حكماوي
10-01-2006, 10:05 PM
جاء إلى القرية لا أحد يعلم من أين أتى، سكن في حجرة بالدور الأول من منزل الحاج العربي المهجور، كل ما يعرف عنه الناس في القرية أن اسمه سعيد وأنه في الثلاثين من عمره وأنه أعزب، هذا ما نقل عن الحاج العربي لما قدم له المفاتيح، سأله عن مهنته فأجاب بأنه موظف ولم يزد. أدخل أثاثه ليلا خوفا من عيون الفضوليين من أهل القرية.
يقوم في الصباح، يسوي هندامه ويتجه إلى المدينة على متن أول سيارة أجرة تغادر القرية، يحمل حقيبة سفر صغيرة، لا يعود إلا بعد العصر. يمكث قليلا بالبيت ثم يخرج إلى المقهى الوحيد حيث يطلب قهوة سوداء.
يتذكر سكان القرية لما وفد عليهم لأول مرة، طلب قهوة سوداء في فنجان، بحث النادل عن فناجين القهوة مدة قبل أن يفتح علبة جديدة أحضرها الحاج في أحد أسفاره إلى الشمال. فأهل القرية متعودون على شرب الشاي . يتناولونه فبل الأكل وبعد الأكل وهو الأكل في غياب الأكل.
كل من كان في المقهى ذلك المساء انتبه والتفت يراقب الوافد الجديد. وضع قطعة السكر في الفنجان وحرك الملعقة بعض الشيء، تذوق المحلول الأسود، أحس بطعم المرارة يلسع لسانه، أخذ جرعة من كأس الماء، أعاد التحريك ليتأكد من أن السكر ذاب، تذوق، وضع القطعتين المتبقيتين في الفنجان وتركه كأنما تناساه. وجال ببصره خارج المقهى.
كل من في المقهى ركز انتباهه عليه، أصحاب الضامة وضعوا بيادقهم، ودارت همهمات، تراهنوا على من يكشف سره الأول يكون من نصيبه براد شاي. ومع مرور الأيام ازداد ثمن الرهان حتى بلغ مئات الدراهم، ثم ثمن خروف، ولم يستطع أحد فك اللغز الذي حير رواد مقهى الحاج العربي.
يكون حقل الرؤية أمامه واسعا، بحيث يستطيع أن يراقب الجزار الوحيد في القرية، كيف يقسم جثة عجل إلأى قسمين متساويين من فقرات الذيل إلى الرقبة. نصف الفقرات يذهب يمينا والنصف الآخر يذهب يذهب شمالا. ويراقب الإسكافي والخياط والنجار والحلاق، وبائع الإسمنت والحديد، وجزءا كبيرا من الشارع الوحيد الذي يشطر القرية إلى قسمين، وبائع النعناع وهو يستظل تحت الشجرة الوحيدة. والسيارات والعربات والراجلين والبهائم . والكلب الأسود الذي لا يفارق الجزار.
يجلس صامتا لا يكلم أحدا. يرشف من فنجانه كأنه تذكره بعد مدة. فإذا صلى الناس العشاء، وجاء الحاج لإغلاق المقهى بعد خلوها من الرواد، يترك ثمن الفنجان مع إتاوة للنادل، ويغادر في صمت. كل من راهن على معرفة سره خسر الرهان، حتى أضحى لغزا يحير سكان القرية. نسجت حوله الأقاويل والحكايات ، منهم من يقول إنه موظف بأحد مكاتب المدينة، ويقسم على أنه رآه يدخل أحد مكاتب المدينة ومنهم من يقول إن زوج خالته يعرفه، وقد سلم عليه في المدينة، وأنه يعمل نادلا بأحد مقاهيها؛ ومنهم من يقول إنه مخبر أو بوليس سري حضر القرية بحثا عن أسرار. وراجت هذه الفكرة في القرية ولم يعد النادل يأخذ منه ثمن القهوة، ولا صاحب سيارة الأجرة ثمن التوصيلة، ولا صاحب الحانوت. الكل أصبح يتحاشى النظر في وجهه والجلوس قربه حتى لا تتسرب بعض الكلمات إلى أذنيه. وأخذت نساء الحي ينظفن أمام منزله، والفتيات يكثرن من الوقوف عند عمود الكهرباء القريب من المنزل، حتى يعود من المقهى.
لم يغير عادته منذ وفد إلى القرية، يخرج في الصباح ومعه حقيبة السفر الصغيرة، يركب أول سيارة أجرة متوجهة إلأى المدينة، يعود بعد العصر، يجلس على نفس الكرسي في نفس المكان، يطلب قهوة سوداء في فنجان، يضع فيه ثلاث قطع سكر، ويضع الفنجان جانبا كأنه نسيه.
في أحد الأيام شاهد أحد سكان القرية في مدينة أخرى شخصا يشبه سعيدا ، يتسول في المحطة؛ لم تكن معه حقيبة السفر الصغيرة، ولم يكن يرتدي نفس الملابس التي يظهر بها في القرية، لم ينتبه جيدا، صدمته المفاجأة؛ إذ لم ينتبه حتى ذاب الشخص وسط الزحام، لم يتأكد منه؛ أخذ يضرب كفا بكف، لو تأكد لربح الرهان، سيطلب أكثر وسيفضحه أمام رواد المقهى؛ سيقول لهم: " إن الشخص الجالس أمامكم والذي يشغلكم كل هذه المدة لم يكن سوى متسول في محطات الحافلات". وفي المساء سأل رواد المقهى عنه فقيل له: " لقد جاء اليوم باكرا وجمع أثاثه ورحل.
سلا، أكتوبر 1998
يقوم في الصباح، يسوي هندامه ويتجه إلى المدينة على متن أول سيارة أجرة تغادر القرية، يحمل حقيبة سفر صغيرة، لا يعود إلا بعد العصر. يمكث قليلا بالبيت ثم يخرج إلى المقهى الوحيد حيث يطلب قهوة سوداء.
يتذكر سكان القرية لما وفد عليهم لأول مرة، طلب قهوة سوداء في فنجان، بحث النادل عن فناجين القهوة مدة قبل أن يفتح علبة جديدة أحضرها الحاج في أحد أسفاره إلى الشمال. فأهل القرية متعودون على شرب الشاي . يتناولونه فبل الأكل وبعد الأكل وهو الأكل في غياب الأكل.
كل من كان في المقهى ذلك المساء انتبه والتفت يراقب الوافد الجديد. وضع قطعة السكر في الفنجان وحرك الملعقة بعض الشيء، تذوق المحلول الأسود، أحس بطعم المرارة يلسع لسانه، أخذ جرعة من كأس الماء، أعاد التحريك ليتأكد من أن السكر ذاب، تذوق، وضع القطعتين المتبقيتين في الفنجان وتركه كأنما تناساه. وجال ببصره خارج المقهى.
كل من في المقهى ركز انتباهه عليه، أصحاب الضامة وضعوا بيادقهم، ودارت همهمات، تراهنوا على من يكشف سره الأول يكون من نصيبه براد شاي. ومع مرور الأيام ازداد ثمن الرهان حتى بلغ مئات الدراهم، ثم ثمن خروف، ولم يستطع أحد فك اللغز الذي حير رواد مقهى الحاج العربي.
يكون حقل الرؤية أمامه واسعا، بحيث يستطيع أن يراقب الجزار الوحيد في القرية، كيف يقسم جثة عجل إلأى قسمين متساويين من فقرات الذيل إلى الرقبة. نصف الفقرات يذهب يمينا والنصف الآخر يذهب يذهب شمالا. ويراقب الإسكافي والخياط والنجار والحلاق، وبائع الإسمنت والحديد، وجزءا كبيرا من الشارع الوحيد الذي يشطر القرية إلى قسمين، وبائع النعناع وهو يستظل تحت الشجرة الوحيدة. والسيارات والعربات والراجلين والبهائم . والكلب الأسود الذي لا يفارق الجزار.
يجلس صامتا لا يكلم أحدا. يرشف من فنجانه كأنه تذكره بعد مدة. فإذا صلى الناس العشاء، وجاء الحاج لإغلاق المقهى بعد خلوها من الرواد، يترك ثمن الفنجان مع إتاوة للنادل، ويغادر في صمت. كل من راهن على معرفة سره خسر الرهان، حتى أضحى لغزا يحير سكان القرية. نسجت حوله الأقاويل والحكايات ، منهم من يقول إنه موظف بأحد مكاتب المدينة، ويقسم على أنه رآه يدخل أحد مكاتب المدينة ومنهم من يقول إن زوج خالته يعرفه، وقد سلم عليه في المدينة، وأنه يعمل نادلا بأحد مقاهيها؛ ومنهم من يقول إنه مخبر أو بوليس سري حضر القرية بحثا عن أسرار. وراجت هذه الفكرة في القرية ولم يعد النادل يأخذ منه ثمن القهوة، ولا صاحب سيارة الأجرة ثمن التوصيلة، ولا صاحب الحانوت. الكل أصبح يتحاشى النظر في وجهه والجلوس قربه حتى لا تتسرب بعض الكلمات إلى أذنيه. وأخذت نساء الحي ينظفن أمام منزله، والفتيات يكثرن من الوقوف عند عمود الكهرباء القريب من المنزل، حتى يعود من المقهى.
لم يغير عادته منذ وفد إلى القرية، يخرج في الصباح ومعه حقيبة السفر الصغيرة، يركب أول سيارة أجرة متوجهة إلأى المدينة، يعود بعد العصر، يجلس على نفس الكرسي في نفس المكان، يطلب قهوة سوداء في فنجان، يضع فيه ثلاث قطع سكر، ويضع الفنجان جانبا كأنه نسيه.
في أحد الأيام شاهد أحد سكان القرية في مدينة أخرى شخصا يشبه سعيدا ، يتسول في المحطة؛ لم تكن معه حقيبة السفر الصغيرة، ولم يكن يرتدي نفس الملابس التي يظهر بها في القرية، لم ينتبه جيدا، صدمته المفاجأة؛ إذ لم ينتبه حتى ذاب الشخص وسط الزحام، لم يتأكد منه؛ أخذ يضرب كفا بكف، لو تأكد لربح الرهان، سيطلب أكثر وسيفضحه أمام رواد المقهى؛ سيقول لهم: " إن الشخص الجالس أمامكم والذي يشغلكم كل هذه المدة لم يكن سوى متسول في محطات الحافلات". وفي المساء سأل رواد المقهى عنه فقيل له: " لقد جاء اليوم باكرا وجمع أثاثه ورحل.
سلا، أكتوبر 1998