المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جزئية العمل أم تكامله وتوازنه؟



rajaab
17-02-2006, 05:27 PM
جزئية العمل أم تكامله وتوازنه؟

إن هناك من المسلمين العاملين من يطرح فكرة التكامل والتوازن المطلوبين في العمل الإسلامي الحاضر، ويطرح في مقابله الطرح الجزئي، والغلو في الطرح.

ويعني بتكامل الطرح عدم جواز انحصاره في جانب أو جزئية دون الجوانب والجزئيات الأخرى. فمن خصائص المنهج الإسلامي أن فيه نظاماً عبادياً، ونظاما اقتصادياً، ونظاماً اجتماعياً .. ونظاماً سياسياً ونظاماً عسكرياً .. ثم إن العمل الإسلامي الأول في عصر النبوة كان متكاملاً. فرسول الله rكان يرعى ويتابع العمل الإسلامي من شتى جوانبه. ففي نطاق التربية كان مربياً، وفي نطاق التعليم كان معلماً، وفي نطاق الجهاد كان قائداً، وفي نظام التخطيط كان رائداً .. والعمل الإسلامي ملزَم بأن يقفو أثر الرسول r في أي زمان ومكان وليس له خيار بأن يتبع هذا الطريق أو ذاك.

وفي المقابل يرى أن الجزئية في العمل الإسلامي تكون بالاقتصار على جانب من جوانب العمل الإسلامي يلتزمه ولا يتعداه ، ويؤمن به وحده ويرفض ما عداه. وأن الجزئية تسبب التعدد والتشرذم في العمل وتبدد الطاقات. والقرآن قد أنكر البعضية على بني إسرائيل فيقول: ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ[. ثم يذكر أن التحدي الجاهلي وكليته يفرض التكامل في العمل الإسلامي.

وعن التوازن يرى هذا الفريق من المسلمين العاملين أنه يكون بإعطاء كل جانب من جوانب العمل المتكامل وزنه ومعياره اللازمين، وإلاّ أدى إلى الخلل وإلى الغلو. وأن من شأن التوازن اعتبار منطق الأولويات.

وخلاصة القول إن التكامل يتناول الإسلام ككل. وعليه يجب أن تتصف جماعة العمل بالطرح الشمولي. وإن التوازن يفرض الاهتمام بكل جانب بحسب مقادير ومعايير مناسبة له. فلا يزاد فيها وإلاّ أدت إلى الغلو ولا ينقص منها وإلاّ أدت إلى الخلل.

إن قانوني التكامل والتوازن هما قانونان يحكمان طبيعة الأشياء والأفعال. وهما قانونان يلاحظهما المسلم وغير المسلم. ويشعر بأهمية وجودهما في حياته ويعمل على تحقيقهما حتى تأتي النتائج حسبما يتوخى.

إلاّ أنه يجب أن يلاحظ أن الحكم على تكامل الأشياء وتحقيق توازنها يعتمد على العقل بخلاف الأفعال فإنه يعتمد على الشرع.

ذلك أن العقل يدرك واقع الأشياء وعناصرها المكونة منها، وبنسبها المحددة. وهذا هو مجال أهل التخصص وهذا ينطبق عليه حديث الرسول r: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» [رواه مسلم].

فالفلاّح والطبيب والمهندس، والميكانيكي كل واحد منهم خبير بمادة عمله وقوانينها. ويراعي تحقيق هذا القانون في عمله.

أما الأفعال فتحديدها يكون من الله تعالى وينطبق عليها حديث الرسول r: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» [رواه البخاري ومسلم]. وتنطبق عليه القاعدة الشرعية: (الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي). ذلك أن الحكم على الأفعال بالحسن أو بالقبح يخضع لاعتبار الإنسان لهذا الفعل ولا يأتي من ذات الفعل. فحسب ما يؤمن به المسلم من أفكار يحكم على فعاله. فإن كان الفعل بحسب أوامر الله ونواهيه فهو حسن وإلاّ فهو قبيح. وكذلك فإن القاعدة الشرعية تقول: (الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع).

وعلى هذا فالمسلم حينما يريد تحقيق التكامل والتوازن في الأشياء يعتمد على عقله مثله مثل أي إنسان آخر. أما إذا أراد تحقيق ذلك في الأفعال فيجب أن يكون بحسب الحكم الشرعي.

وثمة أمر آخر: إن قانون التكامل والتوازن يأخذ حجم الفعل المطلوب شرعاً ولا يتعداه . وهذا يقتضينا التفصيل التالي:

إن الإسلام كامل، ويقوم بالإسلام كله كلُّ المسلمين أي الأمة الإسلامية.

والأمة الإسلامية فيها الأفراد والجماعات والخليفة.

وكل واحد منهم أناط الشرع به أحكاماً دون غيره.

فالفرد المسلم يقوم بما هو مطلوب منه شرعاً كفرد، والجماعة تقوم بما هو مطلوب منها كجماعة، والخليفة يقوم بما هو مطلوب منه كخليفة.

فإذا قام المسلمون كأفراد بكل ما هو مطلوب منهم، وكذلك الجماعة، وكذلك الخليفة تحققت عندها كلية العمل وشموليته. وأي تقصير، أو اقتصار (للفرد أو الجماعة أو للخليفة) على فروض دون أخرى يخرج المقصر عن كلية ما هو مطلوب منه ويوقعه في الإثم.

والإسلام الكامل لا يكتمل وجوده من غير وجود الخليفة، وتعلق وجود كثير من أحكام الدين بوجوده يجعل وجوده واجباً شرعياً، ويجعل العمل لإيجاده واجباً شرعياً، وبالتالي يجعل وجود الجماعة التي تعمل لإيجاده واجباً شرعياً. فتقوم الجماعة بكل ما هو مطلوب منها لإقامة الدين عن طريق إقامة دولة الخلافة. وهذا ما يسمى بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية. فهذه هي الكلية المطلوبة منها شرعاً، وليس كل الدين الذي لا تستطيعه وليس منوطاً بها. بل هي ممنوعة شرعاً من القيام بكثير من الأحكام كإقامة الحدود مثلاً. فهي لا تأخذ عمل الخليفة بل تعمل على إيجاده ليقوم هو بالمطلوب منه: «فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته» [رواه مسلم] «... فإن الله سائلهم عما استرعاهم» [رواه مسلم].

وهنا نلفت النظر إلى أن الفرد يؤمن بالإسلام كاملاً، ويدعو له كذلك بالإجمال. ولكنه يتبنى بالتفصيل الذي يلزمه لما هو مطلوب منه شرعاً، ولما هو مطلوب من الجماعة التي يعمل معها. وأي تقصير في أي منها يحاسبه الله عليه. وكذلك الخليفة فإنه يقوم بما هو مطلوب منه شرعاً كفرد، فهو يصلي، ويصوم، ويحج، ويزكي، ويبر والديه، ويمتنع عن الزنا والربا والكذب والغش .. ويقوم كذلك بما هو مطلوب منه شرعاً كخليفة، فهو يسن القوانين، ويعلن الجهاد، ويحمي بيضة المسلمين، ويحكم بما أنزل الله ، ويقيم الحدود، وأي تقصير في أي منها يحاسبه الله عليه.

هذا هو الواقع الذي تنزل عليه الأحكام الشرعية، ولا بد من وضوحه عند الجماعة لكي تستطيع أن تفرق بين ما هو مطلوب منها، وبين ما هو ليس مطلوباً. فلا تعتبر بالتالي ما هو مطلوب من الخليفة مطلوباً منها. فهي إذا حددت واقعها تستطيع أن تحدد حجم المطلوب منها. وبالتالي تسأل عنه كله. هذا من ناحية التكامل.

وبعد أن تحدد الجماعة المطلوب منها، فإن هي اقتصرت على جانب من المطلوب دون جانب، أو ركزت على جانب فأعطته أكثر من حجمه على حساب غيره، أو لم تراع جانب الأولويات في عملها. فإنها تفقد التوازن المطلوب . هذا مع التذكير بأن الذي يحدد الأولوية هو الشرع وليس العقل. فالجماعة عملها سياسي، وتقوم على مبدأ تريد أن تجعله مطبقاً على الأمة الإسلامية، وتحتل العقيدة المركز الأول في الدعوة لأنها الأساس الذي يقوم عليه كل فرع والذي تتعلق به كل الأحكام الشرعية. والتركيز على إقامة الدولة يجب أن يأخذ حيزه الواسع لتعلق كثير من الأحكام بها ومن هنا جاءت تسميتها بتاج الفروض.

وعليه فإن كانت الجماعة تسعى لتحقيق تكاملها وتوازنها خارج هذه النظرة فإنها بذلك تكلف نفسها ما لم يكلفها به الله. وستبقى تشكو من النقص والاختلال كما هي تشكو من التعدد، وتتحول إلى جماعة شاكية باكية، ضاعت عن الطريق لأنها أضاعت بوصلة اهتدائها.

فإذا كان من خصائص المنهج الإسلامي أن فيه نظاماً عبادياً، ونظاماً اقتصادياً، ونظاماً اجتماعياً، ونظاماً سياسياً ونظاماً عسكرياً ... فما هو تعلق الجماعة بهذه الأنظمة جميعها؟.

لقد وجدت الجماعة لإيجاد حكم الله. فإذا قام حكم الله قامت الأنظمة الإسلامية المختلفة.

ففي النظام الاقتصادي هناك أحكام شرعية متعلقة بالأرض، وأحكام متعلقة بالملكيات، وأخرى بالاستصناع، وغيرها بالتجارة الداخلية والخارجية. وكل هذه الأحكام وغيرها أناطها الشارع بالخليفة ويقوم هو بالرعاية المتعلقة بها وليست الجماعة.

وفي النظام السياسي تقوم الدولة على قواعد وأركان حددها الشارع، من خليفة إلى معاونين ، إلى ولاة وقضاة، وجهاز إداري ومجلس أمة. وللخليفة صلاحياته وكذلك للمعاونين والولاة، وللجيش مهماته ، وللجهاز الإداري مجاله. فما دخل الجماعة في كل هذا؟.

حتى الجيوش الإسلامية فإن إعدادها الذي من شأنه أن يحقق الغاية من وجودها، وهو نشر الدعوة الإسلامية إلى العالم، يقتضي الإعداد على المستوى العالمي وليس على المستوى الحركي الذي يتعلم فيه المسلم كيف يفكك رشاشه أو يستعمله أو كيف يضرب القاذف. ومن المعلوم أن هناك سلاحاً فردياً وسلاحاً لا تملكه إلاّ الدول. وهذا يقتضي أن يكون التدريب على مستوى التخصص العالي (مدفعية، مدرعات، طيران، نووية، فضاء…) وان تنشأ المختبرات ومصانع الأسلحة والمطارات ومراكز التدريب. وهكذا... فما هو شأن الجماعة بكل هذا. فالرسول rعندما كان يُعِدُّ ويدرب صحابته لم يكن يفعل ذلك كمسؤول جماعة بل كحاكم دولة. والتأسي به في ذلك يجب أن لا يخرج عن هذه النظرة.

فليس على الجماعة أن تقوم هي برعاية هذه الأنظمة. بل عليها أن توجد الخليفة الذي يقوم هو بدوره بتحقيق هذه الأنظمة لأنها من مسؤولية. وإذا أهملت الأمة إيجاد الخليفة وحاولت القيام بأعماله تكون قد حرّفت الشرع.

إن على الجماعة أن تتبنى فكرياً الأنظمة التي تريد حكم الناس بها حين يوفقها الله إلى ذلك. فتحدد الجماعة هيكلية النظام الإسلامي وتحدد دستور الدولة، وتعطي صورة إجمالية للناس عن أحكام الإسلام، ليروا فيه القدرة على معالجة مشاكل الناس، والسير بهم نحو تحقيق عبوديتهم بجعلهم يستظلون بنعمة تطبيق أحكام الشرع الحنيف عليهم.

وأما الجزئية التي ذكرها أصحاب هذا الرأي، فإن كانت جمعيات خيرية أو أخلاقية أو جمعيات تقوم على حكم شرعي واحد كتعاهد القرآن مثلاً، فإن هذه الجمعيات لا شيء عليها طالما أن أعضاءها يتجمعون على حكم شرعي، أما إذا ادعت هذه الجمعيات أنها بعملها هذا تريد إقامة الدين فهنا نقول لها إنها خرجت عن الطريق الشرعية المرسومة وأصبحت جزئيتها مرفوضة.

أما إذا قامت جماعة ، ولم تأخذ عن الخليفة أحكامه، ولا عن الفرد أحكامه؛ ولم تعتبر نفسها جماعة المسلمين بل هي جماعة من المسلمين، وحددت هدفها وهو إقامة حكم الله واستئناف الحياة الإسلامية؛ ومن ثم تبنت كل ما يلزمها في العمل لتحقيق هدفها؛ فتبنت الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية، وما يتعلق بها من أفكار ، وأعدت شبابها إعداداً جيداً بالعقيدة التي تبنتها؛ وتبنت الطريق الذي يوصلها لتحقيق هدفها؛ وتبنت الدستور الذي ستحكم به الناس؛ وتبنت الأفكار التي تبين زيف الأفكار الباطلة المطروحة في ساحة المسلمين، وتصحيح المفاهيم المغلوطة؛ وطلبت من الفرد الذي يعمل معها أن يحقق مقوماته الفردية حتى يكون فرداً مسلماً صالحاً، من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق؛ وركزّتْ عملها على إقامة المجتمع الإسلامي الذي تقوم علاقاته على الإسلام والذي ترعاه دولة الخلافة؛ وراحت تراقب حركات الحكام وأسيادهم حتى تعرف ما يخطط للمسلمين، وتكشفه لهم، وتتبنى في مقابلة ما يصلح للأمة من الأحكام الشرعية؛ وتعمل لتسلم الحكم عملياً من هؤلاء الطواغيت الذين لا يَرْقُبون إلاً ولا ذمة في المسلمين. تكون هذه الجماعة بذلك كله قد استكملت ما يلزمها كجماعة تعمل لإعادة الحكم بما أنزل الله.

هذه الجماعة تكون ثقافتها واسعة، ومجال عملها واسعاً، وبالتالي فإنها يجب أن تقوم بكل ما هو مطلوب منها وهو كثير، وبالتوازن المطلوب فلا تتحول إلى جمعية رياضية أو أخلاقية أو مؤسسة اقتصادية ... بل تحافظ على طرحها السياسي وعملها السياسي. فأفكارها أفكار رعاية شؤون، وتبنٍّ لمصالح الأمة.

وعليه فإن طرح الجزئية مرفوض بالشكل المذكور آنفاً. وكذلك فإن طرح الجماعة الواسع بحيث يشمل ما هو مطلوب منها، وما ليس مطلوباً هو أيضاً فهم خاطئ ومرفوض.