المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متاعب مع الشدة ( 2 حافلة الاتجاه المعاكس)



حكماوي
19-02-2006, 05:08 PM
2 حافلة الاتجاه المعاكس

البحث عن فرعية بين الجبال كالبحث عن إبرة وسط كومة من التبن، يزرعونها كالقبور بدون شواهد، المقدم والمعلم غزوا كل الجبال، والقطاعات الأخرى تتفرج ولم تغادر المدينة بعد، كيف الوصول إلى مدرسة لا يعلم أين نبتت.

اقترض من أمه ثمن حلقتين ذهبيتين من نوع لويس الرابع الرابع عشر، لم تسلمهما إلا بعد أن أسالت معهما دموعا ساخنة؛ كانت تخبؤهما لوقت الشدة الذي ظنت أنه لن يأتي.

ركب مع أول الخطافة الذي يغادرالدوارإلى المدينة. توجه إلى محطة الحافلات، يسأل عن الوجهة، ووقت السفر، والمدة التي يستغرقها، ومحطات الوقوف. أخذ حقيبة ظهره التي حملها كل ملابسه، لا يعلم كم تدوم الرحلة، كما جمع بعض أواني المطبخ.

تناول التذكرة؛ وضع أمتعته فوق الحافلة المهترئة الوحيدة التي تؤمن الرحلة إلى المنطقة، صعد من الباب الأمامي، جل المقاعد محتلة. كلما سأل أحدهم عن مكان بجانبه، اعتذر له أنه محجوز، تذكر أصدقاءه عندما كانوا يسافرون، يجلس كل واحد في مقعد؛ يتصيدون الإناث لمجاورتهم.

دار بعينيه على الوجوه؛ عله يعرف أحدا يقاسمه أعباء الطريق، فلم يعرف أحدا. وجوه كالحة لفحتها شمس أواخر الصيف، وعفرها الغبار والصهد، سائق بشارب كث يغطي الشفة العليا وجزءا كبيرا من السفلى، اصفر بدخان السيجارة التي لا تفارق فمه، وكرش تكورت وامتدت حتى قاربت عجلة القيادة، ودراعين مفتولين تركت الشمس أثرها عليهما. ومساعده من سكان الجنوب، بسحنة سوداء وشعر مجعد، لا تعرف الابتسامة لشفتيه سبيلا، لا يتقن سوى عد الأرواح والأوراق.

وجد مقعدا في آخر الحافلة فوق العجلات، المكان الذي يتهرب منه كل الركاب ولا يجلس عليه إلا سيء الحظ مثله. جلس بمحاداة النافذة ليتمتع بمنظر الطبيعة؛ فهو يسير في هذه الطريق لأول مرة، وسيملها مع توالي الوقت. جمع بعض الأغراض في كيس بلاستيكي أسود وضعه في الرف فوق رأسه، وأسلم العنان لمخيلته يجول في الآفاق يرسم قسما ويخلق تلاميذ ويختار لهم مستوى دراسيا، يجلسهم، يمارس عليهم ما تلقاه في مركز التكوين. لم يوقظه إلا تحرك الحافلة بين شوارع المدينة قبل أن تترك وراءها البنايات، وتشرع في تسلق التلال الأولى المحيطة بالمدينة.

أحس بدوار في رأسه وهيجان في بطنه، أغمض عينيه لينسى ألمه؛ إلأا أن ألمه أبى أن ينساه، وأمعن في تعذيبه. غطى رأسه ووجهه بالفوطة دون جدوى. المقعد فوق العجلة يزيد من معاناته، يتأرجح كلما داست الحافلة على حفرة أو حجرة، يكاد ينخلع من مكانه ليصل إلى سقف الآلة الحديدية.

أخرج مساعد السائق حزمة من الأكياس البلاستيكية السوداء، وشرع في توزيعها، فامتدت الأيدي تتسابق على الوزيعة كما تتسابق على الأرزاق. استلم نصيبه ليدخره لوقت الحاجة القريب، منظر الأكياس حرك بطنه الذي ازداد هيجانه مع كل انعطافة. قاوم كثيرا قبل أن يقذف حمم بطنه في الكيس. ازدادت أوداجه انتفاخا كلما طالت الطريق، طالت خيوط اللعاب من فمه المفتوح إلى الكيس. يحاول قطعها بيده فيتبع الخيط يده التي يمسحها بالفوطة، مصارينه تكاد تخرج من فمه.

- ياربي ما ذنبي حتى تعاقبني كل هذا العقاب؟ هذا القيء يذكرني بالشرب على الجوع، وأنا لم أشرب سوى كأس قهوة وبيضة مسلوقة مع ربع خبزة في مقهى المحطة.

سال منه عرق كثير بلل الفوطة، تمنى لو حصل عطب للحافلة لتتوقف لبعض الوقت حتى يسترد أنفاسه. لو نزل وأكمل الطريق على قدميه بدل هذا العذاب.

أخرجت المرأة التي تجاوره في المقعد قارورة عطر ورشتها تقاوم بها رائحة الحموضة المنتشرة في سماء الحافلة. وأخرى قشرت برتقالة ووضعت قشرتها على أنفها تخفف من الرائحة، وتتقي بها عدوى الدوار الذي بدأ يدب إليها.

توقفت الحافلة أخيرا بأحد القرى الصغيرة التي تتقاطع فيها مجموعة من الحافلات. يتناول فيها المسافرون وجباتهم، ويستردون أنفاسهم. نزل الكل يبحث عن مكان مريح بعيدا عن صفوف المتسولين وماسحي الأحذية الذين يجوبون الشارع الوحيد، منظرهم يسد النفس، ويقطع الشهية.

دخل المقهى وقصد المراحيض مباشرة قبل أن يصبح دخولها متعذرا بفعل الزحام. غسل وجهه وتمضمض ليطرد بعض العياء. أحس بكل أعضائه ترتخي وبخدر يسري في كامل جسمه، فتهالك على أول كرسي صادفه في طريقه، طلب بعض الأكل، لم يستطع مضغه، فمصارينه مازالت تعاني من ألم الطريق، ترك الأكل واتكأ برأسه على المائدة، وأغمض عينيه مدة.

قام بعدما سمع منبهات الحافلات التي تملأ الشارع من الجهتين. صعد الحافلة، المقعد فوق العجلة فارغ كالعادة، بحث عن الفوطة فلم يجدها ، تفرس في الوجوه يستفسرها عنها، فلم يعرف أحدا، متى حصل كل هذا التغيير؟ السائق ليس هو ولا مساعده الأسمر. ولا المرأة التي كانت تجاوره في المقعد.

أحس بنهر من العرق البارد ينزل مع عموده الفقري وهوينزل للبحث عن الحافلة التي تنقله، عله يدركها، فالألوان تتشابه والاتجاه يختلف....

يتبع .....

"Taz"
19-02-2006, 06:31 PM
مشكور أخوي على القصة

alshreer
22-02-2006, 06:02 PM
مشكور اخي على القصة الجميلة .