abdmohsin
11-11-2001, 11:46 PM
كامل قصة هلال عبد الرزاق المنشورة في القدس العربي على حلقتين _ اجرى الحوار د.بشير زين العابدين _ دكتوراه في التاريخ السياسي من جامعة لندن .
-------------------------------------------
الرياضي العراقي هلال عبد الرزاق علي يروي قصة معاناته في أشهر سجون دمشق
ہ طوله 190 سم وطول الزنزانة 180سم ولم يكن قادرا علي التمدد لمدة ستة اشهر فانحني ظهره
ہ الكلام ممنوع.. واي محاولة لقراءة القرآن أو الدعاء كانت تقمع باسلوب وحشي
ہ احد المساجين اعتقل لامتناعه عن التصويت لبشار الاسد في الانتخابات وآخر لاشادته بأهل حلب وحماه
ہلا يسمح للمساجين بالزنزانة باستخدام المرحاض اكثر من نصف دقيقة... والا هدد بأكل الخـ ...
ہ السجانون يتنافسون علي تعذيب المساجين مستخدمين الكرسي الالماني و الدولاب والتعليق والسحل
في سورية جريمة كبيرة ترتكب علانية وبشكل جماعي، ولكن لا يجرؤ أحد أن يتحدث عنها، لأن الخوض فيها ـ بعرف النظام ـ جريمة أخري، فخلف حاجز الإرهاب والخوف الجماعي الذي شيدته أجهزة المخابرات عبر أربعة عقود من الزمان؛ يقبع آلاف المواطنين داخل السجون السورية في عزلة كاملة عن العالم الخارجي يتجرعون مرارة الظلم والقهر ويعانون من التعذيب اليومي ويسامون الذل والاضطهاد والحرمان... أغلب هؤلاء لا يعرفون تهمتهم ولا يعلمون مصيرهم، بل إن كثيراً منهم قد فقد الأمل بلقاء أهله وأصبح ـ بالرغم من وجوده ـ في عداد المفقودين.
هذه قصة شاهد عيان علي الممارسات القمعية التي ترتكبها أجهزة الأمن في سورية ضد المواطنين، وقد وقعت أحداثها خلال الفترة 2001/6/22 ــ 2000/7/23، من عهد الرئيس الجديد بشار الأسد الذي كان يتحدث قبل أيام قليلة من اعتقال صاحب هذه القصة عن الحريات العامة و الشفافية و كرامة المواطن السوري .
إنها لا تختلف كثيراً عن قصص آلاف المعتقلين، ولكنها تتميز بأن صاحبها قد امتلك الجرأة ليخرج من الصمت ويتحدث عن معاناته التي استمرت 11 شهراً في أقبية فرع فلسطين .
أجري الحوار د. بشير زين العابدين
تعريف
السيد هلال عبد الرزاق علي عراقي الأصل من مواليد مدينة كركوك عام 1957 متزوج من سيدة سورية ولديه أربعة أطفال. يعرفه الكثير من الرياضيين؛ فهو لاعب كرة سلة محترف شارك في العديد من البطولات العربية والآسيوية... يتحدث باعتزاز عن مواهبه والشهادات التي حصل عليها كمدرب لكرة السلة من أمريكا وإيطاليا. يعيش هلال علي منذ فترة طويلة مع أسرته في بريطانيا، حيث كان يعمل مدير مبيعات في إحدي الشركات العقارية في مدينة لندن، وكلما حانت فترة الصيف كان يصطحب زوجته وأطفاله إلي مدينة حماة لقضاء الإجازة مع أقاربهم هناك. في هذه الأثناء توثقت علاقة هلال مع عدد من الرياضيين الذين تعرفوا عليه أثناء مشاركتهم في البطولات الدولية، وعندما علمت إدارة نادي النواعير في مدينة حماة (أصبح اسمه فيما بعد نادي الجماهير) بخبرته الطويلة في مجال التدريب تعاقدوا معه للإشراف علي فريق كرة السلة لديهم، وسرعان ما صعد النادي إلي الدرجة الأولي لأول مرة منذ 13 عاماً مما شد انتباه محرري صفحات الرياضة في جريدة الفداء بحماة، وظهرت صور المدرب هلال علي خلال شهر آذار (مارس) عام 2000 كذلك في جريدة الرياضة الأسبوعية، وفي جريدة الثورة التي أجرت معه مقابلة مطولة حول تاريخه الرياضي.
كان هذا النجاح سبباً في تفكير هلال بالإقامة في سورية لتطوير فريقه الذي أصبح ينافس علي المركز الأول في الدرجة الأولي علي مستوي القطر، ولذلك فقد تقدم بطلب الإقامة لمدة سنة وأرسل أوراقه إلي مديرية الأمن العام.
هنا يتوقف السيد هلال عن الحديث، وقد اغرورقت عيناه بالدموع فقد كان من الصعب أن يقتنع الناس بأن ذلك الشبح الذي غارت عيناه في وجه شاحب قد كان رياضياً في يوم من الأيام. كان هناك تعارض كبير بين وضعه الصحي وتاريخه الرياضي؛ فقد اصفر وجهه وظهرت عليه التجاعيد، مع أنه لا يزال في ريعان الشباب، وفقد أكثر من 45 كيلو غراماً من وزنه وأصبح ظهره محنياً لأنه لم يكن قادراً علي التمدد طوال ستة شهور.
إنه يحتاج لسنوات طويلة حتي يسترجع صحته، أما الآلام النفسية فإنها تلازمه بشكل دائم ولا يعلم إن كان سيستطيع التخلص منها في يوم من الأيام، فهو يعاني من فقدان التركيز، ويعاني كذلك من النسيان المزمن الذي كان رحمة له كلما تذكر أبناءه وأقاربه في السجن الانفرادي.
ـ سألته: ماذا حصل بعد تقدمك بطلب الإقامة؟
تذكر بأنه كان يروي قصة اعتقاله، وعاد ليقول:
المخابرات العسكرية بحماة
في يوم الأحد 2000/7/23 اتصل بي شخص من إدارة المخابرات العامة وطلب مقابلتي بخصوص أوراق الإقامة التي تقدمت بـها، فقابلته في النادي حيث طلب مني جواز سفري وهوية زوجتي، وفي هذه الأثناء وصل ستة عناصر مسلحين من الأمن العسكري وطلبوا مني مرافقتهم فامتثلت لأمرهم، وعندما هممت بصعود السيارة صرخ ابني عبد الله:
وين رايح بابا؟
لم أكن أملك إجابة واضحة ولكن أحد المسلحين تطوع بالإجابة عني:
بابا بده يغيب شي ساعتين زمان وراجع .
صاحبت العناصر إلي مركز المخابرات العسكرية بحماة والذي يترأسه العميد أحمد حلوم وهو عبارة عن ثلاثة طوابق دونـها بوابة كبيرة لا تجاورها أي عمارات أخري في الطريق إلي دمشق، وعندما توقفت السيارة ترجلنا منها وأدخلني المسلحون إلي غرفة مقفرة لا توجد فيها غير طاولة واحدة، وبقيت أنتظر لفترة طويلة وأفكر في سبب وجودي هنا، فقبل أيام قليلة داهمت المخابرات منزل أحد أقارب زوجتي لعلاقة كانت تربطه برجل كردي اسمه (ج) اعتقل بسبب نشاطه في صفوف الشباب في مدينة حماة، ولكنني لم أكن أعرف المدعو (ج) ولم أكن أعلم أي شيء عن نشاطه، بل كان اهتمامي محصوراً بالتدريب في نادي النواعير وكثير من تلاميذي أعضاء في حزب البعث وأجهزة الأمن، ولم يكن لدي كثير من المعارف في مدينة حماة. ثم أخذت أفكر لبرهة بأن احتجازي في هذه الغرفة قد يكون بسبب تشابه في الأسماء أو خطأ وقع فيه أحد المخبرين فلم أرتكب ـ في علمي ـ أي مخالفة للقانون، وترجح الظن لدي بأنهم يريدون أن يسألوني عن قريب زوجتي المدعو (أ). في هذه الأثناء كان الحراس يستفزونني بحمل أسلحتهم وينظرون إلي بأعين ملؤها التحدي والاستخفاف. ثم انقطع الصمت الطويل بدخول رجل متوسط الطول له شارب كبير، يلبس زياً مدنياً وقد علمت فيما بعد أنه العميد محمد الشعار.
نظر إلي العميد بازدراء ثم سأل الحراس:
هدا هو هلال؟
فقالوا: نعم سيدي
عند ذلك سألني بفظاظة: بتعرف (ج)؟
فأجبته: لا ما بعرف (ج) .
ثم خرج دون تعليق وبقيت أنتظر حتي طلبني العميد إلي مكتبه الواسع، فجلست قريباً منه، ولكنه انتهرني بعنف وأمرني بالجلوس بعيداً عنه في آخر الغرفة فامتثلت، وجلست حيث أراد. ثم أومأ إلي الحراس فأدخلوا قريب زوجتي وهو يرتجف من شدة الخوف، وقد قيدت يداه وغطيت عيناه بقماشة (يسمونها طماشة)، ودار بينهما الحوار التالي:
ـ بتعرف هلال؟
ـ نعم سيدي
ـ شو علاقته بـ (ج)
ـ ماله علاقة سيدي
ـ طلعوه لبره
وهنا التفت إلي الضابط وقد نفد صبري، وقلت له ليس لي أي علاقة بالمدعو (ج) فما هو الداعي لاحتجازي هنا؟
فقال لي بأنني لست الشخص المطلوب، ولكنني سأبقي عندهم الليلة لاستكمال التحقيق، فذكرته بأن لدي أطفالاً وأقارب وهم قلقون علي ولا يعرفون مكان وجودي الآن، فلم يزد أن قال: اتفضل وبكرة منشوف شو بيصير
وفي حركة سريعة اقتادني الحراس خارج الغرفة وقيدوا يدي وأخذوني إلي سجن الفرع حيث استقبلني سجان مرعب اسمه عمران، وكان صوته غاية في الخشونة فصرخ في وجهي بقصد التخويف: حقير... وقف منيح ولا ، ثم جرني إلي الزنزانة المنفردة رقم (4)، وأقفل من خلفي الباب.
تلفت حولي فإذا هي زنزانة ضيقة في غاية القذارة وفيها مرحاض تنبعث منه روائح كريهة، فجلست علي الأرض وقد أسقط في يدي وعدت أسترجع الساعات الأخيرة التي مرت علي كأنـها كابوس مزعج وكلي أمل أن تنتهي في الصباح.
كانت هذه هي المرة الأولي التي أسجن فيها، فقد أمضيت اغلب حياتي في الملاعب وفي طريق الاحتراف، بل إنني لم أذهب مرة واحدة إلي مركز شرطة ولم يكن لدي أي سبب لمخالفة القانون أو ارتكاب الجرائم، فقد كنت ميسور الحال وعندي أربعة أطفال أرغب في تربيتهم أحسن تربية، وأخذت الهواجس تنتابني حتي غلبني النوم فافترشت الأرض والتحفت بطانية قذرة ونـمت حتي الصباح. في صباح يوم الإثنين 2000/7/24، ابتدأ مسلسل الرعب الذي استمر دون توقف لمدة 11 شهراً فقد استيقظت علي أصوات مختلطة من الضرب والشتائم والأنين والاستغاثة، وعلمت بأنها أول نوبات التعذيب الوحشي الذي كان يتعرض له المعتقلون داخل الفرع. كان السجانون يأتون في الصباح الباكر ويفتحون أبواب الزنازين بعنف ويخرجون ضحاياهم مقيدين ومغمضي العيون ثم يسوقونهم كالخراف وأنا أنظر إليهم، وقد ارتعدت مفاصلي من شدة الرعب، ثم يبدأ الجلد بالأسلاك الكهربائية (الكيبلات) علي ظهورهم وسائر أنحاء الجسد دون تمييز، ويرتفع صوت الجلادين وهم يكررون نفس الأسئلة: مين بتعرف؟ ، شو علاقتك بفلان؟ ، إيـمتي شفته؟ . وأخذت أفكر كيف كان اعتقالي مثل اعتقال الكثير من هؤلاء؛ بناء علي دليل الهاتف الذي عثروا عليه عند قريب زوجتي فاتصلوا بي وأحضروني إلي الفرع، هذه الطريقة الجائرة نفسها هي التي أودت بحياة كثير من الأبرياء وغيبتهم لسنوات طويلة في غياهب السجون لا لجرم إلا أنـهم وجدت أسماؤهم وأرقام هواتفهم مكتوبة في دليل أحد المشبوهين.
كنت أنتظر أن يأتي الجلادون ويأخذونني إلي التعذيب في أي لحظة، وبالفعل جاء أحدهم فأخرجني من الزنزانة و طمش عيني وقيدني وجرني إلي غرفة التحقيق حيث دخل أحد المحققين وأمر بفك القيد عني وأعطاني ورقة وقلماً لأكتب قصة حياتي كاملة! وعندما كتبت له قصة حياتي تناول الأوراق وأخذ يصحح ويشطب علي بعض السطور، ويضيف من عنده فاعترضت علي هذا الأسلوب، وعند ذلك قال لي:
بدك تعلمني شغلي؟
وخرج من الغرفة ثم عاد ليخبرني بأن العميد قد انزعج لإصراري علي عدم الاعتراف، فأخبرته بأنه ليس لدي ما أعترف به، وهذا ما عندي، فأمرني أن أبصم علي ما كتبت، ثم عاود السؤال علي (أ) مرة أخري عن علاقتي بالمدعو (ج) فأجابه بأنه ليس هناك أي علاقة، وعندما تأكدوا من ذلك أعادوني إلي الزنزانة المنفردة وجلست هناك لمدة ثمانية أيام لم يكلمني فيها أحد. كان التعذيب يبدأ يومياً من الساعة الثامنة صباحاً ويتوقف عند الثانية، ثم يبدأ مرة أخري في الثامنة مساء حتي الحادية عشرة، ومع أنني لم أتعرض للتعذيب فإن صرخات المعتقلين وأنينهم كانت أشد من لسع السياط التي تصدر صفيراً مرعباً قبل أن تحط علي ظهور المساجين وهم يئنون من شدتها، ومع أنني كنت متماسكاً فقد لازمتني حالة عجيبة من الهلع، خاصة عندما أصيبت إحدي السجينات في زنزانتها الانفرادية بانـهيار عصبي وأخذت تصرخ بأعلي صوتها قبل أن ينقلوها إلي المستشفي.
وفي يوم السبت 2000/7/29 جاء رئيس المحققين في الفرع الرائد غسان الجواد وأخذ يمر علي الزنازين وينظر إلي المساجين بداخلها حتي وصل إلي زنزانتي ففتح الباب وقال لي:
إبني نحنا عارفين أنك بريء ومنتظرين خبـر من الشام حتي نفرج عنك اليوم أو بكرة .
وعرض علي الانتقال إلي السجن الجماعي ففرحت لذلك وشكرته، ثم نقلوني إلي حيث أشار فوجدت نفسي مع خمسة من المساجين وأخذنا نتبادل أطراف الحديث فسألت كل واحد منهم عن تـهمته، وإليكم الجرائم التي ارتكبوها:
ـ كان الأول قد امتنع عن التصويت لبشار الأسد في انتخابات الرئاسة فجروه إلي السجن وأخذوا يضربونه ضرباً مبرحاً لتمرده!
ـ أما الثاني فقد ورد في إحدي تقارير المخابرات أنه قال: أهل حلب وحماة قبضايات لأنهم قاوموا ، كان شاباً صغيراً ولم يكن سنه قد تـجاوز أربع سنوات عندما اندلعت أحداث حماة، ومع ذلك فكان يتعرض للصعقات الكهربائية حتي يعترف بالذي علمه هذا الكلام!
ـ وتـحدث الثالث بـحزن عن مكالمة هاتفية دارت بينه وبين أقاربه قال فيها بأنه سيذهب إلي القرداحة في وفد رسمي لزيارة قبر الرئيس الراحل، ولما سأله قريبه ماذا سيلبس، أجاب: كلسون أحمر ، ولم يكن يعلم بـمراقبة المخابرات لمكالمـته الـهاتفية فاعتقل في ذلك اليوم. وكان الجلادون ينفذون تعهدهم له بتحويل لون كلسونه إلي الأزرق من شدة التعذيب حتي يتوب!
ـ وكان الرابع مسجوناً بسبب العثور علي جهاز للتنقيب عن الآثار في أرض يملكها.
ـ واتهم الخامس ببيع السجائر المهربة.
كانوا قد تعرضوا جميعاً لشتي أصناف التعذيب من الجلد والصعق الكهربائي، أما أنا فقد نـجوت من التعذيب ربـما بسبب توسط إدارة النادي لصالحي.
بعد ثلاثة أيام في السجن الجماعي أخبرت بوصول البرقية من دمشق، وكنت أترقبها علي أحر من الجمر حتي أعود لأطفالي الذين افتقدوني ولم يعلموا أين ذهبت، وسرعان ما تلاشت آمالي عندما أخبرني المحقق بأنني قد طلبت في الشام وأن علي الذهاب إلي هناك لاستكمال التحقيق.
عند ذلك أخرجت مقيداً مع ثلاثة آخرين وأركبونا داخل سيارتين في كل واحدة منها أربعة عناصر مسلحين ببنادق كلاشنكوف، ولما وقع الرائد علي أوراق تسليمنا بعد طول انتظار تحركت السيارتان باتجاه دمشق، وكان علينا أن نخفض رؤوسنا طول الرحلة، وكلما رفع الواحد منا رأسه كان الحارس يهوي علي رقبته بكل ما أوتي من قوة ويقول: نزّل راسك ولك كلب ، وبقينا علي هذه الحالة حتي وصلنا إلي فرع فلسطين.
فرع فلسطين
توقفت السيارتان عند بوابة كبيرة وسط سور عال، وانطلقت لمسافة 70 متراً عندما استطعت أن ألـمح عمارتين كبيرتين، ثم اعترضتنا بوابة أخري استوقفنا عندها الحرس وجردوا رجال الأمن من أسلحتهم، ثم أنزلونا نحن الأربعة من السيارتين وأدخلونا إلي مكتب مدير السجن وهو رجل بذيء اللسان ممتلئ الجسم حنطي اللون برتبة مساعد أول، اسمه أحمد، ويـمتاز بصوت شديد الخشونة. تفرس فينا المدير بنظرات ملؤها الحقد وصرخ فجأة: وقف منيح ولا حمار ... ثم أمر بنقلنا إلي غرفة مجاورة، حيث جلسنا ننتظر ونحن نعاني من حرارة الشمس وكثرة الصراصير، فطرقت الباب وطلبت أن أذهب إلي الخلاء فأجابني أحد الحراس هازئاً: استني شوي راح نحولك عالـميريديان !
بقينا ننتظر أربع ساعات بطولها ثم دخل علينا رجل لا يقل خشونة عن مدير السجن ليكتب بياناتنا الكاملة، ويأخذ أغراضنا إلي صندوق الأمانات، وعندما وصل إلي دار بيننا الحوار التالي:
ـ شو اسمك ولا؟
ـ هلال عبد الرزاق علي
ـ شو جنسيتك؟
ـ جنسيتي ولا أصلي؟
ـ جنسيتك ولك كلب
ـ بريطاني
فسكت لبـرهة ثم ذهب إلي مكتب المدير الذي استدعاني إلي مكتبه مرة أخري وسألني:
ـ شو جنسيتك ولا؟
ـ بريطاني
ـ م ـــ ك، أنت عراقي ، ثم خاطب الحراس: نزلوا هالكلب علي المنفردة (11) !
عند ذلك فقدت صبري وقلت له أي منفردة؟ وما هي تهمتي، ولماذا تعاملونني بهذا الأسلوب؟
ففوجئت به يصرخ بأعلي صوته: ولك خدو هالحمار علي المنفردة (11) ، ولم يكد ينتهي من عبارته حتي هجم علي عدد من الحراس وجروني بعنف خارج المكتب وهم يصرخون بي: نزل راسك ولا ، خليك ماشي عالحيط ، وأنزلوني بالسلالم إلي القبو حيث رأيت عدداً من الأبواب الحديدية علي جانبي الممر، وكانوا يركضون أمامي وخلفي حتي انتهينا إلي آخره ففتحوا أحد هذه الأبواب ورموني في المنفردة (11).
المنفردة (11)
أطرق السيد هلال علي لفترة وحاول أن يفهمني بجمل مبعثرة بأن كل الذي حكاه لي كان مقدمة قصيرة لفصول المعاناة الطويلة التي أمضاها في الزنزانة المنفردة لستة أشهر متوالية. كان طول الزنزانة 180 سم وعرضها 80 سم تنبعث منها رائحة كريهة ولا تصل إليها سوي كمية ضئيلة من التهوية والنور، ولذلك فقد أصبحت مرتعاً للقمل والصراصير. ولأن طول هلال 190 سم فلم يكن قادراً علي التمدد لمدة ستة أشهر فانحني ظهره وأصبح يمشي مشية عجوز تجاوز الثمانين من العمر.
كان يتذكر الأحداث بصعوبة لأنه يريد أن ينسي هذه الحقبة السوداء من حياته، ولكن أنين المعذبين ومعاناة المعتقلين كانت تدفعه لأن يستحضر كل شاردة وواردة لأنه عاهدهم أن يخبر العالم بـما رآه ويستصرخ أصحاب الضمائر الحية للمساعدة في رفع المعاناة عن مئات المساجين الذين تم اعتقالهم ـ مثله ـ عن طريق دليل الهاتف دون سابق تهمة أو اشتباه.
ارتـمي هلال علي أرض الزنزانة وجلس علي بطانية رطبة نتنة، وأخذت الهواجس تتلاعب به، فتذكر رحلته البائسة من حماة إلي دمشق، وطول الانتظار في فرع فلسطين وخشونة التعامل التي لقيها من الحراس. لقد أصبح اسمه من الآن فصاعداً: منفردة (11) والويل له إذا ذكر اسمه الحقيقي، وصار بين عشية وضحاها سجيناً مسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً، بل إنه فقد اسمه وأصبح رقماً آخر في عداد المفقودين داخل فرع فلسطين. لقد لازمه الشك بأن هنالك خطأ ما وسيفرج عنه حال تبين هذا الخطأ، ولكن لم يكن لديه أي قرينة تدعوه إلي التفاؤل ... وبقي علي هذه الحالة من التفكير العميق حتي غلبه الإعياء فتكوم في أرض الزنزانة ونام.
ثم يتحدث هلال عن صباح أول يوم في الانفرادية:
استيقظت وقد قرصتني حشرة في وجهي فتورمت عيني اليسري ولم أكن أعرف نظام السجن بعد، فطرقت الباب طرقاً متتالياً حتي جاءني سجان ضخم اسمه المعلم حسن، ففتح الباب وقال: شو بدك ولا؟ ، فقلت له: شوف عيني ، فنظر نظرة لم تكن تبعث علي الاطمئنان، وقال لي: قرب ولا ، وعندما اقتربت منه سدد لكمة قاسية علي عيني اليمني فسقطت علي أرض الزنزانة من شدة الألم، وأقفل الباب ورائي وهو يتمتم بأقذع الشتائم. ولم ينقض اليوم الأول حتي عرفت نظام السجن كاملاً، فلم يكن لنا أي حق في طرق الأبواب، وكانت الفرصة الرئيسة للسجانين كي يشفوا نزعتهم السادية هي خروج المساجين من الزنازين الانفرادية إلي الخلاء... كان هناك 19 زنزانة منفردة و4 مزدوجة وكان يتناوب 42 سجيناً علي حمامين ثلاث مرات في اليوم فيخرجنا الحراس واحداً واحداً بالركل والجلد ولم يكن يسمح للواحد منا أن يبقي أكثر من نصف دقيقة في بيت الخلاء. ولا بد من الاعتراف بأنني عندما خرجت للمرة الأولي أكلت نصيباً وافراً من الركل واللكم من قبل المعلم حسن، ولم أكن أجد أي مبرراً لذلك فاعترضت بصوت مرتفع وذكرته بأنني إنسان مثله، فصرخ في وجهي صرخة منكرة قائلاً:
خراس ولك كلب، هلق بخليك تاكل الخ ــ تبعك !
وبسبب هذا التضييق وانعدام الماء والصابون فقد أصيب أكثرنا بالبواسير وكانت الدماء تغطي المرحاض، وإذا تأخر الواحد منا في الخلاء كان يخرج بالقوة ويجر إلي زنزانته بالركل والضرب. كانت كل زنزانة انفرادية قد زودت بوعاء (طاسة) للأكل والشرب، وبسبب الأذي الذي كان يصيبنا من السجانين في دخول الخلاء فقد اضطر الكثير منا لقضاء الحاجة في طاسته كلما اشتد المرض عليه، ثم يغسلها ويعاود استخدامها لطعامه من جديد.
ولأنني لم أكن متهماً بالدرجة الأولي فلم أكن أتعرض لوجبات التعذيب التي كانت من نصيب السجناء الآخرين، ولكن سماع أصوات المعذبين كان أشد إيلاماً علي النفس من وقع السياط في كثير من الأحيان. كانت نوبات التعذيب تبدأ في الساعات المبكرة من الصباح وتستمر حتي الواحدة والنصف وهناك نوبة ليلية تبدأ من السابعة مساء حتي العاشرة، وقد تستمر حتي الثالثة بعد منتصف الليل. كنا نسمع شتائم الجلادين واستغاثة المعذبين وتوسلاتهم، وكنا نـميز طريقة التعذيب من تتابع أنين المعتقلين الذين يخضعون للتعذيب بواسطة الكرسي الألماني الذي يهشم العمود الفقري، والتعليق من أيديهم وضربـهم علي سائر أنحاء الجسد وهم عراة، وكذلك الجلد بالأسلاك الكهربائية السميكة.
لازمتني حالة رعب شديد وكنت أخاف أن يأتي الجلادون في أي لحظة ويجرونني إلي غرفة التعذيب، وكلما سمعت وقع أقدام بالقرب من زنزانتي كانت ترتعد فرائصي، حتي أمضيت 11 يوماً علي هذه الحالة، ولم يفتح باب زنزانتي خلال هذه الفترة إلا لدخول الخلاء. كنت أنام وأجلس علي البطانية المتعفنة بفعل الرطوبة وانعدام التهوية حتي اسودت ملابسي وأصابتني الالتهابات الجلدية والأورام، حتي إن السجانين كانوا يتأففون من رائحتي كلما مروا بالقرب من زنزانتي، ولم تجد توسلاتي لهم بتغيير تلك البطانية القذرة. بعد انقضاء اليوم الحادي عشر في المنفردة جاء الجلادون وأصعدوني إلي غرفة التحقيق مطمشاً ، ثم دخل أحد المحققين فأمر بفك الطماشة، وأعطاني ورقة وقلماً لأكتب قصة حياتي من جديد! وعندما انتهيت من الكتابة ابتسم المحقق وبشرني بأنني لن أبقي في الفرع عندهم أكثر من أسبوعين، فرجوته أن يأمر بنقلي إلي المهاجع الجماعية لأنني لم أعد أحتمل السجن الانفرادي، فطلب مني الصبر، وقال لي: المنفردة أحسن لك . ثم أرجعت علي نفس الهيئة التي أتيت بها إلي زنزانتي المنفردة، ومكثت بها الشهور الستة التالية دون أن يكلمني أحد أو يحقق معي من جديد.
كنت مريضاً بالقولون وأعاني من مرض الربو المزمن، وانتشرت الحساسية في جسدي كله، ومع ذلك فقد كان العلاج ممنوعاً عنا طوال فترة السجن. ونتيجة للمرض وفقدان الشهية فقد انخفض وزني 45 كيلو، وطال شاربي حتي غطي فمي، ولم يسمح لي بحلق شعري طوال هذه الفترة سوي مرة واحدة، أما اللحية فكانت تحلق أسبوعياً ولكن قص الشارب كان ممنوعاً، وكانت الحلاقة من أبرز المناسبات عند الجلادين لممارسة هواية التعذيب، فكانوا يضربون المساجين علي رؤوسهم ورقابهم والويل لمن يجرؤ علي فتح عينيه أثناء الحلاقة. وبالإضافة إلي هذه الحالة المزرية فلم يكن يسمح لنا بالاغتسال أكثر من مرة كل شهرين وكانت المياه حارة في الصيف شديدة البرودة في الشتاء، أما الملابس فلم يسمح لنا غسلها سوي مرتين طوال فترة السجن الانفرادي، ولذلك فقد تشققت بفعل تراكم العرق وكثرة الضرب.
كان الكلام ممنوعاً طوال الوقت، وأي محاولة لقراءة القرآن كانت تقمع بأسلوب وحشي، وذات مرة تشجع السجين في منفردة (17) بقراءة بعض السور، ولما سمعه السجان حسن اقتحم عليه زنزانته وتناوله بالضرب المبرح وهو يقول له: والله ما تعيدها مرة ثانية لشخ بتمك ، وكذلك كان نصيب السجين الذي أخذته العبرة وهو يلح في الدعاء فسمعه أحد السجانين وأخذ يضربه علي سائر أنحاء جسده ويقول له: إذا سمعتك عم تدعي مرة ثانية لح أكسر راسك يا عرص .
أما أنا فقد دفعت ثـمن نزعتي الإنسانية غالياً، عندما سمعت استغاثة مخنوقة من امرأة مصابة بالربو في مهجع النساء فطرقت باب زنزانتي حتي سمعت وقع أقدام السجان حسن وهو يصرخ: شو بدك ولا كلب ، فأعطيته بخاخ الربو الذي أحضرته معي من حماة وقلت له أعطه للمرأة المسكينة، ولم أكد أنتهي من قولي هذا حتي لكمني علي رأسي ثلاث لكمات أسقطتني علي الأرض وتتابعت بعدها الركلات والشتائم المقذعة، ولم أعد أعي شيئاً حولي إلا أنني سمعت المعلم حسن يقفل باب الزنزانة وهو يقول: ولك عامل حالك شريف يا عرص، نحنا ما عنا إنسانية هون !
أما صيغة الإعلان عن وصول الطعام فلم تكن تتغير أبداً... كان السجان رفيق يصرخ في أول الممر: يا كلاب ... الأكل اليوم (ويمد الواو) شوربة ورز ... كل واحد يدير وجهه علي الحيط ... واللي بشوفه مو داير وجهه لح (فعل قوم لوط) . كان الطعام غاية في القذارة وسوء الطبخ، وكنا نأكل مرق الدجاج دون أن نري الدجاج لأن السجانين ومساعدي مدير السجن كانوا يأخذونه قبل أن يصل إلينا، وكثيراً ما كنت أرفع الصراصير والحشرات الأخري عن الشوربة والمرق وأشربـها، أما إذا كانت الوجبة بطاطس مسلوقة، أو إذا قدم لنا التفاح (في المناسبات) فكانوا يرمونه علي رؤوسنا الموجهة نحو الجدار، وكنا نحظي ببيضتين طوال الأسبوع. وكان السجانون يخبئون الفواكه والخبز الطري فوق سقف المنفردة (1) لإخفائها عن المدير ويأخذونها معهم بعد انتهاء الدوام.
كنا نعاني من البرد الشديد في الشتاء ومن الحرارة الخانقة في فصل الصيف ولم تتغير البطانيات القذرة التي ورثناها عن السجناء قبلنا طوال فترة الإقامة في السجن الانفرادي. وبالإضافة إلي انتشار القمل والصراصير، فقد كنا نعاني كثيراً من الجرذان التي كانت تقتحم عزلتنا هرباً من القطط الجائعة التي كانوا يرسلونها للقضاء علي هذه الجرذان، وكثيراً ما كانت القطط تظفر بصيدها في فتحات التهوية ونعلم بوفاة الجرذ حين يتقاطر دمه علي رؤوسنا ونحن نيام .
ـ ابتسم هلال عندما سألته كيف كان يقضي وقته في السجن الانفرادي لمدة 180 يوماً متواصلة، وقال لي بأن: الشهر في الزنزانة مثل الشهرين والثلاثة والأربعة... تمر الساعات الطويلة ويتعاقب الليل والنهار ونحن علي حالنا. كنت أقاوم وأبحث في خلجات نفسي عن بصيص أمل وأعد الأيام عن طريق الحفر علي حائط الزنزانة، ولا أنسي عندما دخلت علي فراشة فأنست لها كثيراً وأخذت أكلمها وهي لا تجيب، وقد أصبت عدة مرات بهياج عصبي وكنت أصرخ بأعلي صوتي: لماذا تفعلون بي هكذا؟ ما هي تـهمتي بالتحديد؟ أنا ضيف عندكم في هذه البلد أهذه هي الطريقة التي تعاملون بها الضيوف؟
وكنا نختلس الساعات التي ينام فيها السجانون في آخر الليل فنتكلم فيما بيننا همساً، وبـهذه الطريقة استطعت التعرف علي عدد من المساجين في الانفرادية، وكنت آنس للحديث إليهم كثيراً.
من قصص الزنازين المنفردة
طلبت من هلال أن يحدثني عن بعض السجناء الانفراديين الذين جاورهم لمدة ستة أشهر، فكان يتذكر بحزن شديد معاناة السجين في الزنزانة رقم (19)، ومن سوء المعاملة التي لقيها من السجان (محمد) الذي كان يستمتع بضربه كلما جاء دوره للخروج إلي الخلاء، فقد كان يأمره أن يضع يديه خلف ظهره ويغمض عينيه ويرفع رأسه ... ثم تتردد أصداء صفعة قوية تنخلع لها قلوبنا، ولكن السجان الآخر في نوبته (رفيق) كان يضحك ويقول له: محمد ... ما سمعت !، فيتميز محمد غضباً ويشتم السجين قائلاً: يلعن أبوك يا ابن الكلب، ولك شلون هيك بتخجلني قدام صحابي؟ ، ويصفعه صفعة أخري لا تعجب صاحبه (رفيق) فيأتي هو ويقوم بنفس الطقوس السابقة، فيأمر السجين بوضع يديه خلف ظهره، وإغماض عينيه ورفع رأسه فيمتثل وهو يئن من شدة الألم، ثم يصفعه صفعة أشد من سابقتيها، ويضحك رفيق ضحكة المنتصر ويقول: هيك بدي ياك... روح شخ . وكانت هذه العملية تتكرر مع عدد من المساجين كلما جاء دورهم لدخول الخلاء.
ـ أما السجين في المنفردة (13) فكان مصاباً بـمرض السكري ولم يكن يستطيع النوم دون أن يأخذ إبرة في المساء، وكان المسكين يتوسل إليهم يومياً لعدة ساعات أن يأتوه بالإبرة ولكن السجانين كانوا يتعمدون التأخر عن ذلك، ثم يأتي أحدهم آخر المطاف مصراً علي أن يعطيه الإبرة بنفسه فنسمع صرخات شديدة من جراء الطعنة التي يلقاها من السجان وهو يقول له: خود... يلعن أبوك عرص ، وقد استمرت هذه المأساة بصفة يومية طول إقامتي في السجن الانفرادي.
ـ المنفردة (16) كانت هذه الزنزانة تتميز عن غيرها برائحة نتنة تزكم الأنوف، ولم يكن يسمح لنزيلها أن ينظف زنزانته أو حتي أن يغتسل أو يغسل ملابسه، وكان كلما خرج للخلاء يعيره السجانون برائحته الكريهة ويبصقون علي وجهه وهو صامت لا يتكلم.
ـ المنفردة (17) نزيلها المدعو (ج) نفسه، كان الجلادون يخرجونه للتحقيق يومياً ويتعرض لـمختلف أنواع التعذيب الذي لم ينقطع عنه يوماً واحداً طوال الأشهر الستة التي قضيتها في الانفرادية.
يتبع غدا
-------------------------------------------
الرياضي العراقي هلال عبد الرزاق علي يروي قصة معاناته في أشهر سجون دمشق
ہ طوله 190 سم وطول الزنزانة 180سم ولم يكن قادرا علي التمدد لمدة ستة اشهر فانحني ظهره
ہ الكلام ممنوع.. واي محاولة لقراءة القرآن أو الدعاء كانت تقمع باسلوب وحشي
ہ احد المساجين اعتقل لامتناعه عن التصويت لبشار الاسد في الانتخابات وآخر لاشادته بأهل حلب وحماه
ہلا يسمح للمساجين بالزنزانة باستخدام المرحاض اكثر من نصف دقيقة... والا هدد بأكل الخـ ...
ہ السجانون يتنافسون علي تعذيب المساجين مستخدمين الكرسي الالماني و الدولاب والتعليق والسحل
في سورية جريمة كبيرة ترتكب علانية وبشكل جماعي، ولكن لا يجرؤ أحد أن يتحدث عنها، لأن الخوض فيها ـ بعرف النظام ـ جريمة أخري، فخلف حاجز الإرهاب والخوف الجماعي الذي شيدته أجهزة المخابرات عبر أربعة عقود من الزمان؛ يقبع آلاف المواطنين داخل السجون السورية في عزلة كاملة عن العالم الخارجي يتجرعون مرارة الظلم والقهر ويعانون من التعذيب اليومي ويسامون الذل والاضطهاد والحرمان... أغلب هؤلاء لا يعرفون تهمتهم ولا يعلمون مصيرهم، بل إن كثيراً منهم قد فقد الأمل بلقاء أهله وأصبح ـ بالرغم من وجوده ـ في عداد المفقودين.
هذه قصة شاهد عيان علي الممارسات القمعية التي ترتكبها أجهزة الأمن في سورية ضد المواطنين، وقد وقعت أحداثها خلال الفترة 2001/6/22 ــ 2000/7/23، من عهد الرئيس الجديد بشار الأسد الذي كان يتحدث قبل أيام قليلة من اعتقال صاحب هذه القصة عن الحريات العامة و الشفافية و كرامة المواطن السوري .
إنها لا تختلف كثيراً عن قصص آلاف المعتقلين، ولكنها تتميز بأن صاحبها قد امتلك الجرأة ليخرج من الصمت ويتحدث عن معاناته التي استمرت 11 شهراً في أقبية فرع فلسطين .
أجري الحوار د. بشير زين العابدين
تعريف
السيد هلال عبد الرزاق علي عراقي الأصل من مواليد مدينة كركوك عام 1957 متزوج من سيدة سورية ولديه أربعة أطفال. يعرفه الكثير من الرياضيين؛ فهو لاعب كرة سلة محترف شارك في العديد من البطولات العربية والآسيوية... يتحدث باعتزاز عن مواهبه والشهادات التي حصل عليها كمدرب لكرة السلة من أمريكا وإيطاليا. يعيش هلال علي منذ فترة طويلة مع أسرته في بريطانيا، حيث كان يعمل مدير مبيعات في إحدي الشركات العقارية في مدينة لندن، وكلما حانت فترة الصيف كان يصطحب زوجته وأطفاله إلي مدينة حماة لقضاء الإجازة مع أقاربهم هناك. في هذه الأثناء توثقت علاقة هلال مع عدد من الرياضيين الذين تعرفوا عليه أثناء مشاركتهم في البطولات الدولية، وعندما علمت إدارة نادي النواعير في مدينة حماة (أصبح اسمه فيما بعد نادي الجماهير) بخبرته الطويلة في مجال التدريب تعاقدوا معه للإشراف علي فريق كرة السلة لديهم، وسرعان ما صعد النادي إلي الدرجة الأولي لأول مرة منذ 13 عاماً مما شد انتباه محرري صفحات الرياضة في جريدة الفداء بحماة، وظهرت صور المدرب هلال علي خلال شهر آذار (مارس) عام 2000 كذلك في جريدة الرياضة الأسبوعية، وفي جريدة الثورة التي أجرت معه مقابلة مطولة حول تاريخه الرياضي.
كان هذا النجاح سبباً في تفكير هلال بالإقامة في سورية لتطوير فريقه الذي أصبح ينافس علي المركز الأول في الدرجة الأولي علي مستوي القطر، ولذلك فقد تقدم بطلب الإقامة لمدة سنة وأرسل أوراقه إلي مديرية الأمن العام.
هنا يتوقف السيد هلال عن الحديث، وقد اغرورقت عيناه بالدموع فقد كان من الصعب أن يقتنع الناس بأن ذلك الشبح الذي غارت عيناه في وجه شاحب قد كان رياضياً في يوم من الأيام. كان هناك تعارض كبير بين وضعه الصحي وتاريخه الرياضي؛ فقد اصفر وجهه وظهرت عليه التجاعيد، مع أنه لا يزال في ريعان الشباب، وفقد أكثر من 45 كيلو غراماً من وزنه وأصبح ظهره محنياً لأنه لم يكن قادراً علي التمدد طوال ستة شهور.
إنه يحتاج لسنوات طويلة حتي يسترجع صحته، أما الآلام النفسية فإنها تلازمه بشكل دائم ولا يعلم إن كان سيستطيع التخلص منها في يوم من الأيام، فهو يعاني من فقدان التركيز، ويعاني كذلك من النسيان المزمن الذي كان رحمة له كلما تذكر أبناءه وأقاربه في السجن الانفرادي.
ـ سألته: ماذا حصل بعد تقدمك بطلب الإقامة؟
تذكر بأنه كان يروي قصة اعتقاله، وعاد ليقول:
المخابرات العسكرية بحماة
في يوم الأحد 2000/7/23 اتصل بي شخص من إدارة المخابرات العامة وطلب مقابلتي بخصوص أوراق الإقامة التي تقدمت بـها، فقابلته في النادي حيث طلب مني جواز سفري وهوية زوجتي، وفي هذه الأثناء وصل ستة عناصر مسلحين من الأمن العسكري وطلبوا مني مرافقتهم فامتثلت لأمرهم، وعندما هممت بصعود السيارة صرخ ابني عبد الله:
وين رايح بابا؟
لم أكن أملك إجابة واضحة ولكن أحد المسلحين تطوع بالإجابة عني:
بابا بده يغيب شي ساعتين زمان وراجع .
صاحبت العناصر إلي مركز المخابرات العسكرية بحماة والذي يترأسه العميد أحمد حلوم وهو عبارة عن ثلاثة طوابق دونـها بوابة كبيرة لا تجاورها أي عمارات أخري في الطريق إلي دمشق، وعندما توقفت السيارة ترجلنا منها وأدخلني المسلحون إلي غرفة مقفرة لا توجد فيها غير طاولة واحدة، وبقيت أنتظر لفترة طويلة وأفكر في سبب وجودي هنا، فقبل أيام قليلة داهمت المخابرات منزل أحد أقارب زوجتي لعلاقة كانت تربطه برجل كردي اسمه (ج) اعتقل بسبب نشاطه في صفوف الشباب في مدينة حماة، ولكنني لم أكن أعرف المدعو (ج) ولم أكن أعلم أي شيء عن نشاطه، بل كان اهتمامي محصوراً بالتدريب في نادي النواعير وكثير من تلاميذي أعضاء في حزب البعث وأجهزة الأمن، ولم يكن لدي كثير من المعارف في مدينة حماة. ثم أخذت أفكر لبرهة بأن احتجازي في هذه الغرفة قد يكون بسبب تشابه في الأسماء أو خطأ وقع فيه أحد المخبرين فلم أرتكب ـ في علمي ـ أي مخالفة للقانون، وترجح الظن لدي بأنهم يريدون أن يسألوني عن قريب زوجتي المدعو (أ). في هذه الأثناء كان الحراس يستفزونني بحمل أسلحتهم وينظرون إلي بأعين ملؤها التحدي والاستخفاف. ثم انقطع الصمت الطويل بدخول رجل متوسط الطول له شارب كبير، يلبس زياً مدنياً وقد علمت فيما بعد أنه العميد محمد الشعار.
نظر إلي العميد بازدراء ثم سأل الحراس:
هدا هو هلال؟
فقالوا: نعم سيدي
عند ذلك سألني بفظاظة: بتعرف (ج)؟
فأجبته: لا ما بعرف (ج) .
ثم خرج دون تعليق وبقيت أنتظر حتي طلبني العميد إلي مكتبه الواسع، فجلست قريباً منه، ولكنه انتهرني بعنف وأمرني بالجلوس بعيداً عنه في آخر الغرفة فامتثلت، وجلست حيث أراد. ثم أومأ إلي الحراس فأدخلوا قريب زوجتي وهو يرتجف من شدة الخوف، وقد قيدت يداه وغطيت عيناه بقماشة (يسمونها طماشة)، ودار بينهما الحوار التالي:
ـ بتعرف هلال؟
ـ نعم سيدي
ـ شو علاقته بـ (ج)
ـ ماله علاقة سيدي
ـ طلعوه لبره
وهنا التفت إلي الضابط وقد نفد صبري، وقلت له ليس لي أي علاقة بالمدعو (ج) فما هو الداعي لاحتجازي هنا؟
فقال لي بأنني لست الشخص المطلوب، ولكنني سأبقي عندهم الليلة لاستكمال التحقيق، فذكرته بأن لدي أطفالاً وأقارب وهم قلقون علي ولا يعرفون مكان وجودي الآن، فلم يزد أن قال: اتفضل وبكرة منشوف شو بيصير
وفي حركة سريعة اقتادني الحراس خارج الغرفة وقيدوا يدي وأخذوني إلي سجن الفرع حيث استقبلني سجان مرعب اسمه عمران، وكان صوته غاية في الخشونة فصرخ في وجهي بقصد التخويف: حقير... وقف منيح ولا ، ثم جرني إلي الزنزانة المنفردة رقم (4)، وأقفل من خلفي الباب.
تلفت حولي فإذا هي زنزانة ضيقة في غاية القذارة وفيها مرحاض تنبعث منه روائح كريهة، فجلست علي الأرض وقد أسقط في يدي وعدت أسترجع الساعات الأخيرة التي مرت علي كأنـها كابوس مزعج وكلي أمل أن تنتهي في الصباح.
كانت هذه هي المرة الأولي التي أسجن فيها، فقد أمضيت اغلب حياتي في الملاعب وفي طريق الاحتراف، بل إنني لم أذهب مرة واحدة إلي مركز شرطة ولم يكن لدي أي سبب لمخالفة القانون أو ارتكاب الجرائم، فقد كنت ميسور الحال وعندي أربعة أطفال أرغب في تربيتهم أحسن تربية، وأخذت الهواجس تنتابني حتي غلبني النوم فافترشت الأرض والتحفت بطانية قذرة ونـمت حتي الصباح. في صباح يوم الإثنين 2000/7/24، ابتدأ مسلسل الرعب الذي استمر دون توقف لمدة 11 شهراً فقد استيقظت علي أصوات مختلطة من الضرب والشتائم والأنين والاستغاثة، وعلمت بأنها أول نوبات التعذيب الوحشي الذي كان يتعرض له المعتقلون داخل الفرع. كان السجانون يأتون في الصباح الباكر ويفتحون أبواب الزنازين بعنف ويخرجون ضحاياهم مقيدين ومغمضي العيون ثم يسوقونهم كالخراف وأنا أنظر إليهم، وقد ارتعدت مفاصلي من شدة الرعب، ثم يبدأ الجلد بالأسلاك الكهربائية (الكيبلات) علي ظهورهم وسائر أنحاء الجسد دون تمييز، ويرتفع صوت الجلادين وهم يكررون نفس الأسئلة: مين بتعرف؟ ، شو علاقتك بفلان؟ ، إيـمتي شفته؟ . وأخذت أفكر كيف كان اعتقالي مثل اعتقال الكثير من هؤلاء؛ بناء علي دليل الهاتف الذي عثروا عليه عند قريب زوجتي فاتصلوا بي وأحضروني إلي الفرع، هذه الطريقة الجائرة نفسها هي التي أودت بحياة كثير من الأبرياء وغيبتهم لسنوات طويلة في غياهب السجون لا لجرم إلا أنـهم وجدت أسماؤهم وأرقام هواتفهم مكتوبة في دليل أحد المشبوهين.
كنت أنتظر أن يأتي الجلادون ويأخذونني إلي التعذيب في أي لحظة، وبالفعل جاء أحدهم فأخرجني من الزنزانة و طمش عيني وقيدني وجرني إلي غرفة التحقيق حيث دخل أحد المحققين وأمر بفك القيد عني وأعطاني ورقة وقلماً لأكتب قصة حياتي كاملة! وعندما كتبت له قصة حياتي تناول الأوراق وأخذ يصحح ويشطب علي بعض السطور، ويضيف من عنده فاعترضت علي هذا الأسلوب، وعند ذلك قال لي:
بدك تعلمني شغلي؟
وخرج من الغرفة ثم عاد ليخبرني بأن العميد قد انزعج لإصراري علي عدم الاعتراف، فأخبرته بأنه ليس لدي ما أعترف به، وهذا ما عندي، فأمرني أن أبصم علي ما كتبت، ثم عاود السؤال علي (أ) مرة أخري عن علاقتي بالمدعو (ج) فأجابه بأنه ليس هناك أي علاقة، وعندما تأكدوا من ذلك أعادوني إلي الزنزانة المنفردة وجلست هناك لمدة ثمانية أيام لم يكلمني فيها أحد. كان التعذيب يبدأ يومياً من الساعة الثامنة صباحاً ويتوقف عند الثانية، ثم يبدأ مرة أخري في الثامنة مساء حتي الحادية عشرة، ومع أنني لم أتعرض للتعذيب فإن صرخات المعتقلين وأنينهم كانت أشد من لسع السياط التي تصدر صفيراً مرعباً قبل أن تحط علي ظهور المساجين وهم يئنون من شدتها، ومع أنني كنت متماسكاً فقد لازمتني حالة عجيبة من الهلع، خاصة عندما أصيبت إحدي السجينات في زنزانتها الانفرادية بانـهيار عصبي وأخذت تصرخ بأعلي صوتها قبل أن ينقلوها إلي المستشفي.
وفي يوم السبت 2000/7/29 جاء رئيس المحققين في الفرع الرائد غسان الجواد وأخذ يمر علي الزنازين وينظر إلي المساجين بداخلها حتي وصل إلي زنزانتي ففتح الباب وقال لي:
إبني نحنا عارفين أنك بريء ومنتظرين خبـر من الشام حتي نفرج عنك اليوم أو بكرة .
وعرض علي الانتقال إلي السجن الجماعي ففرحت لذلك وشكرته، ثم نقلوني إلي حيث أشار فوجدت نفسي مع خمسة من المساجين وأخذنا نتبادل أطراف الحديث فسألت كل واحد منهم عن تـهمته، وإليكم الجرائم التي ارتكبوها:
ـ كان الأول قد امتنع عن التصويت لبشار الأسد في انتخابات الرئاسة فجروه إلي السجن وأخذوا يضربونه ضرباً مبرحاً لتمرده!
ـ أما الثاني فقد ورد في إحدي تقارير المخابرات أنه قال: أهل حلب وحماة قبضايات لأنهم قاوموا ، كان شاباً صغيراً ولم يكن سنه قد تـجاوز أربع سنوات عندما اندلعت أحداث حماة، ومع ذلك فكان يتعرض للصعقات الكهربائية حتي يعترف بالذي علمه هذا الكلام!
ـ وتـحدث الثالث بـحزن عن مكالمة هاتفية دارت بينه وبين أقاربه قال فيها بأنه سيذهب إلي القرداحة في وفد رسمي لزيارة قبر الرئيس الراحل، ولما سأله قريبه ماذا سيلبس، أجاب: كلسون أحمر ، ولم يكن يعلم بـمراقبة المخابرات لمكالمـته الـهاتفية فاعتقل في ذلك اليوم. وكان الجلادون ينفذون تعهدهم له بتحويل لون كلسونه إلي الأزرق من شدة التعذيب حتي يتوب!
ـ وكان الرابع مسجوناً بسبب العثور علي جهاز للتنقيب عن الآثار في أرض يملكها.
ـ واتهم الخامس ببيع السجائر المهربة.
كانوا قد تعرضوا جميعاً لشتي أصناف التعذيب من الجلد والصعق الكهربائي، أما أنا فقد نـجوت من التعذيب ربـما بسبب توسط إدارة النادي لصالحي.
بعد ثلاثة أيام في السجن الجماعي أخبرت بوصول البرقية من دمشق، وكنت أترقبها علي أحر من الجمر حتي أعود لأطفالي الذين افتقدوني ولم يعلموا أين ذهبت، وسرعان ما تلاشت آمالي عندما أخبرني المحقق بأنني قد طلبت في الشام وأن علي الذهاب إلي هناك لاستكمال التحقيق.
عند ذلك أخرجت مقيداً مع ثلاثة آخرين وأركبونا داخل سيارتين في كل واحدة منها أربعة عناصر مسلحين ببنادق كلاشنكوف، ولما وقع الرائد علي أوراق تسليمنا بعد طول انتظار تحركت السيارتان باتجاه دمشق، وكان علينا أن نخفض رؤوسنا طول الرحلة، وكلما رفع الواحد منا رأسه كان الحارس يهوي علي رقبته بكل ما أوتي من قوة ويقول: نزّل راسك ولك كلب ، وبقينا علي هذه الحالة حتي وصلنا إلي فرع فلسطين.
فرع فلسطين
توقفت السيارتان عند بوابة كبيرة وسط سور عال، وانطلقت لمسافة 70 متراً عندما استطعت أن ألـمح عمارتين كبيرتين، ثم اعترضتنا بوابة أخري استوقفنا عندها الحرس وجردوا رجال الأمن من أسلحتهم، ثم أنزلونا نحن الأربعة من السيارتين وأدخلونا إلي مكتب مدير السجن وهو رجل بذيء اللسان ممتلئ الجسم حنطي اللون برتبة مساعد أول، اسمه أحمد، ويـمتاز بصوت شديد الخشونة. تفرس فينا المدير بنظرات ملؤها الحقد وصرخ فجأة: وقف منيح ولا حمار ... ثم أمر بنقلنا إلي غرفة مجاورة، حيث جلسنا ننتظر ونحن نعاني من حرارة الشمس وكثرة الصراصير، فطرقت الباب وطلبت أن أذهب إلي الخلاء فأجابني أحد الحراس هازئاً: استني شوي راح نحولك عالـميريديان !
بقينا ننتظر أربع ساعات بطولها ثم دخل علينا رجل لا يقل خشونة عن مدير السجن ليكتب بياناتنا الكاملة، ويأخذ أغراضنا إلي صندوق الأمانات، وعندما وصل إلي دار بيننا الحوار التالي:
ـ شو اسمك ولا؟
ـ هلال عبد الرزاق علي
ـ شو جنسيتك؟
ـ جنسيتي ولا أصلي؟
ـ جنسيتك ولك كلب
ـ بريطاني
فسكت لبـرهة ثم ذهب إلي مكتب المدير الذي استدعاني إلي مكتبه مرة أخري وسألني:
ـ شو جنسيتك ولا؟
ـ بريطاني
ـ م ـــ ك، أنت عراقي ، ثم خاطب الحراس: نزلوا هالكلب علي المنفردة (11) !
عند ذلك فقدت صبري وقلت له أي منفردة؟ وما هي تهمتي، ولماذا تعاملونني بهذا الأسلوب؟
ففوجئت به يصرخ بأعلي صوته: ولك خدو هالحمار علي المنفردة (11) ، ولم يكد ينتهي من عبارته حتي هجم علي عدد من الحراس وجروني بعنف خارج المكتب وهم يصرخون بي: نزل راسك ولا ، خليك ماشي عالحيط ، وأنزلوني بالسلالم إلي القبو حيث رأيت عدداً من الأبواب الحديدية علي جانبي الممر، وكانوا يركضون أمامي وخلفي حتي انتهينا إلي آخره ففتحوا أحد هذه الأبواب ورموني في المنفردة (11).
المنفردة (11)
أطرق السيد هلال علي لفترة وحاول أن يفهمني بجمل مبعثرة بأن كل الذي حكاه لي كان مقدمة قصيرة لفصول المعاناة الطويلة التي أمضاها في الزنزانة المنفردة لستة أشهر متوالية. كان طول الزنزانة 180 سم وعرضها 80 سم تنبعث منها رائحة كريهة ولا تصل إليها سوي كمية ضئيلة من التهوية والنور، ولذلك فقد أصبحت مرتعاً للقمل والصراصير. ولأن طول هلال 190 سم فلم يكن قادراً علي التمدد لمدة ستة أشهر فانحني ظهره وأصبح يمشي مشية عجوز تجاوز الثمانين من العمر.
كان يتذكر الأحداث بصعوبة لأنه يريد أن ينسي هذه الحقبة السوداء من حياته، ولكن أنين المعذبين ومعاناة المعتقلين كانت تدفعه لأن يستحضر كل شاردة وواردة لأنه عاهدهم أن يخبر العالم بـما رآه ويستصرخ أصحاب الضمائر الحية للمساعدة في رفع المعاناة عن مئات المساجين الذين تم اعتقالهم ـ مثله ـ عن طريق دليل الهاتف دون سابق تهمة أو اشتباه.
ارتـمي هلال علي أرض الزنزانة وجلس علي بطانية رطبة نتنة، وأخذت الهواجس تتلاعب به، فتذكر رحلته البائسة من حماة إلي دمشق، وطول الانتظار في فرع فلسطين وخشونة التعامل التي لقيها من الحراس. لقد أصبح اسمه من الآن فصاعداً: منفردة (11) والويل له إذا ذكر اسمه الحقيقي، وصار بين عشية وضحاها سجيناً مسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً، بل إنه فقد اسمه وأصبح رقماً آخر في عداد المفقودين داخل فرع فلسطين. لقد لازمه الشك بأن هنالك خطأ ما وسيفرج عنه حال تبين هذا الخطأ، ولكن لم يكن لديه أي قرينة تدعوه إلي التفاؤل ... وبقي علي هذه الحالة من التفكير العميق حتي غلبه الإعياء فتكوم في أرض الزنزانة ونام.
ثم يتحدث هلال عن صباح أول يوم في الانفرادية:
استيقظت وقد قرصتني حشرة في وجهي فتورمت عيني اليسري ولم أكن أعرف نظام السجن بعد، فطرقت الباب طرقاً متتالياً حتي جاءني سجان ضخم اسمه المعلم حسن، ففتح الباب وقال: شو بدك ولا؟ ، فقلت له: شوف عيني ، فنظر نظرة لم تكن تبعث علي الاطمئنان، وقال لي: قرب ولا ، وعندما اقتربت منه سدد لكمة قاسية علي عيني اليمني فسقطت علي أرض الزنزانة من شدة الألم، وأقفل الباب ورائي وهو يتمتم بأقذع الشتائم. ولم ينقض اليوم الأول حتي عرفت نظام السجن كاملاً، فلم يكن لنا أي حق في طرق الأبواب، وكانت الفرصة الرئيسة للسجانين كي يشفوا نزعتهم السادية هي خروج المساجين من الزنازين الانفرادية إلي الخلاء... كان هناك 19 زنزانة منفردة و4 مزدوجة وكان يتناوب 42 سجيناً علي حمامين ثلاث مرات في اليوم فيخرجنا الحراس واحداً واحداً بالركل والجلد ولم يكن يسمح للواحد منا أن يبقي أكثر من نصف دقيقة في بيت الخلاء. ولا بد من الاعتراف بأنني عندما خرجت للمرة الأولي أكلت نصيباً وافراً من الركل واللكم من قبل المعلم حسن، ولم أكن أجد أي مبرراً لذلك فاعترضت بصوت مرتفع وذكرته بأنني إنسان مثله، فصرخ في وجهي صرخة منكرة قائلاً:
خراس ولك كلب، هلق بخليك تاكل الخ ــ تبعك !
وبسبب هذا التضييق وانعدام الماء والصابون فقد أصيب أكثرنا بالبواسير وكانت الدماء تغطي المرحاض، وإذا تأخر الواحد منا في الخلاء كان يخرج بالقوة ويجر إلي زنزانته بالركل والضرب. كانت كل زنزانة انفرادية قد زودت بوعاء (طاسة) للأكل والشرب، وبسبب الأذي الذي كان يصيبنا من السجانين في دخول الخلاء فقد اضطر الكثير منا لقضاء الحاجة في طاسته كلما اشتد المرض عليه، ثم يغسلها ويعاود استخدامها لطعامه من جديد.
ولأنني لم أكن متهماً بالدرجة الأولي فلم أكن أتعرض لوجبات التعذيب التي كانت من نصيب السجناء الآخرين، ولكن سماع أصوات المعذبين كان أشد إيلاماً علي النفس من وقع السياط في كثير من الأحيان. كانت نوبات التعذيب تبدأ في الساعات المبكرة من الصباح وتستمر حتي الواحدة والنصف وهناك نوبة ليلية تبدأ من السابعة مساء حتي العاشرة، وقد تستمر حتي الثالثة بعد منتصف الليل. كنا نسمع شتائم الجلادين واستغاثة المعذبين وتوسلاتهم، وكنا نـميز طريقة التعذيب من تتابع أنين المعتقلين الذين يخضعون للتعذيب بواسطة الكرسي الألماني الذي يهشم العمود الفقري، والتعليق من أيديهم وضربـهم علي سائر أنحاء الجسد وهم عراة، وكذلك الجلد بالأسلاك الكهربائية السميكة.
لازمتني حالة رعب شديد وكنت أخاف أن يأتي الجلادون في أي لحظة ويجرونني إلي غرفة التعذيب، وكلما سمعت وقع أقدام بالقرب من زنزانتي كانت ترتعد فرائصي، حتي أمضيت 11 يوماً علي هذه الحالة، ولم يفتح باب زنزانتي خلال هذه الفترة إلا لدخول الخلاء. كنت أنام وأجلس علي البطانية المتعفنة بفعل الرطوبة وانعدام التهوية حتي اسودت ملابسي وأصابتني الالتهابات الجلدية والأورام، حتي إن السجانين كانوا يتأففون من رائحتي كلما مروا بالقرب من زنزانتي، ولم تجد توسلاتي لهم بتغيير تلك البطانية القذرة. بعد انقضاء اليوم الحادي عشر في المنفردة جاء الجلادون وأصعدوني إلي غرفة التحقيق مطمشاً ، ثم دخل أحد المحققين فأمر بفك الطماشة، وأعطاني ورقة وقلماً لأكتب قصة حياتي من جديد! وعندما انتهيت من الكتابة ابتسم المحقق وبشرني بأنني لن أبقي في الفرع عندهم أكثر من أسبوعين، فرجوته أن يأمر بنقلي إلي المهاجع الجماعية لأنني لم أعد أحتمل السجن الانفرادي، فطلب مني الصبر، وقال لي: المنفردة أحسن لك . ثم أرجعت علي نفس الهيئة التي أتيت بها إلي زنزانتي المنفردة، ومكثت بها الشهور الستة التالية دون أن يكلمني أحد أو يحقق معي من جديد.
كنت مريضاً بالقولون وأعاني من مرض الربو المزمن، وانتشرت الحساسية في جسدي كله، ومع ذلك فقد كان العلاج ممنوعاً عنا طوال فترة السجن. ونتيجة للمرض وفقدان الشهية فقد انخفض وزني 45 كيلو، وطال شاربي حتي غطي فمي، ولم يسمح لي بحلق شعري طوال هذه الفترة سوي مرة واحدة، أما اللحية فكانت تحلق أسبوعياً ولكن قص الشارب كان ممنوعاً، وكانت الحلاقة من أبرز المناسبات عند الجلادين لممارسة هواية التعذيب، فكانوا يضربون المساجين علي رؤوسهم ورقابهم والويل لمن يجرؤ علي فتح عينيه أثناء الحلاقة. وبالإضافة إلي هذه الحالة المزرية فلم يكن يسمح لنا بالاغتسال أكثر من مرة كل شهرين وكانت المياه حارة في الصيف شديدة البرودة في الشتاء، أما الملابس فلم يسمح لنا غسلها سوي مرتين طوال فترة السجن الانفرادي، ولذلك فقد تشققت بفعل تراكم العرق وكثرة الضرب.
كان الكلام ممنوعاً طوال الوقت، وأي محاولة لقراءة القرآن كانت تقمع بأسلوب وحشي، وذات مرة تشجع السجين في منفردة (17) بقراءة بعض السور، ولما سمعه السجان حسن اقتحم عليه زنزانته وتناوله بالضرب المبرح وهو يقول له: والله ما تعيدها مرة ثانية لشخ بتمك ، وكذلك كان نصيب السجين الذي أخذته العبرة وهو يلح في الدعاء فسمعه أحد السجانين وأخذ يضربه علي سائر أنحاء جسده ويقول له: إذا سمعتك عم تدعي مرة ثانية لح أكسر راسك يا عرص .
أما أنا فقد دفعت ثـمن نزعتي الإنسانية غالياً، عندما سمعت استغاثة مخنوقة من امرأة مصابة بالربو في مهجع النساء فطرقت باب زنزانتي حتي سمعت وقع أقدام السجان حسن وهو يصرخ: شو بدك ولا كلب ، فأعطيته بخاخ الربو الذي أحضرته معي من حماة وقلت له أعطه للمرأة المسكينة، ولم أكد أنتهي من قولي هذا حتي لكمني علي رأسي ثلاث لكمات أسقطتني علي الأرض وتتابعت بعدها الركلات والشتائم المقذعة، ولم أعد أعي شيئاً حولي إلا أنني سمعت المعلم حسن يقفل باب الزنزانة وهو يقول: ولك عامل حالك شريف يا عرص، نحنا ما عنا إنسانية هون !
أما صيغة الإعلان عن وصول الطعام فلم تكن تتغير أبداً... كان السجان رفيق يصرخ في أول الممر: يا كلاب ... الأكل اليوم (ويمد الواو) شوربة ورز ... كل واحد يدير وجهه علي الحيط ... واللي بشوفه مو داير وجهه لح (فعل قوم لوط) . كان الطعام غاية في القذارة وسوء الطبخ، وكنا نأكل مرق الدجاج دون أن نري الدجاج لأن السجانين ومساعدي مدير السجن كانوا يأخذونه قبل أن يصل إلينا، وكثيراً ما كنت أرفع الصراصير والحشرات الأخري عن الشوربة والمرق وأشربـها، أما إذا كانت الوجبة بطاطس مسلوقة، أو إذا قدم لنا التفاح (في المناسبات) فكانوا يرمونه علي رؤوسنا الموجهة نحو الجدار، وكنا نحظي ببيضتين طوال الأسبوع. وكان السجانون يخبئون الفواكه والخبز الطري فوق سقف المنفردة (1) لإخفائها عن المدير ويأخذونها معهم بعد انتهاء الدوام.
كنا نعاني من البرد الشديد في الشتاء ومن الحرارة الخانقة في فصل الصيف ولم تتغير البطانيات القذرة التي ورثناها عن السجناء قبلنا طوال فترة الإقامة في السجن الانفرادي. وبالإضافة إلي انتشار القمل والصراصير، فقد كنا نعاني كثيراً من الجرذان التي كانت تقتحم عزلتنا هرباً من القطط الجائعة التي كانوا يرسلونها للقضاء علي هذه الجرذان، وكثيراً ما كانت القطط تظفر بصيدها في فتحات التهوية ونعلم بوفاة الجرذ حين يتقاطر دمه علي رؤوسنا ونحن نيام .
ـ ابتسم هلال عندما سألته كيف كان يقضي وقته في السجن الانفرادي لمدة 180 يوماً متواصلة، وقال لي بأن: الشهر في الزنزانة مثل الشهرين والثلاثة والأربعة... تمر الساعات الطويلة ويتعاقب الليل والنهار ونحن علي حالنا. كنت أقاوم وأبحث في خلجات نفسي عن بصيص أمل وأعد الأيام عن طريق الحفر علي حائط الزنزانة، ولا أنسي عندما دخلت علي فراشة فأنست لها كثيراً وأخذت أكلمها وهي لا تجيب، وقد أصبت عدة مرات بهياج عصبي وكنت أصرخ بأعلي صوتي: لماذا تفعلون بي هكذا؟ ما هي تـهمتي بالتحديد؟ أنا ضيف عندكم في هذه البلد أهذه هي الطريقة التي تعاملون بها الضيوف؟
وكنا نختلس الساعات التي ينام فيها السجانون في آخر الليل فنتكلم فيما بيننا همساً، وبـهذه الطريقة استطعت التعرف علي عدد من المساجين في الانفرادية، وكنت آنس للحديث إليهم كثيراً.
من قصص الزنازين المنفردة
طلبت من هلال أن يحدثني عن بعض السجناء الانفراديين الذين جاورهم لمدة ستة أشهر، فكان يتذكر بحزن شديد معاناة السجين في الزنزانة رقم (19)، ومن سوء المعاملة التي لقيها من السجان (محمد) الذي كان يستمتع بضربه كلما جاء دوره للخروج إلي الخلاء، فقد كان يأمره أن يضع يديه خلف ظهره ويغمض عينيه ويرفع رأسه ... ثم تتردد أصداء صفعة قوية تنخلع لها قلوبنا، ولكن السجان الآخر في نوبته (رفيق) كان يضحك ويقول له: محمد ... ما سمعت !، فيتميز محمد غضباً ويشتم السجين قائلاً: يلعن أبوك يا ابن الكلب، ولك شلون هيك بتخجلني قدام صحابي؟ ، ويصفعه صفعة أخري لا تعجب صاحبه (رفيق) فيأتي هو ويقوم بنفس الطقوس السابقة، فيأمر السجين بوضع يديه خلف ظهره، وإغماض عينيه ورفع رأسه فيمتثل وهو يئن من شدة الألم، ثم يصفعه صفعة أشد من سابقتيها، ويضحك رفيق ضحكة المنتصر ويقول: هيك بدي ياك... روح شخ . وكانت هذه العملية تتكرر مع عدد من المساجين كلما جاء دورهم لدخول الخلاء.
ـ أما السجين في المنفردة (13) فكان مصاباً بـمرض السكري ولم يكن يستطيع النوم دون أن يأخذ إبرة في المساء، وكان المسكين يتوسل إليهم يومياً لعدة ساعات أن يأتوه بالإبرة ولكن السجانين كانوا يتعمدون التأخر عن ذلك، ثم يأتي أحدهم آخر المطاف مصراً علي أن يعطيه الإبرة بنفسه فنسمع صرخات شديدة من جراء الطعنة التي يلقاها من السجان وهو يقول له: خود... يلعن أبوك عرص ، وقد استمرت هذه المأساة بصفة يومية طول إقامتي في السجن الانفرادي.
ـ المنفردة (16) كانت هذه الزنزانة تتميز عن غيرها برائحة نتنة تزكم الأنوف، ولم يكن يسمح لنزيلها أن ينظف زنزانته أو حتي أن يغتسل أو يغسل ملابسه، وكان كلما خرج للخلاء يعيره السجانون برائحته الكريهة ويبصقون علي وجهه وهو صامت لا يتكلم.
ـ المنفردة (17) نزيلها المدعو (ج) نفسه، كان الجلادون يخرجونه للتحقيق يومياً ويتعرض لـمختلف أنواع التعذيب الذي لم ينقطع عنه يوماً واحداً طوال الأشهر الستة التي قضيتها في الانفرادية.
يتبع غدا