المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التبغدد والبغددة البحرية



kfinjan
17-07-2008, 11:57 AM
التبغدد والبغددة البحرية



كاظم فنجان الحمامي

هذه دعوة لتحرير النشاطات الملاحية والبحرية العراقية من ظاهرة التبغدد والبغددة البحرية. ونعني بها الوصاية والهيمنة المركزية, والالتفات لنقاط مهمة جدا, تقضي بوجوب عدم اقتلاع جذور مواقع الادارات البحرية من بيئتها البصرية, ومنع اية محاولة لغرسها في بغداد, وتقضي ايضا بالاعتماد على مهارات وخبرات الملاكات البحرية التخصصية . فأهل مكة أدرى بشعابها. . وأهل البصرة أدرى بموانئها ومرافئها, ومسالكها ومساراتها الملاحية. وان من أفنى عمره في لجج البحار, وخاض غمارها, وصارع اهوالها, وسبر اغوارها, وغاص في اعماقها السحيقة, أدرى بشؤونها وشجونها. فلقرون وأحقاب عديدة كانت السفن العراقية تنطلق من موانئ البصرة, وتمخر عباب البحر حاملة معها السلع والبضائع الى موانئ السند والهند وسواحل افريقيا, حتى وصلت الى تخوم الصين. . وكانت لموانئ البصرة مكانة اقتصادية كبيرة لارتباطها بعلاقات تجارية متينة, جمعت البلدان الاوربية بقارة آسيا. وقد تعاظمت هذه المكانة بعد ان تحولت الى نقطة لالتقاء السفن وطرق القوافل, وتجلت شهرتها في ميناء ( الأبلة ), الذي كان اشهر الموانئ العالمية في العهود الغابرة. . وموانئ البصرة هي جسر العالم القديم, ففيها تلتقي طرق التجارة البحرية والبرية. .
ومن يقرأ التاريخ سيدرك عظمة البصرة واهميتها التي تضاهي المدن التجارية الاخرى, وكيف كانت موانئها تعج بالسفن المحملة بالضائع منها واليها. . وحين يذكر اسم البصرة اليوم, فان أول ما يتبادر الى الذهن تلك السفن والناقلات العملاقة. والحركة الملاحية الكثيفة عبر شط العرب, وخور عبد الله, وخور الزبير, وقناة الروكا. وشركات خطوط الشحن البحري. ومكاتب الوكالات البحرية العالمية. وتلك المؤسسات البحرية العريقة. وفي مقدمتها ادارة الموانئ العراقية, وشركة ناقلات النفط, وشركة النقل البحري, واكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية, وقيادة القوة البحرية, وآمرية خفر السواحل والمياه الداخلية, وجمعيات وشركات صيد الاسماك, وأحواض صناعة وصيانة السفن والزوارق المحلية. ومكاتب الخدمات البحرية العامة. ومكاتب التسويق النفطي. .
لكننا نسمع بين الفينة والأخرى نداءات ملحة ومتواصلة تطالب بضرورة نقل مقرات اهم المؤسسات البحرية من البصرة الى بغداد. على الرغم من بعد العاصمة بغداد عن سواحل الخليج العربي بأكثر من 500 كيلومتر. .
فالبغددة كناية عن الرفاهية والفخامة. . ويتبغدد علينا : أي يتكبّر, ويترفّع, ويتعالى. وتستخدم لفظة البغددة لوصف الحياة المرفهة الشبيهة بحياة الملوك. واستعار الشاعر علي الخليلي هذه المفردة في قصيدته ( مقامات عراقية ) :


يا زمان البغددة

يا فرات الروح يا دجلة ماء الأفئدة

يا زمان البغددة

يا نشيج الأوردة



اما لفظة التبغدد :. فتعني تقليد أهل بغداد, ومحاكاتهم في عاداتهم وتحضّرهم. وتعني ايضا التكبر والترفع, وهي مشتقة من ( بغداد ) كتوصيف للترف والنعيم والدلع والغنى. وهي صفة كانت توحي بالانتماء الى بغداد وتقاليدها. . واستخدم شاعر العرب الكبير ( محمد مهدي الجواهري ) هذه المفردة في رائعته ( يا دجلة الخير ) :



يا أم بغداد من ظرف ومن غنج

مشى التبغدد حتى في الدهاقين



لكن التبغدد والبغددة صارت تعني اليوم التعالي الوظيفي, والتسلط الاداري المستند على سلطة الحكومة المركزية وتموقعها في بغداد. .
والذين يتبغددون هذه الأيام على النشاطات البحرية والملاحية العراقية, هم الذين يسعون الى انتزاع ركائز ومعالم المؤسسات البحرية العراقية من ضفاف شط العرب, وشواطئ الخليج العربي. والتغريب بها نحو بغداد. . فمنهم من حاول ان يبغدد مقر شركة ناقلات النفط, وينقله من البصرة الى بغداد. ومنهم من نجح في إبقاء مقر الشركة العامة للنقل المائي في بغداد ردحا من الزمان, ومنهم من رفض فكرة نقلها الى البصرة. ومنهم من يخطط لبغددة السلطة البحرية العراقية المزمع تأسيسها. ومنهم من يصر على نقل نماذج وعينات الحنطة المستوردة عن طريق ميناء أم قصر وفحصها في بغداد. ومنهم من يسعى لتكريس فكرة بغددة نشاطات الاستيراد عبر الموانئ البديلة, وتقليص التعامل مع موانئنا. .
وهناك فئة أخرى مازالت تتبغدد وتتبجح بنظرتها الاستعلائية البيروقراطية في التعامل مع خبراء الملاحة والهندسة البحرية في البصرة, وتمارس التكبر والتعالي حتى مع الذين انتقلوا من بغداد للعمل والعيش في البصرة . . وفئة أخرى تمعن في الانتقاص من كفاءة ومؤهلات الطواقم البحرية العاملة في الجنوب. وفئة أخرى وصل بها التبغدد والبغددة الى الدرجة التي جعلتها تتظاهر بالتفوق المطلق في العلوم والمعارف المرتبطة بكافة المجالات والاختصاصات البحرية, على الرغم من خلو سجلهم المهني من اي خدمة بحرية فعلية. . وكانت ظاهرة التبغدد البحري وراء انشاء (المجلس البحري الأعلى) في بغداد عام 1970. .
وتعد ظاهرة البغددة البحرية نتاجا مقصودا أو غير مقصود لعقدة الأبوة التي اصيبت بها بغداد, وتركت تداعياتها على بقية المحافظات منذ أمد بعيد. .
ختاما نقول ان الفئات التي استفادت من هذه الظاهرة لا تتعاطى مع المؤسسات البصرية بصفتها نواة السلطة البحرية, بل تستخدمها مجرد أداة بيد المركز. . فقد اسهمت هذه الظاهرة في تعقيد إشكالية التنمية البحرية بصورة عامة, حتى اصبح لزاما علينا, أكثر من أي وقت مضى, التصدي لهذه الظاهرة, وكبح جماحها عن طريق الإقرار بتوزيع سليم للادوار, وتحديد المسئوليات, وإعتماد المعايير الصحيحة, وتوفير المناخ المساعد على تقوية وتطوير النشاطات البحرية, وتحقيق العدالة الإدارية, وتحريك البواعث لدى المؤسسات البحرية العريقة وصولا الى تحقيق التنمية الشاملة, ووضع قواعد ثابتة وعلنية وشروط وإجراءات تتسم بالشفافية في التعامل مع رجال البحر, ووضع هياكل للحوار والتشاور المباشر بين مدراء المؤسسات البحرية, والتخفيف من حدة الوصاية المركزية عبر تقوية استقلالية الموانئ والشركات البحرية الأخرى, واحتضان ورعاية وتشجيع الموارد البشرية العاملة في المسطحات البحرية العراقية. .