مشاهدة النسخة كاملة : نهاية إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية .. دراسة تحليلية في القران والسنة والتوراه
wahhab
08-09-2006, 08:43 AM
أخوتي في المنتدي الإسلامي .. أعرض عليكم دراسه رائعه .. لم أستطع أن اتمالك نفسي عندما قرأتها
.. لقد وصلتني عن طريق صديق عزيز لي ولم أصدق ان من قام بهذه الدراسه شخص عادي ولكنه قام بمجهود خرافي لتتم هذه الدراسه والتي سأعرضها عليكم علي أجزاء في هذه الصفحه
وأتمني ان تنال هذه الدراسه إعجابكم .. جزي صاحبها كل خير
نهاية إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية
دراسة تحليلية في القران والسنة والتوراه
http://www.4img.com/ar/up/06/09/07/ed46558a56a4a26b96a68738a0d28273.gif
الجزء الأول
زوال إسرائيل قبل ظهور المهدي
استفاضت كثير من المؤلفات لكبار العلماء والأئمة ، في ذكر المهدي وسيرته ، وأكدت على حتمية خروجه آخر الزمان ، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ، ابن حجر والشوكاني والسيوطي والصابوني وغيرهم ، وهناك من أفرد له بابا ، أو كان له مقالا في كتاب ، كالذهبي وابن تيميه وابن القيم والقرطبي والبرزنجي وغيرهم . وهناك الكثير من الكتب المتخصصة الحديثة ، جمعت أقوال أولئك العلماء والأئمة في المهدي وأحداث آخر الزمان ، فمن رغب بالاستزادة فليرجع إليها ، فهي متوافرة بكثرة في المكتبات هذه الأيام ، والإلمام المسبق بالأحاديث الواردة في المهدي ، سيساعد كثيرا في فهم ما استخلصته من أفكار في هذا الفصل .
وأما من ينكر أحاديث المهدي ، فلا التفات لقوله ، فالأحاديث الصريحة وغير الصريحة ، التي أتت على ذكر أخبار المهدي ، بلغت حد التواتر المعنوي ، وقد ورد فيها ما يُقارب الأربعين حديثا . وما سنتناوله منها ، هو ما يخص موضوع هذا الكتاب فقط . وأود أن أشير إلى أن ذكر المهدي قد جاء في التوراة ، حيث أن الترجمة العربية للنص التوراتي ، تُسمّيه ( بالقدّوس ) في موضع ( وبالغصن ) في موضع آخر ، وهذا النص موجود مع التعليق ، في فصل النبوءات التوراتية . وقد تنبأ بظهوره ( نوستراداموس ) مفسّر النبوءات التوراتية ، وأشار إليه بألفاظ صريحة ، سنوردها في فصل لاحق .
وللحقيقة ، ومن خلال اطلاعي على الكثير ، من دراسات وأبحاث الغربيين ، التي تتناول النبوءات التوراتية والإنجيلية ، الخاصة بأحداث النهاية ، تبيّن لي بأن اليهود والنصارى ، أكثر إيمانا ويقينا ، من عامة المسلمين ، بحتمية ظهور المهدي ، وانتصاره في كافة حروبه ، واتخاذه للقدس عاصمة لملكه ، وامتداده لمساحات شاسعة من الأراضي . ولأنهم يعلمون بأن النهاية قد اقتربت ، ويعتقدون بأنه سيقود تحالفا عسكريا ضد الغرب ، ينجم عنه دمار الحضارة الغربية برمتها ، فهم يتوقعون ظهوره في أي لحظة ، ويخشون أن يظهر وأن تقوى شوكته ، وهم في غفلة من أمرهم ، فلذلك تجدهم يُحاولون تجنيد العالم بأسره ، ضد ما يُسمّونه بالإرهاب الإسلامي ، خوفا من ذلك المصير المشؤوم الذي ينتظرهم ، عند ظهور أمره .
غربة الإسلام :
عَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ ، كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ) رواه أبو داود وأخرجه أحمد ، وصحّحه الألباني .
عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا ) رواه مسلم ، وأخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي ، وصححه الألباني .
قبل ظهور المهدي ستشهد الأمة الإسلامية ، عصرا حالك السواد ، من كثرة الظلم والجور والفساد ، يتميز بوجود قلة مؤمنة صابرة متمسكة بدينها ، لا حول لها ولا قوة ، تنتظر حتى يأتي الله بأمر من عنده ، وكثرة طاغية فاسدة ومفسدة متمسكة بدنياها ، هم غثاء كغثاء السيل .
جيش يغزو الكعبة بداية ظهور أمر المهدي :
عَنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، ( قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ، قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ) رواه البخاري ، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ ، ( فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ ، فَقَالَ : الْعَجَبُ إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ الْبَيْتِ ، بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ ، قَالَ : نَعَمْ فِيهِمْ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا ، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى ، يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ) ، رواه مسلم ، وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد ، وصححه الألباني .
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جَيْشٌ مِنْ أُمَّتِي يَجِيئُونَ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ، يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ لِرَجُلٍ يَمْنَعُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ خُسِفَ بِهِمْ ، وَمَصَادِرُهُمْ شَتَّى ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِهِمْ جَمِيعًا وَمَصَادِرُهُمْ شَتَّى ، فَقَالَ : إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ جُبِرَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ جُبِرَ ثَلَاثًا ) رواه أحمد بهذا النص ، ورواته ثقات ، إلا واحدا وثقه البعض وضعفه آخرون .
بداية ظهور المهدي ستكون في مكة بإذن الله ، وفور معرفته تسارع قلة من تلك القلة ، لمبايعته على الإمارة ، فيلجأ إلى الحرم تهرّبا ويعتصم به . ويظهر أمره شيئا فشيئا ، فيُبعث إليه بجيش يغزو الكعبة ، فيخسف به في الصحراء ما بين المدينة ومكة .
هذه الأحاديث الثلاثة متوافقة من حيث النص والمضمون ، غير أن الحديث الثالث ، أضاف عبارة توضّح مخرج ذلك الجيش . ومع أن أحد الرواة ضعفه ، إلا أن تلك الإضافة ( من قبل الشام ) تتفق والتفسير المنطقي ، للأحداث الموصوفة في جملة أحاديث هذا الفصل .
لنخلص إلى ما يلي :
1. أن جيشا سيغزو مكة .
2. وهذا الجيش من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ويعجب رسول الله ويحق له العجب ، فما آل إليه أمر أمة الإسلام هذه الأيام ، يثير ما هو أكثر من العجب والشفقة ، حتى في نفوس أعدائنا .
3. ومقصد هذا الجيش رجل من قريش يلجأ إلى الحرم ، وغايته وأد بؤرة الخلافة الإسلامية في مهدها ، خوفا من أن تزلزل أركان عبدة الحياة الدنيا .
4. يُخسف بهذا الجيش في الصحراء قبل وصوله إلى مكة .
5. ومخرج هذا الجيش من قبل الشام ؟!
عمران بيت المقدس يعقبه خراب المدينة المنورة :
عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عُمْرَانُ بَيْتِ المَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا ، أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ يَعْنِي مُعَاذًا ) . رواه أبو داود ، وأخرجه أحمد ، وصححه الألباني .
تعمر بيت المقدس في آخر الزمان ، برجوعها إلى الحكم العربي ، واتخاذها عاصمة للحكم ، فيرسل حاكمها جيش إلى الكعبة ، عند ظهور أمر المهدي ، فيخرب المدينة المنوّرة في طريقه إلى مكة ، ومن ثم يُخسف بجيشه ، قبل أن يصلها بالقرب من ذي الحليفة ، وهي ميقات إحرام أهل المدينة ، بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، وبينها وبين مكة مسيرة عشرة أيام .
المهدي لا يغزو العراق وبلاد الشام :
عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ ، قال : قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ ، قَالَ : فَقَالَ نَافِعٌ : يَا جَابِرُ لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ ) رواه مسلم وابن ماجه وأحمد ، وصححه الألباني .
وتجمع جزيرة العرب لقتال المهدي وصحبه ، فيغزونها فيفتحها الله فتدين لهم ، ومن ثم يخرجون إلى إيران فيفتحها الله فتدين لهم ، ومن ثم يغزون الروم فيفتحها الله ، ومن ثم يخرج الدجال ، فيغزونه بمعية عيسى عليه السلام ، فيفتحه الله .
ولو تدبرت هذا الحديث ، ستجد أن البلدان التي سيغزوها المهدي ، عندما يمسك بزمام الأمور ، هي بالترتيب ؛ أولا : جَزِيرَةَ الْعَرَبِ ثانيا : فَارِسَ أي إيران ، ثالثا : الرُّومَ أي روسيا وأوروبا الشرقية ، رابعا : الدَّجَّالَ ، والملاحظ في هذا الحديث ، عدم ورود ذكر فتح بلاد الشام والعراق ، التي لا بد للمهدي من المرور بها ، عند خروجه لفتح فارس ، ولفتح الروم الذين سيُلاقونه بالقرب من مدينة دمشق .
فلو كانت دولة إسرائيل قائمة في فلسطين ، أليس من الأحرى بالمهدي ومن معه تحريرها ، فور خروجه من جزيرة العرب ؟!
يظهر بوضوح في هذا الحديث ، أن كل واحد من هذه الأمور ، أمارة لوقوع ما بعده ، كما هو الحال في الحديث السابق ، وكل منهما يتقاطع مع الآخر في نقطتين ، هما ؛ أولا : غزو الروم ويقابلها خروج الملحمة ، وثانيا : غزو الدجال ويقابلها خروج الدجال ، ويضيف الحديث الأول ثلاثة أحداث ، هي عمران بيت المقدس ، وخراب يثرب ، وفتح القسطنطينية .
حتمية نزول الخلافة في بيت المقدس :
عن ابْنُ حَوَالَةَ عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ، فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ ، مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ ) رواه أحمد ، وأخرجه أبو داود والحاكم ، وصححه الألباني .
عند خروج المهدي إلى بلاد الشام ، سيتخذ القدس عاصمة لخلافته ، تنعم الأمة الإسلامية خلال سنوات حكمه ، بإقامة الحق والعدل ورفع الظلم والجور عن أمة الإسلام .
نستخلص من هذا الحديث ما يلي :
1. لا بد للخلافة من النزول في بيت المقدس آخر الزمان .
2. ونزولها هناك يعني بدء ظهور الفتن والكوارث الطبيعية ، ومن ثم علامات الساعة الكبرى ، بداية بظهور الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، في نهاية حكم المهدي .
3. وهنا لا بد لنا من أن نشير ، إلى أن عبارة ( نزول الخلافة ) ، ربما تشمل الحكم العربي للقدس ، الذي تكثر فيه الفتن والحروب والاقتتال ، والموصوف بالظلم والجور ، قبل ظهور المهدي .
نطق الحجر والشجر :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ : يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ) . رواه مسلم وأحمد بنفس النص ، وصححه الألباني ، وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه ، بنصوص أخرى .
هذا الحديث روي بعدة نصوص ، وهذا النص أشهرها وأكثرها تداولا بين العامة ، أما نطق الحجر والشجر ، فهو أمر خارج عن المألوف والعادة ، ولا يُعقل أن تحصل تلك المعجزة في آخر الزمان ، قبل بدء ظهور أشراط الساعة الكبرى على الأقل ، حتى بظهور المهدي . فنطق الحجر والشجر ، أكثر إعجازا من نطق عيسى عليه السلام في المهد صبيا . فمن المنطقي ألا يحدث هذا الأمر ، قبل ظهور الأحداث غير المألوفة للناس ، كأشراط الساعة الكبرى . ومن الأرجح أن يتزامن هذا الحدث ، مع وجود عيسى عليه السلام ، لكي يستقيم الأمر ، فالمعجزات غالبا ما تأتي على أيدي الرسل ، وهذا ما تؤيده سورة الإسراء .
أما عبارة ( شرقيّ النهر وهم غربيه ) فلا أساس لها من الصحة ، إذ لم أجد لها أصلا ، في أي من كتب الحديث على اختلافها وكثرتها ، لا في صحيحها ولا في ضعيفها . ولا تعدو أكثر من كونها ، عبارة أضيفت إلى الحديث من قبل العامة ، بعد قيام دولة إسرائيل المعاصرة غربيّ النهر . وبالرغم من ذلك ، يُصرّ البعض على أنها موجودة في الأحاديث الضعيفة . أما الزمن الفعلي المتوقع لتحقق هذه النبوءة ، هو وقت نزول عيسى عليه السلام ، وهرب الدجال ومن معه من اليهود إلى فلسطين ، حيث يُقتل على أبواب القدس .
خلاصة القول :
وبناءا على ما تقدم ، نقول أن زوال دولة إسرائيل أمر حتمي ، يتبعه زوال حلفائها من الغرب بالضرورة ، قبل ظهور خلافة المهدي ، وأن من سيقوم بتحريرها هو جيش عربي ، وأن صاحب هذا الجيش سيتخذ مدينة القدس عاصمة لملكه ، ومن ثم تدين له بلاد الشام والعراق ، وأن فترة حكمه أو حكم من يخلفه ، ستكون حافلة بالظلم والجور ، وعند ظهور أمر المهدي في مكة ، يبعث حاكم مدينة القدس جيشا إلى الجزيرة ، لا قبل للمهدي وجماعته به ، فيُخرب المدينة المنورة ، لدى مروره بها متجها إلى مكة ، فيخسف الله بهم الأرض .
وآنذاك يظهر أمر المهدي ، فيهب إلى قتاله من رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، خوفا من عودة دين أكل الزمان عليه وشرب ، يدعوا إلى إخراجهم من غيّهم وضلالهم ، وحرمانهم مما يتلذّذون به من الشهوات والحرمات ، التي استحلّوها واستباحوها في هذا العصر ، فاستعبدتهم فلا فكاك لهم منها ، ولا يرضون عنها بديلا .
فتكون أولى مواجهات المهدي ، مع جيش آخر ، يُجمع له من جزيرة العرب ، فينتصر عليهم حربا ، وبعد أن يستتب له أمر الجزيرة يخرج إلى أهل الشام . فيتسلم مقاليد الحكم فيها تسليما عن طيب خاطر ، أو استسلاما خوفا ورهبة ، ويتخّذ مدينة القدس عاصمة لخلافته ، ومن ثم يخرج إلى إيران فيفتحها ، ويعود إلى بلاد الشام .
ومن ثم تكون الروم ( نصارى الشرق ) قد جمعت جيشا عرمرما ، قوامه قرابة المليون نفر ، فيخرج لملاقاتهها ، فتقع الملحمة الكبرى الفاصلة بين الحق والباطل ، بالقرب من دمشق ، فيكون النصر في النهاية ، حليف المهدي ومن معه من المسلمين . ومن ثم يخرج إلى القسطنطينية ( استنبول ) ، فيفتحها بالتهليل والتكبير من غير قتال ، وقريبا من نهاية حكمه يخرج الدجال ، فيعيث في الأرض فتنة وفسادا ، ويُحصر المهدي وصحبه في الشام ، فينزل عيسى عليه السلام ، فيهرب الدجال ومن تبعه من اليهود إلى القدس ، وهناك يلحقون به فيقتله عليه السلام ، ويتولى المسلمون أمر البقية الباقية من اليهود ، فينطق الحجر والشجر ، فيبيدوهم عن بكرة أبيهم ، بإذن الله ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، والله أعلم .
هذا ما سيكون من أمر المهدي ، بإذن الله ، قدّمناه بشكل مختصر وموجز ، تناولنا فيه بعضا من سيرة المهدي ، التي تعرضت لفتوحاته آخر الزمان ، مستندين إلى ما أوردناه من أحاديث صحيحة ، آخذين بعين الاعتبار ، أحاديث صحيحة أخرى ، لم يتسع المقام لإيرادها .
أما موضوع هذا الكتاب ، فهو يبحث إجمالا ، في حدثين عظيمين مفاجئين ، قبل ظهور المهدي ، وفي وقت قريب جدا جدا ، وهما ؛ أولا : نهاية الدولة اليهودية واختفائها إلى الأبد ، ثانيا : انهيار الحضارة الغربية العملاقة ومظاهرها المختلفة واختفائها إلى الأبد .
ما ستجده في ثنايا هذا الكتاب :
ـ الإجابة على التساؤلات المطروحة على صفحة الغلاف ، فيما يتعلق بالدولة اليهودية ، ومصيرها ومصير اليهود .
ـ الإجابة على كثير من التساؤلات التي تدور في أذهان الناس ، وتوضيح كثير من القضايا الخلافية التاريخية ، فيما يخص تاريخ وجغرافيا بني إسرائيل ، منذ نشأتهم الأولى حتى قيام الساعة ، وخاصة فيما يتعلق بتواجدهم في فلسطين .
ـ استقراء وتحليل ما جرى ويجري على أرض الواقع ، في منطقتنا والعالم من حولنا .
ـ فهم حقيقة الصراع الدائر بين الغرب والشرق ، وحقيقة العداء الغربي للأمة العربية والإسلامية ، والذي بلغ أشدّه في العقود الأخيرة .
ـ تفسيرات منطقية للأحداث المستقبلية ، مدعّمة بالشواهد والأدلة من القرآن والسنة والتوراة والإنجيل والواقع ، ووضعها ضمن سياق زمني منطقي .
لم تنتهي الدراسه بعد ... سأقوم بعرضها علي أجزاء علي التوالي لأنها دراسه ضخمه ولكي يستطيع الاخوه في المنتدي متابعتها علي أجزاء لتسهيل استيعابها
newaiser
08-09-2006, 01:05 PM
اخوي الى الامام
ننتظر تكملة الموضوع
واخيرا ارى احد اعضاء المنتدى يمتدح المهدي ويذكر سيرته
ولكن عندي سؤال بسيط
ذكر في القرآن الكريم ان اليهود يعلون في الارض علويين
احدهم العلو الذي هو الان ولكن الثاني هل حدث او لا
انا اريد منك الاجابة
اخيرا هل المسلمون يقضون على اسرائيل قبل خروج المهدي وعيسى عليهما السلام
والسلام عليكم
KILDON
08-09-2006, 04:06 PM
اخوي الى الامام
ننتظر تكملة الموضوع
واخيرا ارى احد اعضاء المنتدى يمتدح المهدي ويذكر سيرته
ولكن عندي سؤال بسيط
ذكر في القرآن الكريم ان اليهود يعلون في الارض علويين
احدهم العلو الذي هو الان ولكن الثاني هل حدث او لا
انا اريد منك الاجابة
اخيرا هل المسلمون يقضون على اسرائيل قبل خروج المهدي وعيسى عليهما السلام
والسلام عليكم
أنا أرى والله أعلم أن العلو الأول هو الذي يحدث الآن أما العلو الثاني فلم يحن بعد، والدليل في سورة الإسراء، حيث يصف الله الذين يهزمون اليهود بأنهم " عباد " أي أنهم مسلمون:
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا
فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا
فهنا نجد أن الله يصفهم بأنهم عباد الله ونبوخذ نصر لم يكن مسلمًا بل كان كافرًا، لذلك فمن المستبعد أن يكون جيشه هو المسؤول عن الهزيمة الأولى كما تذكر التفاسير، والراجح أن المسلمين هم الذين سيهزمون اليهود الآن ثم يهزمهم اليهود مرة أخرى ثم يكون النصر الأخير للمسلمين.
wahhab
09-09-2006, 09:17 AM
الجزء الثاني
مختصر لمجمل أقوال المفسرين
قبل أن نبدأ في الإبحار ، في معاني ومقاصد آيات سورة الإسراء ، سنتجول قليلا ، في بعض كتب قدماء المفسّرين ، لنستعرض مجمل تفسيراتهم ، لهذه الآيات ، ومجمل ما أوروده من روايات وآثار ، عن الإفساد والعلو في الأرض ، ووعديّ الأولى والآخرة ، ومن هؤلاء المفسرين : القرطبي وابن كثير والطبري والبيضاوي ، والبغوي والنحاس والثعالبي ، وأبي السعود والشوكاني وابن الجوزي ، والسيوطي والنسفي والألوسي .
تعريف بسورة الإسراء :
قال الألوسي في تفسيره : " سورة بني إسرائيل ، ( وهو الإسم التوقيفي لها ) وتسمى الإسراء وسبحان أيضا ، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ، رضي الله تعالى عنهم مكية ، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : (( إن التوراة كلها في خمس عشرة آية ، من سورة بني إسرائيل ، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم ، وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي ، وإرادتهم إخراجه من المدينة ، وسؤالهم إياه عن الروح ، ثم ختمها جل شأنه ، بآيات موسى عليه السلام التسع ، وخطابه مع فرعون ، وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض ، فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده ، وفي ذلك تعريض بهم ، أنهم سينالهم ما نال فرعون ، حيث أرادوا بالنبي ، ما أراد فرعون بموسى عليه السلام وأصحابه ، ولما كانت هذه السورة ، مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى ، افتتحت بذكر إسراء المصطفى تشريفا له – أي المسجد الأقصى - بحلول ركابه الشريف فيه ، جبرا لما وقع من تخريبه )) " .
الآيات :
قال تعالى ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 ) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8 ) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11) … وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12 الإسراء )
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ : وأوحينا إليهم في التوراة ، وحيا مقضيا مبتوتا .
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ : لتفسدن في الأرض ، جواب قسم محذوف ، والمراد بالأرض الجنس ، أو أرض الشام وبيت المقدس ، ومرتين إفسادتين .
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا : ولتستكبرن عن طاعة الله ، من قوله أن فرعون علا في الأرض ، والمراد به البغي والظلم والغلبة ، لتستكبرن عن طاعة الله تعالى ، أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان ، وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد ، وأصل معنى العلو الارتفاع ، وهو ضد السفل وتجوّز به عن التكبر ، والاستيلاء على وجه الظلم .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا : والوعد بمعنى الموعود ، مراد به العقاب ، وفي الكلام تقدير ، أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود ، وقيل الوعد بمعنى الوعيد ، وفيه تقدير أيضا ، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت ، أي فإذا حان موعد عقاب أولى الإفسادتين .
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا : البعث بالتخلية وعدم المنع ( البيضاوي ) ، وقال الزمخشري : " خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال " ، وقال ابن عطية : " يحتمل أن يكون الله تعالى ، أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا ، يأمره بغزو بني إسرائيل ، فتكون البعثة بأمر منه تعالى " .
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ : ذوي قوة وبطش في الحروب ، والبأس والبأساء في النكاية ، ومن هنا قيل ، إن وصف البأس بالشديد مبالغة .
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ : قال الجوهري " الجوس مصدر ، وقولك جاسوا خلال الديار ، أى تخللوها كما يجوس الرجل للأخبار أى يطلبها " ، أي عاثوا وافسدوا وقتلوا وتخللوا الأزقة بلغة جذام ، بمعنى الغلبة والدخول قهرا ، وقال الزجاج : " طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي احد لم يقتلوه "، والجوس طلب الشيء باستقصاء ، وقال الألوسي : " والجمهور على أن في هذه البعثة ، خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ، ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل ، وحرقت التوراة " .
وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا : قضاء كائنا لا خلف فيه ، وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل ، أي لا بد من كونه ، مقضيا أي مفروغ منه .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ : ثم للعطف ، وتفيد التراخي في الزمن ، يقول الألوسي " جعل رَدَدَنا ، موضع نَرُدُّ ، فعبر عن المستقبل بالماضي " ، ويُضيف في تفسير قوله تعالى ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) ، أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون بعد البعث والجزاء " ، وهذه الكرة بعد الجلوة الأولى ، أي الرجعة والدولة والغلبة ، على الذين بُعثوا عليكم .
وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ : أعطاهم الله الأموال والأولاد .
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا : والنفير أي القوم الذين يجتمعون ، ليصيروا إلى أعدائهم فيحاربوهم ، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو ، أي أكثر رجالا من عدوكم ، والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته .
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا : وهذا الخطاب قيل أنه لبني إسرائيل الملابثين ، لما ذكر فى هذه الآيات ، وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعناه إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك ، وأن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم ، والآية تضمنت ذلك ، وفيها من الترغيب بالإحسان ، والترهيب من الإساءة ، ما لا يخفى فتأمل .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ : أى حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة ، وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم لدلالة جواب إذا الأولى عليه ، فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة ، على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة ، لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم ، دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم ، وأنهم كلما ازدادوا عددا وعدة ، زادوا عدوانا وعزة ، إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة ، فاجأهم الله عز وجل على الغرّة ، نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه .
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ : اللام لام كي ، وليسوءوا متعلق بفعل حُذف لدلالة ما سبق عليه ، وهو جواب إذا ، أي بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، أي ليجعل العباد المبعوثون ، آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم ، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن .
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ : اللام لام كي ، والضمير للعباد أولى البأس الشديد ، والمسجد مسجد بيت المقدس ، قال الألوسي : " فإن المراد به بيت المقدس ، وداود عليه السلام ابتدأ بنيانه ، بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ، ولم يتمّه ، وأتمّه سليمان عليه السلام ، فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة ، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء ، أو يحمل قوله تعالى دخلوه على الاستخدام ، والحق أن المسجد كان موجودا ، قبل داود عليه السلام كما قدمنا " .
كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ : كما دخلوه أي دخولا كائنا ، كدخولهم إياه أول مرة ، قال الألوسي: " والمراد من التشبيه أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول ، من ذهب إلى أن أولى المرتين ، لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب " .
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا : أي ليدمروا ويخربوا والتبار الهلاك ، وليتبروا أي يدمّروا ويهلكوا ما غلبوا عليه من بلادكم ، أو مدة علوهم ، أي ما علوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد ، وقيل ما ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، تتبيرا أي تدميرا ، ذُكرَ المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر ، ما علوا مفعول لتبروا ، أي ليُهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، أو بمعنى مدة علوهم .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ : لبقية بني إسرائيل عسى ربكم ، إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم ، وهذه العودة ليست برجوع دولة ، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد عليهما السلام .
( ذلك لأن المتقدمين من المفسرين اعتبروا أن تحصّل المرتين ، كان قبل بعثهما عليهما السلام ) .
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا : وإن عدتم للإفساد بعد الذي تقدم ، عدنا عليكم بالعقوبة فعاقبناكم في الدنيا ، بمثل ما عاقبناكم به في المرتين .
وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا : أي محبوسون في جهنم لا يتخلصون منها .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ : أي إلى الطريقة التي هي أصوب ، وقيل الكلمة التي هي أعدل .
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا : أي يُبشّر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير ، آجلا وعاجلا للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ويراد بالتبشير مطلق الإخبار ، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي ، ويكون الكلام مشتملا على تبشير المؤمنين ببشارتين ، الأولى ما لهم من الثواب ، والثانية ما لأعدائهم من العقاب .
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وهو عذاب جهنم ، أي أعددنا وهيأنا لهم ، فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة ، عذابا مؤلما وهو أبلغ من الزجر ، لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع ، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم ، لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ، ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها ، فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة ، في هذا القرآن حقيقة الإيمان ، والعطف على أن لهم أجرا كبيرا ، فيكون إعداد العذاب الأليم ، للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به ، كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ومصيبة العدو سرور يُبشّر به ، فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم ، ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا ، بمعنى مطلق الأخبار الشامل للأخبار بما فيه سرور للمؤمنين .
وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11)
وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ : ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه بالشر ، فيقول عند الغضب : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما .
دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ : أي كدعائه ربه بالخير ، أن يهب له النعمة والعافية ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن الله لا يستجيب بفضله .
وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا : بالدعاء على ما يكره أن يُستجاب له فيه ، قاله جماعة من أهل التفسير ، وقال ابن عباس : ضجرا لا صبر له على السراء والضراء .
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) :
أي كل ما تفتقرون إليه فى أمر دينكم ودنياكم ، فصلناه تفصيلا : بيناه تبينا لا يلتبس معه بغيره ، أي بيناه بيانا غير ملتبس ، فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا .
أقوال المفسرين في المبعوثين أولا وثانيا
من تفسير القرطبي :
" بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ، هم أهل بابل ، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى ، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه ، قاله ابن عباس وغيره ، وقال قتادة : أرسل عليهم جالوت فقتلهم ، فهو وقومه أولوا بأس شديد ، وقال مجاهد : جاءهم جند من فارس ، يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر ، فوعى حديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال ، وهذا في المرة الأولى فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل ، ذكره القشيري أبو نصر ، وذكر المهدوي : عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر ، فهزمه بنو إسرائيل ثم جاءهم ثانية ، فقتلهم ودمرهم تدميرا ، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ذكره النحاس ، وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول : إن المهزوم سنحاريب ملك بابل ، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية ألف فارس ، فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى ، فرجعوا إلى بابل ، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين ، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا ، فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وقال ابن عباس وابن مسعود : أول الفساد قتل زكريا ، وقال ابن إسحاق : فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة ، وذكر ابن إسحاق : أن بعض العلماء ، أخبره أن زكريا مات موتا ، ولم يقتل وإنما المقتول شعيا ، وقال سعيد بن جبير : في قوله تعالى ( ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ) هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل ، وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق ، فالله أعلم وقيل : إنهم العمالقة وكانوا كفارا قاله الحسن .
من تفسير ابن كثير :
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف ، في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ، فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجزري وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك ، وقتل داود جالوت ، ولهذا قال ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) الآية ، وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنحاريب وجنوده ، وعنه أيضا وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل ، وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية ، لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ولله الحمد ، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية ، عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإنهم كانوا قد تمردوا ، وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء ، وقد روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى أنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه منهم خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز كتابته وروايته والله أعلم .
من تفسير الطبري :
فكان أول الفسادين قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين ، قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ، ملكا من ملوك النبط في الأولى ، وسلط عليهم بختنصر في الثانية .
عن حذيفة بن اليمان ، يقول : قال رسول الله : إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلوا وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر ، وكان الله قد ملّكه سبع مئة سنة ، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس ، فحاصرها وفتحها ، وقتل علي دم زكريا سبعين ألفا ، ثم سبى أهلها وبني الأنبياء ، وسلب حليّ بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ومئة ألف عجلة من حليّ ، حتى أورده بابل ، قال حذيفة : فقلت يا رسول الله ، لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ، قال : أجل بناه سليمان بن داود ، من ذهب ودر وياقوت وزبرجد ، وكان بلاطه بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة وعمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين ، يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار بختنصر بهذه الأشياء ، حتى نزل بها بابل ، فأقام بنوا إسرائيل في يديه مئة سنة ، تعذبهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم ، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس ، يقال له كورش وكان مؤمنا ، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم ، فسار كورش ببني إسرائيل وحلي بيت المقدس ، حتى رده إليه فأقام بنوا إسرائيل مطيعين لله مئة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلط الله عليهم ابطيانحوس ، فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر ، فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم يا بني إسرائيل ، إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء ، فعادوا في المعاصي ، فسيّر الله عليهم السباء الثالث ملك رومية ، يقال له قاقس بن إسبايوس ، فغزاهم في البر والبحر ، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله : هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبع مئة سفينة ، يرسى بها على يافا ، حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين " .
ثم اختلف أهل التأويل ، في الذين عنى الله بقوله أولي بأس شديد ، فيما كان من فعلهم ، في المرة الأولى في بني إسرائيل ، حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة ، وفيما روي عن ابن عباس قوله : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذل ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا ، يقاتلون في سبيل الله فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت فنصر الله بني إسرائيل ، وقتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل مُلكهم ، وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، وفيما روي عن سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرة الأولى قتال ، ( ثم رددنا لكم … ) وفي قول ابن عباس ، الذي رواه عطية عنه ، هي إدالة الله إياهم من عدوهم جالوت حتى قتلوه ، وكان مجيء وعد المرة الآخرة عند قتلهم يحيى ، بعث عليهم بختنصر ، وخرّب بيت المقدس ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وأعانه على خرابه الروم ، فلما خربه ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم ، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل ، وهؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء .
وفيما روي عن سعيد بن جبير ، قال : بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، قال : فردّ الله لهم الكرة عليهم كما أخبر ، قال : ثم عصوا ربهم ، وعادوا لما نهوا عنه ، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية ، وأخذ ما وجد من الأموال ، ودخلوا بيت المقدس ، كما قال الله عز وجل ، ودخلوه فتبّروه وخرّبوه ، فرحمهم فردّ إليهم ملكهم ، وخلّص من كان في أيديهم من ذرية بني إسرائيل ، وعن مجاهد قال : بعث الله ملك فارس ببابل جيشا ، وأمر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل فدمروهم فكانت هذه الآخرة ووعدها . وعن قتادة قوله : فبعث الله عليهم في الآخرة ، بختنصر المجوسي البابلي ، أبغض خلق الله إليه ، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس ، وسامهم سوء العذاب ، وفيما روي عن ابن عباس قال : فلما أفسدوا ، بعث الله عليهم في المرة الآخرة ، بختنصر فخرب المساجد " .
من تفسير البغوي :
قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ، ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم ، وقال ابن إسحاق : إفسادهم في المرة الأولى قتل إشعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي ، ( بعثنا عليكم عبادا لنا ) ، قال قتادة : يعني جالوت الجزري وجنوده ، وهو الذي قتله داود ، وقال سعيد بن جبير : يعني سنحاريب من أهل نينوى ، وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه ، وهو الأظهر ، ( فإذا جاء وعد الآخرة ) وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام ، حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط عليهم الفرس والروم خردوش وطيطوس ، حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم .
من تفسير الشوكاني :
والمرة الأولى ، قتل شعياء ، أو حبس أرمياء ، أو مخالفة أحكام التوراة ، والثانية قتل يحيى بن زكريا ، والعزم على قتل عيسى ، ( عبادا لنا ) قيل هو بختنصر وجنوده ، وقيل جالوت ، وقيل جند من فارس ، وقيل جند من بابل ، والمرة الآخرة ، هى قتلهم يحيى ابن زكريا ، ( وإن عدتم ) قال أهل السير ، ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي ، وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكتمان ما ورد من بعثه فى التوراة والإنجيل ، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب ، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ، ما جرى من القتل والسبي ، والإجلاء وضرب الجزية ، على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
من تفسير الألوسي :
واختلف في تعيين هؤلاء العباد في إفسادهم الأول ، فعن ابن عباس وقتادة ، هم جالوت الجزري وجنوده ، وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنحاريب ملك بابل وجنوده ، وقيل هم العمالقة ، وفي الأعلام للسهيلي ، هم بختنصر عامل لهراسف ، أحد ملوك الفرس الكيانية ، على بابل والروم وجنوده ، بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه ، قيل وهو الحق .
واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين ، بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في إفسادهم الأخير ، فقال غير واحد إنهم بختنصر وجنوده ، وتعقبه السهيلي وقال بأنه لا يصح ، لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام ، وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل ، وقيل الاسكندر وجنوده ، وتعقبه أيضا وقال : بأن بين الاسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة ، ثم قال لكنه إذا قيل إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا ، جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه ، لأنه كان حينئذ حيا ، والذي ذهب إليه اليهود ، أن المبعوث أولا بختنصر ، وكان في زمن آرميا عليه السلام ، وقد أنذرهم مجيئه صريحا ، بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام ، كما نطق به كتابه ، فحبسوه في بئر وجرحوه ، وكان تخريبه لبيت المقدس ، في السنة التاسعة عشر من حكمه ، وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة ، وبقي خرابا سبعين سنة ، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم ، وجّه وزيره طيطوس إلى خرابه ، فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين ، فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة ، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
وقال الألوسي : " ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين ، بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه ، مما لا يتعلق به كبير غرض ، إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم ، سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى ، وظاهر الآيات يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا "
ونقول : نتفق مع الألوسي في بعض ما ذهب إليه ، ونختلف معه في التقليل من شأن المبعوثين ، التي ما أخبر بها سبحانه ، في كتابه العزيز إلّا لكبير غرض ، وهو إثبات أن هذا القران من لدن علّام الغيوب ، لمن هم في شك يلعبون من المسلمين وغيرهم ، فهذه النبوءة تحكي واقعا نعاصره الآن ، بكل تفاصيله ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) ومعرفة وتحديد المرتين ، أمر في غاية الأهمية . مع أن عبارته الأخيرة – رحمه الله - في النص السابق ، التي أكد فيها " اتحاد المبعوثين أولا وثانيا " ، وهو المفسّر الوحيد من القدماء ، الذي أشار صراحة إلى هذا الأمر ، أعطتني دفعة كبيرة للمضي قدما في هذا البحث ، حيث كنت قد تتبعت الضمائر الواردة في الآيات ، وتأكدت من هذا الأمر في بداية البحث ، فقد أيّدت هذه العبارة ، جانبا من الأفكار التي كنت أحملها ، فيما يتعلق بهذه النبوءة ، بعدما تبيّن لي من خلال الأحاديث النبوية ، التي ذكرتها في بداية البحث ، أنّ فناء دولة إسرائيل ، سيكون قبل قيام الخلافة الإسلامية ، التي ما زال عامة المسلمين ، ينتظرون ويأملون قيامها ، للقضاء عليهم وإنهاء وجودهم . وبما أن المبعوثين عليهم أولا وثانيا متحدين ، فذلك يعني أن معرفتنا لمن بُعث عليهم أولا ، ستقودنا بالضرورة لمعرفة من سيبعث عليهم ثانيا ، وثالثا للكشف عن الكثير مما أحاط هذه النبوءة من غموض ، كان سببا في كثير من التفسيرات المغلوطة ، التي أوقعت أُناس هذا العصر ، في الحيرة والارتباك .
كان هذا عرضا لمجمل ما قاله المفسرين ، أجلّهم الله ورحمهم جميعا ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أحدا منهم ، لم يعاصر قيام دولة اليهود للمرة الثانية ، وكان أكثرهم حداثة ، هو الألوسي الذي توفي سنة 1227 هجري ، والملاحظ من أقوالهم ، أنهم أجمعوا على أن تحقّق المرتين ، كان قبل الإسلام ، ونسبة إحدى المرتين ، إلى البابليين وبقيادة بختنصر ( نبوخذ نصر ) على الأغلب ، وهو الحدث المشهور تاريخيا بما يُسمّى ( السبي البابلي ) .
ومعظم ما تقدّم من روايات هي أخبار موقوفة ، على أصحابها ، وأصلها أهل التوراة ، حيث أنها المصدر الوحيد لمثل هذه الروايات ، ، فامتلأت التفاسير منها ، وهي ليست مما يُرجع إليه من الأحكام ، التي يجب بها العمل ، فتُتحرى في صحتها أو كذبها ، لذلك تساهل كثير من المفسرون في نقلها ، وهي في بعض منها أقرب إلى الخرافة .
أمّا المعاصرين من المفسّرين ، فقد أعاد أغلبهم نسخ أقوال القدماء بشكل مختصر ، وأضافوها إلى كتبهم ، ولم يأتوا بجديد إلا واحدا ، هو الشيخ سعيد حوى رحمه الله ، حيث أعلمني أحد الزملاء بذلك ، عندما عرضت عليه بعض نتائج هذا البحث ، فقال لي بأن إحدى النتائج التي خرجت بها ، كان الشيخ قد أوردها في تفسيره ، وقد اطّلعت على تفسيره لهذه الآيات مؤخرا ، فوجدت بأن الشيخ ، قدّمها كاحتمال موسوم بالشك ، ولكنا نطرحها على وجه اليقين ، الذي لا يُخالطه شك ، بإذن الله .
أما أناس هذه الأيام ، ممن علم أو لم يعلم ، فقد جاءوا بتفسيرات وأقوال شتى في هذه الآيات ، منها ما وافق تفسيرات القدماء وأقوالهم من جانب ، وخالفها في جوانب آخرى ، ومنها ما خالفها جملة وتفصيلا .
بعض من أسباب الاضطراب والارتباك ، في تفسير آيات سورة الإسراء ؟
1. هجر القرآن
القرآن في العادة ، لا يُقرأ من قبل عامّة المسلمين ، هذه الأيام ، إلا ما رحم ربي ، وإن قُرء ، فهي قراءة بلا تفكّر أو تدبّر ، حتى أصبحنا إذا سمعناه ، يصدر من أحد البيوت ، في حيّ أو شارع قريب ، تساءلنا فيما إذا كان أحدهم قد مات ، قال تعالى ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30 الفرقان ) . وهجر القرآن نبوءة ، وقد تحققت في زماننا هذا ، وأنّى لنا هذا ، فالتفكر والتدبر في أمور الحياة الدنيا ، أشغلنا وأغنانا عن الآخرة ، التي ما خلا من القرآن موضع ، إلا وذكّرنا بها ، وهذا أخشى ما نخشاه ، لأننا لا نريد أن نتذكّر ، لكيلا نتألّم من المصير المرعب ، الذي نسجناه بأيدينا ، والذي إن تذكّرناه ، لم يغمض لنا جفن ، ولم ترقأ لنا عين .
2. تجميد القرآن وتعطيله وفصله عن الواقع ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا
يذهب كثير من الناس ، من علماء وعامّة ، إلى أن فهم القرآن واكتشاف مكنوناته ، مقصور على فئة معينة من الناس دون غيرهم ، أو في زمان أو مكان دون آخر . بالرغم من أن هناك الكثير من التفسيرات الخاطئة ، والروايات المضلّلة أحيانا ، في كتب التفسير القديمة ، والتي لم تصحّح لغاية الآن . ونحن باعتمادنا بشكل كلّي على تفسيرات القدماء ، حرمنا أنفسنا من فهم كثير من الآيات ، ذات الصلة بواقعنا المعاصر ، والتي ما كان لأحد من المفسرين قديما ، القدرة على تفسيرها ، في زمن يسبق زماننا هذا ، ولا نقصد هنا التعريض بأي حال من الأحوال ، بأي من المفسرين أجلّهم الله ، فكل له عذره وأسبابه ، ولكن نريد أن نؤكد من خلال هذا الكتاب أن القرآن ما زال حيّا ، وما زالت لديه القدرة ، على الإتيان بجديد حتى قيام الساعة ، ولم يكن فهم القرآن يوما ، ولن يكون محصورا ، بزمان أو مكان ، أو أشخاص دون غيرهم .
3. الغموض والإبهام في نصوص النبوءات المستقبلية
عادة لا تُستخدم النصوص الصريحة ، في الكتب السماوية ، وفي السنة النبوية ، كأسلوب للإخبار عن مضامين النبوءات ، فعادة ما يُستعمل الوصف والتشبيه والتمثيل . وهذا هو حال مجمل النبوءات المستقبلية ، تبقى بعض نصوصها عصية على الفهم ، حتى تتمكن من تجسيد نفسها على أرض الواقع ، لتفسّر نفسها بنفسها . فلاكتمال معالمها ، أسباب ومسببات ، لا بد لها من أخذ مجراها الطبيعي . وعادة ما تكون في جانب منها مبهمة ، خاصة للطرف صاحب الدور الأكبر ، بترجمة أحداثها على أرض الواقع .
وفي المقابل تبقى بعض نصوصها سهلة للهضم والفهم ، لمن جاءت في كتبهم ، إذا عاصروها ، ولكن بالقَدْرِ الذي لا يسمح لهم ، بالتدخل في مجرياتها ، أو تعطيل الأسباب والمسببات المؤدية لتحقّقها . ولتبقى قدرتهم على التدخل مقيّدة ، بما لم يعرفوه يقينا ، مما أُبهم عليهم من نصوص النبوءة . ومثال ذلك ما جاء في كتب اليهود والنصارى ، من نصوص تبشّر بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام . وبالرغم من كثرة النصوص التي أخبرت عنه ، لم يستطع اليهود الاستدلال عليه يقينا ، قبل ظهور أمره ، وإلا لقتلوه . وصاحب النبوة لم يكن يعلم ، بأنه المقصود بنبوءات أهل الكتاب ، قبل أن يتنزّل عليه الوحي ، وحتى اسمه ( محمد ) عليه الصلاة والسلام ، جاء مغايرا لاسمه ( أحمد ) الموجود في كتبهم ، حيث جاء بالمعنى وليس باللفظ . وبعدما بُعث ، ومع مرور الزمن ، بدأ الواقع يُفسّر جميع النصوص التي كانت بحوزتهم شيئا فشيئا . أما قريش فما كانت تُصدّق من نبوءات أهل الكتاب شيئا .
وحتى لو كُشفت مضامين النبوءات ، عند اكتمال معالم القدر ، وقبل تحقق الفصل الأخير منها ، كان من الصعب على ذوي العلاقة ، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، من أجل التأثير على مجريات أحداثها ، أو منع تحقّقها ، وخاصة أن معظم النبوءات إذا فُسرّت ، وكان واقع الحال لا يتطابق مع التفسير ، وهذا أمر طبيعي جدا ، فعادة ما يُجابه التفسير بالإنكار والتكذيب ، أو التشكيك حتى ممن يعنيهم الأمر ، أو الظن أن بالإمكان منعها ، كما هو الحال عند بني إسرائيل ، الذين يعلمون هذه النبوءة علم اليقين ، ويُحاولون جهدهم منع تحقّقها ، كما حاولوا جهدهم البحث ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام ، لمنع بعثه وظهور أمره . وكما سيكون الحال مع كثير من الناس ، الذين سيقرأون هذا الكتاب ، الذي نكشف فيه ملابسات تحقّق وعد الآخرة ، كما لم تكن من قبل ، بعد أن تشابكت خيوطها ، واتصلت بإحكام منذ سنين عدة ، ولكن الناس كانوا عنها غافلين .
4. فهم الألفاظ ومدلولاتها
في كثير من الأحيان نفهم ألفاظ القرآن ، بالمعنى الذي نستخدمه به في حياتنا المعاصرة ، وربما يكون هذا الاستخدام مختلف أو مخالف تماما ، لاستخدام العرب القدماء - الذين نزل القرآن بلغتهم - لنفس اللفظ ، مما يتسبّب في سوء التفسير أو الفهم . فعلى سبيل المثال ، لنأخذ كلمة ( فَصَلَ ) ، فنحن نستخدم هذا اللفظ تقريبا بمعنى واحد ؛ قَطعَ التيار ، فَرّقَ ما بين شيئين بشيء ثالث ، طرده من الوظيفة . أما العرب القدماء فقد كانوا يستخدمونها بمعان شتى ، تفهم عادة من السياق ، منها ؛ قَطعَ وفَرَّقَ وخَرَجَ ، ومن هذه المعاني تستطيع تفسير قوله تعالى ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ (249 البقرة ) ، على أن طالوت خرج بالجنود .
وفي كثير من الأحيان ، يحمل اللفظ الواحد في القرآن ، مفهوما عاما عريضا ، ويندرج تحته عدة مفاهيم خاصة ، يُعرّفها ويُفصّلها القرآن في مواضع عديدة . ومن هذه الألفاظ على سبيل المثال ؛ الإفساد والعلو والفاحشة والظلم ، وهذه كلها مفاهيم عامة ، يختلف تحديد مواصفاتها ومقاييسها ، باختلاف فهم الشخص على سبيل المثال لماهيّة اللفظ . وإذا تركنا الإجابة للناس ، كلٌ حسب رأيه ، ستجد أن هناك تعاريف عديدة ومتباينة ، أما القرآن فله تعريفه الخاص .
فلنأخذ لفظ الظلم ، يقول سبحانه وتعالى ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59 القصص ) ، فما هي ماهية هذا الظلم ، الذي يتحتم عليه إهلاك القرى ؟ وكيف تستطيع القرى أن تسلم من الهلاك ، بما أن الظلم هو المقياس لذلك ، كما أخبر رب العزة ؟ ولفهم دلالة هذا اللفظ ، يتحتم عليك أن تُلمّ بكل مُتعلّقاته ، في جميع الآيات القرآنية ، التي ورد فيها ذكره ، لتخرج في النهاية بما يُشبه المقياس ، الذي من خلاله تستطيع تعريف هذا المفهوم ، بالمقياس الإلهي له ، وليس بالمقاييس الشخصية للناس .
5. الإيجاز الشديد
مثل قوله تعالى ( فجاسوا خلال الديار ) ، حيث وصف سبحانه ،كل ما فعله أولئك العباد ، في المرة الأولى بثلاث كلمات فقط ، أو بالأحرى كلمة واحدة هي ( فجاسوا ) ، وبالرغم من ذلك ، فإن هذه الكلمة ، وعند الاطلاع معانيها في المعجم ، ستجد أنها تصوّر مشهدا سينمائيا كاملا ، وبدون الاطلاع على تلك المعاني ، لن تمتلك القدرة على تخيّل ذلك المشهد .
6. الحذف وتقدير المحذوف
حذف كلمة أو عبارة من السياق ، لسبق الدلالة عليها فيما تقدم من نصوص ، مثل حذف جواب شرط إذا الخاص بوعد الآخرة ، وتقديره ( بعثناهم عليكم ) في الآية (7) ، لدلالة قوله تعالى ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم ) في الآية ( 5) .
7. الالتفات
الحديث عن الغائب ، ومن ثم الانتقال لتوجيه الخطاب إلى الحاضر ، والعكس بالعكس ، بين حين وآخر ، مثل ( وقضينا إلى – الحديث هنا عن الغائب ( السابقين من بني إسرائيل ) …لتفسدنّ في – الخطاب هنا إلى الحاضر ( المعاصرين من بني إسرائيل ) .. ) . عادة ما يستخدم هذا الأسلوب ، في إخبار المستمع الحاضر عن حدث وقع في الماضي . والهدف من إنزال هذه النبوءة في كتاب موسى ، وإعادة نسخها في القرآن ، هو كشف للغيب الذي لا يعلمه إلا من أخبر عنه ، فيما أنزله من كتب على رُسله ، لعل الناس المعاصرين بربهم يؤمنون ، عند تحقق هذه النبوءة بكل تفاصيلها ، كما جاءت في الكتب السماوية . لذلك جاء الإخبار في القرآن للناس كافة ، وجاء الخطاب لبي إسرائيل خاصّة ، لأن الأمر يعنيهم أكثر من غيرهم ، فلعلّهم إلى ربهم يرجعون .
لقد أخبر سبحانه في الآية (2) أنه آتى موسى الكتاب ، وفي الآية (4) أخبر بأنه أنزل في ذلك الكتاب نص هذه النبوءة ، التي سيشرع فيما يلي بالإخبار عنها بكل تفاصيلها ، كما جاءت في كتاب موسى ، حيث جاء النص آنذاك مخاطبا لبني إسرائيل . وإتيان النص بأسلوب المخاطبة لبني إسرائيل في القرآن ، يفيد أن هناك جزء من هذه النبوءة سيتحقق مستقبلا بعد نزول هذه الآيات ، وأعيد النص لتذكير بني إسرائيل وتنبيههم وتحذيرهم ، من مغبة الإفساد في الأرض في المرة لثانية ، مما يترتب عليه نفاذ الوعد الثاني ، كما نفذ الوعد الأول .
ومع أن المخاطَب في هذه الآيات ، هم بنوا إسرائيل ( المعاصرين ) ، ولكن يجب ألا ننسى ، أن هناك من يقرأ ويسمع خطابه تعالى – لبني إسرائيل – من خلال القرآن ، ممن هم من غير بني إسرائيل ، ولا يعلمون من أمر هذه النبوءة شيئا ، فيما إذا كانت قد أنزلت عليهم في كتابهم أم لا ، فابتدأ عز وجل القصة بالإخبار عن وجودها في كتابهم ، لمن لا يعلم من الجمهور بذلك ، من مستمع وقارئ لهذه القصة . ليُعيد الجمهور إلى الأجواء التي أُنزلت فيها هذه النبوءة ، ليسهُل فهمها من قبلهم . وليصبحوا مساوين لبني إسرائيل في معايشة تلك الأجواء ، التي يعرفونها كما يعرفون أبنائهم ، من خلال ما لديهم من كتب . لذلك تجده سبحانه أحيانا يتوجه بالخطاب إلى الجمهور ، تاركا ( خطاب بني إسرائيل ) ، ليضيف إليهم خبرا أو تعقيبا ، على جزء معين من هذه النبوءة ، أو إيضاحا أو تفصيلا ،لم يرد في النص الأصلي للنبوءة ، التي سبق أن أُنزلت عليهم ، أو تحقق بعد نزولها ، لزم إخبار الجمهور عنه في هذه الآيات . فالحكمة من الإخبار بهذه النبوءة والكشف عنها للبشر ، هي تحصّل الإيمان بالقرآن ومن أنزله ومن أُرسل به ، كما عقّب سبحانه بقوله في نهاية السورة ( قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا (107 الإسراء ) . وسنبين إن شاء الله كل موضع ، حصل فيه التفات ، لتصبح نصوص النبوءة أكثر وضوحا وأسهل للفهم . وعدم معرفة ماهية الالتفات ومواضعه - أحد أوجه البلاغة في لغة العرب – سيجعل من الصعوبة بما كان ، أن يفهم الناس النصوص القرآنية بشكل صحيح ، وربما يقلب المعنى بشكل مخالف تماما .
8. الضمائر
متابعة الضمائر في هذه الآيات ، بأنواعها الثلاثة ، المتكلِّم والمخاطَب والغائب ، وتحديد على من يعود كل منها . وهنا لا بد أن نوضح ونؤكد ، على أنّ كل الضمائر الواردة في الآيات ( 4-8 ) ، ما عدا ضمائر المتكلِّم التي تعود عليه سبحانه ، تعود على أولئك العباد أولي البأس الشديد أنفسهم في مواضع ، وعلى بني إسرائيل في مواضع أخرى ، وهي محصورة فيهم على الإطلاق ، إذ لم يضف النص طرفا ثالثا .
9. الاعتراض
وهو إضافة جملة إلى السياق ، كتعقيب على خبر قد سبق ذكره ، زيادة في الإيضاح والإبانة ، وهو أحد أوجه البلاغة أيضا . وعدم وجود هذا التعقيب ، ربما يُثير التساؤل في ذهن المستمع ، فيُضيف الراوي من تلقاء نفسه خبرا جديدا ، ليدفع الحيرة عنه ، ومنعا لتوارد الاجتهادات والتفسيرات الخاطئة في مخيلته ، وليُغني المستمع الحاجة إلى السؤال . فعادة ما تأتي الجملة المعترضة كإضافة ، لإزالة الغموض واللبس ، الذي قد ينجم عن سوء تقدير المستمع ، ولزوم هذا التعقيب يعود لتقدير الراوي .
وقد وقع الاعتراض في نصوص النبوءة في موضعين ، في قوله تعالى " وكان وعدا مفعولا " ، للتعقيب على الوعد الأول ، لبيان أن هذا كان قد أُنجز أم لم يُنجز . وفي قوله تعالى " وليتبّروا ما علوا تتبيرا " للتعقيب على العلو الكبير الخاص ببني إسرائيل ، لبيان وتأكيد أن هذا العلو ستتم إزالته مستقبلا لا محالة .
10. الهوى والعاطفة
نحن كمسلمين مرتبطون عاطفيا بالمسجد الأقصى ، ومرتبطون عاطفيا بالبطولات الإسلامية وأبطالها ، ومرتبطون عاطفيا بالخلافة الإسلامية وخلفائها ، لأنها توفّر لنا شعورا بالعزة والكرامة طالما افتقدناه ، ونحن بأمس الحاجة إليه هذه الأيام . وفي المقابل نحن أبعد ما نكون عن الإسلام ، في حياتنا العملية ، ولو نظرنا في أعماق أعماقنا ، لوجدنا أننا نرفض الإسلام كأسلوب للحياة ، لأن الإسلام بكل بساطة يرفض كل مظاهر الحياة الدنيا ، التي يتمسّك بها الآن معظم المسلمين ، ويسعون لإبقائها ويحرصون على إدامتها والاستزادة منها ما أمكنهم ذلك .
نص هذه النبوءة موجود في كتب اليهود ، فما الذي قام به زعماؤهم العلمانيون والمتدينون ، عندما أرادوا أن يقيموا لهم دولة ؟ أخذوا من النبوءة الجزء الخاص بالعودة من الشتات ورد السبي ، وفسّروها على أن الله أراد لهم ذلك ، بغض النظر عن فسادهم وإفسادهم ، وأخفوا النصوص التي تُحذّر من العقوبة التي تنتظرهم ، ليُضفوا على عودتهم إلى فلسطين ، بعدا دينيا توراتيا ، وبالتالي استطاعوا كسب التأييد والدعم المادي والمعنوي ، سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، من اليهود والنصارى على حد سواء .
نحن أيضا نملك نص النبوءة نفسها ، وملزمون بتحرير الأقصى ، ولأننا نشعر بالعجز وقصر ذات اليد ، قمنا بإضفاء البعد الديني على عملية التحرير ، بحصرها بخلافة إسلامية غير منظورة على المدى القريب ، واستبعدنا احتمالية أن يتم هذا الأمر ، خارج هذا الإطار العاطفي . وبعد أن تقوقعنا داخل هذا الإطار ، بدأنا نُفسّر المعطيات حسب ما يتوافق مع هذا التوجّه . حتى بلغ بنا الأمر ، إلى أن نُحمّل النصوص القرآنية ما لا تحتمله ، لتوافق رغباتنا وأهوائنا وتطلّعاتنا كمنتسبين للإسلام . فأخذنا عبارة ( عبادا لنا ) ، وعبارة ( وليدخلوا المسجد ) وعبارة ( كما دخلوه أول مرة ) ، وسلخناها عن جلدها ، وقمنا بالإسهاب في تفسير وتفصيل هذه العبارات ، وأهملنا بعض العبارات الأخرى ، وفسّرنا بعضها الآخر بشكل يُناقض فحواها ، فعزلنا العبارات عن آياتها ، وعزلنا الآيات عن بعضها ، وعزلنا مجموعة الآيات عن السورة ، وعزلنا السورة عن القرآن ، وعزلنا القرآن عن كل شيء . فخرجنا باستنتاجات وتحليلات وأصدرنا أحكام ، حرمت الكثير من الناس من المعرفة الحقيقة ، التي تكتنفها نصوص هذه النبوءة ، التي تم تفسيرها ، بتغليب من الهوى والعاطفة ، على النصوص القرآنية والسنة ، وعلى العقل والمنطق والواقع والتاريخ والجغرافيا .
وبذلك أزاحت بعض التفسيرات ، التي حصرت تحرير الأقصى ، بالخلافة الإسلامية عن غير قصد ، عن كاهل هذا الجيل عبء فكرة التحرير ، وأبعدت عن أذهان الناس شبح حرب قادمة ، مما ساهم بشكل غير مباشر ، في تخدير أمة الإسلام لسنين طويلة ، لينعُم الناس بحياة آمنة مطمئنة ، ولكن للأسف بعيدا عن الدين . فالخلافة الإسلامية على المدى القريب صعبة التحقق ، لأن مقومات قيامها ضمن الظروف الراهنة معدومة . والأمة بحاجة لمن يُنبّهها لا لمن يُخدّرها … وقبل طرح هذه الفكرة الخطرة عن تحرير المسجد الأقصى … ونسبها إلى كتاب الله … وأن الله أراد ذلك … كان على روّاد هذه الفكرة … أن يتجرّدوا من عواطفهم وأهوائهم كليا عند تفسير آيات الله … فالقرآن يطلب العقل سبيلا للفهم لا العاطفة والهوى … لدرجة أنه جعل ( القلب ) موطنا للعقل بدلا من العاطفة … وأن يُفكّروا مليّا قبل أن يُقدّموها للناس … فنحن بحاجة لبناء مساجد في نفوس الناس … فإن استطعنا القيام بذلك … فلن نحرّر المسجد الأقصى فقط … بل سنحرّر العالم بأسره … وإن لم نستطع فالأحرى بنا … أن نعتزل ونفرّ إلى رؤوس الجبال … بأطلال المساجد المتبقية في نفوسنا … حتى يأتي الله بأمره … !!!
هذا الطرح الخطِر والبعيد جدا ، عما جاء في النصوص القرآنية ، سيؤدي بالناس لا محالة ، إلى الوقوع في الحيرة والارتباك ، ونشوء كثير من علامات الاستفهام ، حول من قدّم هذه التفسيرات ، وحول مصداقية كتاب الله نفسه ، من قبل ضعاف الإيمان والعقل والقلب ، عندما تتحقّق النبوءة بشكل مغاير لتلك التفسيرات .
ربما يُصرّ الكثير من الواقعيون ، على أن الواقع يُناقض مما يطرحه هذا الكتاب . غير أن هذا الواقع سيتغير بالتدريج ، أو بين عشية وضحاها ليتوافق مع أمر الله . وإن لم يتوافق ، فأمر الله فوق الواقع ، وكثيرا ما يأتي بغتة . وبالرغم من ذلك ، أعتقد بأن كثير من المتغيرات ، على المستوى الإقليمي والعالمي ، ستلوح في الأفق ، قبل مجيء أمر الله ، وسيلحظها كل ذي بصيرة .
---- يتبــــع -----
wahhab
11-09-2006, 01:50 AM
الجزء الثالث
وكل شيء فصّلناه تفصيلا
قال تعالى ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ علَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76 النمل ) ، هذه الآية الكريمة تؤكد أن هذا القرآن ، فضلا عن مخاطبته لكافة البشر ، جاء ليقصّ على بني إسرائيل ، أي ليُخاطبهم ويوضّح لهم بشكل خاص ، كثيرا مما اختلفوا فيه ، من أمور الدين والدنيا والآخرة . فهو يحكي تاريخهم ، ويعرض مواقفهم من أنبيائهم ، ومشاهد من كفرهم وعصيانهم وعدوانهم ، والعذابات التي أنزلها الله بهم ، ، ويكشف طبائعهم ، ويفضح سرائرهم ، ويُفنّد أقوالهم ، ويُحذّرهم ويُحذّر منهم ، ويُبيّن لهم حقيقة ما جاء به رسلهم وأنبيائهم من وحي ، بعد أن طمسته وشوّهت معالمه أقلام أحبارهم .
ويقول سبحانه في الآية (12) من سورة الإسراء ، ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) ، أي أن كلّ شيّ مما سبق هذا القول من آيات ، قدّ بيّنه سبحانه ، بيانا واضحا لا لُبس فيه . وهذا القول البليغ ، عندما تقرأه مرارا وتكرارا ، تجد أن له وقعا خاصا في نفسك ، والآيات التي تسبق هذا القول ، تخبرنا عن أمر يتعلق ببني إسرائيل ، من حيث إفسادهم وعلوهم وعقابهم . وقد جاء هذا القول ( بالفعل ومفعوله المطلق للمبالغة في التأكيد ) مرة واحدة في القرآن ، في هذا الموضع بالذات ، تعقيبا على ما مجمل ما جاء قبله من آيات ، ولم يأتِ عامّا كما في قوله تعالى ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3 فصلت ) ، أو في قوله تعالى ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52 الأعراف ) .
وإن دلّ هذا على شيء ، فإنما يدّل على أن ما تتحدّث عنه هذه الآيات ، أمر غاية في الأهمية ، ولذلك فصّله سبحانه تفصيلا ، وأبانه بيانا لا يختمره شكّ أو تقوّل ، وأن هذا التفصيل جاء لعِظم هذا الأمر ، وأن معرفته بكل دقائقه وتفاصيله ، لا بد إلا أن يكون فيه الكثير ، من النفع والفائدة ، لمن يُخاطبهم القرآن ، وما كان بيانه وتفصيله عبثا . وما كان هذا الفصل ، إلا للتعريف بهذه الدقائق والتفاصيل ، وما جاء هذا الكتاب إلا لتعميم الفائدة على الناس ، والله من وراء القصد .
لو أمعنت النظر في مجمل سورة الإسراء ، لوجدت أنها تناوبت ما بين أسلوبي الإخبار والمخاطبة ، ولو أمعنت النظر في مقدمة السورة ، ستجد أنها جاءت إخبارية ومُخاطِبة للمسلمين ، بصفة عامّة ، وإخبارية ومُخاطِبة لبني إسرائيل ، بصفة خاصّة .
والسؤال الأول : لماذا أُعيد نص النبوءة بأسلوب المخاطبة ، لبني إسرائيل في عصر أمة الإسلام ؟
مقدمة السورة ( الآيات 1-3 ) جاءت كتمهيد ، فهي تذكر المسجد الأقصى ، وتبين قدسيّته عند الله وبالتالي عند المسلمين ، وتذكُر كتاب موسى عليه السلام ، وتذّكِر بني إسرائيل بما جاء فيه ، وبالذات عدم الشرك بالله ، واتّخاذ وكلاء من دونه ، ويمنّ اللهّ عليهم ويذكرهم بنجاة أسلافهم من الطوفان ، وبنفس الوقت يحذّرهم من الهلاك ، من خلال ذكر نوح عليه السلام ، وأنّه ما كان لنوح ومن معه النجاة ، لولا إقراره بالعبودية لله ( عبداً ) أولاً ، وقيامه بالعبادة لله ( وشكوراً ثانياً ) .
السؤال الثاني : لماذا التمهيد ، وبهذا الشكل المرعب لبني إسرائيل ؟
هناك قول بأن كلتا المرتين وقعتا قبل الإسلام ، فلو كان هذا الأمر صحيحا ، لتوجب أن يكون نص النبوءة كاملا بأسلوب الإخبار ، ولما كان هناك داعي لوجوده أصلا ، فقد أخبرنا سبحانه في مواضع أخرى في القرآن ، بأنه غضب عليهم ، ولعنهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة ، وتوعدهم بأن يبعث عليهم ، من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، وقطّعهم في الأرض أمما .
السؤال الثالث : ما هو الأمر الذي خرج عن كل ما تقدّم ، فأراد سبحانه لفت أنظارنا إليه ، مبينا أهميته ، ومنبها إليها ؟
بما أن المرتين متشابهتين تماما ، فلو فرضنا جدلا أن القول السابق صحيح ، لكان من الأحرى ، أن يأتي النص في الحديث عن المرتين مجملا ، على سبيل المثال ، على النحو التالي ، ( … لتفسدن … مرتين ولتعلن علوا كبيرا … فإذا جاء وعد كل منهما ، بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد … فأساءوا وجوهكم ودخلوا المسجد … وكان كلٌّ من الوعدين مفعولا … وتبّروا ما علوا تتبيرا ) .
السؤال الرابع : لماذا فَصَلت وفَصَّلت الآيات ، كلّ مرة على حدة ؟
الآية الرابعة ، أجملت ثلاثة شروط من شروط المرتين ، وهي الأرض ( المقدّسة ) والعلو والإفساد ، والآية الخامسة أفردت وأوجزت الحديث عن الوعد ( العقاب ) الأول ، فذكرت البعث والجوس وصفة العباد ، وجاءت الأفعال كلها بصيغة الماضي . والآية السادسة فصّلت مظاهر العلو الثاني ، من لحظة النشوء حتى اكتمال مقوماته ، من حيث القدرة العسكرية والبشرية والاقتصادية ، وجاءت الأفعال كلها بصيغة الماضي ، مع حملها لصفة الاستقبال .
السؤال الخامس : لماذا جاءت أفعال وعد الأولى بصيغة الماضي ، ولماذا جاءت أفعال وعد الآخرة بصيغة الاستقبال ؟
السؤال السادس : لماذا جاء التخيير ما بين الإحسان أو الإساءة ، بعد اكتمال مظاهر العلو الثاني ، وقبل الحديث عن عقاب وعد الآخرة ، ولم يأتِ عند الحديث عن وعد الأولى ؟
السؤال السابع : لماذا أُخرجت كيفية مجيئهم ، عند مجيء وعد الآخرة من نص النبوءة ، ولماذا أُفردت في نهاية السورة ؟
السؤال الثامن : لماذا أُعيد ذكر بني إسرائيل وقصّتهم مع فرعون في نهاية السورة ، الآيات ( 101 – 104 ) ؟
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
تُشير هذه الآية ، بذكر المسجد الحرام ، إلى نقطة البداية ، لانتشار رسالة الإسلام ، التي أنعم الله وأكرم بها نبيه ، محمد عليه الصلاة والسلام . وبذكر المسجد الأقصى ، تُشير من طرف خفي ، إلى ما ورد في الحديث الصحيح ، إلى أن مسك الختام لهذه الرسالة ، آخر الزمان ، سيكون بنزول الخلافة الراشدة ، وأميرها المهدي في بيت المقدس ، بإذن الله . وهذا مما يوحي بأن قيام دولة إسرائيل ، هو أحد أشراط الساعة ، وأن نهايتها ، علامة لقرب ظهور المهدي ونزول الخلافة فيها ، والله أعلم . وأهم ما جاءت به الآية هو تعريف المسجد ، بوصفه بالأقصى أي الأبعد ، وبالذي باركنا حوله ، وهو المسجد الذي سيكون موضوع ما يلي هذه الآية من آيات .
( وَآتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
في هذه الآية ، يحذّر الله بني إسرائيل ، من الاتّكال على غيره ( لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ .. وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ (28 آل عمران ) ويختم سبحانه السورة ، بقوله ( .. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ .. ) أي لم يتخذ له حليفا لضعف أو لذلّة ، وهذا تعريض بالعلو الحالي لبني إسرائيل ، حيث كانوا أذلّاء مضطهدين ، وبموالاة الغرب أصبحوا سادة .
ويذكّرهم فيها بما أنزله عليهم من الهدى ، ليكون لهم نورا يهتدون به ، ومن ضمنه هذه النبوءة ، التي أعادها إلى أذهانهم مخاطبا إياهم بمضمونها ، وكما وردت في الكتاب الذي أُنزل على موسى عليه السلام ، ويحذّرهم من اتّخاذ أولياء من دونه ، من الإنس والجنّ على حدّ سواء .
فاختاروا الولاء لغير الله ، وتمسكنوا ، وحقّقوا مآربهم منذ البداية بالفساد والإفساد ، بما خطّطوا له بمكرهم ودهائهم ، ونفذّه غيرهم ، من فتن وحروب سبقت وهيّأت الظروف ، وتسبّبت في قيام دولتهم في فلسطين . ولما تمكنوا استعلوا واستكبروا فيها ، استمروا بالفساد والإفساد ، وساموا أهلها سوء العذاب ، فاستحقّوا غضب الله واستوجبوا العقاب ، فتوافق أمرهم مع ذهب إليه النص القرآني ، بذِكر إفسادهم في الأرض بمجملها أولا ، ومن ثم جاء ذِكر علوهم الكبير الذي نشهده هذه الأيام ، في قوله تعالى ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) .
( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
يقول ابن كثير : " تقديره يا ذريّة من حملنا مع نوح ، فيه تهييج وتنبيه على المنة " وهذا النداء موجّه لبني إسرائيل ، وبالإضافة لما قاله ابن كثير ، نلمس تهديدا وتحذيرا خفيا لبني إسرائيل ، من وراء ذكر نوح عليه السلام ، فعادة ما كان سبحانه وتعالى ، يمنّ عليهم بتذكيرهم بنعمة النجاة من فرعون وقومه ، ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (50 البقرة ) إلا في هذا الموضع ، وهي المرة الوحيدة في القرآن التي يمنُّ عليهم فيها ، بأنهم سلالة من حمل مع نوح عليه السلام ، أي من الذين أنجاهم الله من الطوفان ، حثا لهم على الإيمان به ، والعبادة والشكر له كما كان يفعل نوح والذين حملهم معه ، وأنّ فِعل هؤلاء هو الذي أنجاهم من الهلاك ، فإن لم يفعلوا كما فعلوا ، حلّ بهم ما حلّ بقوم نوح . وذِكْرُ نوح في هذا الموضع وتكرار ذكره ، في الآية (17 الإسراء ) ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) دفعني إلى إلقاء نظرة على سورة نوح .
ومنها قوله تعالى ( ... أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) ... إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ... (4) ... فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) … جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) … وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) … قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) .. وَقَدْ أَضَلّوا كَثِيرًا ... (24) … رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) ... وَلَا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28 نوح )
اقرأ هذه الآيات وتفكّر وتدبّر ( .. أولا إنذار .. ولا تأخير .. فرار .. إصرار واستكبار .. إمداد بأموال وأولاد .. وجنات وأنهار .. استهزاء وسخرية .. عصيان .. عبادة القوة والمال .. المكر الكبير .. الإضلال .. الكفر .. وأخيرا تبار .. )
وهذا هو حال بني إسرائيل .. وهذا هو الإفساد في الأرض .. وردُّ الله عليه أوله إنذار .. فإن كان هناك استكبار وإصرار .. كان هناك تبار . يقول سبحانه ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15 الإسراء ) .
والرسول قد بُعث ، منذ ألف وأربعمائة وإحدى وثلاثون عاما ، وقد أتاهم بالإنذار في كتاب ربه ، ( وصحيفة الإنذار ) الموجهة لتلك الأفاعي في الجحر الأبيض ، وتلك الطفيّليات في منتجعات المال العالمية ، التي تمتص بنهم دماء الكرة الأرضية ، وتلك الفئران المستأسدة في قدس الأقداس ، هي ( سورة بني إسرائيل ) ومن أول حرف فيها وحتى آخر حرف ، حيث قال فيها ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. ) وقد ساد دولة الكفر ويسودها ، قطاع الطرق واللصوص والقتلة ، وأسافل مجرميها ( .. فَفَسَقُوا فِيهَا .. ) فاغتالوا أصالتها ، وقدسيّة أرضها ، ووقار شيخوختها ، وسكينة عبّادها ، وحياء حرائرها ، وأحلام طفولتها ، وحتى طهارة مساجدها ( .. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ .. ) ، وهذا هو ( قول ) رب العزة ، ( … لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ … ) ، وهذا هو ( فعله ) ( .. فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16 الإسراء ) وهذا هو ( تعقيبه ) ( … وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17 الإسراء ) وهذه هي ( خاتمته ) ( وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( 111 الإسراء ) .
اقتصرت مقدمة السورة على ثلاث آيات فقط ، حملت من المعاني ما يشحذ الفكر والوجدان ، ويعمل على تهييج العقل وتنبيهه من غفلته ، لاستقبال واستيعاب ما سيأتي من عرض ، لنبوءة ستغير مجرى التاريخ في يوم أو بضعة أيام . وهذه النبوءة تعني كل من سمع برسالات السماء ، وتمسّهم في صميم معتقداتهم ، وأكثرهم تأثّرا هم أصحاب الديانات الثلاث ، والذي يمتلك كل منهم مخزونا عقائديا ، فيما يخصّ عودة اليهود إلى الأرض المقدسة ، يلتقي مع أحدها ويتعارض مع الآخر في التفاصيل والأحداث .
( وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَـابِ ، لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَـابِ :
ورد جذر الفعل قضى في القرآن (63) مرة ، ومشتقات هذا الفعل حملت عدة معاني ، وعادة ما يأتي هذا الفعل ، ليفيد تمام العمل الوارد نصا في السياق ، أو المفهوم ضمنا ، كما في قوله تعالى ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ (200 البقرة ) ، بمعنى أنجزتم مناسككم وانتهيتم منها ، وقوله تعالى في شأن لوط وقومه ( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ ، أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66 الحجر ) ، أي أخبرناه بالأمر ، على وجه الانتهاء منه ، إذ لا رجعة عنه ، فلا نقاش ولا جدال فيه ، ( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (114 طه ) ، أي من قبل أن تُخبر بوحيه ، على وجه التمام .
وقوله تعالى ( وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ ) أي أنّا كنّا قد أخبرنا بني إسرائيل في كتابهم - أي أن مضمون هذا الخبر موجود في كتابهم نصا حتى هذه اللحظة - بما سيأتي تفصيله فيما يلي ، من شأن إفسادهم وعلوهم في الأرض ، وهذا الخطاب ، في هذه العبارة ، موجّه في الحقيقة لمن هم من غير بني إسرائيل ، ممن ليس لديهم ، علم أو اطلاع على هذا الأمر ، ليطلعهم الله على هذا الأمر ، وما كان الله ليُخبر عنه إلا لعظيم شأن ، وذلك من سابق علم علام الغيوب ، بما سيكون منهم مستقبلا ، وليس ما قضاه عليهم بمعنى الأمر أو الحكم ، فحاشا لله أن يأمر بالإفساد في الأرض أو أن يقضي به .
والكتاب المقصود هنا هو كتاب موسى عليه السلام ، المنصوص عليه في الآية الثانية أعلاه ، وليس التوراة ، فكتاب موسى شيء والتوراة شيء آخر . والذي قادني إلى معرفة تلك الحقيقة ، هو تساؤلي ، أولا : عن سبب عدم ذكر التوراة بدلا من الكتاب ، وثانيا : رغبتي بالاطلاع على نص النبوءة في التوراة نفسها ، فيما لو وجد . وبعد أن استخرجت كافة الآيات القرآنية ، التي ذُكر فيها موسى ، والتي ذُكرت فيها التوراة ، تبين لي أن ذكر التوراة ، لم يرتبط بذكر موسى على الإطلاق ، وعدم الربط بينهما لا بد له من سبب ، وبيان ذلك ، والنص التوراتي للنبوءة في الترجمات العربية للتوراة اللاتينية ، سيأتي في فصل قادم ، إن شاء الله .
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا :
هنا حصل التفات من الحديث عن الغائب ، وهم بني إسرائيل ككل ، في قوله تعالى ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ ) ، ومن ثم عاد سبحانه ، لتوجيه الحديث إلى الحاضر المُخاطَب ، وهم بني إسرائيل ( المعاصرين ) لرسالة الإسلام ، وذلك بسرد النبوءة ، بنفس الأسلوب والعبارات ، التي أنزلت عليهم في كتابهم ، قبل 3 آلاف ، زمن موسى عليه السلام . فجاءت نصوصها مخاطبة لبني إسرائيل ، ولكن بألفاظ عربية جزلة موجزة ، كما وأضيف إليها تعقيبات ، لتبين وتؤكد بعض ما تحقّق منها ، قبل إنزالها في سورة الإسراء مرة أخرى ، على محمد عليه الصلاة والسلام . فبدأت بقوله تعالى ( لَتُفْسِدُنَّ ... وَلَتَعْلُنَّ ... ) .
في هذا الموضع قَرَنَ سبحانه ، ما بين الإفساد والعلو في المرتين ، في قوله ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4الإسراء ) ولم يوضح التفاصيل ، ولتكون لدينا القدرة ، على معرفة شكل هذا الإفساد وهذا العلو ، دعنا نمعن النظر في الآيات التالية ، حيث اقترن فيها الأمرين معـا ، في مواضع أخرى من القران الكريم ، كقوله تعالى ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ … إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4 القصص ) ، وقوله ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14 النمل ) ، حيث جاءت هذه الآية ، تعقيبا على فرعون وقومه لما علو وأفسدوا ، وجحدوا بآيات الله ، فكان جزاءهم الهلاك غرقا .
وقوله ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83 القصص ) توضح هذه الآية ، بأنّ جزاء من لم يُرد العلو والإفساد ، سواء كان قادرا على ذلك أم لم يكن ، هو أن يكون لهم حسن ثواب الدنيا والآخرة ، والعاقبة للمتقين بإذن الله ، وذلك تعقيبا على قارون وصنيعه وما حلّ به وبكنوزه ، حيث قال تعالى فيما آتاه ، من المال والقوة ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (76) ، فجحد نعم الله ونسبها إلى نفسه ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا (78) ، فعلا واستكبر ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (79) ، فأهلكه الله (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ (81 القصص ) ، ليجعله عبرة لغيره .
والملفت للنظر ، أن اقتران العلو بالإفساد ، جاء في أربع آيات فقط من مجمل القرآن ، وكلها ذات علاقة ببني إسرائيل ، وقد تقدم ذكرها أعلاه .
والقرآن كما نعلم أُنزل للناس كافة ، منذ اليوم الأول لبعثة نبينا ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، ومن ضمن هؤلاء بني إسرائيل ، الذين عاصروا هذه الرسالة وهذا القرآن ، وقد ذكّرهم الله وما زال يُذّكرهم ، في معجزته الخالـدة بمـا حصل لفرعون وقارون ، وهم أشدّ الناس قربا لهم ، لما علوا وأفسدوا في الأرض ، وأنّهم إن أصرّوا على الإفساد في الأرض ، مضت فيهم سنة الأولين ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تحْوِيلًا (43 فاطر ) ، وقال في سورة الإسراء ( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) لينالهم ما نال سابقيهم ، من العذاب في الدنيا والآخرة ، وأنّ لا مناص لهم للنجاة من سخطه وغضبة ، إلّا بالعودة إليه والإنابة له ، ولكن هيهات لمن قيل في أسلافهم ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً … وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74 البقرة ) .
علوّ بني إسرائيل في المرة الأولى ، لم تتضح تفاصيله في سورة الإسراء ، لكنها جليّة واضحة في مواضع أخرى من القران ، وسيأتي الحديث عنها في حينه ، أما ما نحن بصدده الآن ، هو توضيح مفهوم العلوّ ، ولدينا مثالين هما فرعون وقومه وقارون وكنوزه ، وبما أنّ العلوّ المقصود هنا ، هو علوّهم كأمّة وليس كأفراد ، فالخيار يقع على علوّ فرعون وقومه ، وهذه آيات تعرضت لبعض من مظاهر هذا العلو ومقوماته ، قال تعالى ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51 الزخرف ) وعلى لسان مؤمن آل فرعون ( يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ (29 غافر ) ، وقال ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (88 يونس ) ، وقال ( وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ (24)كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27 الدخان ) وبالقليل من التدبر في الآيات السابقة .
نجد أنّ مقومات علو فرعون وملأه ، وهم علية القوم ، ويمثلهم في زماننا ، رجال الحكم والقضاء والدولة ، ورجال السياسة والمال والإقتصاد ، والوجهاء ورؤوس الناس ، تتمثل فيما يلي : ملك مصر والسيادة على أهلها ، والقوة والمنعة والظهور في الأرض ، وامتلاك الزينة والأموال ، والجنات والعيون ، والأنهار الجارية ، والزرع والمقام الكريم ، والنعم المختلفة .
ـ مفهوم العلو : هو مظهر من مظاهر الحياة ، بمعنى الاستعلاء والارتفاع والتكبّر والتجبّر ، من خلال امتلاك مقومات مادية ، كالأرض والمال والقوة ، مما يُمكّن الظلمة والمفسدون من سيادة الناس وسياستهم ، والتحكم في تصريف شؤونهم ، على وجه من الظلم والبغي .
أما مفهوم الإفساد ؛ فهو يتمثّل في بعض ، ما قيل من آيات في فرعون وقومه ، قال تعالى ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83 يونس ) ، وقال ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4 القصص ) ، وقال ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46 المؤمنون ) ، وقال ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12 النمل ) ، وقال ( فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى (24 النازعات ) ، وقال ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38 القصص ) ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54 الزخرف ) ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79 طه ) .
ومظاهر إفساده تتمثل فيما يلي : جعْلُ أهل مصر فرقا وطوائف متنابذة ، واستضعاف طائفة منهم ( بني إسرائيل ) ، بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، والإسراف في كل أمره ، والاستكبار والفسق ، وتكذيب الرسل ، ومعصية الله وجحود آياته ، وادّعاء الربوبية والألوهية ، واستخفاف الناس وإضلالهم .
ـ مفهوم الإفساد : استضعاف الناس وتفريقهم وتصنيفهم ، وإثارة الفتن فيما بينهم ، والقتل وسفك الدماء ، وتكذيب الرسل ، وتكذيب آيات الله وجحودها ، ومعصية الله ورسله ، واستخفاف عقول الناس وتضليلهم وإضلالهم ، وإنكار ربوبية الله ، وإنكار أحقيته في العبادة دون غيره .
وخلاصة القول : هذا هو مفهوم العلو ، وهذا هو مفهوم الإفساد ، الذي تتحدث عنهما سورة الإسراء ، لذلك عند أي محاولة لتعيين أيٍّ من المرتين ، يجب أن تكون الحالة موضوع البحث ، مطابقة تماما لما كان عليه فرعون ومَلَئه ، وكأنّ علو وإفساد بني إسرائيل ، صورة في مرآة لعلو وإفساد فرعون ومَلَئِه ، وما علينا إلّا أن نبحث ، في ماضي بني إسرائيل وحاضرهم ، عن أيّ حالة ترافق فيها مثل هذا العلو ومثل هذا الإفساد ، كما هو الحال بالنسبة لفرعون وقومه . ولن نذهب بعيدا ، فإحداهما موصوفة في القران الكريم وبالتفصيل أيضا . والأخرى نشاهدها بأم أعيننا على أرض الواقع ، منذ أكثر من خمسين عاما .
فِي الْأَرْضِ :
قرن سبحانه وتعالى ، بين الإفساد والعلوّ لكلتا المرتين بالأرض ، ولفظ الأرض هنا اسم جنس ، وجاءت كذلك لتشمل الجزء والكل والخاص والعام ، حيث قال في الآية (4) ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) ولم يحدّد مكانا بعينه ، وعاد سبحانه وحدّد موقع العقاب في المرتين ، حين قال في الآية (7) ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) حيث ربط ما بين العقاب والمسجد ، لنفهم من ذلك أن العقاب الموعود به بنو إسرائيل والمقصود هنا ، سينفذ فيهم في المرتين ، خلال تواجدهم في فلسطين ( الأرض المقدسة ) ، وذُكر المسجد للإشارة إلى المكان . وهذا المسجد تم تعريفه ، في بداية سورة الإسراء ، في قوله تعالى ( الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (1) وقوله الذي باركنا حوله ، أي ما يليه من الأرض ، ولم يقل باركنا فيه ، أي لم تُحصر البركة في المسجد فقط ، بل شملت ما حوله من الأرض .
والملاحظ أن ذكر الإفساد حُصر في المرتين ، وأن ذكر الإفساد سبق ذكر العلوّ ، وأن العلو لم يُحصر في المرتين ، بل أُفرد ووصف بالكبير . وبما أن التركيز هنا على المرة الثانية ، فذلك يوحي بأن الإفساد في المرتين متطابق ، وبأن تحصيلهم للعلو ، على الأقل في المرة الثانية ، سيتأتى عن طريق الإفساد ، وأن العلو الثاني أكبر من الأول ، لذلك تأخر ذكر العلو وصفته ، عن كلمة مرتين للاختلاف . ذلك لأن إفساد بني إسرائيل المُتأتّي عن العلوّ ، اقتصر على حدود دولتهم ، في فلسطين في المرة الأولى ، وهذا ما يُثبته القرآن والتوراة . وأمّا إفسادهم وعلوّهم الأخير في فلسطين ، والذي نعيشه الآن ، سبقه ورافقه إفساد وعلو ، شمل مشارق الأرض ومغاربها . والله أعلم .
وبما أنّ العقاب سيحل بهم في الأرض المقدسة ، يترتب على ذلك ، حتمية سبق وقوع الإفساد والعلوّ فيها ، حتى ولو سبق منهم ، الإفساد والعلو في الأرض على عمومها ، أو تزامن مع إفسادهم وعلوهم ، في الأرض المقدسة ، لذلك جاء الحديث مجملا في الآية (4) ، وهي الآية الأولى من قصة الإفسادتين ، فذُكر الإفساد والعلو ، لاشتراط وقوعهما في المرتين ، ولم يأتي بأي تفاصيل لأيّ من المرتين فيها .
وخلاصة القول : أن الأرض التي سيتم فيها ، علو بني إسرائيل وإفسادهم ، هي الأرض على عمومها في المرة الثانية ، وفلسطين بشكل خاص في المرتين . وأن عقابهم في المرتين ، سيكون في الأرض المقدسة خاصة ، وزوال علوهم في المرة الثانية ، من الأرض على عمومها ، والله أعلم .
مَرَّتَيْنِ :
المرة ، هي الفعلة الواحدة ، من شيء يُمكن تكراره ، والجمع مِرار ، واعتدنا أن نجمعها على مرّات . وقد أوضح سبحانه بما لا يدع مجالا للشك ، أنهما مرّتان بصريح اللفظ . ولا يصحّ أن نُضيف ثالثة ، ومن أفتى بثالثة ، فقد أفتى بغير علم .
وعندما تقول : مرة ، ومرتان ، وثلاث مرات ، فأنت في الواقع ، تَعدُّ فعلة واحدة تتكرّر ، ولها صفة الاستمرار ، كالعمرة والحج مثلا ، لتقول اعتمرت مرة ، ومرتان ، وثلاث ، والعمرة لها شروط ومناسك خاصة بها ، تميّزها عن غيرها كالحج مثلا ، ولا يصحّ أن تَعدَّ أفعالا مختلفة على أنها مرّات ، كأن تقول مثلا ، عندما تعتمر مرة ، وتحجّ مرة ، اعتمرت مرتين أو حججت مرتين . ولا يصحّ أن تُسمّي فعلة غير مكتملة الشروط والمواصفات ، على أنها مرة ، كعمرة بلا طواف أو سعي .
وخلاصة القول : أنّ المرتين تكرار لفعلة واحدة ، تمتلك نفس الشروط والمواصفات ، وبما أن إفساد بني إسرائيل في الأرض ، بدأ منذ نشأتهم ، قبل حوالي (3) آلاف سنة ، واستمر لغاية هذه اللحظة ، كان من الضروري لنا ، أن نستنبط من هذه الآيات شروطا ومواصفات ، تجعل من السهولة بما كان ، تحديد المرتين وبدقة متناهية ، وتحديد موقعهما من حيث الزمان والمكان ، وأول شرط من الشروط هو الإفساد المقترن بالعلو ، والشرط الثاني أن يكون في الأرض المقدّسة دون غيرها .
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا :
جاء أي مجيء الوقت المعين أو الموعد المحدّد ، والوعد أي الموعودين به من العقاب والهلاك ، والمعنى إجمالا هو مجيء زمن الاستحقاق ، لنفاذ الوعد بالعقاب والهلاك ، ومجيء الوعد متعلّق بتحقق الشروط الثلاثة في الآية السابقة ، ويتوضّح هذا المعنى ، في قوله تعالى ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59 الكهف ) ، أي ربط الهلاك بموعد معين ، لا يتأخر ولا يتقدّم ، كما في قوله تعالى ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34 الأعراف ) . وسرعة مجيء موعد الهلاك وإبطاءه ، تعتمد على درجة الظلم ، وتجد ذلك في قوله تعالى ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا … ( 59 الكهف ) ، وقوله ( … وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59 القصص ) ، والظلم المقصود هنا هو الظلم الأممي ، مع توافر الإصرار . إذ كلما زادت درجة الظلم ، وزادت وتيرة اقترافه ، كلما أسرع إلى الأمم قدرها المحتوم ، لتمضي فيها سنن الله ، التي لا تتحول ولا تتبدل .
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ :
قال تعالى ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (2 الجمعة ) ، وقال ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56 البقرة ) ، وقال ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ (31 المائدة ) ، ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا (5 الإسراء ) ، ومن خلال التدبر في الآيات السابقة ، نجد أن المبعوث من قبله سبحانه ، ليس له القدرة على بعث نفسه ، وذلك على حالين :
الأولى : هي وجود الإرادة الإلهية وانعدام الإرادة البشرية ، فالرسل عليهم السلام بتلقي الرسالة عن طريق الوحي ، ينتقلون من حال الغفلة والسكون إلى حال الهداية والدعوة ، والموتى ينتقلون بنفخ الروح فيهم من حال الموت إلى حال الحياة . وفي هذه الحالة يكون التدخل الإلهي ظاهرا ، بإحداث البعث عن طريق إرسال الروح والوحي ، سواء كانت وسيلة البعث مادية أو معنوية .
والثانية : هي وجود كلتا الإرادتين ، مع تعليق الإرادة الثانية بالأولى ، فالأحياء يملكون الإرادة في بعث أنفسهم ، لتصريف أمورهم الدنيوية ، ولكنّها إرادة معلقة بالمشيئة أو الإرادة الإلهية ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فإن توافقت الإرادة البشرية للقيام بأمر ما ، مع الإرادة الإلهية ، وقع ذلك الأمر وإن لم تتوافق لم يقع ، قال تعالى ( وَمَا تَشَاءُونَ ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30 الإنسان ) . وفي هذه الحالة يكون التدخل الإلهي غير ظاهر ، حيث أنه يتم عن طريق التمكين ، بإزالة المعوقات والمثبّطات وإيجاد التسهيلات والمحفّزات ، سواء كانت الوسائل مادية أو معنوية .
وفي كلتا الحالين يكون البعث من عند الله ، ولذلك نسب سبحانه بعث أولئك العباد إلى نفسه ، لأن الله سيُمكّن لهم الأسباب والسبل عند خروجهم ، لتحقيق وعده في بني إسرائيل . وأما هؤلاء العباد فسيخرجون من تلقاء أنفسهم ، ورغبة منهم في ذلك ، بدفع من أسبابهم الخاصة .
ونجد ذلك في قوله تعالى ( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46 التوبة )
أي لو أرادوا الخروج ، لأعدّوا عدة الخروج ، ولكنهم لم يُعدّوا العدّة ، لأن رغبة الخروج لديهم معدومة أصلا . وبما أن إرادتهم معدومة ، كره الله انبعاثهم ، فثبّطهم كي لا يخرجوا مكرهين حياءً أو رياءً ، خشية تأثيرهم السلبي على الخارجين . وفي المقابل ، فإنّ من وُجد لديه الإرادة والرغبة في الخروج ، كان الأولى بإزالة المُثبّطات ، وإحاطته بالمُحفّزات لتمكينه من الانبعاث والخروج .
ـ مفهوم البعث : هو انتقال ، أو انقلاب ، أو تحول ، أو تغير من حالة إلى أخرى ، نتيجة مُسبِّب خارجي ، مادي أو معنوي .
وخلاصة القول : أنّ عملية البعث هنا ، معلّقة بالمشيئة الإلهية ، وموعد البعث منوط بهذه المشيئة ، وأن هؤلاء المبعوثين ولو تولدت فيهم الإرادة ، ومهما حاولوا الانقضاض ، مرارا وتكرارا على بني إسرائيل ، للقضاء عليهم وإفنائهم ، فلن يتمكنوا من ذلك ، حتى مجيء ذلك الموعد .
عِبَادًا لَنَا :
معظم الناس هذه الأيام ، يعتقدون اعتقادا جازما لا شك فيه ، بأن هؤلاء العباد المُشار إليهم ، في هذه العبارة ، هم عباد مؤمنين ، بل من أولياء الله المخلصين . ولبيان خطأ هذا المعتقد ، سنناقش هذا الأمر من عدة وجوه ، وبما أن هذه العبارة ، أحد أهم مرتكزات الفهم الخاطئ ، للنبوءة التي جاءت بها آيات سورة الإسراء ، سنتاولها بالشرح والتفصيل ، بما يتناسب مع حجم المساحة ، التي احتلتها في أذهان الناس :
أولا : رأي المفسرين القدماء
هذه العبارة ،لم يكن فهم معناها ومغزاها ، مشكلة للمفسرين القدماء ، وهم الأكثر قربا وفهما ، لألفاظ العربية وتركيباتها اللغوية ، ولو طالعت تفسيراتهم للعبارة ، وآرائهم في أصحاب البعث الأول والثاني ، التي أجملناها في الفصل السابق ، لوجدت أنّهم بلا استثناء ،لم يعيروها أدنى انتباه ، وبما أنّ أنّهم ، جزموا بأنّ تحقق الوعدين ، قد تمّ قبل الإسلام ، فهم على الأقل ،لم يثبتوا لهم صفة الإيمان ، حيث أن بني إسرائيل آنذاك ، كانوا من أهل الكتاب ، وكل من حولهم كانوا من عبدة الأوثان . بل على العكس من ذلك ، نجد أنهم بلا استثناء ، كانوا قد أثبتوا لهم صفة الكفر .
ثانيا : كلمة عباد نكرة ، وإضافتها للجار والمجرور ، لم تعرّفها ، وبالتالي لم توضح ماهية المعتقد
وردت هذه عبارة ( عبادا لنا ) في القرآن مرة واحدة فقط ، ولو أمعنّا النظر في تركيبتها ، لوجدنا أنّه سبحانه نكّر هؤلاء العباد ، ولم ينسبهم إلى نفسه حتى بضمير متصل ، كأن يقول عبادنا ، وأضافها إلى الجارّ والمجرور ( لنا ) ، لنفهم أنّ تنكيرهم ، كان غاية بحدّ ذاته ، والإضافة للجارّ والمجرور ، جاءت هنا لتفيد ملكية الله لهم فقط ، وليس لها علاقة ببيان ماهية المعتقد . وذلك ليعلم بني إسرائيل ، أن هذا البعث من عند الله ، وبتمكين منه سبحانه ، فكل ما يجري على الأرض بخيره وشرّه ، لا يكون إلا بمشيئة الله جل وعلا وتقدير منه .
ثالثا : الفرق بين العبودية والعبادة
لنعلم أن أصل العبودية الخضوع والذل ، كرها أكثر منها طواعية ، وأصل العبادة الطاعة والولاء ، طواعية ورغبة لا كراهية فيها .
وتجب العبودية لله على الخلائق ، بدافع الربوبية أي المُلكية ، بأحقية الخلق والإيجاد ، واقرأ سورة الملك إن شئت فهبي تفصل الأمر ، ونجدها في قوله تعالى ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ (164 الأنعام ) أي صاحب كل شيء ، وقوله ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (17 المائدة ) أي مالك للسموات والأرض ، وقوله ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (102 الأنعام ) مما يعقل ولا يعقل ، والخلق هو الموجب لحقوق الربوبية والملكية ، ولذلك قال جل شأنه ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93 مريم ) من الملائكة حتى الذرّة من التراب ، رغما عن أنوفهم لا خيار لهم ، بأحقية ما سبق من خلقه إياهم .
ويندرج تحت العبودية ، عبودية الرقّ بدافع الشراء أو ما شابه ، التي توجب الملكية وحق التصرف بكل شؤون العبد ، ومن هنا جاءت تسمية الرقيق بالعبد ، كما في قوله تعالى ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50 يوسف ) والملك هو ملك مصر ، وهو ربّ الرسول أي صاحبه وسيّده ، والرسول هو نفس الفتى الذي ، قال : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) ، وربوبية المَلِك لهذا الفتى جاءت بدافع ملكية الملك للفتى .
أما العبادة ، فهي تقديم فروض الطاعة والتقديس والولاء ، لإله أو لآلهة ، ولا جبرية فيها فالخيار للمخلوق ، فهو يعبد ما يشاء ، والآلهة التي اتخذها الناس للعبادة كثيرة ومتنوعة ، قال تعالى ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا ، لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31 التوبة ) ، أما الغاية من خلق الجنّ والإنس فهي عبادة الله ، لقوله تعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56 الذاريات ) .
وكلّ الناس يمارسون طقوسا العبادة ، سواء كانوا من أهل الكتب السماوية أو وثنيون أو ملحدون ، أما المؤمنون بالله فهم من نُسبت عبادتهم لله ، وليس من نُسبوا بذواتهم فقط ، قال تعالى ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138 البقرة ) .
ونجد أنه سبحانه ، يدعو إلى الإقرار بالربوبية ووحدانية الألوهية ، بأحقية الخلق لكل شيء أولا ، ومن ثم يأمر بالخضوع له ، وإفراده سبحانه بالعبادة والاتكال عليه ، في قوله ( ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَاعْبُدُوهُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102 الأنعام ) . فلا تستقيم العبادة إلا بإقرار الربوبية لله أولا ، ولا يستقيم الحال بإقرار الربوبية لله وحدها دون القيام بمقتضيات العبادة . وهذا ما كان عليه كفار قريش ، حيث أنهم أقرّوا بربوبية الله لهم ، ولكنهم أشركوا بالعبادة ، قال تعالى ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87 الزخرف ) ، بينما عبادتهم للأصنام قالوا فيها ( … مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى … (3 الزمر ) .
قال تعالى ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11 فُصّلت ) ، طوعا من قبيل العبادة ، ولو لم تأتيا طوعا ، لكان ذلك كرها من قبيل العبودية ، حيث قال تعالى ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44 الإسراء ) .
ومن ذلك يُسمّى من يرزح تحت العبودية كرها عبدا ، فلا خيار في ألا يكون ، فهو مرغم ، ويُسمى من يقوم بواجبات العبادة طواعية عابدا ، فالخيار في أن يكون أو لا يكون ، عائد إليه ، وأشدّ الكفر ، هو ما أُنكر فيه العبودية والعبادة لله معا ، وشتان ما بين المسمّيين ، مع أن أصليهما واحد ، وهو كلمة ( عَبَدَ ) .
رابعا : الإفراد والجمع
عباد وعبيد كلمتان مترادفتان ، ومفردهما ( عَبْد ) ، والعبد لغة نقيض الُحرّ ، فكلمتيّ ( عباد ) و ( عبيد ) هي صيغة الجمع من كلمة ( عبد ) ، وذلك بدلالة النص القرآني في قوله تعالى ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65 الكهف ) ، ولو قال ( عابدا من عبادا ) لاختلف الأمر ، وتدبرّ قوله تعالى ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3 الإسراء ) ، نجد أنه سبحانه يُخبر أن نوح عليه السلام ، كان عبدا أولا من العبودية ، وعابدا بالشكر لله ثانيا من العبادة .
أما كلمة ( عابد ) ، وهو القائم بالعبادة ، فصيغة الجمع منها هي ( عابدون ) ، وذلك بدلالة قوله تعالى ( وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5 الكافرون )
خامسا : ترادف كلمتي عباد وعبيد في المعنى والاستخدام .
وقد أطلق سبحانه لفظ عباد على العبيد بمعنى رقيق ، ونجد ذلك في قوله تعالى ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (32 النور ) ، نجد أن الضمير المتصل ( كم ) في كلمة ( عبادكم ) يعود على المؤمنين المخاطبين بالنص ، ومما لا يُعقل ، أو من المستحيل أن نقول بأن كلمة ( عباد ) جاءت لغة من العبادة ، فهي لا تحمل هذا المعنى على الإطلاق ، ولو بدلالة هذه الآية فقط .
وأما الترادف في الاستخدام ، فقد جاء في قوله ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31 غافر ) وقوله ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46 فصلت ) وقوله ( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48 غافر ) ، نجد أن المعنى المستفاد من عباد وعبيد ، هو جملة خلق الله ، مؤمنهم وكافرهم على السواء .
سادسا : كلمة عباد نكرة ، ولا يُعرّفها إلا ما يأتي بعدها من سياق .
تشمل العبودية ، كل من في السماوات والأرض ، وما بينهما من الخلائق ، وتشمل العبادة ، كل من يملك العقل والإرادة من خلقه ، ومنهم على سبيل المثال الملائكة والإنس والجن ، وهم المطالبون والمكلفون ، بإفراده جل وعلا بالألوهية والعبادة ، والمحاسبون عليها ، فإن جاءت كلمتي عباد أو عبيد ، معرّفة أو غير معرّفة بأل التعريف ، أو بالإضافة ، فهي تفيد جملة الخلق ، كقوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48 غافر ) . ولا تفيد أي معنى آخر على الإطلاق ، إلّا إذا أُضيف إليها ما يفيد ذلك :
كقوله تعالى ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81 الصافات ) ليُبرز فيهم سبحانه صفة الأيمان ، فهم عباده المؤمنين ، وفيها حثّ على الإيمان به . أو دل السياق على غير ذلك ، من نفي أو إثبات لصفة دون غيرها ، لتناسب الموقف ، كقوله تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28 فاطر ) ليُبرز فيهم صفة العلم ، وحصر خشية الله بمن يتصف بالعلم ، فهم عباده العلماء ، وفيها حثّ على طلب العلم ، وقوله ( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17 الفرقان ) دل السياق على ضلالهم ، فهم عباده الضالين ، وفيها تحذير من الضلال ، وقوله ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ (53 الزمر ) دل السياق على إسرافهم ، فهم عباده المسرفين ، وفيها تنفير من الإسراف ، وكلّهم نسبهم الله إلى نفسه ، بإضافة ضمير متصل يعود عليه سبحانه .
---- يتبــــع -----
wahhab
11-09-2006, 01:52 AM
الجزء الرابع
سابعا : التركيب اللغوي للعبارة ، جيء به لتخصيص جزء من كل بصفة معينة ، وهي المراد إبرازها أصلا .
ولتوضيح ذلك ، لاحظ الفرق بين أن تقول ( هذا بيتنا ) وذاك ( بيتٌ لنا ) ، يفهم المستمع من العبارة الأولى ؛ أنّ هذا البيت مُلك لكم وخاصتُكم وأنّكم مُقيمون فيه ، وأمّا الثانية ؛ فيفهم منها المستمع أنّ ذلك البيت ، مُلك لكم ، وأنّكم غير مقيمين فيه ، وربما يكون فارغا أو مؤجّرا . ومن هنا نجد أن عبارة ( بيت لنا ) ، تعني أنّ بيتكم هذا ، هو واحد من جملة بيوت تملكونها ، ولا تعني شيئا أخر على الإطلاق ، وأنّك زدته تنكيرا بمثل هذا اللفظ . وأنك لو قلت ( ذاك بيت لنا ذو غرف كثيرة ) ، نفهم أنك أبرزت فيه صفة معينة ، اختص بها دون غيره ، من البيوت التي تملكونها ، وهي احتوائه على غرف كثيرة ، وميّزته عن باقي بيوتكم ، التي في معظمها ذات غرف قليلة . وكذلك الأمر بالنسبة لعبارة ( عبادا لنا ) ، التي جاءت منكّرة أيضا لإبراز صفتهم ، ( أولي بأس شديد ) ، التي يتميزون بها عن غيرهم ، من جملة عباد الله مؤمنهم وكافرهم ، ولم يأتي السياق بتصريح أو تلميح عن ماهية معتقدهم .
ولتوضيح ذلك أكثر فأكثر ، نطرح هذا المثال ، فيه أربعة أقوال لرجل ، يُجيب رجلا آخرا ، يريد عمالا لمزرعته :
1- سأرسل لك ( أولادي ) غدا ، للعمل في مزرعتك .
2- سأرسل لك ( أولادا لي ) غدا ، للعمل في مزرعتك .
3- سأرسل لك ( أولادي ، أولي المهارة والخبرة في الفلاحة ) غدا ، للعمل في مزرعتك .
4- سأرسل لك ( أولادا لي ، أولي مهارة وخبرة في الفلاحة ) غدا ، للعمل في مزرعتك .
فما المعنى الذي أفادته كل عبارة أعلاه ؟
1- أنه سيرسل جميع أولاده ، مع عدم توضيحه لصفتهم أو ماهيتهم .
2- أنه سيرسل بعضا من أولاده ، مع عدم توضيحه لصفتهم أو ماهيتهم أيضا .
3- أنه سيرسل جميع أولاده ، وأن جميع أولاده لديهم مهارة وخبرة في الفلاحة .
4- أنه سيرسل بعضا من أولاده ، وأن هذا البعض من أولاده فقط ، هو الذي يملك المهارة والخبرة في الفلاحة ، أما البقية فلا .
وأخيرا تدبرّ هذه الآيات :
( وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118 النساء ) ( أي أن من جملة العباد المنسوبين إلى الله هناك نصيب لإبليس )
( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42 الحجر ) ( أي أن سلطان إبليس محصور فقط على أتباعه من الغاوين ، الذين هم من جملة العباد المنسوبين إلى الله )
( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194 الأعراف ) ( أي أنتم وهم ، أي العابد والمعبود ، سواء في كونكم عباد )
( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا (31 إبراهيم ) ( أي أن الخطاب لعبادي الذين آمنوا ، دون عبادي الذين كفروا )
( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63 مريم ) ( أي وأن النار لمن لم يكن تقيا من عبادنا )
( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109 المؤمنون ) ( أي وكان هناك فريق من عبادي ، يقولون غير ذلك )
( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85 غافر ) ( أي في مجمل عباده ، والخاسرون منهم ، هم الكافرون دون المؤمنين )
( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52 الشورى ) ( أي وهناك من لم نهدي من عبادنا )
( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93 مريم ) ( مؤمنهم وكافرهم بلا استثناء )
وفي الحديث الصحيح الطويل ، الذي رواه مسلم وأخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ، جاء ما جاء نصه " … إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ، إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي ، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ ( جبال القدس ) ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ … " يرد نفس التركيب اللغوي لعبارة ( عبادا لنا ) ، وهو (عبادا لي ) والمقصودين به هم قبيلتي يأجوج ومأجوج ، الذين قال فيهم سبحانه ( قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ، عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94 الكهف ) .
وخلاصة القول : أن كلمة ( عبادا ) ، جاءت نكرة ، و كلمة ( لنا ) لم تعرّفها ، وإنما جاءت هنا لتأكيد الملكية فقط ، وكل الخلق ملك لله ، ليؤكد سبحانه لبني إسرائيل ، أن هذا البعث سيكون من عنده ، وبما أن هؤلاء العباد ملكه ، فهم رهن إشارته وطوع بنانه ، ويملك حق التصرف بشؤونهم ، فإن شاء بعث وإن شاء أمسك . وأكثر المعاني دقة لهذه العبارة ( عبادا لنا ) ، هو أنهم ( طائفة من خلقنا ) لا أكثر من ذلك ولا أقل ، وأهم ما يميّز هؤلاء الخلق عن غيرهم ، أنهم ( أولي بأس شديد ) فقط لا غير .
وأن ورود لفظ ( عباد ) في القرآن ، لم يقتصر على أولياء الله وأحباؤه ، وإنما جاء هذا اللفظ في الخطاب القرآني ، منّا على العباد بنعمة خلقه إياهم ، ورفقه ولطفه بهم ، مطيعهم وعاصيهم ، والكلمات ( عبادي ، عبادنا ، وعباده ) عادة ما تأتي كتهيئة ، لما سيأتي بعدها ، من صفة مميزة ، أو سياق يدل على صفة ، وهي المراد إبرازها أصلا ، فإن كانت صفة محمودة ، كالإيمان والعلم فقد أُبرزت تحببا بها ، وإن كانت صفة مذمومة ، كالضلال والإسراف ، فقد أُبرزت تنفيرا منها .
وأما صفة البأس الشديد ، فقد أُبرزت تهديدا وتحذيرا وتخويفا لبني إسرائيل ، من سوء عاقبتهم ، بوقوعهم بين أيدي مثل أولئك الخلق ، الذين لن يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة ، لعلهم ينتهون ويرجعون ويرتدعون ، عمّا هم عليه من فساد وإفساد واستعلاء في الأرض .
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ :
وصف الله هؤلاء العباد ، بأولي البأس الشديد ، والبأس كما قدمه معظم المفسرون ، هو القوة والبطش في الحروب ، والشدّة جاءت زيادة في المبالغة ، قال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (25 الحديد ) ، فانظر وتفكر في معدن الحديد ، فهو يحمل في جوهره صفتان ، قلما تجدهما في معدن أخر . وهما ؛ أولّا : أنّه يحافظ على طبيعته ، مهما عظم عليه الطرق واشتدّ ، ولا يحترق أي يتحول إلى مادة أخرى ، مهما ازدادت شدة النيران عليه ، وإن انصهر عاد إلى سابق عهده عند البرودة ، وهذه الصفة إن وجدت في البشر ، فهي الجلد والصبر عند وقوع البلاء . وثانيا : أنّه عند تشكيله وشحذه ، فهو قوي قاتل وقاطع ، لذلك قيل " لا يفل الحديد إلّا الحديد " ، وهذه الصفة إن وجدت في البشر ، فهي القوة والبطش عند مواجهة الأعداء .
وفي قوله تعالى ( وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84 النساء ) نجد أنّه سبحانه قد وصف نفسه بذات الصفة ، وبما أنّ البأس الشديد تعني القوة والبطش ، فأين تستعمل هذه القوة وهذا البطش من قبله سبحانه ؟ وفي أي المواقع والمواقف يصف رب العزة نفسه بهاتين الصفتين ؛ القوة والبطش ؟ دعنا نتتبع هذه الصفات والعلاقة ما بينها ، في الآيات التالية ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12 البروج ) ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16 الدخان ) نجد أنّ الشدة ارتبطت بالبطش ، والبطش بالانتقام .
( إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52 الأنفال ) ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40 الحج ) ( فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42 القمر ) ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102 هود ) ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4 آل عمران ) ، ونجد أنّ الشدة ارتبطت بالقوة ، والقوة بالعزة ، والعزة بالأخذ ، والأخذ بالشدة ، والشدة بالعزة ، والعزة بالانتقام .
ومما تقدم نجد أن الموقف ، الذي يستدعيه جل وعلا لإظهار بأسه الشديد ، هو موقف الانتقام ، وأن الانتقام لا يتأتى إلا ممن هو قوي وعزيز .
وخلاصة القول : أنّ هؤلاء العباد ، المبعوثين من قبله سبحانه على بني إسرائيل ، اختارهم الله لتنفيذ مهمة ، وهي إنزال أبشع انتقام إلهي ممكن في بني إسرائيل ، لذلك تطلب الأمر أن يكونوا أولي بأس شديد ، ويتمتعون بالقوة والعزة ، ذوي صبر وجلد عند وقوع البلاء ، وقوة وبطش عند اللقاء ، بغض النظر عن إيمانهم أو كفرهم ، زيادة في التنكيل وإمعانا في الإذلال لبني إسرائيل ، وما عدا ذلك من صفات العباد ، لا تصلح لتنفيذ هذه المهمة . والفتوحات التي اتخذت الطابع الإسلامي قديما وحديثا ، لم تحمل الطابع الانتقامي بإهلاك الحرث والنسل ، الذي سيكون عليه الأمر الذي تصفة الآيات .
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ :
لم ترد كلمة ( جاسوا ) ، أو أي من مشتقات مصدرها ( جوس ) في مجمل القرآن ، إلّا مرة واحدة فقط في هذا الموضع ، لذلك لجأت إلى معجم لسان العرب ، وهذا مما قيل فيها : " الجوس هو مصدر جاس جوسا ، وجوسان تردد ، فجاسوا خلال الديار : ترددوا بينها للغارة والجوسان ؛ أي قتلوكم بين بيوتكم ؛ بمعنى يذهبون ويجيئون ؛ فطافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه ؛ تخللوها فطلبوا ما فيها ، والجوسان : الطوفان بالليل ، ورجل جوّاس أي يجوس كل شيء يدوسه ، والجوس : طلب الشيء باستقصاء ، وكل موضع خالطته ووطئته ، فقد جسته " .
ولو جمعنا كل ما قيل فيها من معاني ، وأعدنا تشكيل هذه المعاني وصياغتها ، لخرجنا بالمشهد التالي :
( أغاروا عليكم – ليلا على الأرجح – ودخلوا دياركم ، ووطئوا أرضكم ليقتلوكم وينكّلوا بكم ، وتردّدوا فيها ذهابا وإيابا ، وطافوا خلالها شرقا وغربا ، وتخلّلوا أزقتكم واقتحموا بيوتكم ، بحثا وتقصيّا ، لعلّهم يجدوا منهم ، من بقي حيا ليقتلوه ) .
نلاحظ هنا أنّ الله جلّت قدرته ، أوجز في وصف فعل هؤلاء العباد أيّما إيجاز ، ليصف كل ما فعلوه في كلمة واحدة فقط ، هي كلمة ( جاسوا ) لتصف مشهدا كاملا ، ولم تكن الإضافة ( خلال الديار ) إلّا لتوضيح ما كان قد جيس . وهذا يُشبه مشهد الإغارات الوحشية ، التي كان يقوم بها ، الأمريكي المدجّج بالسلاح الناري ، على قرى الهنود الحمر شبه العُزّل ، وما يُخلفه وراءه من دمار ومآسي ، مشهد طالما حفلت به أفلام الغرب الأمريكي .
والعبارة جاءت لتصف ما قام به عباد البعث الأول عند بعثهم ، قال تعالى ( فجاسوا ) بصيغة الماضي ، أي أن الجوس ، قد وقع في الماضي ، ولم يقل ( ليجوسوا ) بصيغة الاستقبال ، كما هو الحال في أفعال البعث الثاني ، التي ستقع في المستقبل .
وخلاصة القول : أن هذا الجوس قد وقع في الماضي ، وكان غاية في البشاعة ، واستباح فيه هؤلاء العباد حُرُماتهم جميعها ، من أرض ومال وعرض ، فوقع فيهم القتل والنهب والسبي .
وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا :
هذا الخبر جاء كتعقيب على الوعد الأول ، ليؤكد سبحانه تحقق المرة الأولى ، بعلوها وإفسادها وبعثها ، قبل نزول هذه الآيات . حيث جاءت صيغة اسم المفعول ( مَفْعُولا ) من الفعل ( فَعَلَ ) ، للدلالة على تمام الفعل ، بمعنى وكان وعدا ( قد فُعِلْ ) فيما مضى من الزمان . ولم تأتي بأي حال من الأحوال بمعنى ( مقضيا ) ، كما قدّمه معظم المفسرين القدماء ، ومنهم القرطبي أجلّه الله ، حيث قال فيها " وكان وعدا مفعولا ، أي قضاء كائنا لا خلف فيه " ، على اعتبار أن نفاذ الوعدين كان قبل الإسلام .
وقد جاءت هذه العبارة ، كجملة معترضة ، بحيث لو قمت بإسقاطها من السياق ، ومن ثم قرأت الآيتين ( 4و5 ) ، كما يلي : ( … بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار . ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم … ) لوجدت أن السياق لم يتأثر بحذفها ، فخبر نفاذ الوعد الأول ، انتهى عند ذكر الجوس ، أي أن الجوس قد وقع بعد البعث . وجاء التعقيب على الوعد ، بالجملة المعترضة ( وكان وعدا مفعولا ) لبيان وتأكيد ، أن الوعد بالبعث الذي تقدّم ذِكره ، قد تحقّق فعلا ، وكانت نتيجته هي الجوس ، ومن ثم يبدأ النص بالإخبار عن الوعد الثاني .
قال تعالى ( وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ، وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ ، كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) … فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ، قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166 الأعراف ) وهذه الحادثة كما نعلم ، وقعت في بني إسرائيل قبل مئات السنين ، والآن انظر قوله تعالى ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ .. (48 النساء )
جاءت الجملة المعترضة ( وكان أمر الله مفعولا ) زيادة للإيضاح ، ولتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أو الظن ، لبني إسرائيل المعاصرين لرسالة الإسلام ، والمتشكّكين منهم والذين خانتهم ذاكرتهم ، وغير المصدّقين بصحة هذا الأمر ، الذي كان الله قد أجراه في أسلافهم ، أن هذا الأمر وهو المسخ ، قد مضى في أسلافهم حقيقة ، فجاء تعقيبه تعالى على ما تقدم ، من لعن ومسخ لأسلافهم ، بقوله ( وكان أمر الله مفعولا ) لإزالة الشك ، ولتأكيد أنّ الله قادر على تكرار ذلك الأمر ، إن لم يؤمنوا بما أُنزل من القرآن على وجه التهديد والتحذير .
وخلاصة القول : أن الوعد الأول بالبعث ، كان قد مضى وانقضى قبل نزول هذه الآيات ، وأنّ تعقيبه عز وجل بقوله ( وكان وعدا مفعولا ) ، جاء لتذكير اليهود الحاليين وتحذيرهم ، وإنباء المسلمين غير العالمين ، بوقوع ذلك في بني إسرائيل ، بأنه قد وقع فعلا ، وبشرى لهم بأن الوعد الثاني ، سيتحقق كما تحقّق الوعد الأول ، وأن الله لا يخلف الميعاد ، وما عليهم إلا الصبر والاستمرار في كفاحهم ضد اليهود ، وحسن الظن بالله وبوعده – وعد الآخرة – قال تعالى ( وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ ، أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31 الرعد ) .
( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ :
قال تعالى ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) أي ثم رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار ، وهذا لا يتحصل إلا بعد البعث والحساب ، بدلالة الاستثناء في تكملة السياق ، في قوله تعالى ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6 التين ) ، وبالتالي تكون ( ثم رددناه ) بالماضي ، جاءت بمعنى أيضا ( ثم نردّه ) بالمستقبل .
وجاءت كلمة ( رددنا ) بمعنى أعدنا من إعادة ، ( والكَرّة ) مصدرها كَرَرَ وفعلها كَرَّ ، والكَرُّ والفرُّ تقنية عسكرية ، ويقولون " الحرب كرٌّ وفرُّ " وهي تعني الفعل المضاد للفعل السابق ، فالغلبة كانت للعباد والهزيمة لبني إسرائيل ، وردّ الكرة لهم هو العكس تماما ، كالصورة في المرآة ، أي الغلبة والتفوق العسكري لبني لإسرائيل . وليس المقصود بالكرّة العودة إلى فلسطين ، وانتصار اليهود في حروبهم ضد الدول العربية ، لقوله ، ( الكرّة عليهم ) أي الغلبة العسكرية على العباد أنفسهم دون غيرهم . فالضمير المتصل ( هم ) في (عليهم ) ، يعود على العباد المبعوثين عليهم ، الذين سبق ذكرهم ، وجميع الضمائر المتصلة ( كم ) في هذه الآية ، تعود على بني إسرائيل .
قال تعالى ، على لسان الكافر حين يرى العذاب ( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (58 الزمر ) ، فالفعل الذي سبق ، هو مجيئه من الدنيا إلى الآخرة ، فتمنى الكرة ، وهي العودة من الآخرة إلى الحياة الدنيا ، ليكون من المحسنين .
وخلاصة القول : أن المقصود هو أن يُوقع اليهود بأولئك العباد ، ما كان أولئك العباد قد ، أوقعوه في أسلافهم من قبل ، من استباحة للأرض والمال والعرض ، بعد استكمال مظاهر العلو الثاني ، بالاستقواء على أولئك العباد والاعتداء عليهم .
وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفيرًا :
وأمددنا في ( لسان العرب ) " مصدرها مدد ؛ ومدّه غيره وأمدّه ؛ وأمددناهم بغيرنا ؛ والمدد هم العساكر التي تلحق بالمغازي ، والإمداد أن يرسل الرجل للرجل مددا ، تقول أمددنا فلانا بجيش ، قال تعالى ( يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ (125 آل عمران ) " وفي المجمل تعني الزيادة والكثرة ، في المساعدة العسكرية المقدمة من قبل الغير ، من مال وأفراد وعتاد أثناء الحرب . عندما يكون الجيش أقرب للهزيمة منه إلى النصر .
والنفير هم القوم ينفرون معك ويتنافرون في القتال ، ومنه قوله تعالى ( انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41 التوبة ) .
جاء في ( كتاب النبوءة والسياسة ) ، للكاتبة الأمريكية ( غريس هالسل ) : " لقد أغرقنا إسرائيل بالأسلحة : جعلنا من دولة الثلاثة ملايين يهودي ، ماردا عسكريا أكبر من أي دولة منفردة ، مثل ألمانيا أو إنكلترا أو فرنسا ، وأقوى من 21 دولة عربية مجتمعة ، عدد سكانها 150 مليون نسمة "
" أن إسرائيل .. هي المستفيد الأول بلا منازع من برنامج مساعداتنا .. تحصل على ثلث مجمل المساعدات الأمريكية الخارجية "
وتقول الكاتبة تعقيبا على انتصار إسرائيل في حرب 1967 ، " لم يعطِ أحد أي فضل للولايات المتحدة ، لأنها زودت إسرائيل بالأسلحة والتكنولوجيا والدولارات ، وحتى بالعناصر العسكرية الأمريكية التي ساعدت الإسرائيليين ، في تلك الحرب . لقد ربحت إسرائيل لأن الولايات المتحدة كانت تؤيدها بلا حدود "
وتقول أيضا " أن نسبة العسكريين إلى المدنيين في إسرائيل ، هي ( 1 عسكري من كل 22 مدني ) وهي أعلى نسبة في العالم "
وتقول أيضا على لسان الأستاذ في الجامعة العبرية ( إسرائيل شاهاك ) " إن دافع الضرائب الأمريكي أرسل إلى إسرائيل ، في عام 1985 خمسة مليارات دولار " واستمرت أمريكا بدفع هذه القيمة سنويا لغاية الآن ، فضلا عن المساعدات المادية والعينية الأخرى " ، انتهى .
وفي قوله تعالى ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبنين ، وجعلناكم أكثر نفيرا ) ثلاثة أفعال ، جاءت جميعها بصيغة الماضي ، وهي ( رددنا لكم ، أمددناكم ، جعلناكم ) وحُمّلت جميعها أيضا صفة الاستقبال ، بمعنى ( ونردُّ لكم ، ونمدُّكم ، ونجعلكم ) ولكن باختلاف الزمان ، فهذه الأفعال جاءت لتأخذ صفة الاستقبال ، قبل قيام دولة إسرائيل ، فتفيد معنى ( ونردُّ لكم ، ونمدُّكم ، ونجعلكم ) ، ولتأخذ بعد قيام دولة إسرائيل صفة الماضي ، ( رددنا لكم ، وأمددناكم ، وجعلناكم ) .
كان المفسرين القدماء أكثر قربا منا ، وأكثر فهما لمفردات اللغة العربية ، ومع ذلك لم يعطوا هذه الآيات حقها من التفسير والتفصيل ، مما ساهم في إخفاء هذا الأمر العظيم حتى هذه الأيام ، ومردّ ذلك أنهم لم يعاصروا الدولة الحالية لليهود . ولو فُسّرت هذه الآيات تفسيرا دقيقا كما الآن ، لكشفت هذه النبوءة للمسلمين ، الكثير من الوقائع ، ولكان ضرّ هذا الكشف عنها للمسلمين أكثر من نفعه ، ولكن لم يشأ الله ذلك رحمة بالمسلمين ، حتى لا يتملكهم اليأس والقنوط والتسليم بالأمر الواقع ، بما أنّ الله قد أخبر بذلك ، وهو الحقّ وقوله حقّ .
ولو حصل أن علم المسلمون بتفاصيل هذه النبوءة مسبقا ، فربما ترك معظم الفلسطينيون بلادهم ، مع إطلاق أول رصاصة من قبل برابرة هذا العصر ، إلا من أوتي الحكمة ورَحِمَ ربي ، ولَحُرِمَ المسلمون شرف الشهادة ، ونيل الأذى في سبيل الله ، لقوله تعالى ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140آل عمران ) ولقوله ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ، لَا يُصِيبُهُمْ ، ظَمَأٌ ، وَلَا نَصَبٌ ، وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ ، عَمَلٌ صَالِحٌ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120التوبة ) . ولكن عدم معرفة الفلسطينيون ، آنذاك بحتمية قيام الدولة اليهودية ، أبقى الأمل بإمكانية منع إقامتها ، حيّا في نفوس أهلها ، فبقي الكثيرمنهم فيها ، واستمر باب الجهاد في سبيل الله ، مشرعا على مصراعيه ، وبقي سجل شرف الشهادة في سبيل الله ، مفتوحا إلى يوم القيامة ، لمن يرغب منهم في تدوين اسمه ، ولتكون منهم بإذن الله تلك الطائفة ، التي أخبر عنها رسول الحق عليه الصلاة والسلام .
أما بالنسبة لليهود ، فهل كُشفت لهم هذه النبوءة ؟ أقول : نعم بلا شك ، ألم يقل سبحانه ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَـابِ ) وكشفت لهم أيضا نبوءات أخرى ، ويعرفون تفاصيلها كما يعرفون أبناءهم ، قال تعالى ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ، وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ، لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154 الأنعام ) ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ، وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ، سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145 الأعراف ) وقد كشفها الله لهم ليعلم ما سيكون منهم ، فعلم العقلاء يزيدهم تواضعا وخضوعا وامتثالا ، وعلم الذين لا يعقلون ( اليهود ) زادهم جهلا واستكبارا وطغيانا وعصيانا وعدوانا ، وسنوضح لاحقا ما كان منهم ، بناءا على معرفتهم لما جاء في كتبهم من نبوءات ، بإذن الله .
أما لماذا كُشفت الآن ، نقول : أن لا جدوى من إخفاءها الآن ، فقد اكتملت معالم القدر من ظروف وملابسات ، وفسّر الواقع جزءا كبيرا من نصوصها ، وكل شيء أصبح واضحا للعيان ، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا (115 الأنعام ) وعلم سبحانه ما أراد أن يعلم ؛ مما كان من المسلمين ، واتخذ وسيتخذ منهم ما أراد أن يتخذ ، وما كان من اليهود وسيأخذ منهم ، ما شاء أن يأخذ حطبا لنار جهنم ، وبئس المصير ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8 الإسراء ) . والكشف عن أسئلة الامتحان والبلاء ، لن يُغيّر شيئا ، فقوائم النتائج والشهادات ، تُعلن من على شاشات التلفاز ، فقد نجح الكثير من طلاب الآخرة في امتحان ربهم ، على ( درجة شهيد بامتياز مع مرتبة الشرف ) ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ونحن الآن بانتظار أن يُصدر رب العزة ، نتائج أولئك الأوغاد السفلة ، بعد أن يمهرها بتوقيعه المبارك ، وكأنّي أتخيّل الملائكة يُعدّونها ، في عجلة من أمر ربهم ، لتكون جاهزة عند موعد التسليم ، فتدبّر في قوله ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ، كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110 … وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَلِيَرْضَوْهُ ، وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ، (113 … وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115 الأنعام ) ، وموعدهم قريب ، وعند مجيئه سيكون الباب مشرعا لأولئك العباد بأمر ربهم ، لينقضوا عليهم ويزلزلوا أركانهم ، ويكسروا شوكتهم ويقتلعوها من جذورها ، والبعبع الأمريكي يغطّ في سبات عميق ، ولن يمنعهم من أمر الله أحد كان .
ونقول : أنّ عودة اليهود إلى فلسطين حقّ ، فالذي أخبر عن ذلك هو الحقّ ، وأنّ إخراج أهلها منها حقّ ، بعد أن منّ الله عليهم بالاستضعاف بالأرض ، كما استضعف الذين من قبلهم ، فأُورثوا الأرض من بعد ، فقد أَخرج رسوله من قبل بالحقّ ، ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5 الأنفال ) وفي إحدى سننه الكونية لمن يُخرج الناس من ديارهم قال الحقّ ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13 إبراهيم ) .
وهذه رسالة رب العزة ، إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ومن سورة ( محمد ) : ( فَلَا تَهِنُوا ، وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ، وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) … وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) ، وإن لم نكن نستحق الانتساب لأمّة ( محمد ) عليه أفضل الصلاة والتسليم ، قولا وعملا ، فسنّة الاستبدال واقعة بنا لا محالة ، ومن المؤسف أنها على وشك .
وخلاصة القول : أنه وبعد نفاذ الوعد الأول فيكم ، من قبل هؤلاء العباد ، وقتلِهم وقهرِهم لكم ، وزوال دولتكم ، وتشتتكم في الأرض بمدة من الزمن ، طالت أو قصرت - تفيدها ثمّ - سنأذن لكم بالعودة إلى الأرض المقدسة ، وتهزموهم كما هزموا أسلافكم ، وتعود لكم السطوة عليهم ، وتلحقوا بهم ما ألحقوه بأسلافكم ، ونُمدّكم بالأفراد المدربين على القتال والمساعدات المالية والعسكرية ، ونجعلكم أكثر عددا وعتادا . وهذا من قبيل ( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بيْنَ النَّاسِ ) بإجراء القضاء والقدر ، وليس من قبيل المكافأة ، لبني إسرائيل على إحسانهم ونيلهم رضاه سبحانه ، كما يدّعون في توراتهم ، وكما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين .
( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 )
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا :
وهذا على سبيل التخيير ، ولنفي الجبرية على من يملك العقل والإرادة ، ولدفع الظلم عن نفسه جلّ وعلا ، حيث قال ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46 فصلت ) ، وجاءت في ظاهرها ، تحمل الكثير من الترغيب ، والكثير من الترهيب ، وفي باطنها التهديد والتحذير مما يليها ، لكيلا يكون لهم على الله حجة ، بأنه لم يحذّرهم وينذرهم ، قبل إنزال عقاب وعد الآخرة فيهم . أما دفع تهمة الإفساد عن النفس ، فليست بالأماني ومعسول الكلام ، ولكن بالنظر إلى ما اقترفته الأيادي ، حيث قال سبحانه ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123 النساء ) .
والتغيير من الإفساد إلى الإصلاح ، ومن الإساءة إلى الإحسان ، لا يأتي عبثا بل يحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل ، فالبداية تكون بتحصيل العلم والمعرفة بالله ، بالتفكّر والتدبّر في ملكوت السماوات والأرض ، ومن ثم الأيمان بوجوده وقدرته على الخلق والإيجاد ، ومن ثم ردّ الجميل لصاحب الفضل والمنّة ، بإقرار ربوبيته وملكيته لنا ، ومن ثم الطاعة والتسليم والانصياع ، ومن ثم تحصيل المعرفة بمراده من الخلق ، كما جاء في كتابه ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56 الذاريات ) ، وبالتالي البحث الحثيث لمعرفة ما يُنال به الرضا ويُدفع به الغضب ، ومن ثم العمل بما تعلم ، فإن لم يكن حبا في ملك الملوك ، ليكن ولاءً لسبق الفضل ، وإن لم يكن طمعا في الجنة فخوفا من النار .
فانظر بربك إلى ربك ما أعدله ، أنعم عليك وأوجدك أولا ، وسيدخلك الجنة إلى الأبد ثانيا ، لتكون ممن قالوا ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74 الزمر ) ، لا من الذين قالوا ( يَوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97 الأنبياء ) .
قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11 الرعد ) ، فالتغيير يبدأ من العبد وينتهي عنده ، قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5 الصف ) ، حيث سبق الزيغ منهم فأزاغ الله قلوبهم ، أفلا يستحق الأمر شيئا من العناء … ؟! فلنسارع بتغيير أنفسنا ، قبل أن تتغير جلودنا مرارا وتكرارا ، في نار جهنم .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ :
فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام ، مما قال في دعاءه " أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " ، والآخِر والآخِرة نقيض المتقدم والمتقدمة ، ومن معجم مختار الصحاح : الآخِر بكسر الخاء بعد الأول وهو صفة ، تقول جاء آخِرا أي أخيرا ، وتقديره فاعل ، والأنثى آخِرة والجمع أواخر .
وخلاصة القول : أنها المرة الثانية في الترتيب ، والأخيرة في عدد المرات ، ولا ثالثة بعدها ، وإنما هناك أخرى ، ولكنها تختلف في أنها ليست مرة ، ولا يصحّ أن نسميها مرة ثالثة ، فهي لا تمتلك شروط المرتين السابقتين .
بعثناهم عليكم :
هذه العبارة ، غير موجودة أصلا في نص الآية ، وهي جواب شرط إذا الخاص بوعد الآخرة ، وقد حُذفت ، لدلالة جواب شرط إذا الخاص بوعد أولاهما . ولتوضيح عمل ( إذا ) وما يعنيه شرطها وجوابها ، نقول نستعمل ( إذا ) عادة ، إذا أردنا تعليق فعل معين ( ويسمى جواب شرط إذا ) ، بفعل آخر ( ويسمى شرط إذا ) ، كأن تقول لزوجتك على سبيل المثال : " إذا حصلت على ترقية في نهاية الشهر ، اشتريت لك ذلك الخاتم " ، فالذي ذهبت إليه في الواقع ، هو أنك علّقت عملية شراء الخاتم ، الذي رغبت فيه زوجتك ، بعملية حصولك على الترقية الموعود بها آخر الشهر ، فإن لم تكن هناك ترقية ، فلن تحصل زوجتك المسكينة على الخاتم . فشرط ( إذا ) هو ( الحصول على الترقية ) ، وجواب الشرط هو ( شراء الخاتم ) . وبعبارة أخرى نقول أن حصول زوجتك على الخاتم متعلّق بالحصول على الترقية .
وبإعادة عبارة ( بعثناهم عليكم ) المحذوفة ، يصبح النص كما يلي ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ – بعثناهم عليكم – لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ) . وعبارة ( وليسوءوا وجوهكم ) ليست جوابا للشرط ، لارتباطها بلام كي ، حيث جاءت العبارة لتعليل البعث وتوضيح الغاية منه . وضمير الغائب ( هم ) في ( بعثناهم ) يعود على العباد أنفسهم ، وضمير المخاطب ( كم ) في ( عليكم ) ، يعود على بني إسرائيل .
وخلاصة القول : أن هذه المرة هي الأخيرة من المرتين ، وأن تحقّق البعث متعلّق بمجيء الموعد المحدّد ، وبما أن الضمير في كلمة ( بعثناهم ) يعود على نفس العباد ، فإن عباد البعث الثاني ، هم نفس عباد البعث الأول .
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ :
إساءة الوجه ، أن يُفعِلَ بِالإنسان ما يَكْرَه ، وأساءه نقيض سَرّه . وفي الواقع أن فِعل الإساءة ، لن يقع على الوجوه بشكل مباشر ، وإنما على المظاهر والمقومات المادية ، التي مكّنتهم من العلو والاستكبار والاستعلاء على الناس ، ليُحرموا هذه الميزة بتبادل الأدوار مع أولئك العباد . ويكسبوا ميزة جديدة ، هي الاستضعاف والذل والانخفاض ، بتبادل الأدوار مع الفلسطينيين ، ومن ثم ليقع فيهم ، ما أنزلوه بالفلسطينيين طيلة مدة علوهم ، من قتل وأسر وتعذيب وسلب للأراضي والممتلكات ، وإتلاف وهدم ، على قاعدة الجزاء من جنس العمل ، ( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14 التوبة ) . وضمير الغائب ( واو الجماعة ) في ( ليسوءوا ) ، يعود على نفس العباد ، وضمير المخاطب (كم ) في ( وجوهكم ) ، يعود على بني إسرائيل .
والذي سيظهر على الوجه ، هو تعابير الاستياء ، التي تنتج في الغالب ، عن مشاعر تجيش بها النفس البشرية ، كالألم والحسرة والغيظ والخزي والذل ، عندما تتعرض للأذى النفسي ، الذي غالبا ما يكون ناتج ، عن فقدان مادي لما هو جيد ، أو كسب ما هو سيئ ، أو كلاهما ، وتعتمد درجة الاستياء على درجة الفقد أو الكسب ، والذي سيفقده اليهود ، هو السيادة والغنى والقوة .
ونجد وصف لتعابير وجه ، يشعر صاحبه بسوء ألمّ به ، لحرمانه من الذكر ، بولادة الأنثى ، التي ستجلب له العار مستقبلا ، في قوله تعالى ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ … (59 النحل ) ، ونجد وصف آخر لتعابير وجوه الذين اقترفوا السيئات ، عندما استيقنوا أن لا مفر ولا عاصم من أمر الله ، وأنهم سينالون جزاء سيئاتهم ، فتملكّتهم مشاعر اليأس والقنوط من النجاة ، في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27 يونس )
توحي عبارة ( ليسوءوا وجوهكم ) ، أن ما سينزل بهم من عقاب ، على أيدي هؤلاء العباد ، شديد الوقع ، وبالغ الأثر والتأثير في نفوسهم ، مما سيعكس بالضرورة آثار المساءة على وجوههم . لدرجة أنه سبحانه ، أورد نفس التعبير ، في وصفه لحال الكفار عند رؤيتهم لعذاب جهنم ، في قوله تعالى ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27 الملك ) . فالعقاب الذي سيحلّ باليهود قريبا ، ليس له نظير ، ولا يُمكن أن يتأتى هذا العقاب ، إلا من قبل أناس يملؤهم الحقد والكراهية ، ولديهم رغبة شديدة وملحة للانتقام ، من بني إسرائيل لسبب أو لآخر .
قال تعالى ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ، أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33 المائدة )
تبين الآية الأولى ، عظم مكانة النفس البشرية عند الله ، إذ ليس لأحد كان ، إزهاق أرواح الناس سوى خالقها ، فهو الذي يحيي ويميت ، ومن أزهق روحا بغير نفس أي قصاصا ، أو لمنع الفساد في الأرض ، كإقامة الحدود الموجبة للقتل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن قام بهذا الأمر ، خارج نطاق ما تقدّم من موجبات القتل ، فقد أعلن حربه على الله . وأن من أعلن حربه على الله ، في الآية الثانية ، حُصر جزاءه من قبل رب العزة ، بأربعة خيارات ، تنفّذ فيه في الحياة الدنيا ، من قبل من أوكله الله بذلك ، حسبما يرتأيه منفذ الحكم ، إذ لا جناح عليه فيما أُنزل به من عقوبة .
والملاحظ أن هذا البيان جاء عامّا ، ولكنه ارتبط ببني إسرائيل بشكل خاص ، مما يوحي أن عقابهم في المرتين ، شمل وسيشمل على ما يبدو هذه الخيارات مجتمعه ، بالقتل والصلب والتنكيل والسبي ، وبما أن النتيجة النهائية لهذا العقاب ، هي زوال علوهم في فلسطين ، فهذا يعني رحيل من بقي حيّا فرارا ، عن فلسطين نهائيا ، يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة . وستفيض قلوب كل اليهود في كافة أرجاء العالم ، بمشاعر الذل والخزي والعار والهوان ، ، مما يدعو القاصي والداني ، للشماتة بهم وبمن يشدّ على أيديهم . وهذا ما تؤكده الآيات الكريمة ، بأن جزاءهم سيكون من جنس عملهم .
wahhab
11-09-2006, 01:54 AM
الجزء الخامس
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ :
يعتقد الكثير من المسلمين هذه الأيام ، أن ذكر المسجد في هذا الموضع ، يترتب عليه أن من سيدخله ، وأن تحريره مقصورا على حملة لواء الإسلام ، أو بتعبير أدق أولياء الله وخاصته ، يوحدهم ويقودهم خليفة يفوقهم ولاءً لله ولدينه ، وفي الأذهان صورة ابن الخطاب ، رضي الله وأرضاه عنه ، وصلاح الدين رحمه الله ، ومن منا لا يتمنى ذلك .
ولكن يحضرني هنا قول الشاعر : " ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن " ، فلو عدنا بالذاكرة ، إلى دخوليّ عمر وصلاح الدين ، ستجد أنهما لا يتفقّان مع ما جاء في سورة الإسراء ، لسببين ، الأول ؛ كان الدخول على النصارى في المرتين ، والثاني ؛ أن الجوس للديار لم يقع فيهما ، وكذلك الإساءة لوجوه اليهود . بالإضافة إلى أن الدخول في المرتين ، كان فتحا وليس عقابا لأحد .
ويبدو وكأنّ المسألة ، هي لفظ المسجد الذي أورده تعالى ، للتعريف والتأكيد ، على أن الأرض التي ذُكرت في الآية (4) ، هي الأرض التي تحوي المسجد أي مدينة القدس .
والسؤال هنا هل المساجد خاصة بالمسلمين فقط ؟ بكل تأكيد نعم ، ولكن لفظ المسجد لا ! نحن نعلم أن حادثة الإسراء كانت في مكة ، وأن سورة الإسراء أُنزلت فيها أيضا ، وأن الله سبحانه وتعالى لمّا سمّاه بالمسجد الأقصى ،لم يكن للمسلمين فيه ناقة ولا بعير ، ولم يكن قائما أصلا . وعبادة السجود لله كانت قد سبقت ، منذ آدم عليه السلام ، إلى يومنا هذا ، فاقرأ قوله تعالى ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58 مريم ) وقوله تعالى ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113 آل عمران ) وكل مكان اتخذوه للسجود ، سمّاه الله في القرآن مسجدا ، والمقصود المكان وليس البناء .
انظر قوله تعالى ( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21 الكهف ) . ومع أن أصحاب الكهف ، كانوا من أتباع عيسى عليه السلام ، فإن الذين غلبوا على أمرهم في الواقع ، أقاموا عليهم مكانا للعبادة . وجاءت تسمية القرآن له بالمسجد ، على اعتبارهم له ، والقصد من بنائه ، أما أنه مسجد خاص بالمسلمين فلا ، والصلاة بالنسبة للمسلمين في هذا المسجد ، منهيٌ عنها ، وبالرغم من ذلك سّماه القرآن مسجدا ، لأنهم اتخّذوه مكانا للعبادة ، التي أحد أركانها السجود . وضمير الغائب ( واو الجماعة ) في ( وليدخلوا ) ، يعود على المبعوثين .
وخلاصة القول : أن هؤلاء المبعوثين لم يتبين ، بنص صريح ولا بتلميح بأنهم من خاصة عباد الله . وأن الله نكّرهم وقصد تنكيرهم ، لأمر اقتضته الحكمة الإلهية ، التي وضحنا جانبا منها فيما سبق . وأن معتقدهم غير واضح من حيث الإيمان أو الكفر ، وما زالت كل الاحتمالات قائمة ، فربما يكونوا مؤمنين أو مسلمين أو وثنيين أو ملحدين . ومن قال بعكس ذلك فقد جانبه الصواب ، بلا أدنى شك . والأمر الأكثر وضوحا ، هو اتحاد المبعوثين أولا وثانيا ، أي خروجهم من نفس الأرض في المرتين ، مهما طال الزمن أو قصر وتعاقبت عليها الأجيال ، بمعنى أن أصحاب البعث الثاني ، هم ورثة الأرض من أصحاب البعث الأول . وأنهم أولي قوة وبطش في الحروب . وأن عبارة ( وليدخلوا المسجد ) جاءت لتؤكد دخولهم ، لقلب الأرض المقدسة ، وسيطرتهم عليها بالكامل .
كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ :
قوله تعالى ( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ، هو تشبيه للدخول الثاني بالأول ، وفي العادة عندما يروي شخص لآخر ، قصة وقع فيها ذِكرُ حدثٍ يحتاج إلى وصف ، سواء كان هذا الحدث ، قد وقع ولم يشهده المستمع ، أو سيقع في المستقبل ، فبدلا من أن يستغرق الراوي ، في وصف هذا الحدث وسرد حيثياته ، على حساب مجمل أحداث القصة ، يعمد الراوي إلى تشبيه الحدث المراد وصفه ، بحدث آخر مألوف ومعروف من الماضي أو الحاضر ، لتقريب صفة الحدث موضوع الخطاب لذهن المستمع ، ومن ثم يكمل سرد بقية الأحداث .
قال تعالى ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا ، كَمَا ، يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ (275 البقرة ) حيث شبه سبحانه قيام آكل الربا يوم القيامة ، مجهول الصفة بالنسبة لنا ، وهو حدث سيقع مستقبلا ، بقيام الممسوس أي المجنون ، وهو حدث ومشهد قد رأيناه ونراه في الماضي والحاضر ، مرارا وتكرارا ، ومعروف ومألوف لذهن المستمع ، ونستطيع استرجاع ذلك المشهد من الذاكرة ، لنرى مشهدا مؤلما ومخزيا ، لآكل الربا عند بعثه ، يتميز به عن غيره ، فيقوم مفزوعا متحفزا مشوشا ، لا يهدأ له بال ، ولا تستكين له حال .
ولتوضيح الأمر أكثر ، فلو أن زوج مدح زوجته - على سبيل المثال - مُبديا إعجابه بجمالها قائلا : ( وجهك كالمريخ ) ، فهل ستكون الزوجة قادرة ، على معرفة مدى حبه لها ، في حال ، لم تكن عالمة بماهية المريخ وصفته ، من حيث الجمال والقبح . وهل أبان هذا التشبيه ، بغير المألوف والمعروف للزوجة ، وظيفته في تعبير الزوج عن مدى حبه لها ، أم أنه زادها حيرة واضطرابا وشكّا . لذلك يُشبّهون جمال النساء ، إذا أريد المدح ، بالقول : ( وجهك كالبدر ليلة تمامه ) وهي صورة معروفة ومألوفة لكل البشر ، تستطيع النساء استرجاعها من الذاكرة وتخيّلها واستيعابها ، ومعرفة مدى حب زوجها لها .
واستخدام التشبيه في الآية (7) أفاد أمرين :
أولا ؛ أنّ دخول المسجد أي بيت المقدس حاصل في المرتين ، وهذا يدحض قول من ذهب ، إلى أن أيّ من المرتين ، كانت أو ستكون في غير بيت المقدس .
وثانيا ؛ تشابه صفة الدخول في المرتين الأولى والآخرة بالدخول عنوة . لقوله تعالى في وصف الدخول الأول ( فجاسوا خلال الديار ) وهذا يدحض قول من ذهب ، إلى أن المرة الأولى كانت للمسلمين ، كون دخولهم إليها ،لم يحمل صفة الجوس .
ولكي يستقيم فهم هذه العبارة ، نود أن نُشير إلى أن الخطاب لبني إسرائيل ، لم ينقطع ، بل ما زال موّجها إليهم ، فالمُخاطَب في قوله تعالى ( كما دخلوه أول مرة ) هم بنو إسرائيل. واقرأ هذه الصياغة للنص ، ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ – بعثناهم عليكم – لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ، وَلِيَدْخُلُوا – عليكم – الْمَسْجِدَ ، كَمَا دَخَلُوهُ – عليكم – أَوَّلَ مَرَّةٍ / انقطاع الخطاب والعودة إلى الجمهور / وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) .
وهذا يعني أن المعرفة ، بصفة الدخول الأول ، محصورة ببني إسرائيل فقط ، وهذا يقودنا إلى أن معرفة اليهود المعاصرين المخاطبين ، لصفة هذا الدخول بالضرورة ، تحصّلت لهم مما لديهم من كتب تحكي تاريخهم ، ومجمل تاريخهم القديم موثق في التوراة ، ويعلم سبحانه أن آباءهم القدماء ، قد وثّقوا صفة الدخول في كتبهم ، فلذلك شبه الدخول الثاني لهم بما يعرفون . وإن أردت معرفة صفته كمسلم ، لا بد لك من الرجوع إلى كتبهم ، وهذا الفهم يقودنا إلى مراجعة تاريخهم كاملا ، لنتعرّف على صفة الدخول الأول ، كما وردت في الآية ( 5 ) ، وهذا ما سنفعله في الفصول القادمة .
والحقيقة أن هذا الحدث المفجع والرهيب الذي نزل بهم ، كان له بالغ الأثر في نفوسهم ، حيث شكّل لهم الكثير من العقد ، فضلا عما كان لديهم في السابق . جعلت منهم شعبا مجرما حاقدا ، على البشرية جمعاء ، وعلى أولئك العباد ، الذين ساموهم سوء العذاب في المرة الأولى . وما جاء التشبيه هنا ، إلا لتذكيرهم بحدث يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ، ومن لم يعرفه منهم ، أو خانته ذاكرته ، يستطيع الرجوع إلى توراتهم ، قال تعالى ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146 البقرة ) ، وجاء هذا التشبيه والتذكير ، لإنذارهم وتحذيرهم من مغبة العودة إلى العلو والإفساد ، وما ينتظرهم من خزي عذاب الدنيا ، وهول عذاب الآخرة .
والعجيب في الأمر ، أنّ الباحثين في هذا الموضوع حديثا من المسلمين ، كانوا قد أهملوا أكبر وأعظم موسوعة تاريخية سماوية ، موجودة بين أيدينا ، أقصد القرآن الكريم الذي ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42 فصلت ) ، ولم يرجع إليها أحد ، مع أنه كاد ألا يترك سورة من سورهِ ، إلا وأرّخ فيها لبني إسرائيل ، فعلوهم الأول ونشأته وإفسادهم في الأرض المقدسة ، ظاهر ماثل للعيان بما لا يترك مجالا ، للتقوّل أو الاجتهاد . وأما فيما يخص عقاب الوعد الأول ، فقد وردت إشارات كافية في هذه الآيات ، وفي مواضع أخرى في القرآن ، تدلّ على تحقّقه قبل الإسلام .
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا :
في المُعجم : " قال ابن جني : لا يقال له تِبْر ، حتى يكون في تراب معدنه ، أو مكسورا ، قال الزجّاج : والتبار الهلاك ، وتبّره تتبيرا أي كسّره وأهلكه ، وتبّره أي كسّره وأذهبه ، وفي التنزيل العزيز ( وَلَا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28 نوح ) قال الزجاج : معناه إلا هلاكا ، ولذلك سمي كل مُكسَّرٍ تِبرا ، وفي قوله عز وجل ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39 الفرقان ) قال : التتبير التدمير ، وكل شيء كسّرته وفتّته فقد تبّرته " .
والمعنى العام للعبارة ، هو ( وليُدمّروا ما علوا تدميرا ) . وقد جاءت صيغة المفعول المطلق ( تتبيرا ) ، زيادة في المبالغة ، وتأكيدا للفعل ( وليتبروا ) . وسواء كانت ( ما ) ظرفية ، أو اسم موصول ، بمعنى ( الذي ) ، لتشمل المكان والزمان والكم .
وكما أشرنا في تفسير العبارة السابقة ، فقد حصل انقطاع في الخطاب الموجه لبني إسرائيل ، ليصبح الحديث موجها للجمهور ، مضيفا تعقيبا حول مصير علو بني إسرائيل ، بدلالة ضمير الغائب المتصل ، واو الجماعة في كلمتي ( وليتبروا ) و ( علوا ) العائد على بني إسرائيل أنفسهم . والعبارة ( وليتبّروا ما علوا تتبيرا ) جاءت للتعقيب على ما فعله بني إسرائيل أنفسهم ، بمقومات هذا العلو ، مما كان سببا في زواله . ليُصبح المراد هو أن علو بني إسرائيل ، حمل في أحشائه بذرة دماره منذ نشأته ، بعدم الولاء لله ، وعدم اكتراثهم ، بِحثِّه لهم على الإحسان وتحذيره لهم من الإساءة . بل اعتمدوا على غير الله ، في تحصيل هذا العلو ، وإدامته وحمايته من الزوال ، بالفساد والإفساد والإثم والعدوان .
ليتبيّن لنا أن الحديث عن الوعد الثاني ، انتهى بقوله ( كما دخلوه أول مرة ) . وأن عبارة ( وليتبّروا ما علوا تتبيرا ) جاءت تعقيبا على قوله تعالى في بداية القصة ( ولتعلن علوا كبيرا ) في الآية (4) ، ليؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، أن هذا العلو الموصوف بالكبير في الأرض ، والذي تحصّل عليه بني إسرائيل ببعدهم عن الله ، سيصبح هباءً منثورا بما كسبته أيديهم .
ومن تعريفنا السابق لمفهوم العلو ، نجد أن العلو مظهر من مظاهر الحياة ، كما الغنى الذي يتحصّل بامتلاك المال الوفير ، وكما الفقر الذي يتحصّل بامتلاك المال القليل ، ويتم تحصيله من خلال امتلاك مقومات مادية ، تتمثّل في السيادة على الأرض وأهلها ، وسياستهم والتحكّم في مختلف شؤونهم ، والقدرة بامتلاك القوة ، والغنى بامتلاك المال والموارد المادية الأخرى . والحقيقة أن اليهود في هذا العصر ، لم يقتصر علوهم على فلسطين فحسب ، بل شمل أمريكا وبريطانيا والكثير من الدول الغربية . فَهُما شكل من أشكال الإفساد اليهودي في الأرض ، وأداة للعدوان على الشعوب ، بأيدي اليهودية العالمية .
وبما أن العلو مظهر ، والمظاهر لا تُدمّر تدميرا ، وإنما تزول زوالا بفقدان أسبابها ومقوماتها ، كما أُزيل علو فرعون ، بتدمير ما امتلك من مقومات علوه ، في قوله تعالى ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137 الأعراف ) . ونلاحظ أن الله تبارك وتعالى لم يأت بالمصدر ( علوهم ) ، ليقول ( وليتبروا علوهم تتبيرا ) ، وإنما قال ( وليتبروا ما ) . لأن المقصود تدميره هنا ، ليس العلو بحدّ ذاته ، وإنما تدمير ( ما ) علا عليه أو به أو فيه ، بنوا إسرائيل بامتلاكه والسيطرة عليه ، مما مكّنهم من الإفساد في الأرض ، أي تدمير كل ما يقع تحت كلمة ( ما ) ، مما يمتلكونه من مقومات لعلوهم . لتشمل المكان والزمان والكم لهذا العلو ، الموصوفة بالتفصيل في الآيتين ( 4و6) ، والتي تتلخص فيما يلي :
· تدمير القوة العسكرية المتطورة ، والتي مكنتهم من العلو واستمراريته ، ورد الكرة على أعدائهم .
· ذهاب الأموال والبنين والإمداد ، الذي كان يتوفر لهم في حروبهم السابقة .
· استلاب وتدمير الأمكنة ، التي يتمتعون فيها بالعلو ، في شتى بقاع الأرض .
لذلك جاء التعقيب ، بعد نهاية ذكر عقاب وعد الآخرة بإساءة الوجه ، وبدخول المسجد . وجاء هذا التعقيب مُتأخرا عنهما ، لأن زوال العلو بشكل نهائي ، سيكون كعاقبة أو نتيجة ، لنفاذ وعد الآخرة فيهم ، ويبدوا لي أن زوال العلو اليهودي في العالم ، سيأتي على مراحل ، ليبدأ في فلسطين ، ومن ثم يمتد لأمريكا وبريطانيا وفرنسا والغرب إجمالا ، بإذن الله .
وربما يذهب البعض إلى أن هذه العبارة ، جاءت للتعقيب على ما فعله هؤلاء العباد ، بعلو بني إسرائيل في وعد الآخرة ، على اعتبار أن الضمير واو الجماعة في ( وليتبّروا ) عائد على العباد . ولكن هذا غير صحيح ، لأن ذلك يعني استمرارية الخطاب ، فلو أن الخطاب لبني إسرائيل استمر ، لجاءت العبارة على النحو التالي ( وليتبّروا ـ ما علوتم ـ تتبيرا ) ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، لم يُذكر في التعقيب شيء يخص وعد الآخرة ، بذكر كلمة وعد مثلا ، كما جاء في التعقيب على الوعد الأولى ، بقوله ( وكان وعدا مفعولا ) ، وإنما جاء التعقيب الأخير ، على بني إسرائيل ، المذكورين بالاسم في الآية الرابعة ، لعود ضمير الغائب واو الجماعة عليهم ، في كلمة ( وليتبروا ) ، وكذلك على علوهم الكبير ، الموصوف في الآية الرابعة أيضا ، لاتصال ضمير الغائب العائد عليهم ( واو ) ، في كلمة ( علوا ) .
ولو فرضنا جدلا استمرارية الخطاب ، فهل يُعقل أن يُدمّر المسلمون ، ما تحصّلوا عليه من مقومات العلو الصهيوني ، بعد أن يكونوا قد أوقعوا فيهم ، القتل والتنكيل والسبي والنفي ، وتمّت لهم السيطرة الكاملة على الأرض بدخول القدس ؟! طبعا لا . بل على العكس تماما ، سيكونون بأمس الحاجة ، لما تحصّلوا عليه سالما من مال وعتاد ، لاستخدامه في المواجهة الحقيقة المقبلة مع الغرب .
وخلاصة القول :أن كل ما علا بنو إسرائيل عليه أو به أو فيه ، سيصله الدمار لا محالة ، لعموم لفظ العلو ، حتى علوهم في الغرب ، إذ أن الذي أبقى علوهم قائما ومستمرا في فلسطين ، هو علوهم في الغرب . ولذلك يصبح دمار الدول الغربية أمر محتما ، ليزول علو بني إسرائيل فيها أيضا بشكل نهائي ، وبذلك تنتفي تماما قدرتهم على العلو مرة أخرى ، إذ أن هذا العلو ، هو علوهم الأخير في الأرض وأن أفعالهم ستكون سببا في زوال علوهم هذا ، وستجد مزيد من تفصيل هذه العبارة ، في الجزء الثالث من الكتاب .
خاتمة السورة :
والآن لننتقل إلى خاتمة سورة الإسراء ، حيث ذُكر وعد الآخرة مرة أخرى . أما سبب مجيء هذه الآيات في آخر السورة فهو لسببين : أولا ؛ إظهار الإعجاز العددي في القرآن ، الذي سنظهره بإذن الله لاحقا ، ثانيا ؛ للتعقيب على الوعد الثاني في بني إسرائيل بعد نفاذه ، وما سيكون ممن علموا بتفاصيل هذا الوعد قبل نفاذه ، وما سيكون منهم بعد نفاذه ، تماما كما جاء به القرآن .
( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
مختصر ما قيل في هذه الآيات ، في تفسير الألوسي :
" ( جئنا بكم لفيفا ) ؛ أي مختلطين ، وفسره ابن عباس ( جميعا ) ، وبكم ؛ جاءت لتغليب المخاطبين على الغائبين ، ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) ؛ عود إلى شرح حال القرآن الكريم ، فهو مرتبط بقوله تعالى ، ( لئن اجتمعت الإنس والجن ) ، وهكذا طريقة العرب في كلامها تأخذ في شيء ، وتستطرد منه إلى آخر ، ثم إلى آخر ثم إلى آخر ، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا ، والحديث شجون ، فضمير الغائب للقرآن ، وقد حمله بعضهم على هذا ، أو للوعد المذكور آنفا ، أي وعد الآخرة الذي ذُكر في الآية السابقة .
والمراد بالحق الأول ؛ على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله ، وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها ، أي ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق المقتضى لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه ، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت ، ( وما أرسلناك إلا مبشرا ) ؛ للمطيع بالثواب ( ونذيرا ) ؛ وللعاصي من العقاب ، فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين .
( وقرءانا فرقناه ) ؛ أي أنزلناه منجما مفرّقا ( على مكث ) ؛ أي تؤدة وتأنّ ، فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم ، ( ونزلناه تنزيلا ) ؛ على حسب الحوادث والمصالح ، قل للذين كفروا ( آمنوا به ) أي بالقرآن ، ( أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله ) ؛ أي العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة ، من قبل تَنزُّل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي ، وأمارات النبوة ، وتمكنوا من تمييز الحق والباطل ، والُمحقّ والمُبطل ، أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك .
( إذا يتلى ) أي القرآن ، ( عليهم يخرون للأذقان ) ؛ يسقطون بسرعة على وجوههم ( سجدا ) تعظيما لأمر الله تعالى ، أو شكرا لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك ، وقال صاحب الفرائد ، المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف ، حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض ، وهو وجه حسن جدا ، أي يقعون على الأرض عند التحقيق ، والمراد تصوير تلك الحالة .
( ويقولون ) ؛ أي في سجودهم أو مطلقا : ( سبحان ربنا ) عن خلف وعده ، أو عما يفعل الكفرة من التكذيب ، ( إن كان وعد ربنا لمفعولا ) ، ( ويخرون للأذقان يبكون ) ؛ كرَّرَ الخرور للأذقان لاختلاف السبب ، فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد ، والثاني لما أثّر فيهم من مواعظ القرآن ، أي ساجدين باكين من خشية الله تعالى ، ولما كان البكاء ناشئا ، من الخشية الناشئة من التفكّر ، الذي يتجدّد ، جيء بالجملة الفعلية ( يبكون ) المفيدة للتجدد ، ( ويزيدهم ) ؛ القرآن بسماعهم له ، ( خشوعا ) لما يزيدهم علما ويقينا بأمر الله تعالى ، على ما حصل عندهم من الأدلة " . من تفسير الألوسي .
جِئْنَا بِكمْ لَفِيفًا :
هذا ما قيل في ( لسان العرب ) في كلمة لفيف ( مُجتَمِع ملتف من كل مكان ) ، و اللفيف ؛ ( القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا ) ، واللفيف ؛ ( ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ) ، واللفيف ؛ ( الجَمْع العظيم من أخلاط شتى فيهم الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف ) . والملاحظ أن معاني الكلمة جاءت بمعنى جَمْع لا جميع ، والحقيقة أن الذي تم على أرض الواقع ، هو المجيء والجمع من أماكن شتى . وأن مجيئهم جميعا لن يتحقق ، لأنهم يتمتّعون بصفات طفيلية ، لا تمكّنهم من ترك الدول الغربية الغنية ، والعودة إلى فلسطين .
أما الآيات (104-109) ، وكما عقب سبحانه بعد ذِكره لوعد الآخرة في بداية السورة . جاءت بعد ذِكره تعالى لوعد الآخرة ، في نهاية السورة ، تعقيبا على إنزاله هذا الوعد بنصه في القران ، كما أُنزل في كتاب موسى عليه السلام من قبل ، حيث قال سبحانه ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (106) أي وبالحق الذي أوجبته الحكمة الإلهية ، أنزلنا خبر هذا الوعد في القران ، الذي نزّله على عبده تنزيلا ، وفرّقه ليُقرأ على الناس على مكث ، وبالحقّ والصدق والخبر اليقين جاء هذا القران ، بهذا الوعد - مما سيكون من شأن بني إسرائيل – بكل تفاصيله وملابساته ، بما لا يدع مجالا للشك أو التقوّل .
والحكمة الإلهية التي اقتضت إنزاله ، كما جاء من نص الآيات ، هي :
أولا : زفّ البشرى للمؤمنين الصابرين المرابطين المتمسكين بدينهم المخلصين له ( وَيُبشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9 الإسراء ) ، بأن الله لن يخلف وعده الذي وعد ، وأن ما وعدهم الله ، لا محالة واقع ولو بعد حين ، ليحثهم على التمسك بدينهم والتحلي بالصبر ، وعدم الاستعجال لأمر الله والركون لليأس ، فكلما ادلهمت الخطوب بالمؤمنين وضاقت السبل – كما هذه الأيام – كان الفرج ، قاب قوسين أو أدنى ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ، جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ، فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ، وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110 يوسف ) .
وثانيا : إنذار لبني إسرائيل ( الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، والمكذبين والمتشكّكين ممن غرتهم الحياة ، وآمنوا بما يقوله الواقع ، مع عدم قراءتهم له بشكل صحيح ، أكثر من إيمانهم بالله ، وما جاء في كتابه الذي أنزل ، من غضب الله عليهم ، وتحذيرا لهم من عقابه في الدنيا والآخرة ( وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(10 الإسراء ) .
وثالثا : تحصّل الإيمان لمن لم يؤمن بعد ، وتجدّد إيمان المؤمنين ، وزيادةً في اطمئنان قلوبهم ، عند نفاذ هذا الوعد ، كما جاءت صفته في القرآن . حيث قال سبحانه للناس كافة ، على وجه التبكيت والتهديد شديد اللهجة ، ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا … ) من أمر هذا الوعد وهذا القرآن ، أنّ هذا الوعد لا محالة واقع ، وإيمانكم به وبالقرآن وعدمه سواء . وأن من كانوا قد علموه ، وسبق لهم الإيمان به وتصديقهم له قبل تحققه ، ( … إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبلِهِ … ) ، لإيمانهم بمن أنزله وصِدق ما جاء في كتابه ، سيكون هذا حالهم ، عند تحققه وبعد تحققه ( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) ، أي أنهم إذا تُليَ عليهم ذِكر هذا الوعد ، عند وبعد تحققه ، خرّوا للأذقان سجدا ، قائلين : ( سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) ، وسيكون هذا حالهم مرة تلو مرة ، كلما تُليت عليهم آيات هذا الوعد ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) وما أن يقوموا ، حتى لا تكاد تحملهم أرجلهم ، وتغلب عليهم مشاعرهم ، من شدّة التصديق وشدّة الإيمان ، فيعودوا ليقعوا ساجدين خاشعين ، لمن لا يُخلف وعده .
( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8 )
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ :
بعد نفاذ الوعد الثاني ، يوجه سبحانه الخطاب ، للبقية الباقية من بني إسرائيل ، الذين نجوا من هذا العذاب ، ولم يطلهم عقاب وعد الآخرة ، لعلّهم يعتبرون مما حصل ، بعد أن رأوا ما رأوا ، ما حلّ في بني قومهم ، لما علوا وأفسدوا في الأرض . فلعلهم يعودون إلى الله ، ويصلحون أمورهم ، فيتوب الله عليهم ويرحمهم . قال تعالى ( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ، وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56 الأعراف ) ، وعودتهم إلى الله تعني إعتناقهم للإسلام ، لقوله تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) … ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) … ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89 آل عمران ) . وهذا ما لم يفعلوه سابقا ، ولن يفعلوه مستقبلا ، فهم أعلنوا حربهم على الله ، قبل أن يعلنوها على أي شئ آخر ، وهيهات أن يتوبوا ، فقلوبهم كالحجارة ( … أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً … (74 البقرة ) …
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا :
لذلك سيستمرون بالإفساد ، وسيعودون إليه مرة تلو أخرى ، وهذا محمول على الشرط ، فإن عادوا للإفساد بعد تحقق الوعد الثاني ، عاد الله عليهم بالعقاب ، وستكون هذه العودة باتباعهم للدجال ، أكبر المفسدين في الأرض ، وهي العودة النهائية لهم ، ولا تتفق من حيث المواصفات والشروط مع كونها مرة من المرتين ، وستكون نهايتهم على مشارف بيت المقدس بباب ( لُدّ ) ، على يديّ عيسى عليه السلام ومن معه من المسلمين ، عند هروب الدجال إليها ، كما روي في نفس الحديث الصحيح الطويل ، الذي أوردنا بعضا منه في شرحنا لعبارة عبادا لنا ، جاء ما نصه " … فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ( أي الدجال ) إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ … فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ … " . ليعقّب سبحانه على ذلك بقوله ( … وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) ولا أسف ولا رحمة …
( إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ … وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ ) :
قال تعالى في سورة البقرة ( … وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) ، هذه الآية توضح حكما إلهيا مُلزما ، كان فيما سبق ، قد صدر بحق بني لإسرائيل ، عند كفرهم وقتلهم الأنبياء ، ونلاحظ أن المسكنة عُطفت على الذلة مباشرة ، وأنهما تلازما في الوقوع تحت الضرب ، في قوله تعالى ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) .
وفي سورة آل عمران ، أُعيد نفس النص السابق ، في قوله تعالى ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) ، ولكن بفصل الذلّة عن المسكنة ، مع ضرب كل منهما على حدة أولا ، ومن ثم إضافة الاستثناء التالي ( إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ ، وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ ) ، من ضرب الذلّة دون المسكنة ثانيا . ومن هنا نستطيع القول ، بأن الذلّة ستُرفع عنهم في حالتين : الحالة الأولى بحبل من الله ، والحالة الثانية بحبل من الناس ، وأن المسكنة ستبقى ملازمة لهم ، في حال رفعت الذلّة عنهم أم لم تُرفع .
جاء في معجم لسان العرب ، الذُّل نقيض العزّة ، وقوله تعالى ( وذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلَاً ) ، بمعنى سويت عناقيدها ودُلِّيت أي خُفِّضت ، وتذلَّلَ له أي خَضَع له ، وأن المعنى المُستفاد من الذّل هو الصغار والخضوع والانخفاض ، والنقيض لهذة الصفات ، هو الاستكبار والسطوة والارتفاع .
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ : أي أُلزموا الذِّلة والصغار ، فلا منعة لهم ، بمعنى لا قوة لهم لمنع الغير ، من استباحة دمائهم وأموالهم وأهليهم . وثبتت فيهم هذه الصفة ، ولازمتهم على مرّ العصور ، ولا خلاص لهم منها ، والسبب في ضربها عليهم ، هو استحقاقهم لغضب الله عليهم ، لكفرهم بآياته وقتلهم الأنبياء ، بالإضافة لما كان من عصيانهم لأوامره ، واعتدائهم على حدوده .
أَيْنَ مَا ثُقِفُوا : أينما وُجِدوا .
هنا لا بد لنا من وقفة مع هذه العبارة ، حيث يقول سبحانه ، ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ ، أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ ) ، فالذلة ملازمة لهم ، أينما أقاموا أو ارتحلوا ، وهذه الذلة ستُرفع عنهم مرتين ، لتُستبدل بالعلو ، أينما أقاموا أو ارتحلوا ، على امتداد سطح كوكب الأرض ، فالعلو اليهودي لمرتين ، حدث عارض في تاريخهم ومصيره إلى الزوال ، أو حالة استثنائية ، سيعيشها عامة الشعب اليهودي لمرتين أينما وُجدوا ، وستزول هذه الحالة عن عامة الشعب اليهودي كذلك ، عندما يأذن رب العزة بزوال علوهم ، في المرة الثانية ، وليعود كل يهود العالم أفرادا وجماعات ، في شتى بقاع الأرض ، إلى حالة الذلة ، التي هي في الأصل ، الحالة التي يستحقون بمنظور رب العزة .
والسؤال الآن ، لماذا كان هذا الفصل ، وهذا الاستثناء ؟
إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ ، وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ : الاستثناء هنا يفيد رفع حالة الذّلة ، لتصبح حالهم من ( الذل والصغار والخضوع والانخفاض ) ، إلى العكس تماما ، أي ( العز والاستكبار والسطوة والارتفاع ) ، وهذا مما يفيد معنى العلو ، وهذا الاستثناء يوضح أن العلو سيكون على حالين ، وأن العلو الأول ، كان بحبل الله ، أي باتكالهم على الله ، في نشأته وتمكينه من خلال الوحي والنبوة ، وأن العلو الثاني ، سيكون بحبل الناس ، أي باتكالهم على الناس ، في نشأته وتمكينه من خلال المساعدات المالية والعسكرية .
وتمعنّ في جمال ودقة التعبير القرآني ، واستخدام كلمة ( حبل ) في هذا المقام ، فالحبل يُرفع به دلو الماء ، من قعر البئر إلى قمته ، فهو وسيلة لانتشال الشيء ، من أدنى حالاته وإيصاله إلى أعلاها ، ومن قوله عليه الصلاة والسلام ، لصاحب الناقة " اعقل وتوكل " ، نجد أنه وسيلة ربط لإحكام الشيء وإبقاءه على حاله .
وهذا ما تحقق في الواقع ، فقد استطاع اليهود بعد أن كانوا في القاع ، من تسلق الحبل الأمريكي البريطاني ، ليصعدوا إلى قمة تمثال الحرية ، ومن ثم تناولوا الحبل ، وربطوه في قرنيّ التمثال ، وأخذوا طرفه الآخر ، ولفّوه سياجا منعيا حول دولتهم في فلسطين . حتى أصبح عامّة الأمريكيين عبيدا لليهود ، يقدّمون لهم القرابين التي نعلمها ، خشية أن يسحب اليهود ، طرف الحبل الذي يمسكونه بإحكام ، فيهوي رأس التمثال في البحر . وطرف الحبل الآخر ليس ببعيد عن أولئك العباد ، فما زال ينتظرهم ليسحبوه ، ليغرق التمثال وأهله .
نعلم أنّ الله قد حذّرهم من اتخاذ وكلاء غيره ، في افتتاحية السورة قائلا ( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) . في العلو الأول لهم ، كانوا قد طلبوا العون من الله ، لإقامة الدولة في الأرض المقدسة ، وكان اتكالهم على الله لإدامة وجودها ، ( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ (246 البقرة ) ، فآتاهم الله ما طلبوا ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16 الجاثية ) فجمع لهم الملك والنبوة ، في داود وسليمان عليهما السلام . وأما في العلو الثاني ، كانوا قد طلبوا العون من ( بلفور ) لإقامة الدولة ، والاتكال على بريطانيا لإيجادها ، وعلى أمريكا لإدامة وجودها ، فكان لهم ما أرادوا ، ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6 الإسراء ) .
ولو لم يأتي هذا الاستثناء في سورة آل عمران ، وبقي على حاله كما هو في سورة البقرة ، لتناقض ذلك مع قوله تعالى في سورة الإسراء ، ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ، مَرَّتَيْنِ ، ولَتَعْلُنِّ عُلُوَّاً كَبِيرَاً ) ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ : أي الحاجة للغير والتسول بلا خجل ، فلا كرامة ولا عزة ولا إباء لهم ، فلا يوجد يهودي - وإن كان غنيا - خاليا من زي الفقر والخضوع والمهانة ، ( وهكذا تكون الطفيليات ) ، بارعون في التسلق على ظهور غيرهم بمكرهم ودهائهم ، لقضاء حاجاتهم الدنيوية الدنيئة .
مجيء اليهود من الشتات :
يظنّ البعض ، بناءا على عبارة جئنا بكم لفيفا ، أن وعد الآخرة ما زال بعيدا عن التحقق ، كون تجمّع بني إسرائيل في فلسطين لم يكتمل بعد ، فالكثير منهم – تقريبا النصف – ما زال في الدول الغربية ، وهذا الظنّ في غير محلّه ، وينمّ عن عدم معرفة بحقيقة الشخصية اليهودية . فاليهود المنتشرون كالجراد ، في شرق العالم وغربه ، لن يهاجروا إلى فلسطين ، إلا في حالة واحدة إذا أُجبروا على ذلك مُكرهين ، أو دُمّر العالم بأسره ، ولم يبق إلا فلسطين ليهاجروا إليها ، وهذا غير وارد في المنظور القريب ، ودمار إسرائيل القادم ، سيكون سابقا ، بل سببا لانهيار العالم الغربي ودماره .
فاليهود كائنات طفيلية ، لا تستطيع العيش بمعزل عن الآخرين من غير اليهود ، وحتى الدولة اليهودية تتصف بنفس الصفة ، فهي لا تستطيع البقاء والمحافظة على وجودها وكيانها ، بدون المساعدة الخارجية من الدول الغربية ، والتسوّل الدائم والمستمر . وهذه هي المسكنة التي ضربها الله عليهم ، ولازمتهم على مرّ تاريخهم الطويل ، في غناهم وفقرهم وفي ذلّهم وعلوهم . ولا أدلّ على ذلك التسويق المذلّ والمخزي والمستمر ، للمحرقة النازية المبالغ فيها ، والتي جعلوا منها ، ومن تهمة معاداة السامية ، مسمار جحا في حلق الشعوب الغربية ، لابتزازها ونهب خيراتها وخاصة ألمانيا ، فهم عالة على كل من آواهم ، وهذا ما يشهد به تاريخهم ، وكان سببا – بالإضافة إلى غدرهم ومكرهم ومؤامراتهم - في اضطهادهم ، من قتل ونهب ونفي وتهجير .
واليهود هم أول من ابتكر الربا ويعيشون به وعليه ، والآن هم يملكون معظم بيوت المال العالمية إن لم تكن كلها ، حتى البنوك المركزية الأمريكية والبريطانية ، وحق إصدار النقد فيها ، فهل من المعقول أن يتركوا العجل الذهبي ، ويغادروا جنّة إلههم بمحض إرادتهم ؟! طبعا لا ، فهذا ضرب من الخيال . لذلك أستطيع الجزم – لما تقدم – بأنّ تجمّعهم في فلسطين بكلّهم وكليلهم لن يكون ، وللعلم فإن معظم المهاجرين اليهود ، كانوا من بلدان أوروبا الشرقية المعروفة بفقرها ، وأما الغربيون فأعدادهم قليلة جدا .
فضلا عن ذلك ،لم يأتي في مجمل معاني لفيفا ما يُفيد ، تجمّع كل اليهود في فلسطين ، كشرط لتحقّق وعد الآخرة ، والمعنى المستفاد منها هو الاختلاط في الأصول ، والجمع من أماكن مختلفة ، وهذا قد تحصّل ، فالدول التي هاجروا منها ، شملت معظم أرجاء المعمورة ، وهي غنيّة عن التعريف ، وهذا هو المراد .
أما فيما يخص السنن الإلهية في القرى الظالمة ، فقد وردت في هذا البحث الكثير من الآيات التي توضّحها ، فلا أسرع من الانتقام الإلهي ليحل بها . وظلم اليهود وعلوهم واستكبارهم ، وعنجهيّتهم وعنصريّتهم ، ومحاربتهم لله ورسوله وأولياؤه ، وقتل الأبرياء العزّل ، وهدم البيوت ، واستلاب الأراضي واقتلاع أشجارها واستيطانها ، ومنعهم مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وتدنيسها ، فاق كل تصوّر ، وأوجب عقابه سبحانه لهم منذ زمن بعيد . ولولا أن الحكيم العليم جلّت قدرته وعَظُم شأنه ، ضرب لهم موعد لن يُخلفوه ، وأن أرضه المقدسة تزخر بأوليائه الصالحين ، لأنزل الآن عليهم رجزا من السماء ، كما أنزله على أسلافهم ، لمجرد تبديلهم للقول والهيئة عند دخول القرية ، لعنهم الله بكفرهم قليلا ما يؤمنون . ولكنّ عقابهم سيكون مختلفا ، رحمة من ربك بعباده الصالحين هناك ، لكيلا يسوءهم العذاب ، فضلا عمّا أساء لهم أولئك الأوغاد . فليرتقبوا إنّا مرتقبون ( فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) ، و ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4 نوح ) .
تعني عملية ربط نفاذ وعد الآخرة ، بتجمّع كل اليهود في فلسطين ، أن وعد الآخرة ، لن يتحقق حتى قيام الساعة ، وهذا مخالف لما نراه على أرض الواقع ، حيث وصل الظلم اليهودي أقصى مداه ، ومخالف أيضا لما تحكيه النصوص ، إذ أن هناك عودة أخرى للإفساد ، وهناك عقاب آخر ، سينطق فيه الحجر والشجر ، قبل قيام الساعة ، التي أصبحت أشراطها الكبرى على الأبواب ، والناس في غفلة من أمرهم .
ما تُخبر عنه الآيات في السورة ، ليس وعدا بنصر للمؤمنين ، وإنما وعد استثنائي بعقاب بني إسرائيل :
قال تعالى ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (167 الأعراف ) تقرّر هذه الآية الكريمة ، بأن الله سيبعث على بني إسرائيل ، من يسومهم سوء العذاب إلى قيام الساعة . إذاً هناك استمرارية للبعث ، وهناك استمرارية للعذاب . وقد وقع العذاب فيهم ، على أيدي وثنيون ونصارى ومسلمون ، على مرّ تاريخهم الطويل . مما يؤكد أن العذاب الخاص بوعدي المرتين ، هو حالة استثنائية خاصة مختلفة ، عمّا تقرّره الآية أعلاه ، وأن الذين سيُوقعونه بهم أناس استثنائيون أيضا ، وهذا الاستثناء جاء لما يملكونه من صفات ، على رأسها صفة البأس الشديد ، لأن إفساد بني إسرائيل المقترن بالعلو في كلتا المرتين ، أعظم من أي إفساد سابق أو لاحق ، مما يتطلّب بعث أناس هم أهل ، لما يريده الله لبني إسرائيل ، من العذاب الشديد .
أُنزلت نصوص هذه النبوءة على موسى عليه السلام ، قبل 3 آلاف سنة تقريبا من الآن ، وقبل 1600سنة من مجيء الإسلام تقريبا ، وكُشفت نصوصها لبني إسرائيل ، بعد نكوصهم عن الدخول إلى فلسطين ، وقبل سنوات التحريم والتيه . وهي في الواقع ، تحكي حالتين استثنائيتين من تاريخ بني إسرائيل ، يتحصّل لهم فيهما علو أمميّ في فلسطين ، يشترط فيهما سبحانه ، الإحسان وتجنّب الإساءة ، فإن أحسنوا أحسن إليهم ، وإن أساءوا أزال علوهم ، وعذّبهم في الدنيا والآخرة . ووعدهم بإطالة أمد هذا العلو إليهم ، طالما هم محسنون ، والإساءة إليهم بعقابهم وبإزالة هذا العلو ، طالما هم يُسيئون ويُصرّون على الإساءة .
ولعلمه المسبق بإفسادهم بعد التمكن من العلو فيها في المرتين ، أخبرهم سبحانه بما سيكون منهم مستقبلا ، مؤكدا ذلك بِقَسَم ، تستشعر من خلاله التحدّي الإلهي لهم ، كونهم دائبون على تحدّيه ، بمحاربة رسله وأولياءه وشرائعه . وأنهم كلمّا علوا في الأرض ، سيفسدون فيها ، بالرغم من تحذيرهم هذا ، معلنين حربهم عليه سبحانه . فينالون غضبه وسخطه عليهم ، مما يستوجب العقاب . وعندما يتحصّل ذلك منهم ، وعدهم ربهم بأن يبعث عليهم في كل مرة ، عبادا له أولي بأس شديد ، ليعيدونهم إلى موقعهم الحقيقي من الإعراب بين الأمم .
لنؤكد هنا على أن ما تُخبر عنه سورة الإسراء حصرا ، هو وعد بعقاب وعذاب لليهود لإفسادهم واستعلائهم في الأرض ، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى ، وفي التعقيب على هذا الخبر ، كانت إحدى الحكم الإلهية للإخبار عنه ، هي زفّ البشرى للمؤمنين . أما نصر المؤمنين ، من أهل فلسطين ، الذين نصروا الله بصبرهم ورباطهم وثباتهم ، فالإخبار عنه والوعد به ، جاء في مواضع أخرى من القرآن ، فلا نخلط بين الأمرين .
جميع حقوق برمجة vBulletin محفوظة ©2025 ,لدى مؤسسة Jelsoft المحدودة.
جميع المواضيع و المشاركات المطروحة من الاعضاء لا تعبر بالضرورة عن رأي أصحاب شبكة المنتدى .