المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متاعب مع الشدة ( 4 الطريق الجبلي)



حكماوي
26-02-2006, 01:00 AM
4 الطريق الجبلي



طلعت شمس السابع عشر من شتنبر حارة منذ الصباح الباكر، تلفح الوجوه المغبرة، كأنما جمع لها حطب الدنيا الليل كله. المسلك الصاعد إلى الجبل حيث فرعية العزيب خال إلا من بعض الرعاة في اتجاه الغابة القريبة من الدوار، أشجار الدرو والبلوط غطت الجبال من القمة إلى السفح، وتركت شريطا ضيقا يفصلها عن المنازل المتناثرة بين قمم صغيرة، تتخللها طرق ثعبانية رسمتها الحوافر والأظلاف، تنطلق من الساحة القريبة من المدرسة لتتوزع على التلال المحيطة بها.

أعياه الانتظار، حمل ما استطاع حمله، وترك الباقي عند الزملاء الذين ضيفوه البارحة. انطلق مع المسلك الترابي، يسأل من يلقاه عن العزيب. لا شيء سوى الصهد والسراب، وطنين الحشرات على الأشجار، والطريق تصعد، والأنفاس تتقطع، والعرق يبل بين الحقيبة والظهر.

أول محطة خيام بعض الرعاة الرحل، كلابهم مسعورة، مدربة على العراك مع الذئاب والخنازير، لم ينقذه منها سوى صعود شجرة بلوط. تذكر المعلمة التي نهشتها الكلاب، لم يدر هل الكلاب الآدمية أم الحيوان، كلاهما ممكن في هذا الخلاء. ترك الحقيبة على الأرض تعبث بها الكلاب، شمتها، طافت بها ثم بالت عليها. ظلت أعناقها مشرئبة إلى أعلى الشجرة تنتظر حتى أقبل أصحابها. آووه إلى الصباح، كرماء رغم حالة البؤس والفقر وخشونة العيش. الأغنام ليس ملكهم، يرعونها مقابل الربع في النسل.

زودوه ببعض خبز الشعير وشيء من حليب الشياه؛ أصبح رائبا بعد مدة قليلة بفعل الحرارة. أثناء صعود الجبل الثاني، حاول أن يقتل العياء والوقت بالغناء، لم تسعفه حنجرته وظل صوته حبيس جوفه، لم تخرج سوى حشرجة متقطعة.

انتصف النهار وأحس بالجوع والتعب والعطش، جلس تحت شجرة ظليلة يسترد الأنفاس. حط رحله. القميص التصق بالجسد بفعل العرق؛ والثقل. كم كانت فرحته كبيرة لوجود عين ماء وناس بجانب الشجرة، نسي كل تعب اليومين السابقين.

قرب العين حجر ضخم مستدير، كأن يد فنان نحتته هناك، قطره حوالي المترين، كثرة استعماله جعلت قاعدته تتآكل وتتقعر حتى أصبح يشبه الجفنة الكبيرة. وضع عليها رجال جلاليب وبطانيات؛ صبوا عليها الماء وجدور تيغشت المدقوقة، وشرعوا في عركها بأقدامهم المفلطحة في تناغم عجيب، يتممون إيقاع الأقدام بالتصفيق، فينسجم صوت الأرجل مع الأكف، يتطاير رذاذ أسود وبعض الرغوة الداكنة. تتعالى الأغاني، ويشد الواحد بيمناه يسرى الآخر ثم يدوران على الغسيل. وقد رفعا سراويلهما إلى ما فوق الركب، صدورهم عارية تغطيها غابات من الشعر تنزل إلى السرة.

أعجبه المنظر حتى أنساه تعبه، جلس في الظل يتابع العملية. غسل وجهه المغبر؛ خلع حذاءه الذي بدأت رائحته النتنة تفوح، وأصبح يضيق على قدميه المتورمتين. شاركهم طعامهم وترك خبز الشعير لوقت آخر.

لاح غبار كثيف من بعيد، وتبين هيكل شاحنة تقترب، جمع حقيبته وانتعل حذاءه رغم الألم الذي يحدثه، وانتظر الفرج. توقفت الشاحنة عند العين، نزل ركابها تعلو وجوههم طبقة سميكة من الغبار والسواد، ارتووا مثل الخيول دون أن تمس أيديهم الماء.

أصيب بخيبة أمل وهو يرى الشاحنة تنحرف نحو مسلك آخر خلف الشجرة، واختفت بين الأشجار؛ تاركة سحابة من الغبار والدخان.

حمل الحقيبة في تكاسل واتجه صوب العزيب. أرض خلاء على السفح الآخر للجبل، بضعة بيوت ومجموعة من الخيام متناثرة هنا وهناك، تحفها زرائب الشوك والأغصان اليابسة. توجه مباشرة إلى المدرسة يستطلع الأمر.............................................



يتبع.....................................