kfinjan
18-11-2007, 01:04 PM
هكذا يتنفس شط العرب
منقول من صحيفة المنارة العدد (432)السبت 17/11//2007م
كاظم فنجان الحمامي
شط العرب نهر خالد. وكائن حي, مثله مثل بقية الكائنات النهرية الحية. يتنفس تحت الماء برئة واحدة. لكنها رئة عملاقة تمتد من القرنة وحتى رأس البيشة. .
تعلمت رئته فك الغاز سر الخلود. . ففاز شط العرب بالحياة الأبدية. وارتبط مصيره بمصير النجوم, والكواكب السيارة, وبديمومة حركة الأرض والقمر والشمس. فتناغمت إيقاعات الشهيق والزفير في رئة شط العرب لتنسجم مع إشعاعات ضياء القمر, واشراقات نور الشمس. . فصار شهيقه مدا, وأصبح زفيره جزرا. .
فالمد والجزر : هما ظاهرتان طبيعيتان تحدثان لمياه شط العرب, ولكل المسطحات المائية في كوكب الأرض. بتأثير قوة جذب القمر والشمس للأرض (75% من قوة تأثير هذه الظاهرة), وقوة الطرد المركزية للأرض, ودورانها حول نفسها. وتأثير جذب النجوم للأرض. وتأثير عوامل أخرى. .
فالمد هو الارتفاع الوقتي التدريجي في منسوب المياه. . والجزر هو انخفاض وقتي تدريجي في منسوب المياه. .
مد يتكرر في شط العرب مرتين باليوم (تقريبا). . وجزر يقتفي أثره, ويتبعه كظله. . تتمدد رئة شط العرب في المد. فترتفع مياهه مكونة قوة ضاغطة. تجبر المياه العذبة بالتوغل في التفرعات النهرية, فتمتلئ الأنهار والجداول والسواقي لتروي بساتين النخيل, وتسقي الحقول المزروعة. وقد يصل ارتفاع الموجة المدية في شط العرب إلى 2.7 متر تقريبا. .
ثم تنكمش رئة شط العرب في الجزر. فتنخفض مياهه, وتنحسر من الأنهار والجداول والسواقي حاملة معها مياه البزل. .
وهكذا يتنفس شط العرب فتنتفخ أوداجه, ويرتفع ضغطه ثم ينخفض, وتنقبض شرايينه ثم تنبسط, وتتراوح هذه التغيرات في رئته بين مد وجزر. . وتتلقى حقوله يوميا جرعتين من مياه السقي والإرواء الطبيعي. تعقبهما نوبتين من نوبات البزل الطبيعي. دونما حاجة إلى تدخل الإنسان في تنظيم نبض شرايين شط العرب. أو ضبط دقات قلبه. أو مراقبة تنفسه اليومي, المرتبط بانتقالات القمر عبر منازله الفضائية, الموزعة على مداره حول كوكب الأرض. .
وللموجات المدية فوائد جمة. ومنافع أخرى تضاف إلى منافعها الإروائية. إذ أن تنظيم الملاحة في عموم شط العرب يعتمد اعتمادا كبيرا على مدى الاستفادة من ارتفاع المد العالي High Water في اجتياز الممرات الملاحية الضحلة, وتستثمر أيضا في عبور المناطق التي تجمعت فيها الكثبان الرملية في جوف الشط. . وبات دخول السفن إلى قناة الروكا, الواقعة في مدخل الشط من جهة البحر, مرتبطا بمواعيد المد العالي, ومتوقفا عليها. وبخلاف ذلك فان السفينة التي لا تلتزم بالمواعيد المقررة ستتعرض إلى مخاطر يطول شرحها. . ولا نغالي إذا قلنا إن أحكام القواعد الملاحية المحلية مبنية برمتها على توقيتات المد والجزر في شط العرب, وعلى مقدار ارتفاع مناسيب المياه المصاحبة للمد والجزر. . الأمر الذي استدعى قيام سلطة الموانئ العراقية, بتكليف مكتب الدراسات الهيدروغرافية, التابع للأدميرالية البحرية البريطانية, لإعداد جداول سنوية لتنبؤات المد والجزر. مقابل مبالغ كبيرة تدفع إلى الأدميرالية بالعملة الصعبة. .
وقد تعرضت الموانئ العراقية إلى مواقف في غاية الصعوبة. حينما أقدمت الأدميرالية بحجب تلك الجداول, خلال فترة الحصار الاقتصادي الجائر المفروض على العراق. . واستعصت على العارفين. فانبرى لها الربان والمرشد البحري العراقي ( رائد عبد الكريم الناهي ). واستطاع أن يستنفر مواهبه الملاحية والرياضية, ويجند كل طاقاته الإبداعية في إخراج كراس جديد كل عام, يشتمل على التنبؤات المدية لجميع موانئ شط العرب وخور عبد الله. واستعان هذا الكابتن المبدع بفريق من المبرمجين لتنفيذ المهمة الصعبة التي تطوع لها. وما زال هذا الرجل يواصل إنتاج الجداول المطلوبة بروح عالية, وبإخلاص منقطع النظير. على الرغم من أحالته على التقاعد بناء على رغبته, وعلى الرغم من استقراره خارج العراق. .
ونذكر أيضا أن السفن الكبيرة المتحركة في شط العرب. لا تستطيع الاستغناء عن متابعة التغيرات, التي تطرأ على مناسيب المياه إثناء سيرها في الممرات الملاحية. على الرغم من حيازتها لجداول المد والجزر (*). مما اضطر الموانئ العراقية إلى توزيع مقاييس المد والجزر على امتداد شط العرب, من المعقل إلى البحر. .
والمقاييس عبارة عن أبراج خشبية عالية, منصوبة على حافة الممر الملاحي, ومجهزة بلوح مدرج, كتبت عليه الأرقام باللونين الأسود والأبيض. ويمكن مشاهدتها بوضوح من قبل السفن المارة بها. وقد تم تجهيز بعض الأبراج بمصابيح ضوئية, تطلق في الليل ومضات ملونة. يمكن حل شفرتها بسهولة من قبل الملاحين المتمرسين. ناهيك عن أجهزة القراءة الالكترونية المرتبطة بمحطات السيطرة الملاحية في الفاو والواصلية. وهذه الأجهزة شبيهة بمقاييس ضغط الدم عند الإنسان. فهي تحصي أنفاس شط العرب بأسلوب رقمي مذهل. . .
ويستفيد الصيادون كثيرا من التنفس الطبيعي لشط العرب. وتجدهم يفضلون الصيد الجماعي بنشر الشباك المستعرضة (الهيالة) مع بداية كل مد. .
أما بالنسبة للصيد الفردي (الحداق) على ضفاف الشط , بواسطة الصنارة (الشص) فيختلف من مكان إلى آخر, وحسب نوع السمك المطلوب. ويفضل أن يكون مع بداية المد. أو مع بداية الجزر (الثبر). ويستحسن أن يكون الوقت متوافقا مع ساعات الغروب. أو قبيل الفجر. .
وتتحرك التيارات المائية جيئة وذهابا. متأثرة بشهيق وزفير شط العرب. ومتوافقة مع ارتفاع وانخفاض موجاته المدية المتعاقبة, التي تستمد قوتها من تأثير جاذبية القمر الشمس للأرض. . فتيارات شط العرب. إما أن تكون متحركة صعودا, أو متحركة انحدارا. . وأحيانا يعبر عنها بتيار المد Flood Tide , وتيار الجزر Ebb Tide. . ومنهم من يطلق عليها التيارات الداخلة In going stream . والتيارات الخارجة Out going stream . . وتتقلب اتجاهات التيارات في مجرى الشط مع تقلبات المد والجزر. وتفصل بينهما فترة سكون يطلق عليها Slack Water . وتتناسب هذه الفترة عكسيا مع قوة الموجة المدية. فتزداد فترتها الزمنية مع الموجة المدية الضعيفة. وتقل مع الموجة المدية القوية . . وتيارات شط العرب قوية جارفة, ولها القدرة على توليد قوة ضاغطة, تؤثر على حركة السفن القادمة والمغادرة. فتتسارع سرعاتها أو تتباطأ, تبعا لخطوات سيرها مع أو ضد التيار السائد في شط العرب. . ودأب الملاحون في شط العرب على الاستفادة من قوة واتجاه التيارات. والاستعانة بها في مناورة السفينة ودورانها. والاستعانة بها أيضا في عمليات إقلاع وإرساء السفن على الأرصفة. .
وظلت رئة شط العرب تتنفس تحت الماء في المد والجزر بما يشبه الشهيق والزفير . بإيقاعات قمرية ثابتة تفيض بالحيوية والنشاط. . لكنها تعرضت للأسف الشديد, إلى الاختناق بالملوثات والنفايات الهائلة التي تعج بها مياه الشط الآن. .
وسيستمر شط العرب في مده وجزره حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. يوم تسجر البحار, وتفجر المحيطات. وتنسف الجبال. وتمور السماء مورا, وتفور الأرض فورا. . بتقدير العزيز العليم . .
_______________________________________________
(*) – تحسب هذه الجداول على أساس الطقس القياسي. فللرياح السائدة في المنطقة تأثير شديد على ارتفاع وانخفاض الموجة المدية.
منقول من صحيفة المنارة العدد (432)السبت 17/11//2007م
كاظم فنجان الحمامي
شط العرب نهر خالد. وكائن حي, مثله مثل بقية الكائنات النهرية الحية. يتنفس تحت الماء برئة واحدة. لكنها رئة عملاقة تمتد من القرنة وحتى رأس البيشة. .
تعلمت رئته فك الغاز سر الخلود. . ففاز شط العرب بالحياة الأبدية. وارتبط مصيره بمصير النجوم, والكواكب السيارة, وبديمومة حركة الأرض والقمر والشمس. فتناغمت إيقاعات الشهيق والزفير في رئة شط العرب لتنسجم مع إشعاعات ضياء القمر, واشراقات نور الشمس. . فصار شهيقه مدا, وأصبح زفيره جزرا. .
فالمد والجزر : هما ظاهرتان طبيعيتان تحدثان لمياه شط العرب, ولكل المسطحات المائية في كوكب الأرض. بتأثير قوة جذب القمر والشمس للأرض (75% من قوة تأثير هذه الظاهرة), وقوة الطرد المركزية للأرض, ودورانها حول نفسها. وتأثير جذب النجوم للأرض. وتأثير عوامل أخرى. .
فالمد هو الارتفاع الوقتي التدريجي في منسوب المياه. . والجزر هو انخفاض وقتي تدريجي في منسوب المياه. .
مد يتكرر في شط العرب مرتين باليوم (تقريبا). . وجزر يقتفي أثره, ويتبعه كظله. . تتمدد رئة شط العرب في المد. فترتفع مياهه مكونة قوة ضاغطة. تجبر المياه العذبة بالتوغل في التفرعات النهرية, فتمتلئ الأنهار والجداول والسواقي لتروي بساتين النخيل, وتسقي الحقول المزروعة. وقد يصل ارتفاع الموجة المدية في شط العرب إلى 2.7 متر تقريبا. .
ثم تنكمش رئة شط العرب في الجزر. فتنخفض مياهه, وتنحسر من الأنهار والجداول والسواقي حاملة معها مياه البزل. .
وهكذا يتنفس شط العرب فتنتفخ أوداجه, ويرتفع ضغطه ثم ينخفض, وتنقبض شرايينه ثم تنبسط, وتتراوح هذه التغيرات في رئته بين مد وجزر. . وتتلقى حقوله يوميا جرعتين من مياه السقي والإرواء الطبيعي. تعقبهما نوبتين من نوبات البزل الطبيعي. دونما حاجة إلى تدخل الإنسان في تنظيم نبض شرايين شط العرب. أو ضبط دقات قلبه. أو مراقبة تنفسه اليومي, المرتبط بانتقالات القمر عبر منازله الفضائية, الموزعة على مداره حول كوكب الأرض. .
وللموجات المدية فوائد جمة. ومنافع أخرى تضاف إلى منافعها الإروائية. إذ أن تنظيم الملاحة في عموم شط العرب يعتمد اعتمادا كبيرا على مدى الاستفادة من ارتفاع المد العالي High Water في اجتياز الممرات الملاحية الضحلة, وتستثمر أيضا في عبور المناطق التي تجمعت فيها الكثبان الرملية في جوف الشط. . وبات دخول السفن إلى قناة الروكا, الواقعة في مدخل الشط من جهة البحر, مرتبطا بمواعيد المد العالي, ومتوقفا عليها. وبخلاف ذلك فان السفينة التي لا تلتزم بالمواعيد المقررة ستتعرض إلى مخاطر يطول شرحها. . ولا نغالي إذا قلنا إن أحكام القواعد الملاحية المحلية مبنية برمتها على توقيتات المد والجزر في شط العرب, وعلى مقدار ارتفاع مناسيب المياه المصاحبة للمد والجزر. . الأمر الذي استدعى قيام سلطة الموانئ العراقية, بتكليف مكتب الدراسات الهيدروغرافية, التابع للأدميرالية البحرية البريطانية, لإعداد جداول سنوية لتنبؤات المد والجزر. مقابل مبالغ كبيرة تدفع إلى الأدميرالية بالعملة الصعبة. .
وقد تعرضت الموانئ العراقية إلى مواقف في غاية الصعوبة. حينما أقدمت الأدميرالية بحجب تلك الجداول, خلال فترة الحصار الاقتصادي الجائر المفروض على العراق. . واستعصت على العارفين. فانبرى لها الربان والمرشد البحري العراقي ( رائد عبد الكريم الناهي ). واستطاع أن يستنفر مواهبه الملاحية والرياضية, ويجند كل طاقاته الإبداعية في إخراج كراس جديد كل عام, يشتمل على التنبؤات المدية لجميع موانئ شط العرب وخور عبد الله. واستعان هذا الكابتن المبدع بفريق من المبرمجين لتنفيذ المهمة الصعبة التي تطوع لها. وما زال هذا الرجل يواصل إنتاج الجداول المطلوبة بروح عالية, وبإخلاص منقطع النظير. على الرغم من أحالته على التقاعد بناء على رغبته, وعلى الرغم من استقراره خارج العراق. .
ونذكر أيضا أن السفن الكبيرة المتحركة في شط العرب. لا تستطيع الاستغناء عن متابعة التغيرات, التي تطرأ على مناسيب المياه إثناء سيرها في الممرات الملاحية. على الرغم من حيازتها لجداول المد والجزر (*). مما اضطر الموانئ العراقية إلى توزيع مقاييس المد والجزر على امتداد شط العرب, من المعقل إلى البحر. .
والمقاييس عبارة عن أبراج خشبية عالية, منصوبة على حافة الممر الملاحي, ومجهزة بلوح مدرج, كتبت عليه الأرقام باللونين الأسود والأبيض. ويمكن مشاهدتها بوضوح من قبل السفن المارة بها. وقد تم تجهيز بعض الأبراج بمصابيح ضوئية, تطلق في الليل ومضات ملونة. يمكن حل شفرتها بسهولة من قبل الملاحين المتمرسين. ناهيك عن أجهزة القراءة الالكترونية المرتبطة بمحطات السيطرة الملاحية في الفاو والواصلية. وهذه الأجهزة شبيهة بمقاييس ضغط الدم عند الإنسان. فهي تحصي أنفاس شط العرب بأسلوب رقمي مذهل. . .
ويستفيد الصيادون كثيرا من التنفس الطبيعي لشط العرب. وتجدهم يفضلون الصيد الجماعي بنشر الشباك المستعرضة (الهيالة) مع بداية كل مد. .
أما بالنسبة للصيد الفردي (الحداق) على ضفاف الشط , بواسطة الصنارة (الشص) فيختلف من مكان إلى آخر, وحسب نوع السمك المطلوب. ويفضل أن يكون مع بداية المد. أو مع بداية الجزر (الثبر). ويستحسن أن يكون الوقت متوافقا مع ساعات الغروب. أو قبيل الفجر. .
وتتحرك التيارات المائية جيئة وذهابا. متأثرة بشهيق وزفير شط العرب. ومتوافقة مع ارتفاع وانخفاض موجاته المدية المتعاقبة, التي تستمد قوتها من تأثير جاذبية القمر الشمس للأرض. . فتيارات شط العرب. إما أن تكون متحركة صعودا, أو متحركة انحدارا. . وأحيانا يعبر عنها بتيار المد Flood Tide , وتيار الجزر Ebb Tide. . ومنهم من يطلق عليها التيارات الداخلة In going stream . والتيارات الخارجة Out going stream . . وتتقلب اتجاهات التيارات في مجرى الشط مع تقلبات المد والجزر. وتفصل بينهما فترة سكون يطلق عليها Slack Water . وتتناسب هذه الفترة عكسيا مع قوة الموجة المدية. فتزداد فترتها الزمنية مع الموجة المدية الضعيفة. وتقل مع الموجة المدية القوية . . وتيارات شط العرب قوية جارفة, ولها القدرة على توليد قوة ضاغطة, تؤثر على حركة السفن القادمة والمغادرة. فتتسارع سرعاتها أو تتباطأ, تبعا لخطوات سيرها مع أو ضد التيار السائد في شط العرب. . ودأب الملاحون في شط العرب على الاستفادة من قوة واتجاه التيارات. والاستعانة بها في مناورة السفينة ودورانها. والاستعانة بها أيضا في عمليات إقلاع وإرساء السفن على الأرصفة. .
وظلت رئة شط العرب تتنفس تحت الماء في المد والجزر بما يشبه الشهيق والزفير . بإيقاعات قمرية ثابتة تفيض بالحيوية والنشاط. . لكنها تعرضت للأسف الشديد, إلى الاختناق بالملوثات والنفايات الهائلة التي تعج بها مياه الشط الآن. .
وسيستمر شط العرب في مده وجزره حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. يوم تسجر البحار, وتفجر المحيطات. وتنسف الجبال. وتمور السماء مورا, وتفور الأرض فورا. . بتقدير العزيز العليم . .
_______________________________________________
(*) – تحسب هذه الجداول على أساس الطقس القياسي. فللرياح السائدة في المنطقة تأثير شديد على ارتفاع وانخفاض الموجة المدية.