المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملتقى الصداقات وعصارة اللغات



آنست نارا
05-06-2006, 06:31 AM
ملتقى الصداقات وعصارة اللغات

ارتعدت فرائصي وأنا ارتشف أول رشفةٍ من كوب القهوة -في مقهى "كوفي بين" الواقع في الطابق الرابع من "البرجين التوأم" بكوالالمبور عاصمة ماليزيا- عندما ربتني شخص على كتفي لألتفت إليه باستغراب شديد فقد قطع علي روعة متابعة النوافير المتلألأة في الحديقة الملاصقة للبرجين التوأم، وما إن إلتفت إليه إذا به صديقي الإيرلندي "محمد". تعرفت عليه عن طريق المراسلة بالبريد الإلكتروني قبل سبع سنوات تقريباً، وكان قد أرفق في إحدى رسائله الإلكترونية صورته الشخصية تعرفت عليه من خلالها.
ما إن وقعت عيناي بعينيه حتى نطق لساني: محمد من إيرلندا؟ فرد علي: ومن سيكون إذن. عندها حييته ودعوته لارتشاف كوبٍ من القهوة على طاولتي وأمارات التعجب والدهشة تسود كلانا بعد هذه الصدفة الغير متوقعة. تشعبنا في الحديث من أول يوم إلتقينا فيه عبر الإنترنت في إحدى مواقع الشات إلى أن تطورت علاقة صداقتنا الإلكترونية وانقطعت منذ سنتين، ولم يحالفنا الحظ في الإلتقاء وجهاً لوجه طيلة تلك السنوات.
أخذ بنا الحديث في الغث والسمين مطولاً في مجالات شتى، ولم نشعر بطول المكوث في المقهى إلا بعد أن نادى النادلون بأن الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلاً -الوقت الذي يغلق فيه المقهى- ولم يكن في المقهى سوانا نتبادل أطراف الحديث بشغف وحدّة. بعدها استضافني صديقي في الفندق الذي نزل به لإكمال حديثنا والذي تشعب وكثُر ولم أكد أتذكر منه شيئا إلا آخر ما تحدث به محمد عن ارتياحه في مخاطبة الشعب وإعجابه بتوافق الثقافات في ماليزيا.
تبلور في ذهن محمد أنه سيرى في ماليزيا ثقافة جنوب شرق آسيا المتمثلة بالثقافة الملايوية فقط، وكان على علم بوجود ثقافات أخرى في البلاد من خلال قراءته عن تاريخ ماليزيا قبل مجيئه، لكنه تصور أن جميع تلك الثقافات قد تكيفت وتأقلمت بالثقافة الماليزية بحكم مكوثهم لعقود وسنون طويلة فيها، ذلك لأنه من أصول عربية عندما هاجرت أسرته إلى إيرلندا منذ عقد من الزمان وانقطعت صلاتهم بالثقافة العربية نسبياً، لكنه وبمجهوده ومثابرته تعلم اللغة العربية وبعض اللغات الأعجمية الأخرى.
عندها هاجمني محمد بسؤال: إذن ماهي اللغة الرسمية في البلاد؟، فقلت له: بالطبع اللغة الملايوية، وتأتي في المرتبة الثانية اللغة الإنجليزية. فقال: إن سبب ارتياحي في هذه البلاد أن معظم أهلها يتحدثون باللغة الانجليزية سواء كانت ركيكة أو فصيحة، فقلت له: هذا صحيح، فإن اللغة الانجليزية وغيرها قد أثرت على اللغة الملايوية، وذلك ملاحظ حتى في حديثهم مع بعضهم البعض، فالسامع لحديثهم ممن لايفهمون اللغة الملايوية ويجيدون الإنجليزية يفهم تقريبا 30% من فحوى حديثهم، لأنهم يخلطون بين اللغتين.
صحيح أن تعلق اللغة بأي ثقافة هو تعلق الروح بالجسد كما يقول المثل الملايوي:Bahasa jiwa bangsa أي اللغة روح الأمة، لكن لم لا تكون هذه "العصارة اللغوية" هي وليد انفتاح البلاد على الشعوب الأخرى والأخذ من ثقافاتهم ولغاتهم، بالتالي فإن هذا الخليط من الثقافات واللغات -مع الحفاظ على الهوية الملايوية- تعتبر ثقافة أو لغة بحد ذاتها.
فأول ما تأثر به الملايويون بالثقافة الهندية في القرون الأولى، وذلك ملاحظ في معظم الحكايات الملايوية القديمة والمقتبسة من الحضارات الهندية القديمة، ومنها حكايتي رمايانا ومهابراتا المشهورتين، ولم يقتصر التأثير الهندي في القصة الملايوية على الشخصيات وحبكة القصة فحسب بل تعدت إلى الألفاظ في الحياة اليومية أيضا، على سبيل المثال لقب Laksemana وتعني أمير البحار، هذا اللقب ذكر في حكاية رامايانا الهندية كما ذكره الأستاذ روسني بن سامح.
تليها الثقافة العربية ويلاحظ في بعض الكلمات الماليزية كلمات عربية دخيلة عليها وخاصة في المفردات الشرعية. وكانت الكتابة الجاوية منتشرة في البلاد منذ القرن الثالث عشر، والتي استعيرت حروفها من اللغة العربية مع زيادات وتعديلات للدلالة على أصوات لا نظير لها في اللغة العربية كما ذكر الأستاذ روسني بن سامح، وقد اندثرت هذه الكتابة إبان الاستعمار البريطاني للبلاد لكنها مازالت متداولة في وقتنا الراهن عند قلة من أهالي البلاد لاسيما كبار السن.
بعدها تأثروا باللغة الإنجليزية في ظل الحكم البريطاني لها حقبة من الزمان، الأمر الذي غيّر مسرى الكتابة الجاوية عندما أعلن الاستعمار إصدار اللائحة الرسمية للأبجدية الجاوية بأن تكون أبجدياتها بالحروف اللاتينية عام 1904م إلى يومنا هذا، بالتالي أدخلت في قواميسها ومحادثاتها اليومية بعض الألفاظ والمفردات الإنجليزية. وتعتبر اللغة الانجليزية الأكثر تأثيراً بالنسبة إلى اللغات الأخرى الدخيلة على المجتمع الماليزي.
فالمرونة التي تتمتع بها الثقافة الماليزية جعلت منها أرضاً خصبة للعصارة اللغوية مع الحفاظ على الهوية الماليزية، أما تضييع اللغة الملايوية كلياً في صالح لغة أخرى فهذا ضياع واندثار للهوية والثقافة الماليزية. ولا أرى ضيراً في هذه العصارة اللغوية إذ من الطبيعي تأثرهم بتلك الثقافات واللغات نظراً للحقبة الزمنية لفترة الاستعمار البريطاني في تأثرهم باللغة الانجليزية، ونظراً لسماحة الدين الإسلامي ومعاملات العرب التجارية في تأثرهم باللغة العربية، ونظراً لدخول الحضارة الهندية كأول حضارة التقت بالبيئة الملايوية القديمة في تأثرهم بقصصها وحكاياتها.
فكرت ملياً في هذه العصارة اللغوية والصدفة التي جمعتني بصديقي محمد الإيرلندي في أرض ماليزيا خاصة؟!! عندها فقط تأكدت من حقيقة هذه الدولة بأنها ملتقى لعصارة اللغات وملتقى للأحبة والصداقات، فها أنذا التقي بصديقي محمد بمحض الصدفة في معلم شامخ من معالم ماليزيا بعدما انقطعت مراسلاتنا الإلكترونية منذ سنتين تقريباً، فمرحباً بكم سواحاً وزواراً في ملتقى الصداقات وعصارة اللغات.
كوالالمبور، مايو 2006