ابنة الحرية
08-01-2008, 09:55 PM
قصة أثرت فى شخصياً ولم أملك الا نقلها بالكامل لحضراتكم, بعنوانها وبدون اى لعب فيها.
أعمى يسددالهدف
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي ، ما زلت أذكر تلك الليلة ، بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدى الاستراحات ، كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ ، بل بالغيبة والتعليقات المحرمة ، كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم وغيبة الناس وهم يضحكون ، أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً ، كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد ، بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه ، أجل كنت أسخر من هذا وذاك ، لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي ، صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني ، أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق ، والأدهى أنّي وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول ، وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق ، عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة .
وجدت زوجتي في انتظاري ، كانت في حالة يرثى لها ، قالت بصوت متهدج : راشد ... أين كنتَ ؟ قلت ساخراً : في المريخ ، عند أصحابي بالطبع . كان الإعياء ظاهراً عليها . قالت والعبرة تخنقها : راشد . أنا تعبة جداً ، الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً . سقطت دمعة صامتة على خدها ، أحسست أنّي أهملت زوجتي . كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من سهراتي ، خاصة أنّها في شهرها التاسع . حملتها إلى المستشفى بسرعة . دخلت غرفة الولادة ، جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ، كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر ، تعسرت ولادتها ، فانتظرت طويلاً حتى تعبت ، فذهبت إلى البيت ، وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني ، بعد ساعة اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم . ذهبت إلى المستشفى فوراً .
أول ما رأوني أسأل عن غرفتها ، طلبوا منّي مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي . صرختُ بهم : أيُّ طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم . قالوا : أولاً . راجع الطبيبة . دخلت على الطبيبة ، كلمتني عن المصائب ، والرضا بالأقدار . ثم قالت : ولدك به تشوّه شديد في عينيه ويبدو أنه فاقد البصر ! خفضت رأسي ، وأنا أدافع عبراتي ، تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس . سبحان الله كما تدين تدان ! بقيت واجماً قليلاً ، لا أدري ماذا أقول ، ثم تذكرت زوجتي وولدي . فشكرت الطبيبة على لطفها ، ومضيت لأرى زوجتي .
لم تحزن زوجتي ، كانت مؤمنة بقضاء الله راضية طالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس ، كانت تردد دائماً لا تغتب الناس . خرجنا من المستشفى ، وخرج سالم معنا .
في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيراً ، اعتبرته غير موجود في المنزل ، حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها ، كانت زوجتي تهتم به كثيراً ، وتحبّه كثيراً ، أما أنا فلم أكن أكرهه ، لكني لم أستطع أن أحبّه !
كبر سالم ، بدأ يحبو كانت حبوته غريبة ، قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي ، فاكتشفنا أنّه أعرج ، أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر ، أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً .
مرّت السنوات ، وكبر سالم ، وكبر أخواه ، كنت لا أحب الجلوس في البيت ، دائماً مع أصحابي ، في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ، لم تيأس زوجتي من إصلاحي ، كانت تدعو لي دائماً بالهداية ، لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة ، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته .
كبر سالم ، وكبُر معه همي ، لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ، لم أكن أحس بمرور السنوات ، أيّامي سواء ، عمل ونوم وطعام وسهر ، في يوم جمعة ، استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً ،
ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي ، كنت مدعواً إلى وليمة ،
لبست وتعطّرت وهممت بالخروج . مررت بصالة المنزل , استوقفني منظر سالم ، كان يبكي بحرقة !
إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً ، عشر سنوات مضت ، لم ألتفت إليه ، حاولت أن أتجاهله ، فلم أحتمل ، كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة ، التفت . ثم اقتربت منه ، قلت : سالم ! لماذا تبكي ؟! حين سمع صوتي توقّف عن البكاء ، فلما شعر بقربي ، بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين ، ما بِه يا ترى ؟! اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !! وكأنه يقول : الآن أحسست بي ، أين أنت منذ عشر سنوات ؟! تبعته ، كان قد دخل غرفته ، رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ، حاولت التلطف معه ، بدأ سالم يبين سبب بكائه ، وأنا أستمع إليه وأنتفض ، تدري ما السبب !!!
تأخّر عليه أخوه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد ؛
ولأنها صلاة جمعة ، خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل ، نادى عمر ، ونادى والدته , ولكن لا مجيب ، فبكى أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين ، لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ، وضعت يدي على فمه ، وقلت : لذلك بكيت يا سالم !! قال : نعم . نسيت أصحابي ، ونسيت الوليمة ، وقلت : سالم لا تحزن . هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد ؟ قال : أكيد عمر . لكنه يتأخر دائماً . قلت : لا . بل أنا سأذهب بك .
دهش سالم ، لم يصدّق ، ظنّ أنّي أسخر منه ، استعبر ثم بكى . مسحت دموعه بيدي ، وأمسكت يده ، أردت أن أوصله بالسيّارة رفض قائلاً : المسجد قريب ، أريد أن أخطو إلى المسجد - إي والله قال لي ذلك -
لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد ، لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على ما فرّطته طوال السنوات الماضية ، كان المسجد مليئاً بالمصلّين ، إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف الأوّل ، استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي ، بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه .
بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً ، استغربت ! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟ كدت أن أتجاهل طلبه ، لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره ، ناولته المصحف ، طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف ، أخذت أقلب الصفحات تارة ، وأنظر في الفهرس تارة ، حتى وجدتها ، أخذ مني المصحف ، ثم وضعه أمامه ، وبدأ في قراءة السورة ، وعيناه مغمضتان ، يا الله ! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة ! خجلت من نفسي ، أمسكت مصحفاً ، أحسست برعشة في أوصالي ، قرأت ، وقرأت ، دعوت الله أن يغفر لي ويهديني ، لم أستطع الاحتمال ، فبدأت أبكي كالأطفال .
كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة ، خجلت منهم ، فحاولت أن أكتم بكائي ، تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ، لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي ، ثم تمسح عنّي دموعي إنه سالم ! ضممته إلى صدري ، نظرت إليه ، قلت في نفسي : لست أنت الأعمى ، بل أنا الأعمى حين انسقت وراء فسّاق يجرونني إلى النار .
عدنا إلى المنزل ، كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ، لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ، من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد . هجرت رفقاء السوء ، وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد ، ذقت طعم الإيمان معهم ، عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا ، لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر ، ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر ، رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس ، أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي ، اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي ، الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ، من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها ، حمدت الله كثيراً على نعمه .
ذات يوم ، قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة ، تردّدت في الذهاب ، استخرت الله ، واستشرت زوجتي ، توقعت أنها سترفض ، لكن حدث العكس ! فرحت كثيراً ، بل شجّعتني ، فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً ، توجهت إلى سالم أخبرته أني مسافر ، ضمّني بذراعيه الصغيرتين مودعاً .
تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف ، كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي ، اشتقت إليهم كثيراً . آآآه كم اشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته ، هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت ، إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم . كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه . كانت تضحك فرحاً وبشراً . إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها ، لم أسمع ضحكتها المتوقّعة ، تغيّر صوتها ،
قلت لها : أبلغي سلامي لسالم . فقالت : إن شاء الله . وسكتت .
أخيراً عدت إلى المنزل ، طرقت الباب ، تمنّيت أن يفتح لي سالم . لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره . حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا ... يابا ... لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت ، استعذت بالله من الشيطان الرجيم ، أقبلت إليّ زوجتي ، كان وجهها متغيراً ، كأنها تتصنع الفرح ، تأمّلتها جيداً ، ثم سألتها : ما بكِ؟ قالت : لا شيء . فجأة تذكّرت سالماً . فقلت : أين سالم ؟
خفضت رأسها . لم تجب . سقطت دمعات حارة على خديها . صرخت بها : سالم . أين سالم ؟ لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد يقول بلثغته : بابا ... ثالم لاح الجنّة ... عند الله . لم تتحمل زوجتي الموقف ، أجهشت بالبكاء ، كادت أن تسقط على الأرض ، فخرجت من الغرفة . عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين . فأخذته زوجتي إلى المستشفى ، فاشتدت عليه الحمى ، ولم تفارقه ، حتى فارقت روحه جسده*.*
مات من جعله الله سببا أن أعرف طريق الهدي اللهم أجره خيراً عني*
http://www.hyatfamily.com/ib/style_emoticons/new/36_1_46[1].gif http://www.hyatfamily.com/ib/style_emoticons/new/36_1_38[1].gif
ويا رب يعجبكم الموضوع والنقل.
أعمى يسددالهدف
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي ، ما زلت أذكر تلك الليلة ، بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدى الاستراحات ، كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ ، بل بالغيبة والتعليقات المحرمة ، كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم وغيبة الناس وهم يضحكون ، أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً ، كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد ، بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه ، أجل كنت أسخر من هذا وذاك ، لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي ، صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني ، أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق ، والأدهى أنّي وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول ، وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق ، عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة .
وجدت زوجتي في انتظاري ، كانت في حالة يرثى لها ، قالت بصوت متهدج : راشد ... أين كنتَ ؟ قلت ساخراً : في المريخ ، عند أصحابي بالطبع . كان الإعياء ظاهراً عليها . قالت والعبرة تخنقها : راشد . أنا تعبة جداً ، الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً . سقطت دمعة صامتة على خدها ، أحسست أنّي أهملت زوجتي . كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من سهراتي ، خاصة أنّها في شهرها التاسع . حملتها إلى المستشفى بسرعة . دخلت غرفة الولادة ، جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ، كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر ، تعسرت ولادتها ، فانتظرت طويلاً حتى تعبت ، فذهبت إلى البيت ، وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني ، بعد ساعة اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم . ذهبت إلى المستشفى فوراً .
أول ما رأوني أسأل عن غرفتها ، طلبوا منّي مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي . صرختُ بهم : أيُّ طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم . قالوا : أولاً . راجع الطبيبة . دخلت على الطبيبة ، كلمتني عن المصائب ، والرضا بالأقدار . ثم قالت : ولدك به تشوّه شديد في عينيه ويبدو أنه فاقد البصر ! خفضت رأسي ، وأنا أدافع عبراتي ، تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس . سبحان الله كما تدين تدان ! بقيت واجماً قليلاً ، لا أدري ماذا أقول ، ثم تذكرت زوجتي وولدي . فشكرت الطبيبة على لطفها ، ومضيت لأرى زوجتي .
لم تحزن زوجتي ، كانت مؤمنة بقضاء الله راضية طالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس ، كانت تردد دائماً لا تغتب الناس . خرجنا من المستشفى ، وخرج سالم معنا .
في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيراً ، اعتبرته غير موجود في المنزل ، حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها ، كانت زوجتي تهتم به كثيراً ، وتحبّه كثيراً ، أما أنا فلم أكن أكرهه ، لكني لم أستطع أن أحبّه !
كبر سالم ، بدأ يحبو كانت حبوته غريبة ، قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي ، فاكتشفنا أنّه أعرج ، أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر ، أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً .
مرّت السنوات ، وكبر سالم ، وكبر أخواه ، كنت لا أحب الجلوس في البيت ، دائماً مع أصحابي ، في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ، لم تيأس زوجتي من إصلاحي ، كانت تدعو لي دائماً بالهداية ، لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة ، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته .
كبر سالم ، وكبُر معه همي ، لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ، لم أكن أحس بمرور السنوات ، أيّامي سواء ، عمل ونوم وطعام وسهر ، في يوم جمعة ، استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً ،
ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي ، كنت مدعواً إلى وليمة ،
لبست وتعطّرت وهممت بالخروج . مررت بصالة المنزل , استوقفني منظر سالم ، كان يبكي بحرقة !
إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً ، عشر سنوات مضت ، لم ألتفت إليه ، حاولت أن أتجاهله ، فلم أحتمل ، كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة ، التفت . ثم اقتربت منه ، قلت : سالم ! لماذا تبكي ؟! حين سمع صوتي توقّف عن البكاء ، فلما شعر بقربي ، بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين ، ما بِه يا ترى ؟! اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !! وكأنه يقول : الآن أحسست بي ، أين أنت منذ عشر سنوات ؟! تبعته ، كان قد دخل غرفته ، رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ، حاولت التلطف معه ، بدأ سالم يبين سبب بكائه ، وأنا أستمع إليه وأنتفض ، تدري ما السبب !!!
تأخّر عليه أخوه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد ؛
ولأنها صلاة جمعة ، خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل ، نادى عمر ، ونادى والدته , ولكن لا مجيب ، فبكى أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين ، لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ، وضعت يدي على فمه ، وقلت : لذلك بكيت يا سالم !! قال : نعم . نسيت أصحابي ، ونسيت الوليمة ، وقلت : سالم لا تحزن . هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد ؟ قال : أكيد عمر . لكنه يتأخر دائماً . قلت : لا . بل أنا سأذهب بك .
دهش سالم ، لم يصدّق ، ظنّ أنّي أسخر منه ، استعبر ثم بكى . مسحت دموعه بيدي ، وأمسكت يده ، أردت أن أوصله بالسيّارة رفض قائلاً : المسجد قريب ، أريد أن أخطو إلى المسجد - إي والله قال لي ذلك -
لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد ، لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على ما فرّطته طوال السنوات الماضية ، كان المسجد مليئاً بالمصلّين ، إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف الأوّل ، استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي ، بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه .
بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً ، استغربت ! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟ كدت أن أتجاهل طلبه ، لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره ، ناولته المصحف ، طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف ، أخذت أقلب الصفحات تارة ، وأنظر في الفهرس تارة ، حتى وجدتها ، أخذ مني المصحف ، ثم وضعه أمامه ، وبدأ في قراءة السورة ، وعيناه مغمضتان ، يا الله ! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة ! خجلت من نفسي ، أمسكت مصحفاً ، أحسست برعشة في أوصالي ، قرأت ، وقرأت ، دعوت الله أن يغفر لي ويهديني ، لم أستطع الاحتمال ، فبدأت أبكي كالأطفال .
كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة ، خجلت منهم ، فحاولت أن أكتم بكائي ، تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ، لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي ، ثم تمسح عنّي دموعي إنه سالم ! ضممته إلى صدري ، نظرت إليه ، قلت في نفسي : لست أنت الأعمى ، بل أنا الأعمى حين انسقت وراء فسّاق يجرونني إلى النار .
عدنا إلى المنزل ، كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ، لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ، من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد . هجرت رفقاء السوء ، وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد ، ذقت طعم الإيمان معهم ، عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا ، لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر ، ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر ، رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس ، أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي ، اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي ، الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ، من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها ، حمدت الله كثيراً على نعمه .
ذات يوم ، قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة ، تردّدت في الذهاب ، استخرت الله ، واستشرت زوجتي ، توقعت أنها سترفض ، لكن حدث العكس ! فرحت كثيراً ، بل شجّعتني ، فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً ، توجهت إلى سالم أخبرته أني مسافر ، ضمّني بذراعيه الصغيرتين مودعاً .
تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف ، كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي ، اشتقت إليهم كثيراً . آآآه كم اشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته ، هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت ، إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم . كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه . كانت تضحك فرحاً وبشراً . إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها ، لم أسمع ضحكتها المتوقّعة ، تغيّر صوتها ،
قلت لها : أبلغي سلامي لسالم . فقالت : إن شاء الله . وسكتت .
أخيراً عدت إلى المنزل ، طرقت الباب ، تمنّيت أن يفتح لي سالم . لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره . حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا ... يابا ... لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت ، استعذت بالله من الشيطان الرجيم ، أقبلت إليّ زوجتي ، كان وجهها متغيراً ، كأنها تتصنع الفرح ، تأمّلتها جيداً ، ثم سألتها : ما بكِ؟ قالت : لا شيء . فجأة تذكّرت سالماً . فقلت : أين سالم ؟
خفضت رأسها . لم تجب . سقطت دمعات حارة على خديها . صرخت بها : سالم . أين سالم ؟ لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد يقول بلثغته : بابا ... ثالم لاح الجنّة ... عند الله . لم تتحمل زوجتي الموقف ، أجهشت بالبكاء ، كادت أن تسقط على الأرض ، فخرجت من الغرفة . عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين . فأخذته زوجتي إلى المستشفى ، فاشتدت عليه الحمى ، ولم تفارقه ، حتى فارقت روحه جسده*.*
مات من جعله الله سببا أن أعرف طريق الهدي اللهم أجره خيراً عني*
http://www.hyatfamily.com/ib/style_emoticons/new/36_1_46[1].gif http://www.hyatfamily.com/ib/style_emoticons/new/36_1_38[1].gif
ويا رب يعجبكم الموضوع والنقل.