المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصغير والبحر (من الواقع السوادني )



عزمي المعز
05-02-2007, 05:40 PM
أرضُ مُبتلة وقطرات عالقة بالحشائش ورياح تلفح بلطف تداعب الأوراق وتحمل رائحة المانجو إلي الأنوف ..
جنينة السني في أواخر شهر يوليو وظل المانجو يملأ الأرجاء ويفيض علي الجوار , وبعض الأغصان تخُر سجوداً كأنها تتعبد لثمارها المصفرة ..
وذلك الرمل الناعم يمتد كبساط وشي تتخلله بعض شجيرات الصفصاف . وصوت عمال الكمائن يدنو ويبتعد راضخاً لمشيئة الرياح وبعض طرقات وابورات الجاز تختلط بأصوات العمال لتشكل لوحة دونها الخلود في إنسجام وطمأنينة ..
الشمس تستأذن في الخروج بعد أن طالتها يد الغيوم لتضفي رونق ومهابة وكبرياء..
النيل يجري في سكون وقدر , يحمل معه طلاسمه تلك وأساطيره التي لا تنتهي , حمل الشوق كله والماضي بعصير ذكرياته التي لن تعود,
حمل في أحشائه قصص وجثث وأناشيد يرددها إرتطام الموج كلما عبثت بصفحته الأقدار ..
وصوت جدي (طه الأمين) عليه رحمة الله مايزال يتردد , أذكره جيداً بملامحه البشوشة الصارمة وجبينه الوضاء وإبتسامته تلك ..
ممسكاً سبحته البقسية تلك وبدا يداعبها في سكون وحضرة ..
- ياولدي البحر ده ما تقرب منو ..
قالها بشئ لم أعهده وكأنما طلب البكاء , نبراته ونظراته وعبراته والحكمة يشع بريقها من عينين كحلهما زمن وقدم وتجربة ..
لم أكن أدري وأنا إبن الأثنا عشر شتاءاً ما يدور في ذلك الخلد الخالد .. قد كنت أحلم في ذلك الزمان بشبكة ألقها في غيابة ذلك القدر لتحمل لي جرة المارد اللعين .. أو سمكة تحمل في أحشائها خاتم سليمان ..
لم أخفي تعلقي بالنيل وقد سمعت أحدهم يروي حكاية (عجل بني إسرائيل ) عندما جمع موسي السامري الذهب من نساء بني إسرائيل فصنع منه عجلا وأخذ حفنة من التراب الذي وطأه المَلك الرسول (جبريل)..ومن المعروف إن موضع وطأ جبريل عليه السلام لابد أن تدب فيه الحياة ,فصار للعجل خوار ..فأتخذوه إلهاً ..
دهشت عندما تَطرق القاص إلي أن النبي موسي عليه السلام نثر ذهب العجل في النيل فتفرق ذهبه من منبع النيل حتي مصبه وأضفي للرمل تلألؤاً وعربدة ...
كنا صغار للغاية عندما سمعنا حكاية (محمد صالح ود الأسطي) عليه رحمة الله مع التمساح ..
قيل لنا إن محمد صالح ود الأسطي كان في الجيش (عسكري) ..عندما كان التمساح يخرج من النيل ليتصيد الفرص والخلائق ..
قاطعتُ السارد بشغف ..
- الكلام ده حصل في أربجي ...
- لا لا حصل يا سيدي في حتة في الشمالية ..
كانت عيناه تتسعان فنشعر بمهابة خالصة يخالجنا شعور بالرهبة عندما يغلظ صوته الأبح ...
- ود فلان قالو التمساح ختفو .......
- بقرة فلان التمساح أكلا ....
الذعر قد دب في أرجاء السكان , والتمساح ذاع صيته عند العموم و أخباره بين صغير وكبير .....وقد قيل لنا إن طوله يتعدي الستة أمتار وأحشائه تعج بالذهب والأجساد ...
- التمساح الليلة بلع ليهو عروس من الشرق ......
النساء يتناقلن أخباره بشغف ومبالغة ...
- أكان ما شفتي يا صفية, العروس قالو دابا جديدة ,عرسا ما تم الشهر عاد داك يا الدهب , يدها ديل قالو مليانات دهب شئ خواتم وشئ غوايش وداك يا السلسل لكن تقولي شنو مخير الله ...قالو كانت مع راجلا في البحر العِصَيَر كدي في أمانة الله.. التمساح طلع ليهم من نص البحر ختف البنية من القيفة .....
حز في نفس الكثيرين خبر تلكم العروس ..مما دفع الرجال لإستنفار الجهود لدفع التمساح أو الفتك به خوفاً من تكرار مأساة تلكم العروس
الحربة ما تنفع معاهو ....
قالها (حاج إبراهيم)..
- الداهي دا مافي شيتاً نافع معاهو غير البندقية ....
- لكن يا حاج إبراهيم البندقية يجيبوها من وين ...
- بكلم ليكم محمد صالح الفي المركز ...
أطل عليهم محمد صالح شاب في أوائل عقده الثالث ببذته العسكرية وطربوشه العمامي (من زمن الديش بالردا) كما يقول عمنا قسم السيد أطال الله في عمره. حليق الرأس بارز الصدر يبرز من عينيه نبوغ وحذر وكبرياء ...
- حقو في الأول يا جماعة نحفر لينا حفرة جنب القيفة التمساح الشي العارفو عنو إنو بطلع بالليل علي القيفة .. الحفرة دي أنا بكون مدسي فوقا وتقومو تسقفوها بالعيدان متي ما الداهي دا بقي فوق لي بفرغ فيهو البندقية أصلو غير كده ما في حاجة بتكتلو ....
وتم حفر الحفرة ودخل محمد صالح ومعه آمال معلقة عليه وبندقية وبالفعل تم سقف الحفرة كما أوصي ...
الليل قد أرخي سدوله ومحمد صالح ما يزال قابعاً في حفرته منتظراً ذلك التمساح اللعين ..والناس بين ترقب ولهفة ودعاء ....
بدت الخُطي مثقلة ورائحة كريهة تقترب..أدرك أن ساعة الصفر قد حانت , الرائحة ما تزال سرت عند ذلك القابع في الحفرة رعشة ومهابة والرائحة تكاد تزكم أنفه ..وصوت زفيره يزيد من تلك المهابة
أغصان السقف تتحرك بعنف ....
التمساح من فوقه يحاول الفتك به .. الرائحة تزداد والزفير يتزايد والدم قد تجمد في العروق الدعاء ما يزال والترقب واللهفة..............
بدت بضع دمعات تستأذن في الخروج عندما رأي الحاضرين التمساح بأم أعينهم ينهش في الحفرة ...
صوت طلقات ثلاث .... وصوت مهيب يرتطم بالماء
عندما بلغت الخامسة عشر أيقنت ما كان يرمي إليه جدي عندما سمعت أن (عمر ود دقق) غرق ....
كنا في أوائل شهر مايو عندما سمعنا خبر وفاته ..
لم أعد أذكر ملامحه , ولكنها تتراءي لي كأنها سراب أذكر شعره الناعم المسدل وعينيه الصغيرتين وإبتسامته تلك ..
الرجال القابعون بين ترقب وإنتظار وعيون الليل يخبو نورها في تلك الأدمع يال تلك الذكري ..
أذكر عندما تشاجرت معه ذلك اليوم وشجج رأسه بطوبة .. أغمي عليه وهرعت مسرعاً دون هدي فقد كان الخوف هو الطابع والمليك .
نزل بعضهم للماء بحثاً عن الجثمان .....
- الزول قلع ... الزول قلع ..
تمت مراسم دفنه كما يجب وما تزال ذكراه تتردد بين الفينة والأخري..
وما بين تمساح محمد صالح وسحار جنينة السني الذي كان رمزاً من رموز تشكيل الحدود , فعندما سمعنا قصة سحار جنينة السني المزعوم لم تخالجنا الرغبة البتة في الذهاب إلي معقل السحار علي حد تصورنا لما سمعنا عنه من بشاعة لا يمكن وصفها بأسنانه الحادة وعينيه اللتين تشبهان إلي حد كبير عيني الذئب كما يصور لنا خيالنا الصغير وشعره الكثيف ورائحته النتنة ..
مرت الأعوام سريعاً وما تزال حكاية سحار جنينة السني عالقة بالأذهان ..نبتسم حيال ذلك ونتمني أن نعود إلي تلك الحقبة ......
ليلة من ليالي الصيف والقمر يسحر ببريقه الذي يسلب الألباب.. مانزال نخرج بالعود والشاي في مثل هذه الأيام من الشهر البعض يغني بشجو جميل والبقية تستمع في طرب ,كنا نجلس في تلك الرمال التي إمتزجت بخيوط نور القمر مع إنعكاس ضوئه في صفحة ذلك الخلود, بدت لتلك اللوحة السيريالية نقوشاً عندما نوقد نارنا ونجتمع حولها والظل من خلفنا يلهو كما يشاء يتضخم أحياناً وأحياناً يسكن راضخاً لمشيئتنا كلما ضحكنا أو تحدثنا بهدوء ..
نقضي ساعات في سمرنا بين ماض نفتقده وحاضر نعيشه ومستقبل ننشده , كان وقتها (بكري) يغني بطرب يميل رأسه يمنة يسرة عندما رأينا بقعة ضوء تقترب منا رويداً رويدا ...
- بسم الله الرحمن الرحيم ..ده أبلمبة ..
قالها (خالد)..
سألته مستغرباً..
- أبلمبة ده شنو ....
رد علي بذهول ...
- شيطان ...شيطان ...
تذكرت حديث شيخ أيوب ساعتها وبدأت أقرأ آية الكرسي ...
عندما إستقر بنا الحال عند بنية الشيخ طه البشير شممنا رائحة الحنوط دب الذعر فينا وبلغت القلوب حداً لا يمكن وصفه مدائن الجن كما قال عنها شيخ أيوب تمنيت بين نفسي لو لم آتي إلي هنا ..
تذكرت في تلك اللحظة حكاية حكاها شيخ أيوب عندما كنت عنده ذات مرة , فقد إستهويت حديث الجن ..
شعرنا بطمأنينة نسبية عندما بلغنا أطراف الحلة وبدأ بعضنا بالسؤال
- شميت الريحة ..
قالها (محمد)
رد عليه (خالد) بعد أن شهق بعمق وأخذ يزفرها بهدوء ..
- آاي شميتها ...
قررنا بعد أن حدثتهم بحديث شيخ أيوب عن الجن وتلك المنطقة التي تعتبر مدائن لهم ..عدم العودة ثانية ...
إتضحت عندي رؤية جدي (طه) ..أبتسمت حيال ذلك وبدأت أحدق في تلكم النجمات وكأن جدي ببشاشته تلك يردد في هدوئه الذي عهدته قائلاًًًًً .........
- أهـا ما قلت ليك

عزمي المعز
06-02-2007, 08:52 AM
أرضٌ صُلبة , وأشواقٌ تحمل رائحة الدواية واللوح والتُقابة .أطفالٌ دون العاشرة يرددون بإنسجام متبعثر ..
كلا سيعلمون ..ثم كلا سيعلمون ..
أصواتهم تدنوا وتبتعد راضخة لمشيئة الريح , الأصوات تغيبُ عن الأذن ولكن موسيقاها ماتزال تدندن في مخيلتي ..
كانوا يجلسون مشكلين حلقة يترنحون ويتمايلون وهم يرتلون آي الله , وأذن الشيخ التي لاتخطئ تتربص بهم وتراقبهم في خفاء وإستتار , كان صباحي الوجه تبدو علي سيماه نزعة تقي راسخة , تتفلت من بين يديه مسبحته البقسية المترعة بالأوساخ , يردد بعض الأذكار في تؤدة وخشوع يزيح مقدمة (طاقيته الخضراء) فينكشف شعره الأبيض الناعم فيحك مقدمة رأسه بدلال , ويداعب شعره حديث النبت , يخطئ أحدهم ..
- والملائكة صفاً لا يتكلمون ..
ويرددها ثانية مغمضاً عينيه في خشوع مرنحاً جسده الثقيل مداعباً بيده اليسري موغلاً أصابعها في لُج لحيته الكثيفة , فيرددها الطفل الذي إرتسمت علي وجهه أمارات البراءة وأوساخ الشتاء السوداء التي لطخت خديه الناعمين ..
وصوت جدي (طه الأمين ) مايزال يتردد في مخيلتي أذكره جيداً بملامحه الصادقة البشوشة الصارمة بجبينه الوضاء وإبتسامته التي لا تخطأها القلوب ..
- ياولدي إنت حقو من بكرة تمشي الخلوة عشان تحفظ القرأن ..القرأن نور يا ولدي يضو ليك حياتك دنيتك وآخرتك ..
رددها بشئ من القداسة والوعظ بقلب ينبعث منه نور إلهي وحكمة خلفتها سنون التجارب ..
لم أكن أدري وأنا الخماسي آنذاك مرمي حديثه النابع من أضلع كواها الشوق , وأعتجر بين طياتها الحكمة والموعظة ..
حدثني بعدها عن (طه حسين) ذلك الفتي الكفيف الذي حفظ القرأن في مثل سني آنذاك , وفي مثل سني أيضاً حفظ ألفية إبن مالك علي يد القاضي وكيف كان يري أخوه الأزهري عندما كان يأتي فينال من الإحتفاء والثناء والإحترام ..

عزمي المعز
06-02-2007, 08:53 AM
ثم إستطرد جدي بعد أن تنحنح وأستوي علي فراشه ..
- كان داير يبقي زي أخوهو ..
لم أخفي سعادتي وأنا أسمع قصة (طه حسين) إلي ان رفع الصوت منادياً للصلاة , تنحنح جدي ساعتها فأدركت إنه سينوي القيام لأداء الصلاة , أحضرت له إبريق الماء فمضمض فمه ثم توضأ وأنا بين مراقباً له ومنتظراً بقية قصة طه حسين قاطع تأملاتي بحدة ..
- قوم ياولدي إتوضا وتعال صلي معاي ..
بدأت أتوضأ أو هكذا خُيل لي وجدي يبتسم حيال ذلك ويوجهني بكلماته ..
- غَسِل كرعينك كويس عشان النار ما تلمسن ..
وفي جو لم يخلو من المراقبة كنت أفرضها علي جدي وأري خشوعه بادياً علي وجهه وهم يغمغم بكلمات لم أعهدها , بدأت أقلده في حركاته , أركع حين يركع , وأسجد حين يسجد , وأنتصب واقفاً حين يقف , وسلمت حين سلم , إبتسم وهو ينظر إلي يحرك شفتيه بإنتظام يداعب بإبهامه الأيمن رؤوس أنامله , هز رأسه بإيماءة هادئة فعلمت حينها إننا فرغنا من صلاتنا ..
أشار إلي بضرورة الذهاب إلي الخلوة بعدها , وأنا بين نفسي أمنيها أن تتم قصة طه حسين .
بدأت إستعدادتي مبكرة لإنطلاقي للخلوة , فأخذت لوح (خالد) وغُسلت جلابية (الجمعة) وكذلك الطاقية ..
- من بكرة حتمشي خلوة الشيخ طه ..
هكذا رددها جدي وأنا بين السرور الذي إنتابني في تلك اللحظة وما بين أمانيَّ في إتمام قصة طه حسين تأهبت للذهاب ..
أوشك فجر الشرق أن ينبثق وأنا بين سرور لا أكاد أخفيه وترقب كترقبي لليلة العيد .. تنفس الصبح ...
إترتديت (جلابية الجمعة) بعدما إحتسيت (شاي الصباح ) الحليبي مع قطع البسكويت , وأنطلقت حاملاً لوحي الخشبي في عباب الرحلة المجهولة إلي خلوة الشيخ , كان بصحبتي (مبارك) الذي حفظ سبعة أجزاء آنذاك وفي طريقه لحفظ الجزء الثامن ...

عزمي المعز
06-02-2007, 08:55 AM
وصلنا الخلوة فسُلّمتُ إلي الشيخ الجالس والأطفال من حوله يرددون في ذلك الإنسجام , تبسم حينها وأمر مبارك بالدخول إلي حلقة الكبار بينما أنا أجلسني جواره , ومسح علي شعري وردد..
- بتعرف تقرا ..
فهززت رأسي يمنة يسرة بحركة بريئة ..
- مامشكلة ..
فتناول مني اللوح وخط عليه رسماً , وردد ..
- دي بي خفض ..قول وراي ..بي خفض ..
وبدأت أردد ..
- بي خفض.. بو رفع ..با نصب ..أب جزم ..
وبدأت أرددها بعبث ووجوف ..
في غضون الأسابيع الثلاثة الأول أتممت حفظي لجزء عم , كانت فرحة جدي كبيرة آنذاك وأعطاني (طرادة) بأكملها إبتهاجاً , لم تسعني الفرحة آنذاك فأجلسني جواره ..
- شفتا ياولدي القرأن حلو كيف ..من بكرة حتحفظ جزء تبارك زي ما حفظتا جزء عم ..
إبتسمت بشئ من الدلال وكأن طلباتي أوامر في ذاك اليوم ..
- إنت ياجدو (طه حسين) الحكيت لي عنو المرة الفاتت ديك الحصل ليهو شنو ؟
إكتنف الغموض ملامح تلك القصة ولكنها ماتزال تدندن في الأعماق وما بين طه حسين الصبي الكفيف وما بيني في تلك الفترة من عمري الذي قضيته بين الألواح والدوايا ودندنات الصبية وهم يترتلون القرأن في حبور وتؤدة خلق نسيج خفي بيني وبينه فأخفيت محبتي لطه حسين بين ثنايا قلبي الطاهر ..
وقبل ان تنقضي أشهر الصيف كنت قد أتممت حفظ جزء عم وتبارك وقد سمع ..
نور يشع الأفق والوجدان , وفي ليل العيون بريق شوق ونبوغ , سماء ذات بروج , وقمر في أوج إكتماله يرسل نور فضي يضفي هالة من السحر ويوحي بالشعر , ونيران القرأن المتقدة كنيران المعبد المقدسة , جلس أولئك حولها وأصواتهم وظلالهم تتراقصسكري راضخة لمشيئة خفية تكبر أحياناً وأحيانا تصغر , رفع النداء لصلاة العشاء , فهرعنا نستبق نحو الوضوء ...
بعد أداءنا المنسك المقدس , قمنا حول النار نرقص حولها في طرب نردد حولها ما حفظناه في نهار اليوم وكأننا شعب من شعوب الهنود الحمر , كنا نردد ما حفظناه ونحن نطوف حول النار كطائفي الكعبة المشرفة والدائرة تتسع وتضيق ولكن الضجيج المنسجم ما يزال يصخب المكان الأصوات تعلو والظلال تتراقص والشيخ من خلفنا تبدو عليه نظرة رضا ونعيم ..
إنقضت مناسك (السُبُع) فأوينا للفراش ..
تعلمتُ القداسة والإحترام والخشوع , ففي ذلك المكان المقدس الذي كنا نغسل فيه (الليحان) من بقايا الدوايا , كنا نقترب منه حافّى الأقدام نغسل ألواحنا بشبق وحذر, كي لا تصيب الأرض منه مصاباً فيكون العقاب مُراً ووخيماً ..
أذكر في ذلك اليوم الصباحي الطلعة , الضبابي الملامح والصورة منحني الشيخ (لوحاً) جديداً للحفظ ..
(أَلَم يَأنِ لِلذينَ ءَامنُوا أَن تَخشَعَ قُلوبُهُم لِذِكرِاللهِ وَمَانَزَلَ مِنَ الحَقِ..)
وكتب لي ذلك اللوح في لوحي الخشبي بعد أن قرأه لي أكثر من مرة بيد أني كنت قد أسأت حفظي لذلك اللوح وعندما جاء دوري في تسميع ماحفظت كانت دهشة الشيخ كبيرة وأنا أنثر الآيات رأساً علي عقب , فدعا زبانيته فجاؤوا كأمر الله الذي لا مرد لأمره , حُملتُ بين أعناق الزبانية وأوثقت قدماي بعدما أُدخلت في فتحتين في الجدار , إنهالت علي عصا كعصا موسي النبي وأنا أتلوي ألماً وأصرخ حتي إرتج عرش إبليس , وعندها بلغت قدماي مبلغاً بحيث لا أستطيع أن أضعهما علي أديم الأرض.. فُك الوثاق ..
وبدأت أصرخ ثانية تعالا صراخي هذا فعندما لامست قدماي الأديم كان الألم يهزني من رأسي حتي أخمص قدمي ..
إستمر الحال عندي لثلاثة أيام متتالية وأنا أمشي علي ثلاثة كمشية العرنجلي تارة وعلي أربع في جل يومي ..
نشأت بيني وبين (عمر) علاقة صداقة حميمة وحب خالص , فقد كان عمر من أولاد قرية (الدوينيب) كان وجهه ملائكي حالم عينيه الناعستين كعيني أنثي وشعره الحليق حديث النبت , ويديه الناعميتين وإبتسامته العذبة , كان يأتيني بعد إنقضاء (السُبُع) حاملاً بين يديه تمراً وماء ,كان يكبرني بعامين , له قلبٌ ملائكي كطلعته , بدأ يمتلك قلبي وهو يحنو علي حنواً لايماثله حنو ,ويغمرني بأسمي آيات العطف والشفقة التي كنت أفتقدها في تلك اللحظات , بعد أن سرد علّي تفاصيل قصته والتي كللت بإيفاده للخلوة كنوع من العقاب التهذيبي , قضيت معه أياماً تتشبث في الذاكرة المترعة وصورته التي لم تبرح خيالي البتة ..
لم تمضي سوي أيام حتي أصيب (عمر) بالتيفويد ,كان يشكو من ألم يشق بدنه النحيل بحرارته المرتفعة وكأنه قطعة من جهنم , إمتلأت أحشائه الضامرة بصنوف من الدواء , أخطأ الطبيب في إعطائه لها فقد كان عمر مصاباً بداء الكُلي ..
كانت حالته تتدهور بإستمرار وبدا جسمه الناحل يميل إلي البرود رفعت كفي لله , ولكن أبواب السماء كانت مغلقة في تلك اللحظات إبتسم (عمر) حينها وآمال رأسه لليمين , فاضت روحه في هدوء وصعدت للسماوات العُلي ..
إنتهت فترة الخلوة بعد أشهر من ذلك , كان قلبي مايزال ينزف بجرحه المنكؤ , يحتبي ألماً معتصراً وآهات محتبية وأحلام وئيدة مرت الأعوام سريعاً وماتزال ذكري (عمر) باقية في قلبي أتذكره دائماً كلما مررت بخلوة , أو إقتربت من شجرة الطندب ..
شمس تغرب في إستحياء تستأذن قبة الشيخ في تؤدة , الألوان تتخالج كلوحة , والطير يردد أنغامه الطروب , والوحش يسبح في الملكوت , وأشجار النيم الضخمة التي وسع ظلها كل شئ وأحتبت بفنائها الأساطير وتلك الأصوات البعيدة البعيدة تنبعث من القرية يحملها النسيم الذي يداعب الأوراق والوجدان , الأصوات تتخالج كلوحة دونتها يد فنان خفي , والغروب يضفي هالة من السحر والغفران , سبحانك بديعٌ صنعك ..
تغمض الأعين وتمتلأ الأحداق دمعاً وشوقاً ولوعة , تغمض الأنوار لينكشف ضوءٌ يملأ مابين السموات والأرض , قبة الشيخ الصائم تداعب الكبرياء تقف كشاهد للعظمة والقداسة والخشوع ..
تعزف سمفونية الغروب الأخير بلحنٍ سماوي شجي بموسيقي هادئة حالمة ..
ماتزال أصوات الأطفال تدندن بموسيقاها , تقترب تارة وتذوب , وذكري ذلك الصديق ماتزال تمزق في الوجدان والكيان ..
- الميت بتنفعو الصدقة وقراية القرأن ..
سمعت أحدهم يغلظ بقوله ذاك , فبدأت أقرأ كل صباح ماتيسر لي قرأته وأهب ثوابه له ..
أبكيه كلما ذكرته , أبكي تلك الأيام وتلك اللحظات التي لن تعود , وفي غمرة حزني ذاك توجهت نحو قبة الشيخ الصائم فقرأت الفاتحة ووهبت ثوابها لـ(عمر) ودعوت الله من كل قلبي أن يدخله فسيح جنانه ..
- الأطفال البيموتو صغار سعيدين بخشوا الجنة عشان ماعليهم حساب ..
أدخلت تلك الكلمات الفرح إلي قلبي المكلوم ..
ورددت بين نفسي والفرحة تملأ جوانحي وأنا أحدق في ذلك الأفق الرحب الشاسع والإبتسامة مرتسمة علي وجهي ..
- عمر في الجنة .. دي دعوتي !!