تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تراب الأرض



علي الحميري
25-05-2006, 10:08 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..
الأخوة الكرام، أعضاء المنتدى المحترمين ..
السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، وتحية واحترم.. أسفت لما حدث لمنتداكم الموقر وفقدان أشياء جميلة استمتعت بقرآتها.. كما أبدي تعاطفي مع المجهود، الذي بذلتموه في استعادة ما تمكنتم من استعادته.. وقد كان لي نص صغير، بعنوان : ثرثرة شفاه مطبقة.. دخل في إطار التثبيت.. إن رأيتم أنه يستحق إعادة الإرسال، سأفعل.. لكني أبعث إليكم، هذه المرة.. بنص آخر، بعنوان.. تراب الأرض.. هو أحد نصوص المجموعة الثالثة.. ذرة فوق شفة.. ارجو
أن ينال استحساناً.. ولكم وافر احترامي ...

ترابُ الأرضٍ
مشوارٌطويل، من العمل المتواصل، محني الظهر، وراء المكاتب، جعل خطواته لهاثاً، كلما أطال السير.. وآلاماً في المفاصل، خاصةً الركبتين.. كلما اضطر لصعود مرتفع، فجاهد، حتى بلغ مقعداً خشبياً طويلاً على الكورنيش الشمالي لمدينة أبوظبي، ودس بين قضيبين من سياجه الحديدي.. المدهون باللون الرمادي.. زجاجة من عصير البرتقال، نصف مملوءة، عشية جميلة، حررها هبوب بحري مريح من قبضة الرطوبة المسيطرة عادة، على مناخ المدينة في مثل تلك الساعة من فصل الصيف، فأحالها نسيمات رقيقة، أخذت تدغدغ وجهه، وتنعش أعصابه المنهكة.. ضاعف من رقتها، رذاذ منعش، صادر عن النافورة العملاقة الواقعة خلفه مباشرة، فأغمض عينيه، مستمتعاً لثوان.. لكنه عاد، فأطلقهما نحو شمس، شرعت بالاستحمام في اللون البرتقالي، حاثة الخطى للانغماس في الأفق ...
انتقلت عيناه إلى شاب ضخم الجثة، أقرب إلى القصر، أخذ بملاحقة شرقية غازية، فاتنة.. تتخذ سروالاً بنياً، شديد القصر.. يكاد لا يحجب، إلاّ الثلث العلوي من فخذيها.. يعلوه قميص أبيض، حررت زريه العلويين من عروتيهما.. بدا له الشاب، رغم تصنعه الجرأة، أقل منها جسارة.. لا يلبث يتشاغل بين حين وآخر، بأمر يعيقه، فتبطئ هي من خطواتها، وتلتفت لتمنحه ابتسامة مشجعة، ظلت عيناه عالقتين بالشابين، حتى تجاوزاه، ثم نقلهما إلى زاوية أخرى، حيث تجمعت أسرة على رمال الشاطئ خلف السياج، حول طفلة في حدود الرابعة، ترقص على أنغام أغنية مرحة تصدر عن آلة تسجيل، وقد أخذ الجميع يصفقون لها مسرورين، أعاد عينيه من الأسرة وأطلقهما ثانية نحو زرقة البحر، شديدة الصفاء ..
مكث شارداً بذهنه، في عهود بعيدة من حياته.. وما لقي فيها من أفراح، وأتراح.. حتى جذبه إلى الواقع، جسم غريب أخذ يتسلل من جهته اليمنى، لم يحاول الالتفات إليه
مباشرة، بل أخذ الجسم المتسلل من زاوية حادة.. يد سمراء صغيرة، أخذت تمتد برشاقة نحو زجاجة العصير.. كان هو قد نسي الزجاجة تماماً.. أو بالأصح رغب عن الكمية المتبقية.. لكن اليد الصغيرة استفزته، فترصد لها، حتى إذا كادت الأصابع النحيلة تلتف بعنق الزجاجة وتذهب بها، هجم يحتويها بكفه، ثم التقت عيناه بعينين لامعتين خضبهما خوف أليم، فهرع هو إلى ابتسامة، لتمحو عنهما الخوف :
.. أسمك ؟..
.. ثعيد ..
أجاب بلثغة جميلة، قلبت السين ثاءً، وشرع يقاوم كفه.. فترك هو الذراع، وضم الجسم كاملاً، بين ساعديه :
.. لا تخف، يا حبيبي ..
خف الخوف تدريجياً، عن العينين اللامعتين.. غير أن المقاومة، أخذت طابع التملص، لتنقذ صاحبها من الطوق المحيط به :
.. لا تخف بابا.. أريد فقط، التحدث معك.. تعال .. اجلس بجواري ..
اقترب الصغير نحو الكرسي متردداً.. ثم اتخذ جلسة المضطر، على الطرف البعيد من المقعد، لكن عينيه، ما انفكتا بحثاً عن مهرب.. سروال أزرق، شديد الاتساع، يكاد يبلغ الركبتين، شد عطفاته حزام بيج، ذائب الحواف كيلا يخر عن الخصر النحيل، وقميص رمادي، مهترئ، عديد المزق، منتوف الجيب، تنتشر فيه رسومات باهتة.. وحذاء، لعل لونه كان أسود، ثم اشتركت الرطوبة، والعتق في تفتيت قشرته.. وأخيراً، شعر كثيف، سقطت مقدمته على الغرة، والعينين ...
عاد إلى شروده.. لكن هذه المرة، إلى عهد أبعد.. إلى الصبا، عندما فارق، وأخوه أبويهما صبيين.. فجاعا، وعريا.. وناما في المساجد، وتحت كراسي المقاهي، وتعرضا للضرب من كفوف غليظة، لم ترحم بؤسهما.. لقد نسي كل تلك الآلام، بعد أن أنعم الله عليه.. نسي، وغفر لكل من قسا عليهما.. غفر، حتى لامرأة، عمل لديها خادماً.. موغلة في قسوتها، دست في فمه يوماً، مكنسة لتنظيف المراحيض.. كما نسي لرجل ظلمه في أجره.. نسي أشياء كثيرة.. لكنه لم ينس قط، وجه رجل كريم.. رحيم.. لمحه، وأخيه.. ينظران بحسرة، إلى الناس، يأكلون من خلف زجاج مطعم.. فأشفق عليهما، وقدم لهما وجبة كاملة.. طبعت صورة ذاك الرجل، في مخيلته طويلاً، وتمنى لو تعرّف عليه في شيخوخته، فرد له شيئاَ من جميله، الذي رآه كبيراً ...
ثم التفت نحو الصبي، فألفاه جالساً، مستكيناً بجواره :
.. ما رأيك يا سعيد، بساندويش شاورما، من ذلك البائع ؟..
أطلق الصغير نحوه، نظرة متسائلة.. كأنه لا يصدق ما سمعه.. فلما وجد على وجهه ابتسامة حنون مشجعة، شعّت على الوجه الوديع، ابتسامة جميلة، وهز رأسه موافقاً :
.. هاك إذاً ..ابتع لنفسك اثنين، وواحد بالدجاج لي.. سنأكل معاً.. موافق ؟..
هز الصبي راسه مرة أخرى :
.. موافق ..
وشعّت في عينيه اللمعة الطفولية الجميلة، واتجه بالورقة النقدية، نحو الكشك، فهتف به
قبل أن يبتعد :
.. سعيد ..
.. نعم، عمو ..
.. لا تنس أن تبتاع لنفسك عصيراً ..
.. بل أريد آيسكريم، عمو ..
.. وآيسكريم أيضاً ..
.. وأنت ؟.. ألن تشرب شيئاً ؟..
.. قنينة ماء صغيرة ..
ازداد الألق في العينين الجميلتين، وتضاعف صفاؤهما، حتى حاكى يم أبوظبي ...
علي أحمد الحميري

forangel
27-05-2006, 01:15 PM
thanks for the story

zorrob
17-06-2006, 02:37 PM
مشكوررررر جداااااااااا

Sniper Wolf
18-06-2006, 11:24 PM
نحن نختار ما نرى

نتفادى الاستماع الى صيحات الحمام من حولنا

خوفا ان يعكر صفوة فنجان قهوة

دمت إنسانا ..

جِهَاد و كَفَى
19-06-2006, 12:41 PM
سلامٌ عليك ..

كم هي قوية تلك العبارات و جزلة ..

أعجبتني كثيرًا ..

سأرجو أن ألقاك قريبًا ..

فيض تحية