المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دروس في موسيقى الشعر العربي



صالح الشاعر
04-01-2007, 11:06 PM
-1-
مقدمة

الشعر العربي شعر غنائي قائم على أصول موسيقية مضبوطة ضبطا محكما ، وقيم صوتية متكاملة تكاملا تاما لم تتوافر لأي شعر بلغة أخرى.وقد كان الشعراء العرب يعلمون أسس الشعر وقواعده وأوزانه وقوافيه بالطبع والسليقة ، ولم يكونوا بحال يزنون التفعيلات أو يعدونها أو يساوون الأشطر ، بل كان ذلك طبعا وسليقة وفطرة متأصلة في نفوسهم كما هو حال لغتهم المعلومة لجميعهم بالفطرة دون دراسة ، وحتى دون وعي.

ولا بد للشعر من موسيقى ؛ لأن الموسيقى من أبرز علامات الشعر ، وهي التي تميزه عن الكلام المعتاد ، وعن غيره من الفنون الأدبية ، ولها أثر كبير في تنسيق البناء العام للنص الشعري.

ولاختيار القالب الموسيقي للشعر وتوزيعه أثر كبير في الدلالة على انفعالات الأديب ومشاعره ، بل إن هذا الاختيار هو جزء أساسي من الشخصية الفنية للشاعر.

-2-
أقسام الموسيقى

وتنقسم موسيقى الشعر – كموضوع دراسة – إلى نوعين :

الأول : الموسيقى الداخلية ، وهي موسيقى خفية لا تدرك للوهلة الأولى ، وتقوم على عدة أشياء منها : اختيار الشاعر لألفاظه ، وتفاعل الألفاظ مع بعضها – وهو ما ينتج عن إهماله حدوث التنافر – واتساق الصور الفنية في النص، وتناسب الأساليب المستخدمة وتكاملها ، وترجع الموسيقى الداخلية إجمالا إلى عدة أسباب ، كالملكة الشعرية للشاعر ومدى نضجها، واستغراق الشاعر في تجربته الشعورية من عدمه، وصدقه الفني ، ومدى تمكنه من أدوات الشعر الفنية.

الثاني : الموسيقى الخارجية ، وهي الشكل الخارجي للقصيدة المعتمد على الوزن والقافية ، وهي في شعرنا العربي أنواع كثيرة ، منها قديم أصيل ، ومنها جديد محدث ، ومنها الجيد والرديء ، والمرتفع والساقط ، والمتتبع لنتاج الشعراء على اختلاف عصورهم ومذاهبهم يخرج من تتبعه بأن الموسيقى الخارجية للشعر قد اتخذت إحدى عشرة صورة مختلفة ، وهذا تفصيلها:

الصورة الأولى: الشعر المعتمد على أحد الأوزان الخليلية (العروضية) الستة عشر ، [الطويل – البسيط – الكامل – الرمل – المتقارب – الخفيف – الوافر – المنسرح – المديد – الهزج – المقتضب – المتدارك – السريع – المجتث – المضارع – الرجز] بصورها المعروفة ، وبقافية موحدة في القصيدة كلها ، ويمثل هذه الصورة أغلب الشعر العربي القديم ، وهو ما اصطلح على تسميته بـ(الشعر العمودي) ، وأمثلته كثيرة جدا ، منها قول شوقي (من الكامل) :
عيسى ، سبيلك رحمة ومحبة***في العالمين وعصمة وسلامُ
ما كنت سفاك الدماء ولا امرءًا***هان الضعاف عليه والأيتامُ
واليوم يهتف بالصليب عصائبٌ***هم للإله وروحه ظُلاَّمُ
خلطوا صليبك والخناجر والمُدى***كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ

الصورة الثانية : الشعر المعتمد على بحر واحد ولكنه متعدد القافية ، فهو يقسم إلى مقطوعات ، كل مقطوعة منها بيتان أو ثلاثة أو أكثر لها قافية واحدة تختلف عن المقطوعات الأخرى، ومن أمثلة هذه الصورة قول ميخائيل نعيمة في قصيدته (النهر المتجمد) (مجزوء الكامل) :
يا نهر هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير؟
أم قد هرمت وخار عزمك فانثنيت عن المسير؟
بالأمس كنتَ مرنَّمًا بين الحدائق والزهور
تتلو على الدنيا وما فيها أحاديث الدهور
بالأمس كنت إذا أتيتك باكيًا سّلّيتني
واليوم صرت إذا أتيتك ضاحكًا أبكيتني

الصورة الثالثة: ما يسمى بـ(المشطور المزدوج)، وهو أن تكون القصيدة من بحر واحد ومصرعة في جميع أبياتها بحيث يكون كل بيت متحد القافية في شطريه مختلفًا عن بقية أبيات القصيدة، وأكثر ما يكون ذلك في الرجز، كأرجوزة أبي العتاهية المشهورة والتي سماها (ذات الأمثال) ويقول فيها:
إن الشباب حجة التصابي***روائح الجنة في الشبابِ
حسبك مما تبتغيه القوتُ***ما أكثر القوت لمن يموتُ
هي المقادير فلمني أو فذرْ***إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القدرْ

وقد تكون هذه الصورة في غير الأراجيز، كما فعل أحمد زكي أبو شادي في قصيدة (الشريد) [من بحر الرمل]، قال:
جُنَّ قلبي في التياع المضطربْ***وبكى قلبي بصمت المنتحبْ
وتولَّتني من الحيرة ما لا***يعرفُ الإيمان صلحًا أو قتالا
فإذا بي كدتُ لا أعرفُ نفسي***وكأنَّ الرزء تكويني وحسِّي
وإذا الإيمانُ عبءٌ لي جديدْ***حينما الإيمان ملكٌ للسعيدْ

صالح الشاعر
18-01-2007, 11:24 AM
الصورة الرابعة : ما كان على نظام الموشحات ، بأن يتكون من مطلع وقفل وغصن ودور وسمط وبيت وخرجة على النظام المخصوص في ذلك، كقول إبراهيم بن سهل الإشبيلي [من بحر الرمل] :
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى*قلب صبٍّ حلّه عن مكنسِ
فهو في حرٍّ وخفقٍ مثلما*لعبت ريح الصبا بالقبَسٍ
يا بدورًا أطلعت يومَ النوى*غررًا تسلك في نهج الغرَرْ
ما لقلبي في الهوى ذنبٌ سوى*منكم الحسن ومن عيني النظَرْ
أجتني اللذات مكلوم الجوى*والتذاذي من حبيبي بالفِكَرْ
كلّما أشكوه وجدي بسما*كالربى بالعارض المنبجسِ
إذ يقيم القطرُ فيها مأتما*وهْي من بهجتها في عرسِ

صالح الشاعر
04-02-2007, 11:01 PM
الصورة الخامسة : ما كان على وزن واحد ولكن مع اتباع النظام الغربي فيما يُعرف بـ(تعانق القوافي) ، وهو أن تكون القصيدة مقسمة إلى وحدات ، كل وحدة أربعة أشطر (أو أبيات) يتفق الأول منها مع الثالث في قافيته ، والثاني مع الرابع ، وفي شعر إبراهيم ناجي الكثير من القصائد على هذه الصورة ، كقوله في (عاصفة) [من الرمل] :

صورة للموج أم صورة نفس**حينما النفس من اليأس تثور
قد علا الموج وقد عزَّ التأسّي**لم يعد إلا عبابٌ وصخور
زلزل البحر على راكبه **مثلما زلزل قلبٌ ضجِرُ
سفرٌ صار على طالبه**ركبَ ضنكٍ .. والمنايا سفرُ

فهذه صورة تعانق القوافي في الأشطر ، ومن صور تعانق القوافي في الأبيات قول ابراهيم المازني [من الخفيف]:

لا تزر إن قضيتُ قبري ولا تبكِ عليه كسائر الأصحابِ
خلِّ عنك الوفاء واسمع لداعي الغدر فينا فلات حين وفاءِ
وقبيحٌ أن تسحب الذيل مختالاً وتمشي على رقاب الصحابِ
مزعجًا بالسلام روح كريمٍ .. أنت غيَّبتهُ بجوف العراءِ

صالح الشاعر
15-02-2007, 09:46 PM
الصورة السادسة : ما اعتمد على تفعيلة بحر واحد ولكن مع نظام معين مبني على تساوي الأشطر وتقابل القوافي في نظام منسجم محكم ، كقول حسن كامل الصيرفي [وقد استعمل تفعيلة الرمل (فاعلاتن)] :

ليتني البسمة تعلو شفتيكِ ... مثلما تعلو طيورٌ فوق أيكِ
تتنزَّى وهي تشدو ........... في السكون
تختفي حينًا وتبدو ........... في الغصون

... إلخ

صالح الشاعر
04-03-2007, 10:50 PM
الصورة السابعة : الشعر المسمط ، وهو أن تتألف القصيدة من أدوار ، كل دور يتألف من أربعة أشطر أو أكثر متفقة في قافيتها ما عدا الشطر الأخير منها الذي يجب أن يوافق قافية العمود ذي القافية الثابتة التي بدأ بها الشاعر غالبًا ، ويمثل لها البعض بمسمطة أبي نواس المربعة التي يقول فيها :

سلاف دنٍّ .. كشمس دجنٍ .. كدمع جفنٍ .. لخمر عدنِ
طبيخ شمسٍ .. كلون ورس .. ربيب فرسٍ .. حليف سجنِ

وهي محتملة أن تكون مسمطة ، والأقرب في نظري أن تكون قصيدة عمودية من مخلع البسيط لكنها اعتمدت في جميع أبياتها على الترصيع ، بمعنى تعمد تقسيم البيت إلى مقاطع مسجعة ، ومما هو مسمط بلا خلاف مخمسة أبي نواس التي يقول فيها : [من السريع]
ما روض ريحانكم الزاهرُ .. وما شذى نشركم العاطرُ
وحقِّ وجدي والهوى قاهرُ .. مذ غبتمو لم يبقَ لي ناظرُ
والقلب لا سالٍ ولا صابرُ
قالت ألا لا تلِجنْ دارنا .. وكابد الأشواق من أجلنا
وصبر على مرِّ الجف والضنا .. ولا تمرَّنَّ على بيتنا
إن أبانا رجلٌ غائرُ