rainbow9x
24-02-2008, 10:03 PM
إنه الليل .. أتى أخيرا .. خيرا أنه أتى .. هكذا قال لنفسه : وقوع البلاء ولا انتظاره
ترك عماد كتبه وأنابيب الاختبار وهو يعلم أنها ربما كانت المرة الأخيرة التي يطالع فيها مادة الكيمياء التحليلية وينعم بهدنة من الوقت مع تجارب التحليل الكمي والكيفي .. في الواقع لم يستطع التركيز كثيرا منذ ساعات , ذلك عندما أخبره والده أن يستعد لري الأرض الزراعية في الليل .. يعشق أبيه الليل , ويكرهه عماد .. منذ سنوات وكل شيء يحدث في الليل .. الري والحصاد والزراعة والذهاب والمجيء , لذا كره عماد الليل ، وكره لون الليل .. لكنه يعرف أن كل الأعذار لا تشفع له ليتم مذاكرته لاختبارات الغد التي تبدأ بالاختبار النظري حيث سيعكف لثلالث ساعات على ورقة محشورة بالأسئلة ليجيب عنها فقط برسم أو معادلة .. ليس هناك مجال للإنشاء ولا الشرح .. ليس هناك مكان للأعذار ولا التحايل ولا الخداع .. ثم الانتظار الرتيب الذي يقطع الأنفاس لساعتين أو أكثر وأخيرا مواجهة أستاذ في المادة قادم من إقليم آخر ليعتصر عماد في الاختبار الشفهي .. ينظر الأستاذ كغيره من خلال نظارة طبية ليتابع عماد في أجوبته ليلتقط نقاط ضعفه ويركز عليها .. هذه الطريقة التي ألفها عصام منذ عهده بالاختبارات الشفهية .. رغم تبدل الأساتذة وتغيرهم فالطريقة واحدة .. طريقة قاسية للحكم على مستواه في الكيمياء والتي حفل تاريخه معها بذكريات سيئة منذ عرفها على يد الأستاذ عبدالمجيد : أسوأ مدرس للكيمياء عرفه عماد .. لابد أن الأستاذ كان يعتقد أنه يتعامل مع نسخ مصغرة من أحمد زويل تم استنساخها من خلايا أهملت من العالم الفذ لذا عمد الأستاذ الموقر لتضخيم وتفخيم ونفخ المناهج بما لم تحتمله طاقة عماد الذي ضج بالكيمياء وخاصمها إلا أنه أدرك بعد فترة أن الحياة تلعب معه لعبة غامضة حيث أن كل شيء يفرض عليه في حياته سيكون سلسلة من الذكريات السيئة
لماذا هو دون كل طلاب كلية الصيدلة من يجب أن يكون والده فلاحا يحب الشقاء ويغمر ولده الوحيد فيه؟ ولماذا يجب أن يقضي نصف الليل في عمل الزراعة والفلاحة والحرث والحصاد ؟ ولماذا يجلب والده اللقطاء كل فترة لتربيتهم في منزله وإنهاك قواه الاقتصادية ومزاحمة عماد في رزقه حتى أصبح يعتاش بأقل القليل وتخلى عن كل شيء إلا الأساسيات التي بدونها لن تدوم الحياة؟ كان أمر اليوم واجب النفاذ .. وكان استكمالا لحلقات المهزلة التي يعيشها عماد منذ تفتحت عيناه على دنيا والده التي ما عرف غيرها
في ممر القرية الرطب بغبار الطريق وقطرات الندى لا تتعثر خطى عماد .. تعود السير في الظلام والرؤية من خلال السواد .. عرف أن كل شيء سيكون معد سلفا .. ذهب بمحاذاة الترعة الفائضة بمياه الليل التي تتجمع بعدما يهجع الفلاحين ويقل الري في تلك الساعة .. الاعشاب الجافة أصبحت لينة مع تشرب الندى الكثيف .. وضوء القمر يعطي لمعة شفافة لكل شيء .. والنار التي أشعلها أحدهم أمام الكوخ في أخر طريق عماد .. حيث والده ينتظر .. وفتاة صغيرة وولد يعملان في الأرض المروية حديثا تفيض فيها المياه بموج تصنعه أرجل الأطفال الدقيقة التي تعمل في صمت وخفة مدربة ورضوخ ورضا بالقضاء
وصل عماد الكوخ وبلا كلام شرع في خلع ملابسه استعدادا للعمل .. أخذ الشتلات الضعيفة الرقيقة ونزل بجوار الطفلين ليغرس شتلات الطماطم في خطوط متوازية وشتلات الفلفل في خطوط تقطعها طولا في ارض غمرت بالمياه .. العمل تحت أشعة القمر وموج الندى يعطي فرصة أكبر للشتلات الصغيرة .. تأخد وقتا حتى الصباح ليشتد عودها وتقاوم أشعة الشمس التي تلهب جذورها اللينة
الاب الصامت دائما يعتني بالري ومضخة المياه وترتيب الشتلات وتوزيعها حيث يحتاجها افراد فرقته الصغيرة كي لا يخرجوا من الارض وينزلوا في مشاوير تأكل الوقت لجلب الشتلات الجديدة .. كل شيء صامت وهاديء إذا استشنينا حفيف الأشجار وتصفيق الأوراق المنداة حين تقابل بعضها في هذا الليل الخريفي الخفيف
إلا عماد .. تعتمل في قكره مئات الاسئلة . تأخذه في رحلات بين ماهية هذه العائلة التي لا يعرف سر تجمعها سوى الأب الذي يهتم بجلب اليتامى واللقطاء لتربيتهم في بيته والاعتناء بهم .. دائما يهتم بالسؤال ويستنكر الإجابة .. هل يحتاج الأب للأيدي العاملة؟ هل يبرر هذا تربية أطفال رضع حتى يكبروا ليستغلهم في عمل زراعي بسيط في قراريط معدودة يكفي نصف فرد لزراعتهم؟ هل طيبة قلب منه ؟ كيف وهو قاسي أيما قسوة على عماد الذي لا تسنح له فرصة ليعيش كما يجب أن يعيش طالب نابه أمامه مستقبل وعليه مسئولية؟
وفاء الصغيرة نادرا ما تتكلم أو تخالف أو تعترض .. منذ سبع سنوات أتى بها عبدالقادر إلى منزله رضيعة في لفة من قماش .. وحين ساله عماد حين عودته من المدرسة ما هذا؟ قال : رزق من الله .. الرزق الآن أطفالا .. كيف يستنكر وقد أتى والده بطفل في الخامسة من عمره شارد ومشرد ولا يعرف من الدنيا شيئا سوى التجول في الشوارع كالكلاب الضالة وياوي في كل بيت ساعة؟
اعتدلت وفاء من انثناءتها التي دامت فترة طويلة حتى تيقن عماد أنها لا تحس بالم في الظهر كالذي يحس به البشر حين ينكفؤوا على الارض لغرس شتلات في الطين وأعينهم تتسع لترى في هذا الظلام الذي الفه عصام وكرهه دائما
خرجوا من الارض يتخبطون حين مشوا بخطى معتدلة منتصبة لتستقر العظام في وضعها الطبيعي وتتقلص العضلات التي امتدت لساعات في وضع مشدود متوتر
حضر عبدالقادر الشاي الساخن على نيران جمرات خمدت ألسنتها وأخرج أرغفة خبز وبيضات مسلوقة وملح وطماطم وخس .. ذاك ما يحلمون به وسط ليل هاديء تتشاغل المعدة فيه بأكل بعضها
وفاء المطيعة الصامتة دائما تقترب من ابيها دائما في لحظات الخوف الليلي الذي لا تأتنس فيه إذا بعد عنها أمتار قليلة ., قال عبدالقادر :اجمعي يا وفاء بعض الحطب
ذهبت وفاء بمحاذاة الترعة بين أغصان اشجار عملاقة حتى ابتعدت عن مرمى الأبصار في الليل الضبابي الصامت
لحظات قليلة تشاغل فيها عماد بالدفء وفرك يديه وتجفيف أكمام ملابسه وسرح عبدالقادر في مراقبة الطريق الذي ذهبت منه وفاء وكأنه استأخرها
شق الصمت عواء ذئب
انتشل عبدالقادر منجلا وجرى في اتجاه وفاء التي لم تعد
واحتضن عماد أخيه الأصغر محمود وانتظر أن يعود والده
لكن انتظاره طال .. ولم تخرج صرخة من عماد
يتبع
ترك عماد كتبه وأنابيب الاختبار وهو يعلم أنها ربما كانت المرة الأخيرة التي يطالع فيها مادة الكيمياء التحليلية وينعم بهدنة من الوقت مع تجارب التحليل الكمي والكيفي .. في الواقع لم يستطع التركيز كثيرا منذ ساعات , ذلك عندما أخبره والده أن يستعد لري الأرض الزراعية في الليل .. يعشق أبيه الليل , ويكرهه عماد .. منذ سنوات وكل شيء يحدث في الليل .. الري والحصاد والزراعة والذهاب والمجيء , لذا كره عماد الليل ، وكره لون الليل .. لكنه يعرف أن كل الأعذار لا تشفع له ليتم مذاكرته لاختبارات الغد التي تبدأ بالاختبار النظري حيث سيعكف لثلالث ساعات على ورقة محشورة بالأسئلة ليجيب عنها فقط برسم أو معادلة .. ليس هناك مجال للإنشاء ولا الشرح .. ليس هناك مكان للأعذار ولا التحايل ولا الخداع .. ثم الانتظار الرتيب الذي يقطع الأنفاس لساعتين أو أكثر وأخيرا مواجهة أستاذ في المادة قادم من إقليم آخر ليعتصر عماد في الاختبار الشفهي .. ينظر الأستاذ كغيره من خلال نظارة طبية ليتابع عماد في أجوبته ليلتقط نقاط ضعفه ويركز عليها .. هذه الطريقة التي ألفها عصام منذ عهده بالاختبارات الشفهية .. رغم تبدل الأساتذة وتغيرهم فالطريقة واحدة .. طريقة قاسية للحكم على مستواه في الكيمياء والتي حفل تاريخه معها بذكريات سيئة منذ عرفها على يد الأستاذ عبدالمجيد : أسوأ مدرس للكيمياء عرفه عماد .. لابد أن الأستاذ كان يعتقد أنه يتعامل مع نسخ مصغرة من أحمد زويل تم استنساخها من خلايا أهملت من العالم الفذ لذا عمد الأستاذ الموقر لتضخيم وتفخيم ونفخ المناهج بما لم تحتمله طاقة عماد الذي ضج بالكيمياء وخاصمها إلا أنه أدرك بعد فترة أن الحياة تلعب معه لعبة غامضة حيث أن كل شيء يفرض عليه في حياته سيكون سلسلة من الذكريات السيئة
لماذا هو دون كل طلاب كلية الصيدلة من يجب أن يكون والده فلاحا يحب الشقاء ويغمر ولده الوحيد فيه؟ ولماذا يجب أن يقضي نصف الليل في عمل الزراعة والفلاحة والحرث والحصاد ؟ ولماذا يجلب والده اللقطاء كل فترة لتربيتهم في منزله وإنهاك قواه الاقتصادية ومزاحمة عماد في رزقه حتى أصبح يعتاش بأقل القليل وتخلى عن كل شيء إلا الأساسيات التي بدونها لن تدوم الحياة؟ كان أمر اليوم واجب النفاذ .. وكان استكمالا لحلقات المهزلة التي يعيشها عماد منذ تفتحت عيناه على دنيا والده التي ما عرف غيرها
في ممر القرية الرطب بغبار الطريق وقطرات الندى لا تتعثر خطى عماد .. تعود السير في الظلام والرؤية من خلال السواد .. عرف أن كل شيء سيكون معد سلفا .. ذهب بمحاذاة الترعة الفائضة بمياه الليل التي تتجمع بعدما يهجع الفلاحين ويقل الري في تلك الساعة .. الاعشاب الجافة أصبحت لينة مع تشرب الندى الكثيف .. وضوء القمر يعطي لمعة شفافة لكل شيء .. والنار التي أشعلها أحدهم أمام الكوخ في أخر طريق عماد .. حيث والده ينتظر .. وفتاة صغيرة وولد يعملان في الأرض المروية حديثا تفيض فيها المياه بموج تصنعه أرجل الأطفال الدقيقة التي تعمل في صمت وخفة مدربة ورضوخ ورضا بالقضاء
وصل عماد الكوخ وبلا كلام شرع في خلع ملابسه استعدادا للعمل .. أخذ الشتلات الضعيفة الرقيقة ونزل بجوار الطفلين ليغرس شتلات الطماطم في خطوط متوازية وشتلات الفلفل في خطوط تقطعها طولا في ارض غمرت بالمياه .. العمل تحت أشعة القمر وموج الندى يعطي فرصة أكبر للشتلات الصغيرة .. تأخد وقتا حتى الصباح ليشتد عودها وتقاوم أشعة الشمس التي تلهب جذورها اللينة
الاب الصامت دائما يعتني بالري ومضخة المياه وترتيب الشتلات وتوزيعها حيث يحتاجها افراد فرقته الصغيرة كي لا يخرجوا من الارض وينزلوا في مشاوير تأكل الوقت لجلب الشتلات الجديدة .. كل شيء صامت وهاديء إذا استشنينا حفيف الأشجار وتصفيق الأوراق المنداة حين تقابل بعضها في هذا الليل الخريفي الخفيف
إلا عماد .. تعتمل في قكره مئات الاسئلة . تأخذه في رحلات بين ماهية هذه العائلة التي لا يعرف سر تجمعها سوى الأب الذي يهتم بجلب اليتامى واللقطاء لتربيتهم في بيته والاعتناء بهم .. دائما يهتم بالسؤال ويستنكر الإجابة .. هل يحتاج الأب للأيدي العاملة؟ هل يبرر هذا تربية أطفال رضع حتى يكبروا ليستغلهم في عمل زراعي بسيط في قراريط معدودة يكفي نصف فرد لزراعتهم؟ هل طيبة قلب منه ؟ كيف وهو قاسي أيما قسوة على عماد الذي لا تسنح له فرصة ليعيش كما يجب أن يعيش طالب نابه أمامه مستقبل وعليه مسئولية؟
وفاء الصغيرة نادرا ما تتكلم أو تخالف أو تعترض .. منذ سبع سنوات أتى بها عبدالقادر إلى منزله رضيعة في لفة من قماش .. وحين ساله عماد حين عودته من المدرسة ما هذا؟ قال : رزق من الله .. الرزق الآن أطفالا .. كيف يستنكر وقد أتى والده بطفل في الخامسة من عمره شارد ومشرد ولا يعرف من الدنيا شيئا سوى التجول في الشوارع كالكلاب الضالة وياوي في كل بيت ساعة؟
اعتدلت وفاء من انثناءتها التي دامت فترة طويلة حتى تيقن عماد أنها لا تحس بالم في الظهر كالذي يحس به البشر حين ينكفؤوا على الارض لغرس شتلات في الطين وأعينهم تتسع لترى في هذا الظلام الذي الفه عصام وكرهه دائما
خرجوا من الارض يتخبطون حين مشوا بخطى معتدلة منتصبة لتستقر العظام في وضعها الطبيعي وتتقلص العضلات التي امتدت لساعات في وضع مشدود متوتر
حضر عبدالقادر الشاي الساخن على نيران جمرات خمدت ألسنتها وأخرج أرغفة خبز وبيضات مسلوقة وملح وطماطم وخس .. ذاك ما يحلمون به وسط ليل هاديء تتشاغل المعدة فيه بأكل بعضها
وفاء المطيعة الصامتة دائما تقترب من ابيها دائما في لحظات الخوف الليلي الذي لا تأتنس فيه إذا بعد عنها أمتار قليلة ., قال عبدالقادر :اجمعي يا وفاء بعض الحطب
ذهبت وفاء بمحاذاة الترعة بين أغصان اشجار عملاقة حتى ابتعدت عن مرمى الأبصار في الليل الضبابي الصامت
لحظات قليلة تشاغل فيها عماد بالدفء وفرك يديه وتجفيف أكمام ملابسه وسرح عبدالقادر في مراقبة الطريق الذي ذهبت منه وفاء وكأنه استأخرها
شق الصمت عواء ذئب
انتشل عبدالقادر منجلا وجرى في اتجاه وفاء التي لم تعد
واحتضن عماد أخيه الأصغر محمود وانتظر أن يعود والده
لكن انتظاره طال .. ولم تخرج صرخة من عماد
يتبع