المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الملحدين في التراث..ابن الراوندي..أبي بكر الرازي..جابر بن حيان..



paneee
17-09-2006, 01:46 AM
حوار مع الملحدين في التراث: ابن الراوندي، أبو بكر الرازي..جابر بن حيان..
دار الفارابي..
تأليف الراحل: عصام محفوظ..
طبعته الأولى: عام 2004....
كتاب أكثر من قيم، يمتزج فيه الخيال بالسحر بالثقافة بالروحانية.....
حوار مع الملحدين في التراث: يلتقي المؤلف الراحل عصام محفوظ بعد أن عاد به الزمن لزمن المذكورين آنفاً... و بدأ بحثه عن إبن الراوندي.... دخل بغداد ووصفها بالشكل الذي كانت عليه آنذاك، و بدأ يسأل الوراقون و الناسخون اللذين ينسخون الكتب اين إبن الراوندي..أريد لقاء إبن الراوندي....أين كتبه..لم لا تنسخونها... يريد العثور عليه ليبدأ الحوار..لكن القدر الذي كتب هو انه لا يلاقيه..وذلك بسبب حياته القصيرة و المعلومات القليلة التي دونها التاريخ... و استطاع أن يلاقي شخصيات تاريخية و يتناقش معها بشأن إبن الراوندي..
ثم اتجه إلى زمن أبي بكر الرازي و كان ذلك في بغداد أيضاً و استطاع الوصول له، و التحاور مع أبي بكر بشأن فلسفته و أفكاره و اعتقاداته.
ثم و بعد نكسة البرامكة التي اتهم جابر بن حيان من قبل اخصامه انه له الفضل في قيامها، و بعد ان سلط هارون الرشيد السيف على كل من له علاقة بالثورة اختفى جابر بن حيان و لم يعد له وجود...
بعد بحث مطول استطاع عصام محفوظ كسب ثقة الجلداقي.. -و هو احد تلامذة جابر بن حيان و أول من دون سيرته- استطاع اقناعه بأن يقوده له..
و برغم الإختصاصات المختلفة لهؤلاء الثلاثة فإن الذي جمعهم في هذا الكتاب هو الأمر الأكثر حساسية في المجتمع الذي عاشت فيه، و في كل مجتمع....الدين...
أما الأسباب التي تدعو الملحدين للإلحاد فهي غالباً ما تكون مجسدة في عدة اسباب تفرض نفسها على المسلمين و تقذف بهم في هاوية التناقض و الإلحاد...
منها العمليات التي تدعا بالإصلاحية..و يكون نتيجتها فرض مذهب معين أو دين معين و ينتهي الأمر مع البعض بردود فعل إلحادية...
و بعض الأحيان هو الغرور بحد ذاته...
أما الأمر الأكثر شهرتاً هو ان الله إذا احب قوماص ابتلاهم، و تتناقض الأفكار و الإعتقادات في عقولهم، كيف أن الله احبنا و هو يزيدنا فقراص و قهراً يوماً بعد يوم.
و قد دون في كتاب ((النكت عن إبن الراوندي)) للنوبختي: أنه كان واقفاً بجوار رجل يبيع الباقلاء (
أي الفول)، فرأى غنياص يشتري الباقلاء، فيأكل لبها و يرمي قشرها، ثم رأى فقيراً يلتقط قشور الباقلاء ثم يأكلها حامداً شاكراً لله تعالى، فيقترب منه إبن الراوندي و يصفعه صفعة محرقة قائلاً: ((ما تجرأ الله علينا، معاشر المساكين، إلا منك و من أمثالك، إذ علم منكم الشكر على أكل القشور)).
و اشتهر الملحدين العرب بنوع خاص من الإلحاد يختلف عن الإلحاد الغربي –معظمهم على الأقل-..
فالغرب اشتهر عندهم الإلحاد تحت عنوان: إنكار وجود الله..
أما العرب فقد اشتهر تحد عنوان: إنكار وجود الأنبياء و الرسل، و حجتهم في ذلك أنه لو كانت الرسلالات صحيحة لما اختلفت من رسول لآخر، و تسببت بالحروب بين المذاهب المختلفة للدين الواحد، أما البديل عن الدين حسب زعم الملحدين فهو العقل لإجماع الأديان على انه عطية الله إلى الإنسان و هو يكفي لجعل الإنسان أن يميز بين الخير و الشرن متحملاً المسئولبة أمام الله، دون الحاجة إلى وساطة الانبياء، وقد اشتهر الملحدون العرب بتعظيمهم للع و تنزيهه سبحانه و تعالى...
و تتلخص فكرة الكتاب في اسئلة أو (حوار) يدور بين المؤلف الراحل عصام محفوظ، الشخصيات الإلحادية، أما الإجابات فهي نصوص تاريخية نقلها بحذافيرها و لم يزد شيئاً....
و كان كل واحد من ثلاثتهم يمتاز بنوع من الإلحاد، فجابر لم يتنكر بعكس زميليه للرسل و الرسالات السماوية، فقد كان متديناً، إلا أنه اصطدم بالسلفيين، في مجال علمه كعالم. و المعروف انه كان لاسم جابر في الشرق كما في الغرب، في علم الكيمياء، حتى القرن الثامن عشر للميلاد، الوقع نفسه لاسم ((أرسطو))، في علم المنطق. لكن عبقريته العلمية كانت بلغت به حد الإدعاء بغن الإنسان قادر على خلق كائن حي، عبر التركيب الصحيح للعناصر التي تخلق الحياة، كما يحاول علماء اليوم، فاعتبر السلفيون عمله تحدياص للخالق، مما اضطره، و هو المؤمن، أن يشك بالأساطير الدينية في مسئلة الخلق، فاستحق تهمة الإلحاد. لكن نظرته المتميزة سوف تكون حجر الزاوية في رسائل ((إخوان الصفاء))، الفلسفية.
أما أبو بكر الرازي، أشهر الأطباء في التاريخ الإسلامي، بعد ابن سيناء طبعاً، فقد اهتم بصحة المجتمع و الإنسان أكثر مما اهتم بصحة الأديان، و عندما كان يتعارض الاهتمامان كان ينحاز إلى الإنسان. و بالرغم من تشكيكه بالرسل و الرسالات الدينية، إلا أنه كان يحاول الاختيار من الأحكام الشرعية ما لا يتناقض و الأحكام العقلية.
و أما ابن الراوندي فهو الأيديولوجي المحترف. و برغم حياته القصيرة، استمر الجدل حول إلحاده بين كبار النقاد و الفلاسفة و الشعراء طوال قرنين. و كان ذهب في نقده للدين إلى ما سوف يذهب إليه الملاحدة الغربيون، بل إنه تجاوزهم في رفضه كل ما له علاقة بالدين الذي وصفهبأنه ((سحر و شعوذة)، حتى أن أشهر الملاحدة الغربيين، كارل ماركس، بدا أكثر اعتدالاً منه حين وصف الدين بأنه احتجاج على معاناة واقعية، و انه ((قلب عالم بلا قلب، و روح عالم بلا روح))، أما ابن الراوندي فلم يعترف بقلب و لا بروح في الدين. و لعله قصد، باستفزاز مجتمع، خلق صدمة وعي بالعقل الذي كان استبعده المتدينون.
و قبل أن انقل لكم الحوار مع جابر بن حيان –و هو الحوار الأخير في الكتاب بين الحوارات الثلاثة في الكتاب- لابد من ذكر نبذة عن عصام محفوظ وجدته في الشبكة:



عصام محفوظ:
من مواليد عام 1939 في جديدة مرجعيون جنوب لبنان.

استاذ التأليف الدرامي في الجامعة اللبنانية من عام 1969 حتى عام 1975.

عمل في صفحة "النهار" الثقافية من عام 1966 الى حين تقاعده عام 1996.

لم يكمل عصام محفوظ عامه السابع والستين، هو الذي كانت تليق به الحياة، بصخبها، بآمالها وخيباتها. رحل بعد اشهر من ملازمة الفراش، مشلولاً، شبه وحيد، مواجهاً الموت بما تبقى له من امل ضئيل. هذا الشاعر اللبناني والكاتب المسرحي والصحافي والمثقف الطليعي كان يستحق نهاية اقل وحشة وأقل برداً وفقراً. فهو كان من أبرز الكتّاب التزاماً لقضايا الإنسان المعاصر، نادى بالعدل ودعا الى الحلم وعمل على ترسيخ الثقافة الجديدة، جامعاً بين فكرة «تغيير» العالم و «تبديل» الحياة.

كان طبيعياً ان يستهل هذا الشاب القادم الى بيروت من الريف الجنوبي (جديدة مرجعيون) مطلع الستينات من القرن الماضي، مساره الطويل شاعراً، وشاعراً حديثاً، لم يتخل عن الوزن الحر وقصيدة التفعيلة التي كتبها على طريقته. ولم يمض وقت حتى التحق بمجلة «شعر» التي أسسها الشاعر يوسف الخال العام 1957، وأصبح من اعضائها البارزين. وفيها نشر قصائد كثيرة وكتب بعض افتتاحياتها، علاوة على بضعة «بيانات» خصوصاً عندما واجهت المجلة ازمة جوهرية.

خلال سنوات «شعر» أصدر محفوظ اربعة دواوين حملت معالم تجربته ذات الطابع المأسوي الخاص، ولكن المشرع على التراجيديا الإنسانية. وبدا شعره مشوباً بالإحساس العدمي بالحياة على رغم استعادته «البراءة» الأولى موئل خلاص في عالم شديد القسوة والإجحاف. في العام 1973 جمع محفوظ مختارات من شعره في ديوان عنوانه: «الموت الأول» وشاءه مرجعاً اخيراً لتجربته الشعرية بعدما استنكف عن طبع دواوينه طبعات جديدة.

في العام 1967 وبعيد هزيمة حزيران، كتب محفوظ آخر قصائده (وداع الأيام الستة) وبها «ودّع» عالم الشعر منتقلاً الى المسرح وبادئاً مرحلته الثانية. وبدا هذا الانتقال ناجماً عن ازمتين: ازمة شعرية تجلت في صميم التعبير اللغوي وفي استنفاد القصيدة الحرة والنثرية، وأزمة سياسية – وجودية كانت «الهزيمة» سببها الأول، في ما تركت من أثر سلبي في الذات الفردية والذات الجماعية، دافعة اياه، مثله مثل المثقفين العرب، الى اعادة النظر في الواقع المتردي، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وجد محفوظ في المسرح وعياً أعمق بالمأساة الإنسانية وتعدداً للذات عبر الذوات الأخرى، بل هو اختار المسرح وتخلى عن الشعر لأنه وجد ان «الكلام الشعري صار حاجزاً يمنع رؤية الخنجر الموجه الى الصدر» كما يقول. لكن محفوظ ظل شاعراً في مسرحه العبثي والسياسي، وأفاد من شعريته ليطوّر اللغة المسرحية محرراً إياها من الثقل الإنشائي والبلاغة المرهقة. وبدت مسرحيته الأولى «الزنزلخت» التي كتبها العام 1968 بمثابة حجر الزاوية الذي بُني عليه المسرح اللبناني الحديث، ومعها انتقل النص المسرحي من الترجمة والاقتباس الى التأليف. وحمل «سعدون» بطل هذه المسرحية ملامح البطل اللبناني والعربي، السلبي والوجودي، الذي يحاكمه مجانين في مصح على جريمة لم يقترفها. بعد هذه المسرحية توالت اعمال اخرى: القتل (1969)، الديكتاتور (69)، كارت بلانش (70)، لماذا؟ (71). اما آخر مسرحية كتبها قبل الحرب فكانت «حسن والبيك» (74) وكانت عبارة عن مونولوغ او مونودراما، وأداها حينذاك الفنان الشعبي «شوشو» (حسن علاء الدين).

لم يكن مستغرباً ان تكون «حسن والبيك» آخر اعمال محفوظ المسرحية في المعنى التام للمسرح. فمثلما دفعته «الهزيمة» الى هجر الشعر والتحول الى المسرح، دفعته الحرب اللبنانية الى هجر المسرح والانصراف إلى الصحافة. فهو لم يستطع استيعاب هذه الحرب، الأكثر عبثية من المسرح العبثي نفسه، والتي خيبت آماله كمثقف ملتزم و «إنسانوي»، واقعي ومثالي. هكذا انتقل الى الصحافة الثقافية في شكل احترافي وسرعان ما فرض حضوره كاتباً مجلّياً بمقالاته العميقة والشاملة وبحواراته البديعة والقضايا التي طرحها. وعندما ضاقت به بيروت الحرب سافر الى باريس وعمل اولاً في مجلة «المستقبل» ثم في «النهار العربي والدولي» ثم عاد الى لبنان وإلى «النهار» الصحيفة التي انطلق منها.

كان عصام محفوظ يعتبر مقالاته وحواراته الطويلة بمثابة «اعمال» نقدية يمكن اعتمادها كمراجع في حقولها، فدأب على جمعها في كتب، بلغت قرابة عشرين كتاباً ومن ابرزها حواراته المتخيلة مع رواد الفكر العربي القدامى، اضافة الى مقالاته وترجماته التي شملت الأدب المسرحي والروائي، عربياً وعالمياً.

«نهايتي باردة / مهجورة/ مثل بقايا مائدة»... هكذا كتب عصام محفوظ حادساً بموته شبه المأسوي الذي وضع حداً لحياة عاصفة بالأفكار والقضايا والهموم، حياة عاشها بتناقضاتها الجميلة ومعاركها وأوهامها.
لا ادعي أني فهمت كل حرف مما قاله جابر بن حيان..

(((((إستيقظ يا نائم، و كأنك إذا قرأت كتابي هذا،(ستقول ها أنا ذا). الحق انك هو. وحق سيدي، لترين العجائب و ما تسر به بعد خمس تصفيقات من كفيك، و أحمد الله على سوء حالك قبل ذلك)))))
جابر بن حيان...
في الطريق لجابر بن حيان:
كنت أعلم أنني لن أجد جابراً في بغداد، فبعد نكبة البرامكة لم يعد يعرف له عنوان، لأنه كان صديقاً ليحيى البرمكي و ابنيه الفضل و جعفر. و لم يكن هارون الرشيد يفرق في العداء بين البرامكة و أصحابهم، و بخاصة جابر بن حيان الذي اتهمه أخصامه بأنه صاحب الفضل في ثورة البرامكة التي كانوا سيستغلونها لتولي السلطة، لأنه جعلهم بواسطة كيميائه العجيبة يحولون المعادن الرخيصة إلى ذهب.
و كما في إختفاء-لأي شخص- يصبح الغختفاء مادة لنسج الأساطير، و بخاصة أن أسرار جابر الكيميائية تسمح بتغذية الأساطير عنه، فهو تارة ملك في بلاد فارس، أو ملك في الهند، و تارة هو في الجزيرة العربية يعمل على ثورة في الخفاء. و ساعد على هذه الأساطير ضبابية مولده، فالبعض قال أنه من طوس من إقليم خراسان في بلاد فارس، و البعض قال من طرطوس في بلاد الشام و قال البعض أنه من حران في جزيرة العرب. بل إن ليون الإفريقي سيقول عنه لاحقاً بأنه يوناني اعتنق الإسلام. لكن لقب الكوفي الذي سيحمله هو الذي جعلني اتوجه إلى الكوفة علني ألتقي بمن يفيدني عنه، و أن أفضل مكان لمثل هذا اللقاء المحتمل هو احد دكاكين الوراقين في الكوفة، لأن لإبن حيان مئات الكتب التي توزعها الناس في حياته.

لم يخب أملي، فبعد أن سألت العديدين عنه وكانوا يتهربون من الجواني، التقيت بشخص كان أحد تلاميذه، بل الأنجب بينهم و الأكثر وفاء لأنه سيكون أول من دون سيرة استاذه. كان اسمه الجلداقي..

لم يكشف الجلداقي لي من نفسه بسهولة، فقد كنت التقيت به مراراً في دكاكين الوراقين و تحدثت معه، كعادتي مع من كان يقبل الحديث عن جابر. و في كل مرة كان يشيد لي فيها بإبن جابر، كنت أدرك أنه يعرف مكانه، لكنه يخشى البوح به عملاً بوصية جابر الذي كان لايزال يتجنب الظهور، برغم وفاة هارون الرشيد المطالب برأسه، خوفاً من أن يكون لا يزال مطلوباً من خليفته.

وعندما اطمأن لي الجلداقي بعد ان تأكد له إني لا اعرف احداص في بغداد، و أنني قادم من بلاد الشام لأتزود بالمعلومات عن أستاذه، تطوع أن يقودني إليه.

في الطريق إلى بيت جابر لم يتوقف الجلداقي من سرد مآثر و غعجاب الناس به، عامة و خاصة.

و كان بإمكاني أن أجعله يجن فرحاً لو صارحته بأن اسم استاذه في أوروبا، و حتى القرن الثامن عشر، كان له في علم الكيمياء، وقع اسم أرسطو في علم المنطقن و أن ترجمة أعماله إلى اللاتيية لم تتوقف من القرن الثاني عشر. لكنني شئت أن استفسر عن أصل ابن حيان فأجابني دون حسم بأن استاذه لم يتكلم معه أبداً في هذا الموضوع، لكنه هو شخصياً يعتقد بأن جابر ولد في مدينة طوس، مسقط رأس الفردوسي صاحب ملحمة الشاهنامة. ولم أستغرب الأمر لأن تآليف إبن حيان الموسوعية كانت حقاً ملحمة ذلك العصر.

وعندما سألته عن سبب اختياره للكوفة مقاماً ردد ما كان جابر يقوله: (لصحة هوائها))، ثم بعد إلحاح صارحني بالسبب قائلاً بأن استاذه كان مقرباً من فرقة الإسماعيلية التي كانت تكم لآرائه في الإلهيات احتراماص خاصاً. ولهذا حمل لقب الصوفي إضافة إلى لقب الكوفي. وكانت الكوفة في زمن ملاحقة الرشيد له هي الاكثر أماناً لأن له فيها العديد من الأصدقاء، الذين سيؤلفون لاحقاً حلقة (إخوان الصفاء).

آنذاك خطر ببالي أن اضطهاده المزعوم لم يكن من قبل هارون الرشيد بقدر ماكان من الفرق الأخرى المناهضة للإسماعيلية، و عندما سألته في هذا وافقني و أخذ يروي عنه الأشعار التي ألفها البعض ضده و منها:
((هذا الذي بمقاله..كذب الذي سماك جابر)).
((ما أنت إلا كاسر..غر الأوائل و الاواخر)).

ثم فاجاني بقوله أن الذي اطلق عليه اسم جابر تلاميذه الذين أدهشهم بعلمه منذ البداية، فاعتبرو أنه الذي جبر العلم، أي أعاد تنظيمه، و المقصود علم الكيمياء.

عندما اقتربنا من بيت جابر سالته عن اسم الحي قال أنه (باب الشام)، و كنت سأقول بأن هذا الحي سوف يصبح اسمه لاحقاً (درب الذهب)، لأن احدى الروايات تقول بأنه، في أيام عز الدولة ابن معز الدولة، سيثر البعض في أنقاض البيت الذي كان يسكنه جابر ابن حيان، على هاون من الذهب زنته مايتا رطل تسلمه أبو اسبكتكين من أهل الكوفة، فأطلقوا على الحي اسم (باب الذهب).

توغلنا في شارع باب الشام حتى توقف الجلداقي أما بيت متواضع استقبلنا فيه أحد الخدم الذي قادنا رأساص إلى غرفة جابر.
لم أفاجأ بحال الغرفة الواسعة التي كان يعمل فيها جابر فحيث يعمل أحد العلماء تكون الفوضى أهم معالم ذلك المكان.

الحوار مع جابر بن حيان..
((إن العلم يصل إلى ما بعد الطبيعة فيستخرجه، فكيف لا يصل إلى الطبيعة؟؟؟))
جابر بن حيان..

عندما دخلنا إلى بيت عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي الصوفي قادنا الخادم إلى المعلم حيث يقضي جابر أغلب نهاره و ليله، ووجدت ما كنت أنتظر: الأنابيق و البوتقات و مختلف أنواع السوائل و المعادن و النباتات إلى جانب الكتب و أريكة في الزاوية واسعة تكفي لأن ينام عليها إذا غلبه التعب.

كان طفولي الوجه، دمث التعامل. استقبلنا بترحاب و كان استقباله لتلميذه الجلداقي حاراً، تخلله لوم و عتاب، ربما لانقطاع التلميذ عنه مدة أكثر مما يجب. و في أثناء كنتأتصفح ما وقع تحت يدي من كتب، و فوجشت بكتاب من تأليف جابر اسمه ((في الشعر)). عندما جلسنا، و أعاد الترحاب، و سألني عن الشام، و كان عرف ذلك من تلميذه قلت:


عرفت عنك يا أستاذ أنك ألفت في كل فنون العلم لكنني لم أعلم اهتمامك بالشعر.

 قال: الشعر يا أخي نافع في مواقع ترتيب الحروف.
 كما الموسيقى.
 أما أمر الموسيقى فقد ذكرناه في أحد كتبنا، و هو كتاب بديع لا يعمل أحد من الناس مثله، و قد استوفينا في كل أغراضه. و ليس يمكن لأحد أن يعلم الموسيقى إلا بعد علم العروض و التصريف، فعلم النغم و الإيقاع و علم الشعر و صنعته، هما المعرفة بأوزانها الهوائية، و كلاهما قائم على علم الحروف.
 ماذا تقصد يا أستاذ بعلم الحروف.
 قد عملنا رسالة مفردة في وضع الحروف لو اتُفِقَ عليها وقتاً من الأوقات لأغنت الناس من التصحيف و غيرها، و عرَفتهم بكل أصوات الطير و الطيران.
 تقصد لغة عالمية، مفهومة من جميع الكائنات في أي مكان؟
 نعم، لأن تركيب الكلام يجب أن يكون مساوياً لكل ما في العالم من نبات و حيوان و حجر. و من المفارقات أن يقول بعض الفلاسفة في زماننا بأن يُعمل كل عمل بلسانه. و ليس هذا هو القول الصواب.
 و ما الخطأ في هذا القول، يا أستاذ، و في العالم ألسنة كثيرة؟
 العالم هو إنسان، و الإنسان له خاصة أكثر الأفعال و أكبرها.
 لنعد إلى الحروف يا أستاذي.
 و مع أن الحروف من تأليف الانسان إلا إنها واقعة في الطبع. لأن الكلام و نظم الحروف له طبع، كما كل موجود له طبيعة، و الكلام وجود.
 لكن ما العلاقة يا أستاذ، بين الطبيعة و الحروف؟
 إن فعل الخلق في الكون قائم على حركة و سكون، و الكلام هو تأليف عددي من حركة و سكون. و لما وجدنا هذا في الكلام، و كنا بيَنا أن الكلام كان على حروف، و لا كلام إلا بتأليف الحروف، فحري أن يكون تصريف الطبائع كتصريف الحروف.
 إنه علم يا أستاذ، في المقارنة يصعب الوصول إليه.
 الوصول إليه يتطلب أن يجمع إلى وقت ينكشف لك فيه ما ينكشف من هذه العلوم بحول الله و قدرته.
 هل أنت مؤمن بالله، يا أستاذ؟
 و إنما كلامي من لدنه، سبحانه و تعالى.
 فكيف يتهمك البعض بالإلحاد؟
 ان من لم يقرأ كتبي كلها، بكل مافيها من تفصيلات و تعليقات، مكتفياً ببعضها دون بعضها الآخر، قمين بأن يكون فكرة خاطئة.
 كم كتاباً ألفت، يا أستاذ؟
 ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة و ثلاثمائة رسالة في الصنائع، ثم ألفت في الطب كتاباً عظيماً ثم كتباً صغارا. ثم ألفت كتب المنطق حسب تسمية ارسطو، ثم ألفت كتاباً في الزهد و في العزائم، و ألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتباً كثيرة. ثم ألفت خمسمائة كتاب نقضاً على الفلاسفة. ثم ألفت في صنعة الكيمياء كتاباً يعرف بكتاب الملك.
 و لم تذكر كتابك الأشهر: (إخراج ما في القوة إلى الفعل؟؟؟)
 ليس على وجه الأرض كتاباً مثل كتابنا هذا، و لا أُلف، و لا يؤَلف آخر مثله إلى الأبد.
 فكيف تبخل بعد هذا، يا أستاذ، على من جاء يطلب العلم، كما أبلغني تلميذك الجلداقي الذي ظل يلاحقك زماناً حتى رضيت بتعليمه.
 هنا يلتف جابر حول تلميذه و يقول: إنما أردت أن أختبرك، و أعلمُ حقيقة مكان الإدراك منك، فتكون من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك؟
 ولماذا الحذر يا أستاذ؟
 من المفترض كتمان هذا العلم و تحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، على أن لا نكتمه على أهله، لأن وضع الأشياء في محلها من الأمور الواجبة، و لأن في إذاعته خراب العالم، و في كتمانه عن أهله تضييع لهم.
 ماذا تقصد بخراب العالم يا أستاذ؟
 لأاننا رأينا أن الحكمة صارت في زماننا مهدة، لا سيما و طلبة هذا الزمان أجهل من الحيوان، فإنهم ما بين سوقة و باعة و أصحاب دهاء و شعوذة، لايذكرون من الكيمياء سوى الذهب.
 تقصد مسألة تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. فهل بالإمكان ذلك، يا أستاذ؟
 للعالِ و ليس للمتعلم. لقد بان لنا أن في الأشياء كلها وجوداً للأشياء كلها، على وجوه مختلفة من الإستخراجز كما النار كامنة في الحجر لكنها لا تظهر، وكذلك الشمع في النحل. و الحجر لا يتحول ناراً بدون قدح الزند. و لو أننا عصرنا ألف نحلة لما استخرجنا دقناً واحداً من الشمع، لكن يتم ذلك التدبير على قصد مستقيم.
 هذا عمل الطبيعة يا أستاذ؟
 في قدرة الإنسان أن يعمل كعمل الطبيعة، فكما جاز للطبيعة أن تحول الأشياء بعضها إلى بعض، فتحول التراب و الماء إلى نباتاً، و يتحول النبات في النحل عسلاً و شمعاً، و يتحول الرصاص في جوف الأرض ذهباً، كذلك يمكن للعالَم في الكيمياء أن يحاكي الطبيعة في صنعها. فيئدي بها نفس الذي تؤديه الطبيعة، و في مدة أقصر.
 كيف؟
 إذا اهتدى إلى الوسيلة التي بها يخرج شيئ من شيئ، و الوسيلة هي الأكسير.
 الأكسير، يا أستاذنا. كم سمعنا عن هذا ولم نفهم شيئاً. فما هو الأكسير يا أستاذ؟
 الأكسير هو المادة التي تساعد على تحويل الأشياء من وجه إلى وجه.
 أعرف. لكن كيف يتم إستحضار هذا الأكسير؟
 الأكسير أنواع، و يشتق من النبات أو المعدن أو الحجر، مفردة أو مجتمعة ولكل تركيب منها فعل.
 فعل على الأشياء أم على الناس، يا أستاذ؟
 لا فرق بين رد النحاس إلى ذهب أو رد المريض إلى الصحة.
 أيستخدم أيضاً كدواء؟
 و حق سيدي! لقد خلصت به كثيرين. و هذا ظاهر بين الناس جميعاً. لقد كنت يوماً من الأيام، بعد ظهور أمري بهذا في خدمة سيدي يحيى بن خالد البرمكي و كانت له جارية نفيسة وقعت فجاة مريضة و لم تنفع كل العقاقير و العزائم في شفائها. فسألني أن أراها فرأيت امرأة ميتة خاملة القوة جداً. و كان معي من هذا الأكسير شيئ فسقيتها منه وزن حبتين. فوالله و حق سيدي لقد سترت وجهي عن هذه الجارية لأنها عادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية. فأكب يحيى على رجلي يقبلها.
 هذا عملٌ يكاد لا يصدق، يا أستاذ.
 و كنت يوماً خارجاً من منزلي قاصداً دار سيدي جعفر...
 جعفر البرمكي..
 جعفر الصادق، صلوات الله عليه، فإذا أنا بإنسان قد انتفخ جانبه الأيمن كله و اخضر حتى صار كالسلقة، فسألت عن حاله فقيل لي أن أفعى نهشته الساعة. فسقيته وزن حبتين بماء بارد، فوالله العظيم لقد رأيت لونه الأخضر قد حال عما كان عليه و عاد إلى لون بدنه، ثم ضمُرت النفخة حتى لم يبقى منها شيئ البتة. و تكلم و قام و انصرف سالماً.
 الحق أن أكسيرك معجزة يا أستاذ.
 و هو يدفع جميع السموم، و ينبغي أن يُسقى في جميعها وزن حبة في الأشياء الباردة بماء العسل أو ما جرى مجراه.
 و كيف عملته، يا أستاذ؟
 قد عملته بيدي، و بعقلي من قبل ذلك، و بحثت عنه حتى صح، و امتحنته فما كذب.
 لماذا لم تنشر في الناس سر تركيبه، يا أستاذ؟
 لولا أنيي أمرت أن أعطي الناس بقدر استحقاقهم لكشفت من نور الحكمة ما يكون معه الشفاء الأقصى. ولكني أمرت بذلك لما فيه حكمة، لأن العلم يا أخي لا يحمله الإنسان إلا على قدر طاقته و إلا أحرقه. كما لا يقدر إناء أن يستوعب أكثر من سعته، و لا دابة أن تحمل أكثر من قدرتها.
 لكن الذي يؤثر عنك، يا أستاذي، أنك ذهبت إلى أبعد من ذلك محاولاً صنع كائن حي، فهل الأمر صحيح.
 أعلم، عافاك الله، أن الوصول لذلك شديد، و فيه تعسف على سالكه بعيد، إلا أن يكون من أهل العزم و التمسك بما وعده الله-عز و جل- على الصبر.
 على الصبر، أم على منافسة قدرة الله على الخلق؟
 حاشا الله. إن الله هو الذي وهب الإنسان العقل، و العقل علة كل شيئ. العقل نور و العلم نتيجة، وهكذا كل علم نور. و كيفما قلبت في المعادلة ستجد النتيجة نفسها.
 هذا يعني أن نور العقل هو نور الله، و في هذا أنت لا تنافس الله، بل تستغل عطاياه. يالك من عقل مادي مليئ باللاهوت يا أستاذ، ألهذا حملت أيضاً لقب الصوفي؟
 أنا عالم بالتصوف و ليس صوفياً. و العالم بالتصوف فيلسوف، و أنا فيلسوف, و أهل الشرع ينكرون ذلك على الفيلسوف، و إنما الشرع الأول هو للفلاسفة. و الله حث أولي الألباب على استخدام البابهم، أي عقولهم.
 و ما العلاقة هذا بخلق الإنسان، يا أستاذ؟
 لقد رددت على اللذين زعموا بأن أولى مراحل الخلق طينة أزلية قديمة.
 هل تقصد بنى آدم، عليه السلام؟
 و زعموا ان تلك الطينة هي عنصر البرايا.
 نعم هذا ما تعلمناه.
 محال علينا أن نتصور بخيالنا تلك الطينة.
 لماذا؟
 لأنها لم تكن موصوفة بصفة ما توصف به الأجسام.
 إنما صارت بعد ذلك جسماً بالصفات التي توصف بها الأجسام، أي بالأبعاد الثلاثة للجسم.
 لكن هذا القول هو بمثابة قولنا أن شيئاً خرج من لاشيئ، فهل كان يجوز عند العقل أن يخلق الماء من نفس الشيئ الذي خلقت منه النار؟
 ولماذا لا يكون كذلك؟
 لأن الكيفيات الأربع التي نشات منها الطبائع الأربع التي تكون الأجسام، أي النار و الهواء و الماء و التراب، لا يمكن أن تكون صادرة عن الهيولي الواحدة الازلية. فلكل عنصر من هذه العناصر هيولي خاصة به. فهل كان يجوز أن يُخلق الماء من نفس الشيئ الذي خلقت منه النار؟
 ولماذا لا؟ هكذا أراد الله.
 إننا لا نتكلم عن الله، بل عن جسم الإنسان الذي يفترض أنه من عناصر مختلفة و لكل عنصر هيولاه الخاصة التي ينبثق منها. مثالاً: إذا كانت نطفة الإنسان هي هيولي الإنسان، و نطفة الحمار هي هيولي الحمار، فمحال أن تقبل نطفة الإنسان صورة الحمار، لانها ليست بهيولي لها. و لا أن تقبل نطفة الحمار صورة الإنسان. و على هذا القياس وجب أن يكون الشيئ الذي يقبل صورة النار التي هي هيولى له، لا يقبل صورة الماء.
 ولماذا لا يتحول الماء فيصير ناراً؟
 قد يحدث هذا لكن من خلال كيفيته هو. فالماء يستحيل أن يتحو إلى نار إلا إذا تحول أولاً إلى بخار، ثم تحول البخار إلى هواء، ثم تحول الهواء إلى نار. لأن الهيولي الخاصة هي الحاملة لكيفيلات الماء و أحواله.
 إلام تريد أن تخلص، يا أستاذ؟
 إن قوانين الكيف و الكم هي التي تحدد تشكل الأجسام. و هذا الأمر في مقدور الإنسان أن يعمله فيخلق ما تخلقه الطبيعة.
 بما في ذلك خلق كائن حي؟
 إن كل كائن حي هو حصيلة اوازن بين خمسة عناصر: الجوهر و الكم و الكيف و المكان و الزمان، و الجوهر هو طريقة تركيب الطبائع، فإذا حملها دفعة كانت من صنع الخالق عز و جل، أما فعلنا نحن فيقوم على حمل الطبائع على دفعات. فافهم ذلك لتكون لك فيه دربة، و شارك المصنوع بغير المصنوع.
 أي أن الإنسان يشارك الله في الصنع؟
 معاذ الله. بل هو يشارك الطبيعة فيقلدها.
 و هل يصل العلم إلى مستوى استخراج ما في الطبيعة؟
 إن العلم يصل إلى مابعد الطبيعة و يستخرجه فكيف لا يصل إلي الطبيعة؟
 تقصد العلم المتفوق!
 نعم، إن من يوكل إليه أمر تكوين الإنسان وجب أن يدرس جميع العلوم بما في ذلك علوم الآداب و العلوم العلوية، أو غير ذلك مما يحتاجه المكون ليكون درباً. لأنه لا يفعل سوى أن يُخرج الموجود بالقوة إلى الموجود بالفعل.
 و ما الفارق بين الأمرين؟
 الموجود بالقوة هو الموجود بالإحتمال لكنه قابل للوجود في المستقبل. و أما الوجود بالفعل فهو الموجود في الزمان الحاضر.
 هنا تدخل الجلداقي ليقول: يصعب تصور خلق كائن حي إلا من ذكر و أنثى.
 و قلت أنا مؤكداً:
 نعم. يستحيل أن اتصور خلق انسان إلا من رجل و امرأة.
 فقال جابر بن حيان: و لماذا يحتم خلق الإنسان من رجل و امرأة؟
 هذه ما شهده العالم منذ بدأ الخلق.
 وماذا إذا هذه المقدمة ليست بصحيحة؟ لقد رصد المنجمون الفلك قبل ألوف السنين، فوجدوه على مثال واحد. لكن لا يجب أن نأخذ هذا كمبدأ إلا على سبيل الإحتمال المرجح، لا على سبيل الضرورة و اليقين، إذ ما أدرانا ألا يكون هذا الكون مسبوقاً بحالة تختلف عن الحالة التي نشهدها. كما القول بأنه مادام الآدميون هم على هذه الصورة التي نراها، فمحال على إنسان أن يجيئ على غير هذه الصورة؟ كلا فليس هذا هو الحكم الذي يقبله العقل، مادامت خبرتنا مقصورة على بعض العالم دون بعضه، و على فترة محدودة من الزمن دون بقية الزمان. فإنه قد يكون هناك موجودات مخالف حكمها عن أحكامنا على ما شهدنا، بسبب تقصيرنا عن إدراك جميع الموجدات. و لماذا يجب أن لا يكون خلق الإنسان إلا مع إبتداء العالم، و لماذا لا يكون الإنسان قد خلق بعد خلق الكون بزمن طويل.
 تقصد ليس في الأسبوع الأول من خلق الكون؟ استغفر اله لي و لك يا استاذ.
توقف الأستاذ عن الكلام و نهض ليأتي بقلة الماء فيصب في أقداحنا، ربما لأن ريقه نشف. نظرت أنا إلى الجلداقي فرأيته مبهوراً بأستاذه، و كدت أقول له بأن كل الآراء التي يقولها أستاذه سيبرهن على صحتها العلماء بعد ألف سنة.
سألنا جابر إن كان احدنا جائعاً فهز الجلداقي برأسه نفياً، أما أنا فكنت جائعاً فقط لاستزيد من معرفتي بهذا العقل الذي استحق شهرته في العالم، كأحد كبار العلماء في تاريخ العلم.
 فقلت: ما رأيك يا أستاذ، في العلماء من معاصريك؟
 إن العالِم إذا كان منصفاً، فإنه ليس يتأثر بغيره إذا غذا ذكره، أو احتج عليع أوله، و أخذ حقه من خصومه ووفاهم حقوقهم. و إلا فقد وقع في العناد حماقة.
 طالما هذا هو رأيك، يا أستاذ، فهل يمكن القول أنك كنت منصفاً في تعظيم نفسك؟
 و حق سيدي لولا هذه الكتب التي كتبناهالما وصلتم إلى حرف من هذا العلم، لا أنت و لا غيرك. إن مثلها لا يخرج إلا في كل برهة عظيمة من الزمان.
 لكنها ليست مفهومة كفاية، يا أستاذ؟
 ليس يظفر بما فيهامن العلوم إلا أخواننا في العلم، فأما سواه من إخواننا اللذين لم ندخر هذا من أجله، و لا صنفناه لهم، إنما يظفرون منها بظاهرها.
 و ماذا يفيدهم ظاهرها؟
 قال (أرسطوطاليس) في الكتب التي سماها ((الفلسفة الخارجية)) و أمر يُعطاها العامة من الناس، قال: إنما ينبغي للعالم أن يعللهم بها، و يشغلهم بقرائتها عن أذية الناس. فالجهل عند البعض أشر من الكَلَبْ.
 لكني أذكر كلمة مأثورة تقول: ((الجهل خير من العلم الناقص)).
 سكت جابر بن حيان و تلفت نحو الجلداقي، الذي لم يقل شيئاً، فقلت أنا: أفهم من كلامك، يا أستاذ. أنك تميل، مثل أرسطو، إلى التمييز بين الناس، راغباً في ما قد أسميه الإخوانية، و هذا ما يمنعك من كشف كل ما لديك.
 نعم يوجد أغراض لايمكن كشفها لك، ولو كشفت لك ما هو فيها لن تفهمها حتى تكون مثل جابر بن حيان. فإذا كنت مثله لم تحتج إلى أن يكشف لك عنها، كما لم يحتج هو إلى ذلك،فاعلم.
 فكيف تكبر الإخوانية، يا أستاذ؟
 إنه ربما إنقلب الواحد بعد الواحد نجيباً، فليس كل الناس يولدون مثل أفلاطون في تمام التكون و المعرفة بالحق. لكن في هذا الأمر يمر التلميذ باطوار و رتب، فلا يرتفع إلى رتبة حتى يكون أنهى ما قبلها فيصبح أستاذاً من الاستاذين.
 ألهذا كنت قاسياً في تقبل من يطلب العلم لديك، فتطلب منه أن يقرأ كتبك أكثر من مرة؟
 هنا تولى الجلداقي الشرح فقال: ثلاث مرات: الأولى للتثبت من صحة ألفاظ النص و معاني تلك الألفاظ. الثانية لدراسة النص و الوصول إلى مدلولاته البعيدة الخفية. و الثالة لتبويب المعاني بجمع الشبيه إلى شبيه و الموازنة بين المتباينة منها.
 و اضاف إبن حيان: ليس شعري كيف يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب (الحدود)) من كتبنا. فإذا قرأته يا أخي فلا تجعل قرائتك له كقرائة سائر الكتب، بل يجب أن تكون قرائتك له كل ساعة، فالطالب الدَرِب يصبح عالماً درَباً. و من لم يكن درباً لم يكن عالماً.
 فإذا فعل التلميذ ذلك؟
 يمتحن الأستاذ قريحة المتعلم و مقدار ما فيه من القبول.
 فإذا وجد فيه الصفات المطلوبة؟
 لم يزل الأستاذ يلقنه العلم أولاً أولاً و كلما احتمل زيادة زاده.
 فإذا نجح في ذلك؟
 تدرج به إلى المرتبة التي تخوله أن يكون في عداد الأستاذين.
 فإذا صار في عداد الأستاذين؟
 أصبح واجبه أن يفعل مع تلميذه مثلما فعل أستاذه معه. لأن الأستاذ الذي يغفل عن تلميذه يكون خائنا. و الخائن لا يؤتمن. و من لا يؤتمن لا يؤخذ عنه علم، لأن العالم لا يكون إلا صادقاً.
 و هل فعلت أنت مع أستاذك كما تطلب من التلميذ أن يفعله مع استاذه؟
 كنت لأستاذي أوفى الاوفياء بل إنني كتبت كتاباً سميته ((كتاب الراهب)) أنسب إليه ماتعلمته منه.
 هل كان أستاذك الأول راهباً؟
 كان أستاذي الأول هو السيد حربي، قدس الله روحه، و هو الذي عرفني بالراهب، فصرت بما أودعني من العلم مشتقاً منه كالإبن من الأب.
 بلغني أن أستاذك حربي أخذ العلم عن اليوناني ((مريانس)) الذي كان خالد بن يزيد قد استقدمه من اليونان بعد أن أنفذ في طلبه، ووضع عليه العيون و الأرصاد حتى أخذه من طريق بيت المقدس، و كان يهدي إليه كل سنة ذهباً كثيراً.
 هذا تبليغ صحيح.
 ولماذا يفعل خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان هذا؟ و كيف ترك مسألة الخلافة ليشتغل بالكيمياء؟
 هنا تدخل الجلداقي ليشرح الأمر، فقال: كان خالد حقاً هو أول من أشاع علم الكيمياء بين المسلمين بفضل اليوناني مريانس هذا. و أما عن مسألة الخلافة فليس هو الذي انصرف عنها، بل هي التي انصرفت عنه.
 قلت: كيف؟
 قال الجلداقي: سئل خالد في ذلك فقال: إني طمعت في الخلافة فاختُزلت دوني، فلم أجد عوضاً إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة..
 صناعة الكيمياء؟
 فلا أُحوج أحداً عرفني يوماً أن عرفته إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة.
 قلت: كم أن سحر الذهب طغى على هذا العلم.
 قال الجلداقي: و كثر المدعون و الواهمون فيه و تنازعوا و تخاصموا دون دراية، ماجعل أستاذي جابر ينشر كتابه ((الرحمة)).
 قلت: و كنت صادقاً طبعاً فيما قدمته لهم من نتائج تجاربك.
 قال جابر: يجب أن تعلم اننا نذكر خواص ما رأيناه فقط، دون ما سمعناه، بعد أن امتحنَاه و جربناه، فما صح أوردناه، و ما بطل رفضناه. و ما استخرجناه نحن أيضاً قاسيناه على أقوال هؤلاء القوم.
 قال الجلداقي: و كان تأثير الذهب كبيراً على تفتيح العقول العلمية.
 قلت لإبن حيان: و ماذا عن أستاذك الراهب؟
 لما مات أستاذي حربي خلفه هذا الراهب الذي كان أخذ العلم أيضاً عن مريانس. و كانت نفسي متشوقة للتعرف إليه فخرجت في طلبه في بعض بوادي الشام، كما قيل لي، فظفرت به.
 إذا كان لك أن تلخص لنا ما استفدته من تجارب ذلك الراهب، فماذا تقول، يا أستاذ؟
 قال جابر: يجب أن تفرد ما أخرجه لك التعلم، كما أخرجه لك الحدس لتطلب مثل ما أخرجه لي بإضافة الصورة، فيصير لك الشكلان شكلاً واحداً.
 هل تكمن قوة العلم، يا استاذ، في الموهبة أم في العمل؟
 قوة العمل إنما تكون بكثرة الرياضة في أصول تلك الصناعة.
 لكن الموهبة تساعد على ذلك؟
 النفس تكون جاهلة بأنها عالمة، فالرياضة تكشفها.
 إنك تتحدث عن النفس أيضاً لدى الحيوان و النبات، يا أستاذ، بل إنك تضفي الصفات البشرية على كل ما في الطبيعة بما في ذلك الجماد الذي تضفي عليه صفات التزاوج و التوالد و الموت و الحياة، فكيف يتوافق ذلك مع حديثك عن النفس لدى الإنسان التي هي فاعلة و قادرة و عاملة.
 لأن لكل ما في الوجود نفس حقاً، باستثناء الإنسان الذي له نفس و عقل. و إنما هي العلاقة بين النفس و العقل لدى الإنسان التي تجعل لمعنى النفس هنا معنى مختلفاً عما هي لدى الحيوان أو الجماد. أما عن الصفات فإنني أقول: إن في الأشياء كلها وجود الأشياء كلها، لكن على وجوه من الإخراج مختلفة.
 هل هذا سبب تعمقك أيضاً باللاهوت، الذي قد يستغربه من لا يسمع بك إلا كعالم، يا أستاذ؟
 ليس يخضع الوجود المطلق لما تخضع له الموجودات المتناهية، و هنا الفارق بين المتناهي و اللامتناهي، لكن مع الإعتراف بالعلاقة بينهما.
 و في ما تفيد هذه العلاقة، أو الإعتراف بهذه العلاقة، يا أستاذ؟
 هو الإعتراف بوحدة الكون. لان العلم الواحد يختص بموضوع واحد، لكن الإختصاص، على علو فائدته يظل ناقصاً إذا لم يشمل ما وراء هذا العلم، للعلاقة الوثيقة بين كل الأشياء في العالم، طالما أن العلم واحد.
 لكن أليس شيئاً غريباً، يا أستاذ، أن تصنف كتاباً في موضوع الطلاسم و تقرَ بأنه علم، اعني كتاب ((البدوح))؟
 البدوح لفظة تجمع الأحرف: الباء و الدال و الواو و الحاء. و هذه الاحرف مجتمعة لها قوة تفيد في سرعة الإنجاز. فالأحرف، كما سبق أن بيَنا، هي رموز للأشياء و الأشياء لها علاقة بالأفلاك في الكون عبر الأبراج، و الأبراج لها تأثير على الأفعال الإنسانية.
 هل تؤمن بذلك، يا أستاذ؟
 إذا وصل الإنسان نفسه بالأعلى بلغ من العلم غايته. فوحق سيدي، أنه لغاية العلم، و لو شئت لبسطته لك في ما لا آخر له من الكلام.
 لكن ماذا عن الطلسم؟
 بالطلسم يُخرج العالَم ما يريد إخراجه من أشياء كانت كوامن، و ظهورها رهن بفعل الطلسم.
 كيف؟
 عن طريق المماثلة أو عن طريق المقابلة. و المماثلة هي مشاكلة الأشياء بعضها لبعض، مثل الكبريت للنار،و أما المقابلة فهي مباينة الأشياء بعضها لبعض، فالمثيل يستخدم لاستجلاب مثيله. و أما المقابل فيستخدم لإبعاد مقابله. و الطلاسم لها تأثير في الإستجلاب و في الإستبعاد، إضافة إلى تأثير العقاقير.
 هل هذا العلم تقبلته عن غيرك أم هو من وضعك؟
 تقبلته عن أستاذي، و هو شيخ جليل أظهر لي من علومه الكثير، سألني يوماً: يا جابر، أتدري لم يسمَى الطلسم طلسماً؟ فقلت: لا و الله يا مولاي ما أدري. فقال فكَر فيه، فإنه من علمك. ففكرت فيه سنة فلم أعلم ما هو، فقلت: لا و الله يا مولاي ما أدري ما هو. فقال: لولا أني غرستك بيدي و أنشأتك أولاً و آخراً إلى وقت هذا، لقلت إنك مظلم، ويلك إقلبه. فقلت: نعم يا مولاي، فإذا معناه مسلط، من جهة الغلبة و التسلط، فخريت ساجداً، فقال: يا جابر، ما تحتاج إلى هذا كله...فاشرح هذا في كتاب. و هذا ما فعلته. فالطلسم، عافاك الله، مُسلط في فعله، قاهر ازاء الماثلة و المقابلة.


**********************************
فجأة توقف جابر عن الكلام معي، لكنه راح يتمتم بصوت خافت لنفسه، و تبينت في التمتمة الحروف الأربعة في كلمة ((البدوح)) و كأنه يمتحن أيضاً فعاليتها، مخصصاً لكل حرف نغمة خاصة. و بدا انه انشغل عنا بحروفه. لم يستغرب التلميذ، ربما لأنه اعتاد ذلك التصرف من استاذه. أما أنا فقد رحت أتسائل عما يجعل هذا العقل العلمي يجمع بين المادي و النفسي، بين العقلاني و الروحاني، ثم قلت في نفسي: لعل المنطق واحد. و الله أعلم.

Son_OF_Liberty
17-09-2006, 03:54 AM
ماقرأت الموضوع لكن شدني للموضوع هو أسم أبو بكر الرازي
هل هو نفسه فخر الدين أبو بكر الرازي؟؟
إن كان هو فهذا خطأ لأنه كان من الفرق الضاله ولم يكن ملحدا
معتزلي أو أشاعري ممن لديهم ضلال في توحيد الاسماء والصفات فقط لكنه يعد إمام في الفقه لذلك لايصح لهذا المؤلف التكلم عليه (&)