسلام من غير تبنٍ للمصادر الشرعية.
وليس مقبولاً أن تتبنى كل المصادر التبعية ظناً منها أنها بذلك تحمل الخير الكثير، بل ستحمل بذلك الغث والسمين وتخلط بينهما، وسيؤدي بها هذا إلى إخضاع الشرع للواقع أو للعقل أو للأهواء أو للعواطف أو للمصلحة، ويكون عند ذلك الدليل في خدمتها وليس العكس كما هو مطلوب.
فالأصل في الجماعة أن تحدد مصادرها قبل أن تعطي رأيها في تغيير الواقع، وبعيداً عن التأثر بالواقع، بل تتأثر بالنصوص فقط ودلالاتها القطعية في إثبات المصادر أو عدم إثباتها. ثم إن ما تثبته الجماعة من مصادر تثبته لنفسها وتكون أصولاً بحقها ولا تلزم الآخرين بها، بل تناقش الآخرين بما عندها لتحملهم عليه بالحجة والإقناع، خصوصاً أن ما عندها قطعي في نظرها، وإلا فإنها تضييق على نفسها وعلى الآخرين.
أصول فهم الشرع:
وبعد أن تثبت الجماعة المصادر التي تستقي منها الشرع تنتقل إلى معرفة كيفية التعامل والأخذ من هذه المصادر. أي تنتقل إلى معرفة القواعد التي يوصل البحث فيها إلى استنباط الأحكام من مصادرها، ولا شك أن الفقيه حين يعرض ليأخذ حكماً شرعياً يكون في ذهنه قاعدة من قواعد الأصول يبني عليها حكمه. فلا علم من غير أصول سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة.
والنصوص الشرعية فيها العام والخاص، وفيها المجمل والمفصَّل، وفيها المطلق والمقيد، وفيها الأوامر والنواهي، وفيها الناسخ والمنسوخ وفيها مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وفيها المنطوق والمفهوم والمعقول من النص، وفيها خبر الواحد وأين يحتج به وأين لا يحتج به…الخ. والجماعة يجب أن تحدد قواعدها الأصولية وتتبناها وتُعرّف بها.
إن هذه القواعد الأصولية هي في معظمها خلافية. ومعلوم أن كل قاعدة يتشعب عنها كثير من الفروع. وبما أنها خلافية فيجب أن تخرج من دائرة الخلاف بالتبني فيها لما تراه الجماعة أنه الصواب، وبعد تبنيها يجري الفهم للفروع بحسب هذه القواعد.
وبعد معرفة الأصول والقواعد الأصولية تكون الجماعة قد ملكت القدرة على فهم الشرع من مصادره، وليس عليها بعد ذلك إلا أن تتبع طريقة الاجتهاد المعروفة الثابتة. وهذا ما يجب أن تمتاز به الجماعة عن غيرها. وهذا ما يجب أن تخرج به للناس عن طريق تثقيف شبابها به. وهذا أول ما يجب أن تقوم هذه الجماعة على أساسه.
نعم إن عمل المجتهد كعمل الطبيب. أول ما يفعله أنه يسمع للمريض وصف حاله. ثم بعد هذا يحدد المرض الأساسي الذي يشكو منه هذا المريض بعد أن يبعد عنه التأثر بأعراض المرض. ثم بعد هذا يعود بالذاكرة إلى العلم الذي اكتسبه أيام الدراسة، وقد يراجع الكتب التي تعينه على وصف العلاج، ثم بعدها العلاج أي إنه انتقل إلى الناحية النقلية في وصف العلاج.
نعم إن الجماعة التي تريد التغيير وتقوم به، إذا كانت جماعة إسلامية فيجب أن يكون تغييرها إسلامياً. وأن يكون التغيير بناء على الدليل الشرعي وليس بناء على الرأي الشخصي ولا الهوى ولا المصلحة العقلية ولا الواقع والظروف. بل الشرع هو الذي يجب أن يملي على الجماعة الحكم الشرعي. وليست محبة الإسلام والغيرة على أوضاع المسلمين هي التي تُملي على الجماعة أي حكم، فمصلحة المسلمين يحددها الشرع. والشرع جاء بمصلحة المسلمين. وهنا لا بد من بعض التفصيل الذي يجلو نظرة الإسلام إلى المصلحة. ومتى تكون المصلحة معتبرة شرعاً.
المصلحة:
المصلحة هي جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي إما أن يقررها العقل، وإما أن يقررها الشرع. فإن ترك تقريرها للعقل استغلق على الناس تقرير المصلحة الحقيقية، وذلك أن العقل محدود . وهو لا يستطيع الإحاطة بكنه الإنسان وحقيقته. فلا يستطيع أن يقرر ما هو مصلحة له لأنه لا يدرك حقيقته حتى يدرك أن هذا الشيء هو مصلحة أو مفسدة. ولا يدرك حقيقة الإنسان إلاّ خالقه. ولا يمكن أن يقرر مصلحته على وجه التحقيق إلاّ خالقه، وهو الله سبحانه وتعالى. نعم إن الإنسان يمكنه أن يظن أن هذا الشيء مصلحة أو مفسدة ولكنه لا يمكنه الجزم بذلك. لذلك كان ترك تقرير المصلحة بناء على الظن يؤدي إلى الوقوع في المهالك. إذ قد يظن الشيء مفسدة ثم يظهر أنه مصلحة ، فيكون قد أبعد الخير عنه. وقد يظن الشيء مصلحة ثم يظهر أنه مفسدة، فيكون قد أوقع الضرر بنفسه. وقد يحكم العقل اليوم على الشيء أنه مفسدة ثم يتبين له غداً أنه مصلحة، أو يتبين له أنه مفسدة اليوم بعد أن كان حكم عليه بالأمس أنه مصلحة. وهذا لا يجوز في الحكم على الشيء. وهذا ما تشتهر به الأنظمة الوضعية، فواضعوها من البشر يتوخون بها الخير للناس. فإننا نراهم دائمي التغيير والتعديل في القوانين، حتى أصبح تطوير النظام من مستلزمات حلهم لمشاكلهم، لأنهم في الواقع لم يستطيعوا حتى الآن التوصل إلى الحكم على الأشياء والأفعال الحكم النهائي الصحيح. ومن هنا حكمهم بأن الذي لا يطور نظامه فهو جامد متحجر، ومن هنا نرى تأثر المسلمين بالكفار في هذه الناحية. فدفاعاً عن أنفسهم ودينهم، ولبعدهم عن الفهم الصحيح لطبيعة الإسلام نراهم ينساقون مع عدوهم في تبني طبيعة التفكير هذه.
إن الخالق وحده هو الذي يدبر أمر الإنسان ويحل له مشاكله الناشئة عن حاجاته وغرائزه ويشبعها الإشباع الصحيح. والمطلوب هو المعالجة الصحيحة المنطبقة على الواقع الذي يراد معالجته. وبما أن واقع الإنسان هو هو لا يتغير فتكون معالجاته ثابتة لا تتغير، فالرجل من حيث هو رجل يحتاج بحسب طبيعته الثابتة إلى إشباع ميله نحو المرأة. وبما أن الرجل والمرأة كواقعين هما ثابتان لا يتغيران، فالأصل في العلاقة أن تبقى ثابتة فليس من المقبول أن نضع نظاماً يحدد علاقة الرجل بالمرأة ثم نعود ونغير هذا النظام بعد فترة بحجة التطور طالما أن واقعهما لم يتغير. وهكذا.