المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أحسن القصص - قصص القرآن الكريم



mr.cOoOl
18-07-2008, 10:19 PM
السلام عليكم يا أعضاء المنتدى
بعد انقطاع 4 سنين أعود إليكم بباقة من أجمل القصص.
الكثير من الوجوه الجديد قد رأيتها في قسم القصص والروايات, لذا أرجوا أن تعتبروني ضيف جديداً لكم :)

جئتكم بباقة من قصص القرآن، ففي النهاية لايمكن أن يكون أي منتدى قصص مكتمل من دون قصص القرآن الكريم.

مقدمة

مَنْ منّا يقرأ القرآن ويمرّ على قصصه التي تنقل حوادث حقيقية وقعت في ظروف زمانية ومكانية مختلفة من التاريخ ، ولا يستمتع بالأسلوب الرائع والشيّق لهذه القصص لا سيّما وانّه يرى القيم والمبادئ التي تقف وراء التحولات المهمة في الحياة البشرية وعلى مرّ الزمان مجسّدة في أشخاص وفي مواقف وفي سياق الحوادث التي تنسج القصة القرآنية .
وقصص القرآن الكريم ، هذا الكتاب الهادي ، كما هي رسالة كل قصة لا تحكي فقط ما جرى في الأزمنة الغابرة وإنّما تحاكي الحاضر والمستقبل ، عندما تخاطب أبعاداً في الانسان لا يبدّلها الزمان والمكان سوى ما يتعلق بطريقة التعبير وأنماط الحياة ...
وعند ما يحتاج أيٌّ منّا إلى موقف يتخذه في الحالات الصعبة التي تواجهه وتستدعي منه موقفاً قد يغيّر مسار حياته بالكامل ، فإنّ القصة القرآنية تسعفه أيضاً ونجد المواقف في القصة واضحة وجلية لا لبس فيها بل إنّها تصوّر طرفي الصراع : الخير والشرّ ، والعدل والظلم ، والصلاح والفساد ، والاستقامة والانحراف ، و ... وعاقبة كل موقف والظروف المحيطة به والمؤثرة فيه والناتجة عنه ، كما تدفعك القصة القرآنية وأنت تقرأها إلى التعاطف الكامل وبشكل تلقائي مع البطل والشخصية الخيّرة والانزعاج بالكامل من العنصر السلبي والشخصية الشريرة .
والغريب أن هذا التقابل في أنماط الشخصيات وطبيعة المواقف لا تضمّه القصة الواحدة أحياناً بل قد يتجلّى في قصص عديدة فتجد نموذجاً في هذه القصة ونموذجاً معاكساً له في تلك ويبقى عنصر المحاكاة رغم ذلك حيّاً .
وما علينا سوى أن نسمح لهذه القصص الكريمة أن تحاكي حياتنا حتى نجدها حيّة تعيش بيننا من جديد

بداية الخلق ولنبدأ بالقصة من أولها نبدأ قبل الأنبياء وقبل الأرض وقبل السموات نبدأ بالبداية ، يقول تعالى { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) { الزمر . ويقول تعالى { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59){ الفرقان . ويقول تعالى { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2){سباء . سبحانه يروي الإمام أحمد -رحمه الله- عن أبي رز يل لقيط بن

عامر العقيلة -رضي الله عنه- أنه قال : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ فقال –صلى الله عليه وسلم-: كان في عما في فراغ لا شيء ظلام وفراغ ما فوقه هواء، وما تحته هواء، هواء عند العرب يعني فراغ ما في شيء ثم خلق عرشه على الماء هذه بداية الخلق وفي الحديث الآخر الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داو ود والترمذي وغيرهما عن عبادة ابن الصامت –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إن أول من خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. فهذا علم الله- سبحانه وتعالى- خطه القلم بما أمره الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ . في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم وهو رائد جمهور الفقهاء في هذه القضية أي الأمور خلق أولا عن عبد الله بن عمر بن العاص- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء إذا العرش أولا على الماء ثم القلم فخط به الخط ثم جاءت السماوات والأرض فعندما يقال أول ما خلق الله القلم يعني أول من خلق من مخلوقات هذا العالم وجاء هذا فيما يرويه البخاري عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- جاء وفد من اليمن وقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم -جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر يعني بداية الخلق فقال : كان الله لا إله إلا الله كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء فكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض إذا البداية العرش على الماء ثم القلم كتب كل شيء وفي كلام بعض العلماء أن بعد القلم اللوح المحفوظ مباشرة فكتب القلم على اللوح المحفوظ ثم بعد ذلك جاء خلق الخلائق وخلق السموات والأرض وتفاصيل ذلك أما ترتيب هذه الأمور فجاءت فيها أقوال كثيرة للعلماء وذكرنا لكم الترتيب الذي هو رأي جمهور العلماء في هذه المسألة أما ترتيب خلق المخلوقات في العالم عالم السموات والأرض فجاء فيها أيضا حديث صحيح يرويه الأمام أحمد ويرويه كذلك الأمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يعني الأذى والجراثيم والأمراض المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة. آخر خلق خلق، آخر المخلوقات وهذا فيه أمر واضح في نظرية التطور وغيرها، المسألة واضحة ما فيه تطور ، الأمور هكذا خلقت ، وآخر الخلق هو آدم هو أبو البشر آخر خلق خلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ما بين العصر والمغرب فهذا فيه دليل على أن آدم هو آخر ما خلق من هذه المخلوقات وفيه تفصيل عن الأحاديث التي جاءت تبين لنا ترتيب خلق المخلوقات . وخلق الله -سبحانه وتعالى- قبل أن يخلق آدم خلق الملائكة عليهما السلام . وجاء في الحديث الصحيح قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من نار وخلق آدم مما وصف له وجاء بعد خلق الملائكة خلق الجن وجاء في ذلك الآيات والأحاديث الكثيرة. يقول الله سبحانه وتعالى { وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15){ الرحمن . المارج من نار : طرف النار طرف اللهب ليس من أصل النار وإنما من أطراف لهب النار . وقال تعالى على لسان إبليس { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12){ الاعراف . وقال الله سبحانه وتعالى{ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27){ الحجر . فدل على أنه قبل وفي الآية أصل خلق الجن وإبليس ، وجاء هذا حتى لا يتردد أحد في هذه المسألة ولا يخطئ ، وفي الآية { إلا إبليس كان من الجن { ليس من الملائكة يقول الحسن البصري رحمه الله لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين أبدا ، ما كان من الملائكة ، من الجن وهو يقول : خلقتني من نار ، بينما الملائكة من نور وتضافرت الأدلة على إن إبليس من الجن ما كان من الملائكة أبدا وعن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: كانت الجن قبل آدم بألفي عام ، ألفين سنة قبل آدم ، و سكنوا الأرض هذه التي نعرفها ، فكان يسكنها الجن ، ففسقوا فيها وأفسدوا فسادا عظيما وقتلوا بعضهم تقتيلا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندا من الملائكة لما كثر الفساد في الأرض ، فالله سبحانه وتعالى أرسل إليهم الملائكة فقاتلتهم الملائكة ، وحدثت معركة عظيمة على الأرض قبل خلق آدم ، فطردوهم إلى جزائر البحور وأخرجوهم من القارات وطردوهم إلى الجزر التي في المحيطات وهذا موطن الجن إلى اليوم ، أصل مراكز الجن الرئيسية في تلك الأماكن وجاءت الأحاديث الكثيرة تشير إلى أن إبليس لعنه الله له عرش وملك ، وهو رئيس الجن وعرشه على الماء في مكان ما فهذا كان قبل خلق آدم عليه السلام .

للموضوع تتمة ... الرجاء عدم الرد :ee2:

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:25 PM
قصة ولادة النبي عيسى عليه السلام

قال تعالى في سورة مريم (( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِياًّ * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِياًّ * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياًّ * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِياًّ * ))

( الكافي ) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت , فيجاء بمريم , فيقال: أنت أحسن أم هذه قد حسناها فلم تفتتن .... الحديث.

( الكافي ) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لم يعش مولود قط لستة أشهر غير الحسين (ع) وعيسى بن مريم عليه السلام.

وفيه عن حفص بن غياث قال: رأيت أبا عبدالله عليه السلام يتخلل بساتين الكوفة فانتهى إلى نخلة , فتوضأ عندها ثم ركع وسجد فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة ثم استند إلى نخلة فدعا بدعوات ثم قال يا حفص إنها والله النخلة التي قال الله جل ذكره لمريم (ع) (( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ ))

( تفسير علي بن إبراهيم ) (( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً )) . قال: خرجت إلى النخلة اليابسة (( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً )) قال: في محرابها (( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا – يعني جبرئيل (ع) - فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِياًّ فقال – جبرئيل - إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِياًّ )) فأنكرت ذلك , لأنه لم يكن في العادة أن تحمل المرأة من غير فحل , (( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياًّ )) ولم يعلم جبرئيل عليه السلام أيضاً كيفية القدرة فقال لها : (( كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ )) .

قال: ( فنفخ في جيبها ) فحملت بعيسى في الليل فوضعته في الغداة , وكان حملها تسع ساعات جعل الله لها الشهور ساعات , ثم ناداها جبرئيل عليه السلام : (( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ )) أي هزي النخلة اليابسة – وكان ذلك اليوم سوقاً فاستقبلها الحاكة , وكانت الحياكة أنيل – أي أنفع – صناعة في ذلك الزمان فأقبلوا على بغال شهب فقالت لهم مريم : أين النخلة اليابسة ؟ فاستهزؤوا بها وزجروها ! فقالت لهم: جعل الله كسبكم نزراً – أي قليل النفع – وجعلكم في الناس عاراً , فاستقبلوها قوم من التجار فدلوها على النخلة اليابسة , فقالت لهم: جعل الله البركة في كسبكم وأحوج الناس إليكم.

فلما بلغت النخلة أخذها المخاض فوضعت بعيسى عليه السلام . فلما نظرت إليه قالت: (( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِياًّ )) ماذا أقول لحالي وماذا أقول لبني إسرائيل ؟ فناداها عيسى من تحتها : (( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِياًّ – أي نهراً - وحركي النخلة تساقط عليك رطباً جنياً )). وكانت النخلة قد يبست منذ دهر , فمدت يدها إلى النخلة فأورقت وأثمرت وسقط عليها الرطب الطري فطابت نفسها.

وقال لها عيسى (ع) : قمطيني ثم افعلي كذاوكذا , فقمطته وسوته وقال لها عيسى (( فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنسِياًّ )) ففقدوها في المحراب , فخرجوا في طلبها , وخرج زكريا فأقبلت وهو في صدرها , وأقبلن مؤمنات بني إسرائيل يبسرن في وجهها , فلم تكلمهن , حتى دخلت محرابها , فجاء إليها بنو إسرائيل وزكريا (( قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياًّ * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ )) فأشارت إلى عيسى في المهد فقالوا (( كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِياًّ )) فأنطق الله عيسى (ع) : (( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِياًّ ... الآية )

( الأمالي ) بإسناده إلى علي بن الحسين (ع) قال: أن أمير المؤمنين (ع) لما رجع من وقعة الخوارج , اجتاز بالزوراء , فقال للناس : إنها الزوراء فسيروا وجنبوا عنها فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة. فلما أتى يمنة السواد إذا براهب في صومعة له , فقال له الراهب : لا تنزل هذه الأرض بجيشك ! قال ! ولم ؟ قال: لأنها لا ينزلها إلا نبي أو وصي نبي يقال في سبيل الله عز وجل , هكذا نجد في كتبنا , فقال له مير المؤمنين عليه السلام: أنا وصي سيد الأنبياء وسيد الأوصياء , فقال له الراهب : فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال له أمير المؤمنين : أنا ذلك : فنزل الراهب إليه فقال له: خذ علي شرايع الإسلام إني وجدت في الإنجيل نعتك , وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى (ع).

فأتى أمير المؤمنين موضعاً , فلكزه برجله فانبجست عين خوارة , فقال: هذه عين مريم التي إنبعثت لها , ثم قال: إكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً فكشف , فإذا هو بصخرة بيضاء , فقال علي عليه السلام : على هذه الصخرة وضعت مريم عيسى من عاتقها , وصلت هاهنا . ثم قال: أرض براثا هذه بيت مريم عليها السلام.

( التهذيب ) عن علي بن الحسين عليه السلام : في قوله تعالى : (( فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِياًّ )) قال: خرجت من دمشق حتى أتت كربلاء , فوضعته في موضع قبر الحسين (ع) ثم رجعت من ليلتها.

( علل الشرايع ) عن وهب قال: لما جاء المخاض مريم عليها السلام إلى جذع النخلة , إشتد عليها البرد , فعمد يوسف النجار إلى حطب فجعله حولها كالحضيرة ثم أشعل فيه النار , فاصابتها سخونة الوقود من ناحية حتى دفئت وكسر لها سبع جوزات وجدهن في خرجه فأطعمها. فمن أجل ذلك توقد النصارى النار في ليلة الميلاد وتلعب بالجوز.

( وعن ) الباقر (ع) : ان إبليس أتى ليلة ميلاد عيسى (ع) فقيل له قد ولد الليلة ولد لم يبق على وجه الأرض صنم إلا خر لوجهه , وأتى المشرق والمغرب يطلبه فوجده في بيت دير قد حفت به الملائكة , فذهب يدنو ! فصاحت الملائكة: تنح , فقال لهم من أبوه ؟ فقالت الملائكة ! فمثله كمثل آدم , فقال إبليس لأضلن به أربعة أخماس الناس.

( وعنه ) عليه السلام : لما قالت العواتق الفرية على مريم وهن سبعون (( يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياًّ )) أنطق الله عيسى عليه السلام عند ذلك فقال لهن: ويلكن تفترين على أمي (( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ )) وأقسم بالله لأضربن كل امرأة منكن حداً بافترائكن على أمي.

قال الحكم: فقلت للباقر عليه السلام: أفضربهن عيسى بعد ذلك ؟ نعم ولله الحمد والمنة.

وقيل لعيسى (ع) : ما لك لا تتزوج ؟ قال وما أصنع بالتزويج ؟ قيل يولد لك , قال وما أصنع بأولاد إن عاشوا افتنونا وإن ماتوا أحزنونا ؟.

وقال أمير المؤمنين (ع) : في بعض خطبه: وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن وكان ادامه الجوع وسراجه بالليل القمر وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها وفاكهته ريحانة ما أنبتت الأرض للبهائم ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ولا مال يتلفه ولا طمع يذله ودابته رجلاه وخادمه يداه.

ورى المفضل عن الصادق (ع) : أن بقاع الأرض تفاخرت , ففخرت الكعبة على البقعة بكربلا , فأوحى الله إليها اسكني ولا تفخري عليها , فإنها البقعة المباركة التي نودي منها موسى من الشجرة , وانها الربوة التي اوت إليها مريم والمسيح (ع) وأن الدالية التي غسل فيها رأس الحسين (ع) فيها , وفيها غسلت مريم عيسى واغتسلت لولادتها.
*****
قصـــــــــــة مائدة قوم عيسي

ذكر الله تبارك وتعالى سورة المائدة وحيا على رسوله صلى الله عليه وسلم وسميت هذه السورة سورة المائدة لأنها تتضمن قصة المائدة التي أنزلها الله تعالى من السماء عندما سأله عيسى ابن مريم عليه السلام إنزالها من السماء كما طلب منه ذلك اصحابه وتلا ميذه الحواريون، ومضمون خبر وقصة هذه المائدة ان عيسى عليه السلام أمر الحواريون بصيام ثلاثين يوما فلما أتموها سألوا عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله تعالى قد قبل صيامهم وتكون لهم عيدًا يفطرون عليها يوم فطرهم، ولكن عيسى عليه السلام وعظهم في ذلك وخاف عليهم ألا يقوموا بشكرها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك، فلما ألحوا عليه أخذ يتضرع إلى الله تعالى في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا فاستجاب الله عزوجل دعاءه فأنزل سبحانه المائدة من
...................................
السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلا قليلا وكالما دنت منهم يسأل عيسى عليه السلام أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها سلامًا وبركة، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل، فقام عيسى عليه السلام يكشف عنها وهو يقول (( بسم الله خير الرازقين)) فإذا عليها من الطعام سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة وقيل: كان عليها خل ورمان وثمار ولها رائحة عظيمة جدًا، ثم امرهم عيسى عليه السلام بالأكل منها أمر عليه السلام الفقراء والمحاويج والمرضى وأصحاب العاهات وكانوا قريبًا من الألف وثلاثمائة أن يأكلوا من هذه المائدة،
فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو ءافة أو مرض مزمن واستغنى الفقراء وصاروا أغنياء فندم الناس الذين لم يأكلوا منها لما رأوا من إصلاح حال اولئك الذين أكلوا ثم صعدت المائدة وهم ينظرون إليها حتى توارت عن اعينهم، وقيل: إن هذه المائدة كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، فيأكل ءاخرهم كما ياكل أولهم حتى قيل: إنه كان ياكل منها كل يوم سبعة ءالاف شخص.

ثم أمر الله تعالى أن يقصرها على الفقراء دون الاغنياء، فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك فرفعت ومُسخ الذين تكلموا في ذلك من المنافقين خنازير.

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:28 PM
قصة النبي يونس عليه السلام

(( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )).

( تفسير علي بن إبراهيم ) ابي عن ابن ابي عمير عن جميل قال: قال لي أبوعبدالله عليه السلام : ما رد الله العذاب عن قوم يونس , وكان يونس يدعوهم إلى الاسلام فيأبون ذلك , فهم أن يدعو عليهم, وكان فيهم رجلان عابد وعالم , وكان اسم احدهما مليخا والآخر روبيل , فكان العابد يشير على يونس (ع) بالدعاء عليهم , وكان العالم ينهاه ويقول لا تدع عليهم فإن الله يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده , فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم. فدعا عليهم , فأوحى الله إليه : ان يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا. فما قرب الوقت خرج يونس عليه السلام مع العابد وبقى العالم فيها. فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب , فقال العالم لهم : ياقوم افزعوا إلى الله فلعله يرحمكم فيرد العذاب عنكم , فقالوا: كيف نفعل ؟ قال: اخرجوا إلى المفازة وفرقوا بين النساء والأولاد وبين الابل وأولادها وبين البقر وأولادها وبين الغنم وأولادها ثم ابكوا وادعوا , فذهبوا وفعلوا ذلك وضجوا وبكوا , فرحمهم الله وصرف ذلك عنهم وفرق العذاب على الجبال.

وقد كان نزل وقرب منهم , فأقبل يونس عليه السلام لينظر كيف أهلكهم الله فرأى الراعين يزرعون في أرضهم , فقال لهم: ما فعل قوم يونس ؟ فقالوا له ولم يعرفوه أن يونس دعا عليهم , فاستجاب الله له ونزل العذاب عليهم , فاجتمعوا وبكوا , فدعوا فرحمهم الله وصرف ذلك عنهم وفرق العذاب على الجبال , فهم ذا يطلبون يونس (ع) ليؤمنوا به , فغضب يونس ومر على وجهه مغاضباً به , كما حكى الله , حتى انتهى إلى ساحل البحر , فإذا سفينة قد شحنت وأرادوا أن يدفعوها , فسألهم يونس (ع) أن يحلموه , فحملوه.

فلما توسط البحر , بعث الله حوتاً عظيماً , فحبس عليهم السفينة , فنظر إليه يونس عليه السلام ففزع , فصار في مؤخرة السفينة, فدار إليه الحوت ففتح فاه , فخرج أهل السفينة فقالوا: فينا عاصٍ , فتساهموا فخرج سهم يونس عليه السلام . وهو قول الله عز وجل : (( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ )) فأخرجوه فألقوه في البحر فالتقمه الحوت ومر في الماء.

وقد سأل بعض اليهود أمير المؤمنين عليه السلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه فقال: يا يهودي أما السجن الذي طاف أقطار الأرض بصاحبه فإنه الحوت الذي حبس فيه يونس عليه السلام في بطنه , فدخل في بحر الفلزم , ثم خرج إلى بحر مصر ثم دخل بحر طبرستان ثم دخل في دجلة العوراء ثم مر به تحت الأرض حتى لحقت بقارون. وكان قارون هلك في أيام موسى (ع) ووكل الله به ملكاً يدخله في الأرض كل يوم قامة رجل , وكان يونس (ع) في بطن الحوت يسبح الله ويستغفره فسمع قارون صوته فقال للملك الموكل به انظرني اسمع كلام آدمي , فأوحى الله إلى الملك : انظره, فأنظره.

ثم قال قارون : من أنت ؟ قال يونس (ع) : أنا المذنب الخاطىء يونس بن متى , قال: فما فعل شديد الغضب في الله موسى بن عمران ؟ قال: هيهات هلك , قال: فما فعل الرؤوف الرحيم على قومه هارون بن عمران ؟ قال: هلك , قال : فما فعلت كلثم بنت عمران التي كانت سميت لي ؟ قال: قال : هيهات ما بقى من آل عمران أحد, قال قارون: وا أسفا على آل عمران فشكر الله له ذلك فأمر الله الملك الموكل به أن يرفع عنه العذاب أيام الدنيا ؟ فرفع عنه.

فلما رأى يونس (ع) ذلك (( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )) فاستجاب له وأمر الحوت فلفظته على ساحل البحر وقد ذهب جلده ولحمه , وأنبت الله شجرة من يقطين(( وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ )) فأظلته من الشمس فسكن , ثم أمر الله عز وجل الشجرة فتنحت عنه ووقع الشمس عليه فجزع. فأوحى الله إليه: يا يونس لِمَ لَمْ ترحم مائة ألف أو يزيدون , وأنت تجزع من ألم ساعة ؟ فقال: يا رب عفوك عفوك , فرد الله صحة بدنه , ورجع إلى قومه وآمنوا به. قال: فمكث يونس (ع) في بطن الحوت تسع ساعات. (وعن) أبي جعفر عليه السلام : ثلاث ساعات.

(وعن) أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعت أم سلمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبدا , فسألته في ذلك , فقال: صلى الله عليه وآله : يا أم سلمة وما يؤمنني , وإنما وكل الله يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين , وكان منه ما كان.

( العياشي ) عن الباقر عليه السلام في حديث طويل , قال فيه: أنه بعد ما سأل يونس ربه نزول العذاب على قومه , أن فيهم الحمل والجنين والطفل والشيخ الكبير والمرأة الضعيفة والمستضعف , وأنا الحكم العدل , سبقت رحمتي غضبي لا أعذب الصغار بذنوب الكبار من قومك , وهم يا يونس عبادي أحب أن أتأنيهم وأرفق بهم وأنتظر توبتهم , وإنما بعثتك إلى قومك لتعطف اليهم وتكون لهم كهيئة الطبيب المداوي والعالم بمداواة الداء , فخرقت بهم لم تستعمل قلوبهم بالرفق , ثم سألتني من سوء نظرك العذاب عند قلة الصبر منك, وعبدي نوح كان أصبرمنك على قومه وأحسن صحبة وأشد تأنياً , فغضبت له حين غضب وأجبته حين دعاني.

فقال يونس (ع) : يا رب إنما غضبت عليهم فيك وإنما دعوت عليهم حين عصوك وعزتك لا أنعطف عليهم برأفة أبداً , فأنزل عليهم عذابك فإنهم لا يؤمنون أبداً فقال الله : يا يونس إنهم مائة ألف أو يزيدون من خلقي يعمرون بلادي ويلدون عبادي ومحبتي , أن أتأنيهم للذي سبق من علمي فيهم وفيك , وتقديري غير علمك وتقديرك وأنت المرسل وأنا الرب الحكيم , يا يونس وقد أجبتك إلى مسألتك من العذاب عليهم وما ذلك يا يونس بأوفر لحظك عندي , وسيأتيهم عذابي في شوال يوم الأربعاء وسط الشهر بعد طلوع الشمس , فأعلمهم ذلك.

قال: فسرَّ بذلك يونس (ع) ولم يدر ما عاقبته , فانطلق يونس (ع) إلى تنوخا العابد فأخبره بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم وقال له: انطلق إليهم وأعلمهم بما أوحى الله إليَّ من نزول العذاب عليهم , فقال تنوخا: فدعهم في غمرتهم ومعصيتهم , حتى يعذبهم الله تعالى : فقال له يونس (ع) : بل نلقي روبيل فنشاوره فإنه رجل عالم حكيم من أهل بيت النبوة.

فانطلقا إلى روبيل , فأخبره يونس عليه السلام بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في شوال يوم الأربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس , فقال له: ما ترى ؟ انطلق بنا حتى أعلمهم ذلك , فقال له روبيل : إرجع إلى ربك رجعة نبي حكيم وسله أن يصرف عنهم العذاب فإنه غني عن عذابهم , وهو يحب الرفق بعباده , ولعل قومك بعد ما سمعت ورأيت من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوماً فصابرهم وتأنهم.

فقال تنوخا : ويحك يا روبيل ما أشرت إلى يونس (ع) وأمرت , بعد كفرهم بالله وجحودهم لنبيه وتكذيبهم إياه وإخراجهم إياه من مساكنه وما هموا به من رحمة , فقال روبيل لتنوخا : اسكت فإنك رجل عابد لا علم لك.

ثم أقبل على يونس (ع) فقال: يا يونس إذا أنزل الله العذاب على قومك يهلكهم جميعاً أو يهلك بعضاً ويبقي بعضاً ؟ فقال يونس (ع) : بل يهلكهم جميعاً وكذلك سألته ما دخلتني لهم رحمة تعطف , فأراجع الله فيهم واسأله أن يصرف عنهم , فقال له روبيل : أتدري يا يونس لعل الله إذا أنزل عليهم العذاب فأحسوا به أن يتوبوا إليه , فيرحمهم فإنه أرحم الراحمين ويكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن الله أنه ينزل عليهم العذاب يوم الأربعاء فتكون بذلك عندهم كذاباً , فقال له تنوخا : ويحك يا روبيل لقد قلت عظيماً , يخبرك النبي المرسل أن الله أوحى إليه أن ينزل العذاب عليهم , فترد قول الله وتشك فيه وفي قول رسول الله , اذهب فقد احبط الله عملك , فقال روبيل لتوخا : لقد فشل رأيك , ثم أقبل على يونس (ع) فقال: إذا نزل الوحي والأمر من الله على ما أنزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم وقوله الحق أرأيت إذا كان ذلك فهلك قومك كلهم وخربت قريتهم أليس يمحو الله اسمك من النبوة وتبطل رسالتك وتكون كبعض ضعفاء الناس ويهلك على يديك مائة ألف من الناس ؟ فأبى يونس عليه السلام أن يقبل وصيته.

فانطلق ومعه تنوخا من القرية وتنحيا عنهم غير بعيد , ورجع يونس (ع) إلى قومه وأخبرهم أن الله أوحى إليه أن ينزل العذاب عليكم في شوال في وسط الشهر بعد طلوع الشمس , فردوا عليه قوله وكذبوه وأخرجوه من قريتهم إخراجاً عنيفاً . فخرج يونس عليه السلام ومعه تنوخا من القرية وتنحيا عنهم غير بعيد وأقاما ينتظران العذاب.

وأقام روبيل مع قومه في قريتهم , حتى إذا دخل عليهم شوال , صرخ روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم : أنا روبيل شفيق عليكم رحيم بكم وهذا شوال قد دخل عليكم وقد أخبركم يونس نبيكم ورسولكم أن الله أوحى إليه أن العذاب ينزل عليكم في شوال في وسط الشهر يوم الأربعاء بعد طلوع الشمس , ولن يخلف الله وعده ورسوله فانظروا ما أنتم صانعون ؟ فأفزعهم كلامه ووقع في قلوبهم تحقيق نزول العذاب , فأتوا نحو روبيل وقالوا له: ما تشير علينا يا روبيل فإنك رجل عالم حكيم لم نزل نعرفك بالرأفة علينا والرحمة لنا . وقد بلغنا ما أشرت به على يونس فينا , فمرنا بأمرك وأشر علينا برأيك , فقال لهم روبيل : فإني أرى لكم وأشير عليكم أن تنظروا إذا طلع الفجر يوم الأربعاء في وسط الشهر أن تعزلوا الأطفال عن الأمهات في أسفل الجبل في طريق الأودية وتقفوا النساء في سفح الجبل ويكون هذا كله قبل طلوع الشمس فإذا رأيتم ريحاً صفراء أقبلت من المشرق فعجوا الكبير منكم والصغير بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله والتوبة إليه وارفعوا رؤوسكم إلى السماء وقولوا : ربنا ظلمنا أنفسنا وكذبنا وتبنا إليك من ذنوبنا وإن لم تغفر لنا ولا ترحمنا لنوكنن من الخاسرين المعذبين فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين , ثم لا تملوا من البكاء والصراخ والتضرع إلى الله حتى تتوارى الشمس بالحجاب ويكشف الله عنكم العذاب قبل ذلك . فأجمع رأي القوم جميعاً على هذا.

فلما كان يوم الأربعاء الذي توقعوا العذاب , تنحى روبيل من القرية حيث يسمع صراخهم ويرى العذاب إذا نزل. فلما طلع الفجر يوم الأربعاء , فعل قوم يونس ما أمرهم روبيل. فلما بزغت الشمس أقبلت ريح صفراء مظلمة لها صرير وحفيف وهدير. فلما رأوها عجوا جميعاً بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله وتابوا إليه وصرخت الأطفال بأصواتها تطلب أمهاتها وعجت سخال البهائم تطلب اللبن وعجت الأنعام تطلب المرعى. فلم يزالوا بذلك , ويونس وتنوخا يسمعان صيحتهم وصراخهم , ويدعوان الله عليهم بتغليظ العذاب , وروبيل في موضعه يسمع صراخهم وعجيجهم ويرى ما نزل وهو يدعو الله بكشف العذاب عنهم.

فلما أن زالت الشمس وفتحت أبواب السماء وسكن غضب الرب تعالى , فاستجاب دعاءهم وقبل توبتهم , وأوحى إلى إسرافيل: أن يهبط إلى قوم يونس (ع) فإنهم قد عجوا إليَّ بالبكاء والتضرع وتابوا فرحمتهم وأنا التواب الرحيم , وأنا أحق من وفى بعهدي , ولم يكن اشترط يونس حين سألني أن أنزل عليهم العذاب , أن أهلكهم فاهبط إليهم فاصرف عنهم ما قد نزل بهم من عذابي , فقال إسرافيل : يا رب إن عذابك قد بلغ أكنافهم وكاد أن يهلكهم وما أراه إلا وقد نزل بساحتهم فكيف انزل اصرفه ؟ فقال الله : كلا إني قد أمرت ملائكتي أن يوقفوه ولا ينزلوه عليهم حتى يأتي أمري فيهم وعزيمتي , فاهبط يا إسرافيل عليهم واصرفه عنهم واصرفه على الجبال بناحية مغاوض العيون ومجاري السيول في الجبال العادية المستطيلة على الجبال , فأذلها به لينها حتى تصير ملينة حديداً جامداً. فهبط إسرافيل عليهم فنشر أجنحته , فاستاق بها ذلك العذاب حتى ضرب بها تلك الجبال.

قال أبو جعفر (ع) : وهي الجبال التي بناحية الموصل اليوم : فصارت حديداً إلى يوم القيامة.

فلما رأى قوم يونس أن العذاب قد صرف عنهم , هبطوا من رؤوس الجبال إلى منازلهم ضموا إليهم نساءهم وأولادهم وأموالهم وحمدوا الله على ما صرف عنهم. وأصبح يونس (ع) وتنوخا يوم الخميس في موضعهما لا يشكان أن العذاب قد نزل بهم وأهلكهم جميعاً , لما خفيت أصواتهم عندهما , فأقبلا ناحية القرية يوم الخميس مع طلوع الشمس ينظران إلى ما صار إليه القوم.

فلما دنوا من القوم واستقبلهم الحطابون والحماة والرعاة بأغنامهم ونظروا إلى أهل القرية مطمئنين , قال يونس لتنوخا : يا تنوخا كذبني الوحي وكذبت وعدي لقومي ولا عزة لي ولا يرون لي وجهاً أبداًَ بعد ما كذبني الوحي. فانطلق يونس هارباً على وجهه مغاضباً لربه ناحية البحر مستنكراً فراراً من أن يراه أحد من قومه فيقول له كذاب ! . فلذلك قال الله تعالى : (( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا )) الآية.

ورجع تنوخا إلى القرية فلقي روبيل فقال له: يا تنوخا أي الرأيين كان أصوب وأحق أن يتبع , رأيي أو رأيك ؟ فقال له تنوخا: بل رأيك كان أصوب ولقد كنت أشرت برأي الحكماء العلماء. فقال تنوخا: أما أني لم أزل أرى أني أفضل منك لزهدي وفضل عبادتي حتى استبان فضلك لفضل علمك , وما أعطاك ربك من الحكمة مع التقوى أفضل من الزهد والعبادة بلا علم , فاصطحبا , فلم يزالا مقيمين مع قومهما. ومضى يونس (ع) على وجهه مغاضباً لربه : فكان من قصته ما أخبر الله في كتابه: (( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ))

قال أبوعبيدة : قلت لأبي جعفر عليهم السلام : كم كان غاب يونس عليه السلام عن قومه حتى رجع إليهم بالنبوة والرسالة فآمنوا به وصدقوه ؟ قال: أربعة أسابيع سبعاً منها في ذهابه إلى البحر , وسبعاً منها في رجوعه إلى قومه.

فقلت له : وما هذه الأسابيع شهوراً وأيام أو ساعات ؟ فقال: يا أباعبيدة إن العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النصف من شوال وصرف عنهم من يومهم ذلك , فانطلق يونس عليه السلام مغاضباً , فمضى يوم الخميس سبعة أيام في مسيره إلى البحروسبعة أيام في بطن الحوت , وسبعة أيام تحت الشجرة بالعراء , وسبعة أيام في رجوعه إلى قومه , فكان ذهابه ورجوعه مسيرة عشرين يوماً , ثم أتاهم فأمنوا به وصدقوه واتبعوه. فلذلك قال الله : (( فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ )).

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:31 PM
قصة النبي هود علي السلام وقومه عاد

قال تعالى في سورة الأعراف (( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ )).

(وعاد) هو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح , أخاهم في النسب , لأن هود ابن شالخ بن افرخشد بن نوح. وقيل هو ابن عبدالله بن رياح بن حلوت ابن عاد بن علوص بن آدم بن سام ابن نوح. كذا في كتاب النبوة , وقد جعلهم الله سكان الأرض من بعد قوم نوح وزادهم بسطة في الخلق , كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم سبعين ذراعاً.

وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام : كانوا كأنهم النخل الطوال فكان الرجل منهم يضرب الجبل بيده فيهدم منه قطعة وكانوا يعبدون أصناماً سموها آلهة , ولذا قال لهم هو (ع) : ( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ). وقيل معناه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر والأرض وأنه يأتيهم بالرزق والآخر أنه يشفي المرض والآخر أنه يصحبهم في السفر , وهؤلاء الذين أهلكهم الله بالريح , خرج على قدر الخاتم وكانوا يقولون لنبيهم هود ولا نقول فيك إلا أنه أصابك بعض آلهتنا بسوء فخبل عقلك لسبك إياه (إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ) , وكانوا يبنون البنيان بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة فيسخروا بهم ويعبثوا منهم. وقيل أن معنى قوله : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) هو اتخاذهم بروجاً للحمام عبثاً ولما دعاهم ولم ينفع بهم حبس الله سبحانه عنهم المطر فساق إليهم سحابة سوداء فاستبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا , فقال هود بل هو العذاب الذي طلبتموه (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فأرسل الله عليهم ريحاً أهلكت كل شيء واعتزل هود ومن معه في حضيرة لم يصبهم من تلك الريح إلا ما تلين على الجلود وتلتذّ به الأنفس وانها لتمر على عاد بالظعن ما بين السماء والأرض حتى ترى الظعينة كأنها جرادة وقد سخر تلك الريح عليهم سبع ليال وثمانية أيام , قال وهب: هي التي تسميها العرب أيام العجوز ذات برود ورياح شديدة , وإنما نسبت إلى العجوز , لأن عجوزاً دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن.

(وفي تفسير علي بن إبراهيم) أن عاداً كانت بلاد في البادية وكانت لهم زرع ونخل كثير ولهم أعمار طويلة وأجسام طويلة فعبدوا الأصنام فبعث الله إليهم هوداً يدعوهم إلى الإسلام فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه فكفت السماء عنهم سبع سنين حتى قحطوا وكان هود زارعاً وكان يسقي الزرع , فجاء قوم إلى بابه يريدونه , فخرجت عليهم امرأته شمطاء عوراء , فقالت من أنتم ؟ فقالوا نحن من بلاد كذا وكذا أجدبت بلادنا , فجئنا إلى هود نسأله أن يدعو الله حتى تمطر وتخصب بلادنا , فقالت لو استجيب لهود لدعا لنفسه احترق زرعه لقلة الماء , قالوا فأين هو؟ قالت هو في موضع كذا وكذا فجاؤا إليه , فقالوا يا نبي الله قد أجدبت بلادنا فاسأل الله أن يمطر بلادنا , فصلى ودعا لهم فقال: ارجعوا فقد أمطرتم , فقالوا يا نبي الله لقد رأينا في بيتك عجباً , امرأة شمطاء عوراء , وحكى له كلامها , فقال هود ذلك امرأتي , وأنا أدعو الله لها بطول البقاء ! فقالوا وكيف ذلك ؟ قال لأنه ما خلق الله مؤمناً إلا وله عدو يؤذيه وهي عدوتي فلإن يكون عدوي ممن أملكه , خير من أن يكون عدوي ممن يملكني , فبقى هود في قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن عبادة الأصنام حتى تخصب بلادهم وهو قوله عز جل: ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ * قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)

فلما لم يؤمنوا أرسل الله عليهم الريح الصرصر , يعني الباردة , وهو قوله في سورة القمر: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ) وحكى في سورة الحاقة فقال: ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ). قال كان القمر منحوساً بزحل سبع ليال وثمانية أيام.

وعن أبي جعفر عليه السلام : الريح العقيم تخرج من تحت الأرضين السبع , وما خرج منها شيء قط إلا على قوم عاد , حين غضب الله عليهم , فأمر الخزان أن يخرجوا منها مثل سعة الخاتم , فعصفت على الخزنة فخرج منها مثل مقدار منخر الثور تغيظاً منها على قوم عاد , فضج الخزنة إلى الله من ذلك. وقالوا: يا ربنا إنها قد عتت علينا ونحن نخاف أن نهلك , ممن لم يعصك من خلقك وعمَّار بلادك , فبعث الله جبرئيل (ع) فردها بجناحه , وقال لها أخرجي على ما أمرت به , فرجعت وخرجت على ما أمرت به فأهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم.

(علي بن إبراهيم) قال حدثني أبي قال أمر المعتصم أن يحفر بالبطانية بئر , فحفروا ثلاثمائة قامة فلم يظهر الماء فتركه ولم يحفره , فلما ولي المتوكل أمر أن يحفر ذلك البئر أبداًَ حتى يبلغ الماء , فحفروا حتى وضعوا في كل مائة قامة بكرة حتى انتهوا إلى صخرة فضربوها بالمعول فانكسرت فخرجت عليهم منها ريح باردة فمات من كان بقربها , فأخبروه بذلك فلم يعلم ماذاك فقالوا سل ابن الرضا عن ذلك وهو أبوالحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام, فكتب إليه يسأله عن ذلك , فقال عليه السلام: تلك بلاد الأحقاف – أي الرمل – وهم قوم عاد الذين أهلكهم الله بالريح الصرصر وكان نبيهم هود وكانت بلادهم كثيرة الخير , فحبس الله عنهم المطر سبع سنين , حتى أجدبوا وذهب خيرهم وكان يدعوهم فلم يؤمنوا. فأوحى الله إلى هود عليه السلام : ان يأتيهم العذاب في وقت كذا وكذا ريح فيها عذاب أليم , فلما كان ذلك الوقت نظروا إلى سحاب قد أقبلت ففرحوا بالمطر , فقال هود عليه السلام بل هو عذاب استعجلتم بطلبه , ريح فيها عذاب أليم , فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم , وكل هذه الأخبار من هلاك الأمم تخويف وتحذير لأمة محمد صلوات الله عليه وآله.(وقال عليه السلام) الرياح خمسة منها العقيم فنعوذ بالله من شرها.

(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله) : ما خرجت ريح قط إلا بمكيال إلا زمن عاد فإنها عتت على خزانها , فخرجت في مثل خرق الإبرة فأهلكت قوم عاد.

(الكافي) عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن لله جنوداًَ من رياح يعذب بها من يشاء ممن عصاه , ولكل ريح منها ملك موكل بها , فإذا أراد الله أن يعذب قوماً بنوع من العذاب , أوحى الله إلى الملك الموكل بذلك النوع من الريح التي يريد أن يعذبهم بها , قال: فيأمرها الملك فتهيج كما يهيج الأسد المغضب , قال ولكل ريح منهن اسم , أما تسمع قوله تعالى في عاد: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ) وقال تعالى: ( إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وقال: (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقال: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) وما ذكر من الرياح التي يعذب الله بها من عصاه.

(علل الشرايع) بالإسناد عن وهب قال: إن الريح تحت هذه الأرض التي نحن عليها قد زمّت بسبعين ألف زمام من حديد , قد وكل بكل زمام سبعون ألف ملك , سلّطها الله عز وجل على عاد , استأذنت خزنة الريح ربها عز وجل أن يخرج منها في مثل منخري الثور , ولو أذن الله عز وجل لها ما تركت شيئاً على وجه الأرض إلا أحرقته , فأوحى الله عز وجل إلى خزنة الريح أن أخرجوا منها مثل ثقب الخاتم , فأهلكوا بها , وبها ينسف الله عز وجل الجبال نسفاً والتلال والأكمام والمدائن والقصور يوم القيامة.

وذلك قوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) والقاع الذي لا نبات فيها , والصفصف الذي لا عوج فيه , والأمت المرتفع , وإنما سميت العقيم لأنها تلقحت بالعذاب وتعقمت عن الرحمة كتعقم الرجل , إذا كان عقيماً لا يولد له , وطحنت تلك القصور والحصون والمدائن حتى صاروا رملا , وإنما كثر الرمل في تلك البلاد لأن الريح طحنت تلك البلاد وعصفت عليهم (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) وكانت ترفع الرجال والنساء فتهب بهم صعداً ثم ترمي بهم من الجو فيقعون على رؤوسهم منكبين , تقلع الرجال والنساء من تحت أرجلهم ثم ترفعهم وكانت الريح نقضت الجبال كما نقضت المساكن فتطحنها , ثم تعود رملا دقيقاً , إنما سميت عاد ارم ذات العماد , من أجل أنهم كانوا يسلخون العمد من الجبال فيجعلون طول العمد مثل طول الجبال الذي يسلخونه من أسفله إلى أعلاه , ثم ينقلون تلك العمد فينصبونها , ثم يبنون القصور عليها , فسميت ذات العماد لذلك.

(كتاب الإحتجاج) عن علي بن يقطين قال: أمر أبوجعفر الدانيفي يقطين أن يحفر بئراً بقصر العبادي , فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبوجعفر , ولم يستنبط منها الماء فأخبر المهدي بذلك , فقال له أحفر أبداً حتى يستنبط الماء ولو أنفقت جميع ما في بيت المال , فوجه يقطين أخاه أباموسى في حفرها ، فلم يزل يحفر حتى ثقبوا ثقباً في أسفل الأرض فخرجت منه الريح فهالهم ذلك فأخبروا به أباموسى فقال: أنزلوني وكان رأس البئر أربعين ذراعاً في أربعين ذراع , فأجلس في شق محمل ودلي في البئر فلما صار في قعرها نظر إلى هولها وسمع دوي الريح في أسفل ذلك , فأمرهم أن يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب العظيم , ثم دلي فيه رجلا في شق محمل , فقال إيتوني بخبر هذا فنزلا ومكثال ملياً ثم حرَّكا الحبل , فأصعدا , فقال لهما ما رأيتما ؟ قالا أمراً عظيماً نساءاً ورجلاً وبيوتاً ومتاعاً كلهم مسوخ من حجارة , فأما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم. فمن بين قاعد ومضجع ومتكيء , فلما مسسناهم إذا ثيابهم تتقشأ مثل الهباء , ومنازلهم قائمة , فكتب بذلك أبوموسى إلى المهدي , فكتب إلى المدينة إلى موسى بن جعفر عليهما السلام يسأله أن يقدم عليه , فقدم عليه , فأخبره فبكى بكاءاً شديداً , وقال يا أمير المؤمنين هؤلاء بقية أصحاب عاد غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم , هؤلاء أصحاب الأحقاف – أي الرمل -.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : قال المبرد المراد من الأحقاف الرمل الكثير , وهي رمال بين عمان إلى حضرموت. وقيل باليمن مشرفة على البحر.

(إكمال الدين) مسنداً إلى أبي وائل قال: ان رجلا يقال له عبدالله بن قلابة خرج في طلب إبل له قد شردت , فبينما هو في صحاري عدن في الفلوات إذ هو قد وقع على مدينة عليها حصن حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال فلما دنى منها ظن أنّ فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلاً ولا خارجاً , فنزل عن ناقته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب الحصن فإذا هو بباين عظيمين لم ير في الدنيا أعظم منهما ولا أطول , وإذا خشبهما من أطيب عود وعليها نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ضوؤها قد ملأ المكان , فلما رأى ذلك المكان أعجبه ففتح أحد البابين ودخل فإذا هو بمدينة لم ير الراؤن مثلها قط , وإذا هو بقصور وكل قصر منها معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت فوق كل قصر منها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد , وعلى كل باب من أبواب تلك القصور مصاريع مثل مصاريع باب المدينة من عود طيب قد نضدت عليه اليواقيت وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران , فلما رأى ذلك ولم ير أحداً أفزعه ذلك, ونظر إلى الأزقة وإذا في كل زقاق منها أشجار قد أثمرت تحتها أنهار تجري , فقال هذه الجنة التي وعد الله عز وجل لعباده في الدنيا فالحمد لله الذي أدخلني الجنة , فحمل من لؤلؤها وبنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا من ياقوتها لأنه كان مثبتاً في أبوابها وجدرانها , وكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران بمنزلة الرمل في تلك القصور والغرف كلها , فأخذ منها ما أراد وخرج , حتى أتى ناقته ركبها ثم سار يقفو اثره حتى رجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وأعلم الناس أمره وباع بعض ذلك اللؤلؤ , وكان قد أصفر وتغير من طول ما مر عليه من الليالي والأيام , فشاع خبره وبلغ معاوية بن أبي سفيان , فأرسل رسولاً إلى صاحب صنعاء وكتب بإشخاصه , فشخص حتى قدم على معاوية. فخلا به وسأله عما عاين , فقص عليه أمر المدينة وما رأى فيها وعرض عليه ما حمله منها من اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران , فقال والله ما أعطي سليمان بن داود مثل هذه المدينة. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار فقال له يا أبا إسحاق هل بلغك أنَّ في الدنيا مدينة مبنية بالذهب و الفضة وعمدها زبرجد وياقوت وحصا قصورها وغرفها اللؤلؤ وأنهار في الأزقة تجري من تحت الأشجار.

قال كعب : أمَّا هذه المدينة صاحبها شداد بن عاد الذي بناها , وأما المدينة فهي ارم ذات العماد وهي التي وصفها الله عز وجل في كتابه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وذكر انه لم يخلق مثلها في البلاد.

قال معاوية حدثنا بحديثها فقال: ان عاد الأولى وليس بعاد قوم هود كان له ابنان سمى أحدهما شديداً والآخر شداداً , فهلك عاد وبقيا وملكا وتجبرا وأطاعهما الناس في الشرق والغرب فمات شديد وبقى شداد , فملك وحده لم ينازعه أحد , وكان مولعاً بقراءة الكتب , وكان كلما سمع بذكر الجنة وما فيها من البنيان والياقوت والزبرجد رغب أن يفعل مثل ذلك في الدنيا , عتواً على الله عز وجل فجعل على صنعتها مائة رجل , تحت كل واحد ألف من الأعوان , فقال انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها واعملوا لي فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ واصنعوا تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد وعلى المدينة قصوراً وعلى القصور غرفاً وفوق الغرف غرف , واغرسوا تحت القصور وفي أزقتها أصناف الثمار كلها واجروا فيها الأنهار , حتى تكون تحت أشجارها , فإني أرى في الكتب صفة الجنة وأنا أحب أن أجعل مثلها في الدنيا , قالوا له كيف نقدر على ما وصفت لنا من الجواهر والذهب والفضة حتى يمكننا أن نبني مدينة كما وصفت ؟ قال شداد ألا تعلمون أن ملك الدنيا بيدي ؟ قالوا بلى , قال انطلقوا إلى كل معدن من معادن الجواهر والذهب والفضة فوكلوا بها حتى تجمعون ما تحتاجون إليه وخذوا جميع ما تجدونه في أيدي الناس من الذهب والفضة , فكتبوا إلى ملك الشرق والغرب فجعلوا يجمعون أنواع الجواهر عشر سنين فبنوا له هذه المدينة في مدة ثلاثمائة سنة , وعمر شداد تسعمائة سنة , فلما أتوه وأخبروه بفراغهم منها , قال فانطلقوا فاجعلوا عليها حصناً وجعلوا حول الحصن ألف قصر عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر من القصور وزير من وزرائي , فرجعوا وعملوا ذلك كله. ثم أتوه فأخبروه بالفراغ منها كما أمرهم , فأمر الناس بالتجهيز إلى ارم ذات العماد فأقاموا في تجهيزهم إليها عشر سنين , ثم سار الملك يريد ارم , فلما كان من المدينة على مسيرة يوم وليلة , بعث الله عز وجل عليه وعلى جميع من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم , ولا دخل ارم ولا أحد ممن كان معه فهذه صفة ارم ذات العماد , واني لأجد في الكتب أن رجلا يدخلها ويرى ما فيها ثم يخرج فيحدث الناس بما رأى , فلا يصدق , وسيدخلها أهل الدين في آخر الزمان.

وفي (مجمع البيان) في آخره: وسيدخلها في زمانك رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال , يخرج من تلك الصحاري في طلب إبل له (والرجل معاوية) فالتفت إليه كعب وقال: هذا والله ذلك الرجل.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:33 PM
قصة النبي صالح عليه السلام

قال تعالى في سورة الأعراف (( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ * )). وقد ذكر الله سبحانه قصتهم في كتابه المجيد تعظيماً لمواقعتهم الشنيعة وتخويفاً لهذه الأمة من أن يرتكبوا مثلها , وقد ارتكبوا ما هو أشنع وأفضع منها.

ولهذا صح عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام: أشقى الأولين والآخرين من عقر ناقة صالح ومن ضربك ياعلي على قرنك حتى تخضب من دم رأسك لحيتك. وتواتر عنه صلى الله عليه وآله تشبيه قاتله عليه السلام بعاقر الناقة. وقد صنف بعض المتأخرين رسالة في وجه هذا التشبيه وأطال في بيان وجوه المناسبة ومن أمعن النظر فيه يظهر له شدة انطباقه عليه وذلك أن علياً عليه السلام كان آية لله تعالى أظهرها على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله , كما قال عليه السلام : وأي آية أعظم مني.

وذكر الفاضل المعتزلي ابن أبي الحديد في الشرح : ان تأريخ الدنيا وأحوالها مضبوط من بعد الطوفان إلى يومنا هذا , وما بلغنا في هذه المدة الطويلة ان رجلاً من العرب والعجم والترك والهند و الروم يدانيه في الشجاعة مع تكثرهم في طوايف الناس بل ولم يقاربه أحد في خصلة من خصال الكمال.

(وروى) صاحب كتاب القدسيات من علماء الجمهور أنه قال جبرئيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله : ان الله بعث علياً مع الأنبياء باطناً وبعثه معك ظاهراً.

وأما ولادته فكانت في الكعبة التي هي صخرة بيت الله , كما خرجت الناقة من الصخرة , ولم يتفق ذلك لنبي أو وصي نبي. وكان عليه السلام : يمير الناس العلوم والحكم , كما كانت الناقة تميرهم السقيا.

وأما سبب شهادته عليه السلام فكانت قطامة عليها لعنة الله , كما كان السبب في عقر الناقة الملعونة الزرقاء , وبعد أن استشهد عليه السلام عمدوا إلى ولده الحسين عليه السلام وقتلوه , كما قتل أولئك فصيل الناقة , إلى غير ذلك من وجوه المناسبة بين قران قاتله عليه السلام مع عاقر الناقة والمشابهة بينهما.

وقوله سبحانه : ( تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا ) السهل خلاف الجبل , وهو ما ليس فيه مشقة للناس أي تبنون في سهولها الدور والقصور , وإنما اتخذوها في السهول ليصيفوا فيها. (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) قال ابن عباس : كانوا يبنون القصور بكل موضع وينحتون من الجبال بيوتاً ليكون مساكنهم في الشتاء أحسن وأدفأ. وكانت ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام وكانت عاد باليمن وكانت أعمار ثمود من ألف سنة إلى ثلاثمائة.

وأما صالح عليه السلام : فهو صالح بن ثمود بن عاثر بن ارم بن سام بن نوح (ع) .

(العياشي) عن أبيه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله سأل جبرئيل عليه السلام : كيف كان مهلك قوم صالح ؟ فقال: يا محمد ان صالحاً بعث إلى قومه وهو ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة, ولا يجيبونه إلى خير وكان لهم سبعون صنماً يعبدونها من دون الله فلما رأى ذلك منهم , قال يا قوم إني قد بعثت إليكم وأنا ابن ست عشر سنة وقد بلغت عشرين ومائة سنة , وأنا أعرض عليكم أمرين إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألوني , وإن شئتم سألت آلهتكم فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم فقد شنئتم وشنئتموني , فقالوا قد أنصفت , فاتَّعدوا ليوم يخرجون فيه , فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم ثم قربوا طعامهم وشرابهم فأكلوا وشربوا , فلما فرغوا دعوه فقالوا يا صالح سل , فدعا صالح كبير أصنامهم , فقال ما اسم هذا ؟ فأخبروه باسمه فناداه باسمه فلم يجب فقالوا أدع غيره فدعا كلها بأسمائهم , فلم يجبه واحد منهم , فقال يا قوم قد ترون دعوت أصنامكم فلم يجبني واحد منهم , فاسألوني حتى أدعو إلهي فيجيبكم الساعة , فأقبلوا على أصنامهم فقالوا لها ما بالكن لا تجبن صالحاً , فلم تجب , فقالوا يا صالح تنح عنا ودعنا وأصنامنا. قال فرموا بتلك البسط التي بسطوها وبتلك الآنية وتمرغوا في التراب وقالوا لها لئن لم تجبن صالحاً اليوم لتفضحن , ثم دعوه فقالوا يا صالح تعال فسلها , فعاد فسألها فلم تجبه فقال يا قوم قد ذهب النهار ولا أرى آلهتكم تجيبني , فاسألوني حتى أدعو إلهي فيجيبكم الساعة , فانتدب له سبعون رجلا من كبرائهم فقالوا يا صالح نحن نسألك , فقال أكل هؤلاء يرضون بكم ؟ قالوا نعم , فإن أجابك هؤلاء أجبناك قالوا يا صالح نحن نسألك فإن أجابك ربك اتبعناك وتابعك جميع قريتنا. فقال لهم صالح سلوني ما شئتم , فقالوا انطلق بنا إلى هذا الجبل فانطلق معهم , فقالوا سل ربك أن يخرج لنا الساعة من هذا الجبل ناقة حمراء شديدة الحمرة وبراء عشراء – يعني حاملا – بين جنبيها ميل , فقال سألتموني شيئاً يعظم علي ويهون على ربي , فسأل الله ذلك . فانصدع الجبل صدعاً كادت تطير منه العقول لما سمعوا صوته واضطرب الجبل كما تضطرب المرأة عند المخاض. ثم لم يفجأهم إلا ورأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمت رقبتها حتى اجترت ثم خرج ساير جسدها , فاستوت على الأرض قائمة فلما رأوا ذلك , قالوا يا صالح ما أسرع ما أجابك ربك , فاسأله أن يخرج لنا فصيلها فسأل الله ذلك , فرمت به فدب حولها , فقال يا قوم أبقي شيء ؟ قالوا لا فانطلق بنا إلى قومنا نخبرهم ما رأيناه ويؤمنوا بك , فرجعوا فلم يبلغ السبعون الرجل إليهم حتى ارتد منهم أربعة وستون رجلا وقالوا سحر , وثبت الستة وقالوا الحق ما رأيناه , ثم ارتاب من الستة واحد فكان فيمن عقرها. وزاد محمد بن أبي نصر في حديثه : قال سعيد بن يزيد فأخبرني أنه رأى الجبل الذي خرجت منه بالشام , فرأى جنبها قد حك الجبل فأثر جنبها فيه وجبل آخر بينه وبين هذا ميل.

وفي (التهذيب) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: أدفنوني في هذا الظهر في قبر أخوي هود وصالح عليهما السلام.

(وعن ابن عباس) قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم وهو آخذ بيد علي عليه السلام وهو يقول: يا معاشر الأنصار أنا محمد رسول الله إلا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي : أنا وعلي وحمزة وجعفر. فقال قائل هؤلاء معك ركبان يوم القيامة ؟ فقال كذلك انه لن يركب يومئذ إلا اربعة : أنا وعلي وفاطمة وصالح , فأما أنا فعلى البراق , وأما فاطمة ابنتي فعلى العضباء , وأما صالح فعلى ناقة الله التي عقرت , وأما علي فعلى ناقة من نوق الجنة , زمامها من ياقوت عليه حلتان خضراوان. فيقف بين الجنة والنار وقد ألجم الناس العرق يومئذ فتهب ريح من قبل العرش فتنشف عنهم عرقهم , فيقول الأنبياء والملائكة والصديقون ما هذا إلا ملك مقرب أو نبي مرسل , فينادي مناد: ما هذا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكنه علي بن أبي طالب أخو رسول الله ( صلوات الله عليهما في الدنيا والآخرة ).

(وفي تفسير علي بن إبراهيم) صالح قال لهم : لهذه الناقة شراب – أي تشرب ماؤكم يوماً – وندر لبنها يوماً , فكانت تشرب ماؤهم يوماً وإذا كان الغد وقفت وسط قريتهم , فلا يبقى في القرية أحد إلا حلب منها حاجته , وكان فيهم تسعة من رؤسائهم يفسدون في الأرض , فعقروا الناقة وقتلوها وقتلوا فصيلها , فلما عقروا الناقة قالوا لصالح إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح: ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) وعلامة هلاككم أنه تصفر وجوهكم غداً وتحمر بعد غد وتسود يوم الثالث , فلما كان من الغد نظروا إلى وجوههم قد اصفرت فلما كان اليوم الثاني احمرت مثل الدم فلما كان الثالث اسودت وجوههم , فبعث الله عليهم صيحة جبرئيل (ع) صاح بهم صيحة تقطعت بها قلوبهم وخرقت منها أسماعهم فماتوا أجمعين في طرفة عين , ثم ارسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقتهم

(قال) الحسن بن محبوب : حدثني رجل من أصحابنا يقال له سعيد بن زيد في حديث طويل قال فيه : وكانت مواشيهم تنفر منها لعظمها , فهموا بقتلها , قالوا وكانت امرأة جميلة يقال لها صدوب ذات مال وبقر وغنم , وكانت أشد الناس عداوة لصالح , فدعت رجلاً من ثمود يقال له مصدع , وجعلت له على نفسها على أن يعقر الناقة , وامرأة أخرى يقال لها عنيزة , دعت قدار بن سالف وكان أحمر أزرق قصيراً وكان ولد زنا ولم يكن لأبيه , ولكنه ولد على فراشه , قالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة , فانطلق قدار ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهما سبعة نفر وأجمعوا على عقر الناقة. فانطلق قدار وكبر وجلس مع أناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماءاً يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة , فوجدوا الماء قد شربته الناقة , فاشتد ذلك عليهم فقال قدار هل لكم في أن أعقرها لكم ؟ قالوا نعم.

(وقال كعب) كان سبب عقرهم الناقة ان امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثموداً فلما أقبلت الناس على صالح وصارت الرياسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدار بن سالف ولامرأة أخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدع وكان قدار ومصدع يجتمعان معهما كل ليلة ويشربون الخمر فقالت لهما ملكا إن أتاكما الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما ان الملكة حزينة لأجل الناقة ولأجل صالح فنحن لا نطيعكما حتى تعقرا الناقة , فلما أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا نحن نكون من وراء عقرها , فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة في طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى , فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقدار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاءاً واحدة ثم طعنها في لبتها فنحرها , وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه , فلما رأى الفصيل ما فعل بأمه ولى هارباً ثم صعد جبلاً , ثم رغا رغاء تقطع منه قلوب القوم , وأقبل صالح فخرجوا يعتذرون إليه , إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا , فقال صالح : انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه في الجبل فلم يجدوه. وكانوا عقروا الناقة ليلة الأربعاء , فقال لهم صالح تمتعوا في داركم ثلاثة أيام , فإن العذاب نازل بكم , فصاح بهم جبرئيل عليه السلام تلك الصيحة , وكانوا قد تحنطوا وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم , فماتوا أجمعين في طرفة عين , وكان ذلك في يوم الاربعاء.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:35 PM
قصص النبي شعيب عليه السلام

قال تعالى في سورة الأعراف : (( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )) الآيات.

قال أمين الإسلام الطبرسي في قوله تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ ) أي أهل مدين أو هو اسم القبيلة. قيل إن مدين ابن إبراهيم الخليل , فنسب القبيلة إليه.

قال عطاء : هو شعيب بن نوبة بن مدين بن إبراهيم , وكان خطيب الأنبياء لحسن مراجعة قومه وهم أصحاب الأيكة. وقال قتادة : أرسل شعيب مرتين إلى أهل مدين مرة , وإلى أصحاب الأيكة مرة ( فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ) أي أدوا حقوق الناس على التمام في المعاملات ( وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ) أي لا تنقصوهم حقوقهم. ( وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) أي لا تعملوا في الأرض بالمعاصي واستحلال المحرمات , بعد أن أصحلها الله بالأمر والنهي وبعثة الأنبياء. ( وَلاَ تَقْعُدُواْ ) فإنهم كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيباً للإيمان به , فيخوفونه بالقتل , أو انهم كانوا يقطعون الطريق فنهاهم عنه. ( وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) بأن تقولوا هو باطل. ( فَكَثَّرَكُمْ ) أي كثر عددكم. قال ابن عباس : وذلك أن مدين ابن إبراهيم تزوج بنت لوط , فولدت , حتى كثر أولادها.

(علل الشرايع) بإسناده إلى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : بكى شعيب من حب الله عز وجل حتى عمي , فرد الله عز وجل عليه بصره. فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب إلى متى تكون هذا أبداً منك , إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك , فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنتك , ولكن عقد حبك في قلبي فلست أصبر أو أراك فأوحى الله جل جلاله إليه: أما إذا كان هكذا فمن أجل هذا , سأخدمك كليمي موسى بن عمران.

قال الصدوق رحمه الله: يعني بذلك : لا أزال أبكي أو أراك قد قبلتني حبيباً. وقال شيخنا المحدث أبقاه الله تعالى: كلمة أو بمعنى إلى أن , أو إلا أن , أي إلى أن يحصل لي غاية العرفان والإيقان المعبر عنها بالرؤية وهي رؤية القلب لا البصر. والحاصل طلب كمال المعرفة بحسب الاستعداد والقابلية والوسع والطاقة انتهى. والأظهر أن يقال المراد بقوله: أو أراك. إلى أن أراك بعد الموت , يعني أني أبكي على حبك ولا أفتر عن البكاء حتى ألقاك , كمن غاب عن حبيبه فهو يبكي على حبيبه لأجل فراقه إلى أن يلقاه.

فهذه معان ثلاثة والحديث حمال أوجه , وما قاله نبي الله شعيب (ع) , هو الذي قاله أمير المؤمنين عليه السلام : ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

وعني علي بن الحسين عليه السلام قال: أول من عمل المكيال والميزان شعيب النبي عليه السلام عمله بيده , فكانوا يكيلون ويوفون , ثم انهم بعد أن طففوا في المكيال والميزان وبخسوا في الميزان فأخذتهم الرجفة , فعذبوا بها ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ).

قال الطبرسي في قوله تعالى : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) أي الزلزلة.

وقيل : أرسل الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم , فدخلوا أجواف البيوت , فدخل عليهم البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء وأنضحهم البحر, فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة , فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة فنادوا عليكم بها فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحت السحابة , ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد وصاروا رماداً , وهو عذاب يوم الظلة. عن ابن عباس وغيره من المفسرين.

وقيل : بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا بها. عن أبي عبدالله.
وقيل: أنه كان لشعيب قومان , قوم أهلكوا بالرجفة وقوم هم أصحاب الظلة.

(قصص الأنبياء) للراوندي من علمائنا , رواه بإسناده إلى سهل بن سعيد , قال: بعثني هشام بن عبدالملك استخرج له بئراً في رصافة عبدالملك فحفرنا منها مائتي قامة , ثم بدت لنا جمجمة رجل طويل , فحفرنا ما حولها , فإذا رجل قائم على صخرة عليه ثياب بيض وإذا كفه اليمنى على رأسه على موضع ضربة برأسه , فكنا إذا نحينا يده عن رأسه سالت الدماء وإذا تركناها عادت فسدّت الجرح , وإذا في ثوبه مكتوب: أنا شعيب بن صالح رسول رسول الله شعيب النبي عليه السلام إلى قومه , فضربوني وطرحوني في هذا الجب وهالوا عليّ التراب. فكتبنا إلى هشام ما رأيناه , فكتب أعيدوا عليه التراب كما كان واحتفروا في مكان آخر.

( كنز الفوائد) للكراجكي: عن عبدالرحمان بن زياد الأفريقي قال: خرجت بافريقية مع عم لي إلى مزدرع لنا فحفرنا موضعاً فأصبنا تراباً هشاً فحفرنا عامة يومنا حتى انتهينا إلى بيت كهيئة الأذج , فإذا فيه شيخ مسجى وإذا عند رأسه كتابة فقرأتها فإذا هي: أنا حسان بن سنان الأوزاعي رسول شعيب النبي عليه السلام إلى أهل هذه البلاد , دعوتهم إلى الإيمان بالله فكذبوني وحبسوني في هذا الحفر إلى أن يبعثني الله وأخاصمهم يوم القيامة.

وذكروا أن سليمان بن عبدالملك مرّ بوادي القرا , فأمر ببئر يحفر فيه ففعلوا فانتهى إلى صخرة , فاستخرجت فإذا تحتها رجل عليه قميصان واضع يده على رأسه , فخذبت يده , فشج مكانها بدم , ثم تركت فرجعت إلى مكانها فرقا الدم فإذا معه كتاب فيه: أنا الحارث بن شعيب الغساني رسول شعيب إلى أهل مدين فكذبوني وقتلوني.

وقال وهب : بعث الله شعيباً إلى أهل مدين , ولم يكونوا قبيلة شعيب التي كان منها ولكنهم كانوا أمة من الأمم بعث إليهم شعيب , وكان عليهم ملك جبار ولا يطيقه أحد من ملوك عصره , وكانوا ينقصون المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم مع كفرهم بالله وتكذيبهم لنبيه , وكانوا يستوفون إذا اكتالوا لأنفسهم أو وزنوا لها , وكانوا في سعة من العيش , فأمرهم الملك باحتكار الطعام ونقص المكاييل والموازين , ووعظهم شعيب , فأرسل إليه الملك , ما تقول ما صنعنا , أراضٍ أنت أم ساخط ؟ فقال شعيب: أوحى الله تعالى إليّ : ان الملك إذا صنع مثل ما صنعت , يقال له: ملك فاجر , فكذبه الملك وأخرجه وقومه من المدينة.

قال الله تعالى حكاية عنهم : ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) فزادهم شعيب في الوعظ فقالوا : ( يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) فآذوه بالنفي من بلادهم , فسلط الله عليهم الحر والغيم , حتى أنضجهم الله , فلبثوا فيه تسعة أيام وصار ماؤهم حميماً لا يستطيعون شربه فانطلقوا إلى غيضة لهم , وهو قوله تعالى : ( وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ) فرفع الله لهم سحابة سوداء , فاجتمعوا في ظلها , فأرسل الله عليهم ناراً منها فأحرقتهم فلم ينج أحد منهم , وذلك قوله تعالى ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ). فلما أصاب قومه ما أصابهم , لحق شعيب والذين آمنوا معه بمكة , فلم يزالوا بها حتى ماتوا.

والرواية الصحيحة : أن شعيباً عليه السلام صار منها إلى مدين , فأقام بها , وبها لقيه موسى بن عمران صلوات الله عليهما.

وعن علي عليه السلام قال: قيل له : يا أمير المؤمنين حدثنا قال: ان شعيب النبي عليه السلام دعا قومه إلى الله حتى كبر سنه ودق عظمه , ثم غاب عنهم ما شاء الله , ثم عاد إليهم شاباً , فدعاهم إلى الله عز وجل , فقالوا ما صدقناك شيخاً فكيف نصدقك شاباً ؟.

وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: لم يبعث الله عز وجل من العرب إلا خمسة أنبياء : هوداً وصالحاً وإسماعيل وشعيباً ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وعليهم , وكان شعيب بكاءاً.

(الكافي) عن أبي جعفر عليه السلام قال: أوحى الله إلى شعيب : إني معذب من قومك مائة ألف , أربعين ألف من شرارهم وستين ألف من خيارهم , فقال عليه السلام : يا رب هؤلاء الأشرار , فما بال الأخيار ؟ فأوحى الله عز وجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي.

وعن ابن عباس رضي الله عنه : عاش شعيب صلوات الله عليه : مائتين واثنين وأربعين سنة.
وقال مجاهد : عذاب يوم الظلة هو: إظلال العذاب لقوم شعيب.
وقال بريد بن اسلم في قوله تعالى : ( يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) قال: مما كان نهاهم عنه قطع الدراهم , انتهى.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:37 PM
قصة النبي لوط عليه السلام

قال تعالى في سورة الأعراف (( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ )).

وقال تعالى في سورة العنكبوت (( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )).

هو ابن هاران بن تارخ بن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام. وقيل انه كان ابن خالة إبراهيم عليه السلام , وكانت سارة زوجة إبراهيم عليه السلام أخت لوط.

والفاحشة اتيان الرجال في أدبارهم . قال الحسن: وكانوا يفعلون ذلك. وقوله تعالى: (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) أي سبيل الولد باختياركم الرجال وتقطعون الناس عن الأسفار بإتيان هذه الفاشحة , فإنهم كانوا يفعلونه بالمجتازين في ديارهم وكانوا يرمون ابن اسبيل بالحجارة بالخزف فإن أصابه كان أولى به ويأخذون ماله فينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم , وكان لهم قاض يفتي بذلك. وقوله تعالى : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ) قيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء. وروي ذلك عن الرضا عليه السلام.

وقيل: انهم كانوا يأتون الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً , فأنزل الله عليهم الرجز – أي العذاب – وهي الحجارة التي أمطرت عليهم. وقيل: هو الماء الأسود على وجه الأرض.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : خروج الماء الأسود على وجه الأرض من علامات الغضب , وفي هذه الأعصار خرج الماء الأسود من بلاد ((قم)) وبه خربت محال كثيرة وهو إلى وقت رقم هذه الكلمات على حاله واقفاً بين محالها يخرج من المنازل فيخربها وكل محلة خربت منازلها وقع بأهلها الموت حتى أنه لم يبق منهم إلا القليل , وقد حفروا لها أنهاراً من تحت الأرض وهو يجري منه الماء إلى خارج البلد.

ورأيت حديثاً عن الصادق عليه السلام : من علامات الفرج لأهل قم أن يجري الماء على وجه الأرض. يعني أن يكون الفرج ويخرج القائم عليه السلام. وقد خرج من غيرها أيضاً مثل شيراز وجرفايقان وخرب المنازل ووقع الموت بأهلها , لكنه سكن وفرغ منه.

(علل الشرايع) بإسناده إلى أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتعوذ من البخل ؟ قال نعم في كل صباح ومساء , ونحن نتعوذ بالله من البخل , إنه يقول : ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وسأخبرك عن عاقبة البخل : ان قوم لوط كانوا أهل قرية أشحاء على الطعام , فأعقبهم البخل داءاً لا دواء له في فروجهم. فقلت وما أعقبهم ؟ فقال ان قرية قوم لوط كانت على طريق السيارة تنزل بهم فيضيفونهم , فلما أكثر ذلك عليهم ضاقوا بذلك ذرعاً بخلا ولؤماً , فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه من غير شهوة بهم , وانما كانوا يفعلون ذلك بالضيف حتى ينكل النازل عنهم , فشاع أمرهم في القرى , فأورثهم البخل بلاءاً لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم من غير شهوة إلى ذلك حتى صاروا يطلبونه من الرجال في البلاد ويعطونهم عليه الجمل. فقلت له جعلت فداك فهل كان أهل قرية لوط كلهم يفعلون ؟ فقال نعم إلا أهل بيت منهم من المسلمين , أما تسمع لقوله تعالى : ( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ) وان لوطاً لبث في قومه ثلاثين سنة يدعوهم إلى الله عز وجل وكانوا لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة.

وكان لوط رجلاً سخياً كريماً يقري الضيف إذا نزل به ويحذرهم قومه , فلما رأى قومه ذلك قالوا إننا ننهاك عن العالمين ( قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) إن فعلت فضحناك في ضيفك , فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه لأنه لم يكن للوط عشيرة ولم يزل لوط وإبراهيم عليهما السلام يتوقعان نزول العذاب على قومه , وان الله كان إذا أراد عذاب قوم لوط أدركته مودة إبراهيم وخلته ومحبة لوط , فيؤخر عذابهم , فلما اشتد عليهم غضب الله وأراد عذابهم وقضى أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم فيسلي به مصابه بهلاك قوم لوط , فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل فدخلوا عليه ليلاً , ففزع وخاف أن يكونوا سراً. فلما رأته الرسل مذعوراً قالوا سلاماً (إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) وهو إسماعيل.

قال فما خطبكم بعد البشارة ؟ ( قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط لننذرهم عذاب رب العالمين , فقال إبراهيم إن فيها لوطاً
( قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) الحديث.

(وروي) عن الأصبغ قال سمعت علياً عليه السلام يقول: ستة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط – الجلاهق – وهو البندق – والجذف ومضغ العلك وإرخاء الإزار في الخلاء وحل الأزار من القباء والقميص.

(وفيه) عن الباقر عليه السلام في حديث طويل يقول: انه لما انتصف الليل سار لوط ببناته وتولت امرأته مدبرة فانقطعت إلى قومها تسعى بلوط وتخبرهم ان لوطاً قد سار ببناته , قال جبرئيل عليه السلام واني نوديت من تلقاء العرش لما طلع الفجر يا جبرئيل حق القول من الله بحتم عذاب قوم لوط , فاقلعها من تحت سبع أرضين ثم عرج بها إلى السماء فأوقفها حتى يأتيك أمر الجبار في قلبها وجع منها آية من منزل لوط عبرة للسيارة فهبطت على أهل القرية فضرب بجناحي الأيمن على ماحوى عليه شرقيها وضرب بجناحي الأيسر على ماحوى عليه غربيها فاقتلعتهامن تحت سبع أرضين إلا منزل آل لوط , ثم عرجت بها في خوافي جناحي حتى أوقفتها حيث يسمع أهل السماء صياح ديوكها ونباح كلابها , فلما طلعت الشمس نوجيت من تلقاء العرش يا جبرئيل إقلب القرية على القوم فقلبتها عليهم حتى صار أسفلها أعلاها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ), وكان موضع قريتهم بنواحي الشام ,وقلبت بلادهم , فوقعت فيها بين بحر الشام إلى مصر فصارت تلولا في البحر.

(علي بن إبراهيم) في كلام طويل: ان إبراهيم عليه السلام لما رمي بنار نمرود , وجعلت عليه برداً وسلاماً خرج من بلاد نمرود إلى البادية فنزل على ممر الطريق إلى اليمن والشام , فكان يمر به الناس فيدعوهم إلى الإسلام , وقد كان خبره في الدنيا ان الملك ألقاه في النار ولم يحترق , وكان إبراهيم كل من مرَّ به يضيفه وكان على سبعة فراسخ منه بلاد عامرة كثيرة الشجر , وكان الطريق عليها وكان كل من مرَّ بتلك البلاد تناول من تمورهم وزروعهم فجزعوا من ذلك وجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم هل أدلكم على ما إن فعلتموه لم يمر بكم أحد ؟ فقالوا ما هو ؟ قال من مرَّ بكم فانكحوه في دبره واسلبوا ثيابه , ثم تصور لهم إبليس في صورة أمرد حسن الوجه فجاءهم فوثبوا عليه ففجروا به كما أمرهم فاستطابوه وكانوا يفعلونه بالرجال فاستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء , فشكى الناس في ذلك إلى إبراهيم عليه السلام فبعث إليهم لوطاً يحذرهم وقال لهم لوط : أنا ابن خالة إبراهيم الذي جعل الله عليه النار برداً وسلاماً , وهو بالقرب منكم فاتقوا الله ولا تفعلوا , فإن الله يهلككم وكان لوط كلما مر به رجل يريدونه بسوء خلصه من أيديهم وتزوج لوط فيهم وولد بنات , فلما طال ذلك على لوط ولم يقبلوا منه قالوا لئن لم تنته لنرجمنك بالحجارة فدعا عليهم لوط. فبينما إبراهيم عليه السلام قاعد في الموضع الذي كان فيه وقد كان أضاف قوماً وخرجوا , فنظر إلى أربعة نفر وقد وقفوا عليه لا يشبهون الناس , فقالوا سلاماً. فقال إبراهيم سلام , فجاء إبراهيم عليه السلام إلى سارة فقال لها: قد جاءتني أضياف لا يشبهون الناس , فقالت ما عندنا إلا هذا العجل. فذبحه وشواه وحمله إليهم وذلك قوله تعالى
( وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ) فما لبث أن جاء بعجل حنيذ مشوي فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ولا يأكلون منه , خاف منهم ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) , فقالت لهم سارة : ما لكم تمتنعون من طعام خليل الله ؟ فقالوا : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط , ففزعت سارة وضحكت – أي حاضت – وقد وكان ارتفع حيضها , ( وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ) فبشروها بإسحاق ومن ورائه يعقوب. فوضعت يدها على وجهها فقالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً
( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) . فقال لها جبرئيل عليه السلام أتعجبين من أمر الله ؟ ( قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيد ) فلما ذهب عن إبراهيم الروع أقبل يجادل الملائكة في قوم لوط ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) فقال إبراهيم لجبرئيل عليه السلام : بماذا أرسلت ؟ قال: بهلاك قوم لوط , قال إن فيها لوطاً قال جبرئيل عليه السلام :
( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) قال إبراهيم : يا جبرئيل إن كان في المدينة مائة رجل من المؤمنين تهلكهم ؟ قال: لا , قال: فإن كان فيهم خمسون ؟ قال: لا , قال فإن كان فيهم عشرة ؟ قال: لا , قال وإن كان فيهم واحد ؟ قال: لا , وهو قوله ( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقال إبراهيم يا جبرئيل راجع ربك فيهم فأوحى الله إلى إبراهيم : يا إبراهيم أعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وانهم آتيهم عذاب غير مردود , فخرجوا من عند إبراهيم , فوقفوا على لوط وهو يسقي زرعه , فقال لهم لوط: من أنتم ؟ قالوا : نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة. فقال لهم: يا قوم إن أهل هذه القرية قوم سوء لعنهم الله وأهلكهم , ينكحون الرجال ويأخذون الأموال , فقالوا: قد أبطأنا فأضفنا , فجاء لوط إلى أهله وكانت منهم , فقال لها: أنه قد أتانا أضياف في هذه الليلة فاكتمي عليهم حتى أعفو عنك جميع ما كان إلى هذا الوقت ؟ فقالت أفعل. وكانت العلامة بينها وبين قومها إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن فوق السطح وإذا كان بالليل توقد النار , فلما دخل جبرئيل والملائكة معه بيت لوط عليه السلام أوقدت امرأته ناراً فوق السطح , فعلم أهل القرية وأقبلوا إليه من كل ناحية يهرعون , فلما صاروا إلى باب البيت قالوا يا لوط أو لم ننهك عن العالمين ؟ فقال لهم : هؤلاء بناتي هن أطهر لكم , قال يعني به – أزواجهم – وذلك أن النبي هو أبو أمته , فدعاهم إلى الحلال , ولم يكن يدعوهم إلى الحرام , فقال: أزواجكم هن أطهر لكم , قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ؟ فقال لوط لما أيس : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد , وما بعث الله نبياً بعد لوط إلا في عز من قومه , وقوله عليه السلام : القوة القائم والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر يعني الذي يخرجون مع القائم عليه السلام.

(قال علي بن إبراهيم) فقال جبرئيل للملائكة لو علم ما له من القوة فقال لوط : من أنتم فقال له جبرئيل عليه السلام : أنا جبرئيل. فقال لوط: بماذا أمرت ؟ قال: بهلاكهم , قال الساعة ؟ فقال جبرئيل : ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) قال: فكسروا الباب ودخلوا البيت , فضرب جبرئيل بجناحه على وجوههم فطمسها , وهو قول الله عز وجل ( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ) فلما رأوا ذلك علموا أنه قد جاءهم العذاب , فقال جبرئيل للوط: فأسر بأهلك بقطع من الليل وأخرج من بينهم أنت وولدك ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنه مصيبها ما أصابهم ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) , وكان في قوم لوط رجل عالم فقال لهم: يا قوم لقد جاءكم العذاب الذي كان يعدكم لوط , فاحرسوه ولا تدعوه يخرج من بينكم فإنه ما دام فيكم لا يأتيكم العذاب , فاجتمعوا حول داره يحرسونه , فقال جبرئيل : يا لوط أخرج من بينهم , فقال كيف أخرج وقد اجتمعوا حول داري ؟ فوضع بين يديه عموداً من نور , فقال له: اتبع هذا العمود , فخرجوا من القرية من تحت الأرض , فالتفت امرأته , فأرسل الله عليها صخرة فقتلتها. فلما طلع الفجر صارت الملائكة الأربعة كل واحد في طرف من قريتهم فقلعوها من سبع أرضين إلى تخوم الأرض , ثم رفعوها في السماء , حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبوها عليهم , وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل.

(وعن أبي عبدالله (ع) ) : ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط إلا رماه الله بحجر من تلك الحجارة ليكون فيه منيته ولكن الخلق لا يرونه.

(قال الطبرسي رحمه الله ) اختلف في ذلك – يعني عرض البنات – فقيل : أراد بناته لصلبه.

عن قتادة وبه رواية. وقيل أراد النساء من أمته لأنهن كالبنات له. واختلف أيضاً في كيفية عرضهن ؟ فقيل بالتزويج , وكان يجوز في شرعه تمويج بنته المؤمنة من الكافر.

وكذا كان يجوز أيضاً في مبتدأ الإسلام , وقد زوج النبي صلى الله عليه وآله من أبي العاص بن الربيع , قبل أن يسلم. ثم نسخ ذلك. وقيل: أراد التزويج بشرط الإيمان , وكانوا يخطبون بناته فلا يزوجهن منهم لكفرهم. وقيل: انه كان لهم سيدان مطاعان , فأراد أن يزوجهما بنته ذعوراً وريثاً.

(علل الشرايع) عن الصادق عليه السلام قال: في المنكوح من الرجال هم بقية سدوم , أما اني لست أعني بقيتهم انه ولدهم , ولكن من طينتهم. (قلت) سدوم الذي قلبت عليهم ؟ قال هي أربعة مدائن سدوم وصديم ولدنا وعميراء.

(وقال المسعودي) أرسل الله لوطاً إلى المدائن الخمسة وهي سدوم وعموراً ودوماً وصاعوراً وصابوراً.

(وعنه عليه السلام) وقد سئل وكيف كان يعلم قوم لوط أنه قد جاء لوطاً رجل ؟ قال كانت امرأته تخرج فتصفر فإذا سمعوا الصفير جاءوا , فلذلك كره التصفير. (وعنه عليه السلام) أنه لما جاء الملائكة إلى لوط وهو لم يعرفهم وأخذهم إلى منزله التفت إليهم فقال انكم تأتون شرار خلق الله , وكان جبرئيل عليه السلام قال الله له: لا يعذبهم حتى يشهد عليهم ثلاث شهادات , فقال هذه واحدة , ثم مشى ساعة فقال انكم تأتون شرار خلق الله. فقال جبرئيل عليه السلام هذه ثنتان , فلما بلغ باب المدينة , التفت إليهم وقال انكم تأتون شرار خلق الله , فقال جبرئيل هذه ثلاث , ثم دخلوا منزله , الحديث.

(ثواب الأعمال) مسنداً إلى أبي جعفر عليه السلام قال: كان قوم لوط أفضل قوم خلقهم الله عز وجل فطلبهم إبليس لعنه الله طلباً شديداً , وكان من فضلهم وخيرهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم , فحسدهم إبليس على عبادتهم , وكانوا إذا رجعوا خرَّب إبليس ما يعملون , فقال بعضهم لبعض تعالوا نرصد هذا الذي يخرب متاعنا , فرصدوه فإذا هو غلام كأحسن ما يكون من الغملان , فقالوا أنت الذي تخرب متاعنا ؟ فقال نعم مرة بعد مرة , واجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل , فلما كان الليل صاح. فقال ما لك ؟ فقال كان أبي ينومني على بطنه. فقال نعم فنم على بطني , فلم يزل بذلك الرجل حتى علمه أن يعمل بنفسه , فأولا علمه إبليس والثانية علمه هو , يعني لغيره. ثم انسل ففرَّ منهم فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويعجبهم منه شيء لا يعرفونه , فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض. ثم جعلوا يرصدون مار الطريق فيفعلون بهم حتى ترك مدينتهم الناس , ثم تركوا نساءهم , فأقبلوا على الغلمان , فلما رأى إبليس لعنه الله أنه قد أحكم أمره في الرجال دار إلى النساء , فصيَّر نفسه امرأة , ثم قال إن رجالكم يفعلون بعضهم ببعض قلن نعم قد رأينا ذلك , وعلى ذلك يعظهم لوط. وما زال يوصيهن حتى اسكتفت الناسء بالنساء فلما كملت عليهم الحجة , بعث الله عز وجل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية , فمروا بلوط وهو يحرث فقال أين تريدون ؟ فما رأيت أجمل منكم قط , قالوا أرسلنا سيدنا إلى رب هذه المدينة قال ولم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه القرية ؟ يا بني إنهم والله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم , فقالوا له أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها , قال فلي إليكم حاجة ؟ قالوا وما هي ؟ قال تصبرون هاهنا إلى اختلاط الظلام , فجلسوا فبعث ابنته فقال : هاتي لهم خبزاً وماءاً وعباءة يتغطون بها من البرد. فلما أن ذهبت إلى البيت أقبل المطر وامتلأ الوادي , فقال لوط الساعة تذهب بالصبيان الوادي , قال قوموا حتى نمضي , فجعل لوط يمشي في أصل الحائط وجعل الملائكة يمشون وسط الطريق , فقال يا بني هاهنا قالوا أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. وكان لوط عليه السلام يستغل الظلام ومرَّ إبليس لعنه الله فأخذ من حجر امرأته صبياً , فطرحه في البئر , فتصايح أهل المدينة على باب لوط عليه السلام , فلما نظروا إلى الغلمان في منزل لوط عليه السلام قالوا يا لوط قد دخلت في عملنا ؟ قال هؤلاء ضيفي فلا تفضحون
( قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ) , قالوا هم ثلاثة خذ واحداً واعطنا اثنين , قال وأدخلهم الحجرة وقال لوط عليه السلام لو أن لي أهل بيت يمنعونني منكم , وقد تدافعوا بالباب فكسروا باب لوط وطرحوا لوطاً فقال جبرئيل عليه السلام إنا رسل ربك لن يصلوا إليك( قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ) , فأخذ كفاً من بطحاء الرمل فضرب بها وجوههم وقال شاهت الوجوه. فعمي أهل المدينة كلهم , فقال لوط يا رسل ربي بماذا أمركم فيهم ؟ قالوا أمرنا أن نأخذهم بالسحر , قال تأخذونهم الساعة ؟ قالوا يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ؟ فخذ أنت بناتك وامض.

(وقال) أبوجعفر عليه السلام : رحم الله لوطاً لو يدري من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حين يقول لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد , أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة.

وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله : ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) أي من ظالمي أمتك إن عملوا عمل قوم لوط.

(ثواب الأعمال) بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لما عمل قوم لوط ما عملوا , بكت الأرض إلى ربها حتى بلغت دموعها السماء , وبكت السماء حتى بلغت دموعها العرش , فأوحى الله عز وجل إلى السماء : إحصبيهم – أي ارميهم بالحصباء – وهي الحجارة , وأوحى الله إلى الأرض : أن اخسفي بهم.

(العياشي) عن زيد بن ثابت قال: سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام أتؤتى النساء في أدبارهن ؟ فقال: سفلت سفل الله بك , أما سمعت الله يقول :
( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ) .

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:40 PM
قصص النبي نوح عليه السلام

قال تعالى في سورة نوح (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً )).

(عيون أخبار الرضا) قال ان نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة أوحى الله عز وجل إلي يا نوح إن خفت الغرق فهللني ألفاً ثم سلني النجاة أنجيك من الغرق ومن آمن معك , فلما استوى نوح ومن معه في السفينة ورفع القلص عصفت الريح عليهم , فلم يأمن نوح الغرق فأجلته الريح فلم يدرك أن يهلل ألف مرة فقال بالسريانية ( هلو ليا الفا الفا يا ماريا اتقن ) فاستوى القلص وجرت السفينة , فقال نوح: ان كلاماً نجاني الله به من الغرق لحقيق أن لا يفارقني فنقش خاتمه لا إله إلا ألف مرة يا رب أصلحني.

(الأمالي) بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال: عاش نوح (ع) ألفي وخمسمائة سنة منها ثمانمائة وخمسون سنة قبل أن يبعث وألف سنة إلا خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم , ومائتا سنة في عمل السفينة , وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء فمصر الأمضار وأسكن ولده البلدان , ثم أن ملك الموت جاءه وهو في الشمس قال: السلام عليك فرد عليه نوح عليه السلام فقال: ماحاجتك يا ملك الموت ؟ قال: جئت لأقبض روحك قال له تدعني أدخل من الشمس إلى الظل فقال له نعم فتحول نوح ثم قال عليه السلام يا ملك الموت فكأن ما مرَّ بي من الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل فامض لما أمرت به , قال فقبض روحه صلى الله عليه وآله.

(علل الشرايع) سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السلام عن اسم نوح ما كان ؟ فقال: اسمه السكن وإنما سمي نوحاً لأنه ناح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. (وفيه) عن الصادق عليه السلام: كان اسم نوح عبدالغفار وإنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه.وفيه عنه عليه السلام: كان اسم نوح (ع) عبدالملك وإنما سمي نوحاً لأنه بكى خمسمائة سنة. (وعنه) عليه السلام: اسم نوح عبدالأعلى , قال الصدوق رحمه الله تعالى: الأخبار في اسم نوح عليه السلام كلها متفقة غير مختلفة تثبت له التسمية بالعبودية وهو: عبدالغفار والملك والأعلى.

(قصص الأنبياء) عن الصدوق بإسناده إلى وهب قال ان نوح لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى فلا يزدادون إلا طغياناً ومضى ثلاثة قرون من قومه وكان الرجل منهم يأتي بإبنه وهو صغير فيوقفه على رأس نوح عليه السلام فيقول يا بني إن بقيت بعدي فلا تطيعن هذا المجون. (وفيه) عن علي بن محمد العسكري عليه السلام أنه جاء إبليس إلى نوح فقال ان لك عندي يداً عظيمة فانتصحني فإني لا أخونك فتألم نوح بكلامه ومسألته , فأوحى الله إليه ان كلمه وسلمه فإني سأنطقه بحجة عليك فقال نوح صلوات الله عليه تكلم فقال إبليس إذا وجدنا ابن آدم شحيحاً أو حريصاً أو حسوداً أو جباراً أو عجولاً تلقفناه تلقف الكرة فإن اجتمعت لنا هذه الأخلاق سميناه شيطاناً فقال نوح ما اليد العظيمة التي صفت قال إنّك دعوت الله على أهل الأرض فألحقتهم في ساعة بالنار فصرت فارغاً. ولولا دعوتك لشغلت بهم دهراً طويلا.

(اكمال الدين) بإسناده إلى أبي عبدالله عليه السلام قال: عاش نوح عليه السلام بعد النزول من السفينة خمسين سنة , ثم أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا نوح انه قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك فانظر الاسم الأكبر وميراث العلم فادفعها إلى ابنك سام فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف به طاعتي ويكون نجاة فيما بين قبض النبي وبعث النبي الآخر فدفع عليه السلام آثار علم النبوة إلى ابنه سام , فأما حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به , وبشرهم نوح بهودا وظهرت الجبرية في ولد حام ويافث واستخفى ولد سام بما عندهم من العلم وجرت على سام بعد نوح الدولة لحام ويافث , وعنه عليه السلام: كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة وعاش نوح ألفي سنة وأربعامائة وخمسين سنة.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : اختلفوا في مدة عمره عليه السلام فقيل كان ألفا وأربعمائة وخمسين سنة وقيل كان ألفاً وأربعمائة سنة وسعبين سنة , وقيل ألفاً وثلاثمائة سنة , وأكثر أخبارنا المعتبرة تدل على أنه عاش ألفين وخمسمائة سنة وبعضها قابل للتأويل بإسقاط زمن البعثة أو زمان عمل السفينة أو بعدها الطوفان أو زيادتها أو نحو ذلك. (وقال) شيخنا الطبرسي طاب ثراه: في قوله تعالى: ( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) معناه أن نوحاً كان عبدالله كثير الشكر وكان إذا لبس ثوباً أو أكل طعاماً أو شرب ماء شكر الله تعالى وقال الحمد لله , وقيل أنه كان يقول في ابتداء الأكل والشرب: بسم الله وفي انتهائه الحمد لله. (وروي) عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام: أن نوحاً كان إذا أصبح وأمسى قال: اللهم اني أشهدك أن ما أصبح أو أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك , لك الحمد ولك الشكر بها علي حتى ترضى وبعد الرضا , فهذا كان شكره.

(علل الشرايع) وعن الدقاق عن الأسدي عن سهل عن عبدالعظيم الحسني قال سمعت علي بن محمد العسكري عليه السلام يقول: عاش نوح ألفين وخمسمائة سنة وكان يوماً في السفينة نائماً فهبت ريح فكشفت عورته فضحك حام ويافث فزجرهما سام ونهاهم عن الضحك وكان كلما غطى سام شيئاً تكشفه الريح كشفه حام ويافث , فانتبه نوح (ع) فرآهم وهم يضحكون فقال ما هذا فأخبره سام بما كان فرفع نوح يده إلى السماء يدعو ويقول اللهم غير ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان اللهم غير ماء صلب يافث , فغير الله ماء صلبهما فجميع السودان حيث كانوا من حام وجميع الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج والصين من يافث حيث كانوا وجميع البيض سواهم من سام , وقال نوح عليه السلام لحام ويافث جعل ذريتكما خولا أي خدماً لذرية سام إلى يوم القيامة لأنه برَّ بي وعققتماني فلا زالت سمة عقوقكما لي في ذريتكما ظاهرة وسمة البر في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : روى الشيخ الطبرسي هذا الخبر من كتاب النبوة بهذا الإسناد ثم قال: قال الشيخ أبوجعفر بن بابويه رحمه الله ذكر يافث في هذا الخبر غريب لم أروه إلا من هذا الطريق وجميع الأخبار التي رويتها في هذا المعنى فيها ذكر حام وأنه ضحك لما انكشفت عورة أبيه وأن ساماً ويافثا كانا في ناحية فبلغهما ما صنع فأقبلا ومعهما ثوب وهما معرضان وألقيا عليه الثوب وهو نائم فلما استقيظ أوحى الله عز وجل إليه ما صنع حام فلعن حام ودعا عليه.

(قصص الأنبياء) للراوندي طاب ثراه بإسناده إلى ابن عباس قال: قال إبليس لعنه الله يا نوح لك عندي يد سأعلمك خصالا قال نوح وما يدي عندك ؟ قال دَعْوَتُكَ على قومك حتى أهلكهم الله جميعاً فإياك والكبر وإياك والحرص وإياك والحسد فإن الكبر هو الذي حملني على أن تركت السجود لآدم فأكفرني وجعلني شيطاناً رجيماً وإياك والحرص فإن آدم أبيح له الجنة ونهي عن شجرة واحدة فحمله الحرص على أن أكل منها , وإياك والحسد فإن ابن آدم حسد أخاه فقتله فقال نوح صلوات الله عليه متى تكون أقدر على ابن آدم قال عند الغضب.

(الكافي) في الصحيح عن أبي عبدالله صلوات الله عليه قال: لما هبط نوح عليه السلام من السفينة غرس غرساً فكان فيما غرس النخلة ثم رجع إلى أهله فجاء إبليس لعنه الله فقلعها ثم أن نوحاً عليه السلام عاد إلى غرسه فوجده على حاله ووجد النخلة قد قلعت ووجد إبليس عندها فأتاه جبرئيل عليه السلام فأخبره أن إبليس لعنه الله قلعها فقال نوح لإبليس ما دعاك إلى قلعها؟ فوالله ما غرست غرساً أحب إلي منها ووالله لا أدعها حتى أغرسها فقال إبليس وأنا والله لا أدعها حتى أقلعها فقال اجعل لي منها نصيباً قال فجعل له منها الثلث فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن يرضى وأبى نوح أن يزيده. فقال جبرئيل لنوح عليه السلام يا رسول الله أحسن فإن منك الإحسان فعلم نوح أنه قد جعل الله له عليها سلطاناً فجعل نوح له الثلثين.

(قال) أبو عبدالله عليه السلم : فإذا أخذت عصيراً فاطبخه حتى يذهب الثلثان من نصيب الشيطان فإذا ذهب فكل واشرب حينئذ.

(وفيه) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن أبليس نازع نوحاً عليه السلام في الكرم فأتاه جبرئيل عليه السلم فقال ان له حقاً فاعطه فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس ثم أعطاه النصف فلم يرض فطرح جبرئيل ناراً فأحرقت الثلثين وبقى الثلث فقال ما أحرقت النار فهو نصيبه وما بقي فهو لك يا نوح حلال.

في بعثته إلى قومه وقصة الطوفان

إعلم أن الله سبحانه كرر قصة نوح عليه السلام في كثير من سور القرآن. قال الطبرسي طاب ثراه: وهو نوح بن متوشلخ بن اخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو أو نبي بعد إدريس. (وقيل) أنه كان نجاراً وولد في العام الذي مات فيه آدم عليه السلام وبعث وهو ابن أربعمائة سنة وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون وكانوا يثورون إلى نوح عليه السلام فيضربونه حتى تسيل مسامعه دماً وحتى لا يعقل شيئاً مما صنع به فيحمل فيرمى في بيت أو على باب داره مغشياً عليه فأوحى الله تعالى إليه إن لن يؤمن قومك إلا من آمن فعندها أقبل على الدعاء عليهم فقال ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فأعقم الله أصلاب الرجال وأرحام النساء فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم وأصابهم الجهد والبلاء ثم قال لهم نوح : ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ) , الآيات فلم يؤمنوا وقالوا (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) حتى غرقهم الله تعالى وآلهتم التي كانوا يعبدونها فلما كان بعد خروج نوح (عليه السلام) من السفينة وعبد الناس الأصنام سموا أصنامهم بأسماء أصنام قوم نوح فاتخذ أهل اليمن يغوث ويعوق وأهل دومة الجندل صنماً سموه وداً واتخذت حمير صنما سمته نسراً وهذيل سماه سواعاً فلم يزل يعبدونها حتى جاء الإسلام.

(وروي) أن الله تعالى لم يرحم قوم نوح عليه السلام في عذابهم.
(وروي) عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لما فار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء عرجت به حتى بلغت ثلثيه فما بلغها الماء حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي. وأما امرأة نوح فقال الله فيها وفي امرأة لوط : ( كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ )

(قال ابن عباس) كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس أنه مجنون وإذا آمن أحد بنوح أخبرت الجبابرة من قوم نوح به , وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه وكان ذلك خيانتهما لهما وما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خاينتها في الدين. قال (السدي) كانت خيانتهما انهما كانتا كافرتين.

(وقيل) كانتا منافقتين , وقال الضحاك خيانتهما النميمة إذ أوحى الله إليهما افشتاه إلى المشركين واسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط واهلة وقال مقاتل والفة وواهلة.

(وفيه) أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام , عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: بقى نوح عليه السلام في قومه ثلاثمائة سنة يدعوهم إلى الله فلم يجيبوه فهمّ أن يدعو عليهم عند طلوع الشمس فوافاه اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة سماء الدنيا وهم العظماء من الملائكة قالوا له نسألك أن لا تدعو على قومك فقال نوح قد أجلتهم ثلاثمائة سنة فلما أتى عليهم تسعمائة سنة ولم يؤمنوا , همَّ أن يدعو عليهم فأنزل الله عز وجل (أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) فقال نوح عليه السلام (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) فأمره الله عز وجل أن يغرس النخل فكان قومه يسخرون به ويقولون شيخ يغرس النخل فلما أتى لذلك خمسون سنة وبلغ النخل أمره الله أن ينحت السفينة وأمر جبرئيل عليه السلام أن يعلمه , فقدر طولها في الأرض ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ثمانمائة ذراع وطولها في السماء ثمانون ذراعاً فقال يا رب من يعينني على اتخاذها ؟ فأوحى الله إليه : ناد في قومك من أعانني عليها ونجر منها شيئاً صار ما ينجره ذهباً وفضة فنادى نوح فيهم بذلك فأعانوه عليه وكانوا يسخرون منه ويقولون يتخذ سفينة في البر (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)

(وعنه) عليه السلام لما أراد الله عز وجل إهلاك قوم نوح عليه السلام عقم أرحاما النساء أربعين عاماً لم يولد فيهم مولود فلما فرغ من اتخاذ السفينة أمره الله تعالى أن ينادي فيهم بالسريانية لا يبقى بهيمة ولا حيوان إلا حضر فأدخل كل جنس من أجناس الحيوان زوجين السفينة وكان الذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانون رجلاً فقال الله تعالى (احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وكان نجر السفينة في مسجد الكوفة فلما كان اليوم الذي أراد الله إهلاكهم كانت امرأة نوح تخبز في الموضع الذي يعرف بفار التنور في مسجد الكوفة وقد كان نوح عليه السلام اتخذ لكل ضرب من أجناس الحيوان موضعاً في السفينة وجمع لهم ما يحتاجون إليه من الغذاء وصاحت امرأته لما فار التنور فجاء نوح إلى التنور فوضع طيناً وختمه حتى أدخل جميع الحيوانات في السفينة ثم جاء إلى التنور وفض الخاتم ورفع الطين وانكسفت الشمس ونزل من السماء ماء منهمر ضباب بلا قطر وتفجرت الأرض عيوناً فقال الله عز وجل اركبوا فيها فدارت السفينة ونظر نوح عليه السلام إلى ابنه يقع ويقوم فقال له (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) فقال ابنه (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) فقال نوح (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ) فقال يانوح (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فدارت السفينة وضربتها الأمواج حتى وافت مكة وطافت في البيت وغرق جميع الدنيا إلا موضع البيت وإنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق فبقى الماء ينصب من السماء أربعين صباحاً ومن الأرض العيون حتى ارتفعت السفينة فمست السماء فرفع نوح يده وقال (يا رهمان انفر) وتفسيرها يا رب أحسن فأمر الله الأرض أن تبلع ماءها فأراد ماء السماء أن يدخل في الأرض فامتنعت الأرض من قبوله وقالت إنما أمرني أن أبلع مائي فبقى ماء السماء على وجه الأرض واستوت السفينة على جبل الجوديّ وهو بالموصل جبل عظيم فبعث الله جبرئيل عليه السلام فساق الماء إلى البحار حول الدنيا وأنزل الله على نوح (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فنزل نوح عليه السلام بالموصل من السفينة مع الثمانين وبنوا مدينةٌ الثمانين , وكانت لنوح بنت ركبت معه السفينة فتناسل الناس منها وذلك قول النبي صلى الله عليه وآله: نوح أحد الأبوين , انتها ملخصاً.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) قيل فيه أقوال:

(أحدها) – أنه كان ابنه لصلبه والمعنى انه ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم معك لأن الله تعالى قد استثنى من أهله الذين وعده أن ينجيهم ممن أراد إهلاكهم بالغرق فقال (إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) عن ابن عباس.

(وثانيها) أن المراد بقوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وآله سلمان منا أهل البيت وإنما أراد على ديننا. (ويؤيد) هذا التأويل ان الله سبحانه قال على طريق التعليل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) فبين أنه إنما أخرج عن أحكام أهله لكفره وشر عمله.

(وثالثها) انه لم يكن ابنه حقيقة وإنما ولد على فراشه فقال عليه السلام انه ابنه على ظاهر الأمر فأعلمه الله أن الأمر بخلاف الظاهر ونبهه على خيانة امرأته , عن الحسن ومجاهد وهذا الوجه بعيد من حيث ان فيه منافات للقرآن لأنه تعالى قال (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) ولأن الأنبياء يجب أن ينزهوا عن مثل هذا الحال لأنها تعيير وتشيين وقد نزه الله أنبياءه عما دون ذلك.

(ورابعها) انه كان ابن امرأته وكان ربيبه ويعضده قراءة من قرأ بفتح الهاء وحذف الألف وإثباته لفظاً والمعتمد المعول عليه في تأويل الآية القولان الأولان.

(وعن) أبي جعفر عليه السلام قال: كان قوم مؤمنون قبل نوح عليه السلام فماتوا فحزن عليهم الناس فجاء إبليس فاتخذ لهم صورهم ليأنسوا بها فأنسوا بها فلما جاء الشتاء أدخلوهم البيوت فمضى ذلك القرن وجاء القرن الآخر فجاءهم إبليس فقال لهم ان هؤلاء آلهة كان آباؤكم يعبدونها فعبدوهم وضل منهم كثير فدعا عليهم نوح فأهلكهم الله.

(وعن) أبي عبدالله عليه السلام قال ان نوحاً لما كان أيام الطوفان دعا مياه الأرض فأجابته إلا المر والكبريت (وعنه) عليه اللام لما هبط نوح عليه السلام من السفينة أتاه إبليس فقال له ما في الأرض رجل أعظم منة علي منك, دعوت الله على هؤلاء الفساق فأرحتني مهم ألا أعلمك خصلتين إياك والحسد فهو الذي عمل بي وإياك والحرص فهو الذي عمل بآدم ما عمل. وفي حديث آخر قال له جزاء هذه المنة أذكرني في ثلاث مواطن فإني أقرب ما يكون إلى العبد إذا كان في إحداهن أذكرني إذا غضبت واذكرني إذا حكمت بين اثنين واذكرني إذا كنت مع امرأة خلياً ليس معكما أحد.

(عيون أخبار الرضا) عليها لسلام: سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السلام عن قول الله عز وجل (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) من هم ؟ فقال عليه السلام: قابيل يفر من هابيل والذي يفر من أمه موسى والذي يفر من أبيه إبراهيم والذي يفر من صاحبته لوط والذي يفر من ابنه نوح يفر من ابنه كنعان.

(علل الشرايع) عن وهب مسنداً قال أهل الكتاب يقولون ان إبليس عمر زمان الغرق كله في الجو الأعلى يطير بين السماء والأرض بالذي أعطاه الله من القوة والحيلة وعمرت جنوده في ذلك الزمان تطفوا فوق السماء وتحولت الجن أرواحاً تهب فوق الماء وبذلك توصف خلقتها انها تهوي هوى الريح , إنما سمي طوفان لأن الماء طفى فوق كل شيء فلما هبط نوح عليه السلام من السفينة أوحى الله عز وجل إليه يا نوح اني خلقت خلقي لعبادتهم وأمرتهم بطاعتي وقد عصوني وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي فغرقتهم واني قد جعلت قوسي أماناً لعبادي وبلادي وموثقاً مني بيني وبين خلقي يأمنون به إلى يوم القيامة من الغرق ومن أوفى بعهده مني , ففرح نوح عليه السلام بذلك وتباشر وكانت القوس فيها سهم ووتر فنزع الله عز وجل السهم والوتر من القوس وجعلها أماناً لعباده من الغرق.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : جاء في الحديث عن الصادق عليه السلام ان هذا القوس ظهر في السماء بعد الغرق أماناً منه لمن بقى إلى يوم القيامة. وقال عليه السلام: لا تقولوا قوس قزح فإن قزح اسم الشيطان ولكن قولوا قوس الله وان هذه المجرة التي في السماء ويسمونها مجر الكبش موضع انفطار السماء للماء لأنه لم ينزل قطرات وانما نزل دفعاً فلما إلتأمت السماوات بقى أثره كالحجر المندمل يبقى أثره في البدن.

(عيون أخبار الرضا) قال الوشا: قال إلي كيف تقرؤن (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) فقلت من الناس من يقرأ (انه عمل غير صالح) نفاه عن أبيه , فقال عليه السلام كلا لقد كان ابنه ولكن لما عصى الله عز وجل نفاه عن أبيه.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : ها هنا قراءتان في المتواتر فالأكثر على الفعل الماضي وما بعده منصوب على المفعولية يعني ان أعماله غير صالحة , وقراءة الكسائي ويعقوب وسهل على المصدرية وما بعده صفة له وأولوه على أنه تولد من الخيانة , وحينئذ فقوله عليه السلام: كلا يجوز أن يكون رداً للتأويل لا للقراءة يعني أن تأويلهم باطل لأن نفيه عنه باعتبار الدين والعمل ويجوز أن يكون نفياً للقراءة يعني انها قراءة باطلة لم ينزل بها جبرئيل عليه السلام.

(وفيه) تأييد لما حررناه في مواضع من كتبنا من القدح في تواتر القراءات السبع وأنها إن ثبت تواترها فإنما هو عن القراء السبعة لا عن صاحب الوحي صلى الله عليه وآله وذلك أن القراء في كثير من الموارد إذا ذكروا قراءة يقولون قرأ فلان كذا يجعلون قراءة القرآن تسمية لقراءتهم صلوات الله عليهم وقد فصلنا الكلام في هذا المقام في شرحنا على تهذيب الحديث لما لا مزيد عليه.


(علل الشرايع) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ان النجف كان جبلاً وهو الذي قال ابن نوح (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه , فأوحى الله عز وجل إليه: يا جبل أيعتصم بك مني ! فتقطع قطعاً قطعاً إلى بلاد الشام وصار رماداً دقيقاً وصار بعد ذلك بحراً عظيما وكان يسمى ذلك البحر ببحر (ني) ثم جف بعد ذلك وقيل: ني جف فسمي نجف ثم صار بعد ذلك يسمونه نجف لأنه كان أخف على ألسنتهم.

(وفيه) أنه لما ركب نوح عليه السلام في السفينة ألقى الله عز وجل السكينة على ما فيها من الدواب والطير والوحش فلم يكن شيء فيها يضر شيئاً كانت الشاة تحتك بالذئب والبقرة تحتك بالأسد وأذهب الله حمة كل ذي حمة فلم يزالوا كذلك في السفينة حتى خرجوا منها وكان الفار قد كثر في السفينة والعذرة , فأوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام ان يمسح الأسد فمسحه فعطس فخرج من منخريه هران ذكر وأنثى فخف الفار , ومسح وجه الفيل فعطس فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فخف العذرة.

وعني أبي عبدالله عليه السلام قال: جاء نوح عليه السلام إلى الحمار ليدخله السفينة فامتنع عليه وكان إبليس بين أرجل الحمار , فقال يا شيطان أدخل فدخل الحمار ودخل الشيطان.

(وعنه) عليه السلام قال: ارتفع الماء زمن نوح عليه السلام على كل جبل وعلى كل سهل خمسة عشر ذراعاً.

(الفقيه) قال أبوجعفر الباقر عليه السلام: ان الحيض للنساء نجاسة رماهن الله عز وجل بها وقد كن النساء في زمن نوح عليه السلام انما تحيض المرأة في كل سنة حتى خرجن نسوة من حجابهن وكن سبعمائة امرأة وانطلقن فلبسن المعصفرات من الثياب وتحلين وتعطرن ثم خرجن فتفرقن في البلاد فجلسن مع الرجال وشهدن الأعياد معهم وجلسن في صفوفهم فرماهن الله عز وجل بالحيض عند ذلك في كل شهر يعني أولئك النسوة بأعيانهن فسالت دماؤهن فخرجن من بين الرجال فكن يحض في كل شهر حيضة فشغلهن الله تعالى بالحيض وكسر شهوتهن قال وكان غيرهن من النساء اللواتي لم يفعلن مثل ما فعلن يحضن في كل سنة حيضة , قال: فتزوج بنوا اللائي يحضن في كل شهر بنات اللاتي يحضن في كل سنة حيضة فامتزج القوم فحضن بنات هؤلاء وهؤلاء في كل شهر حيضة وكثر أولاد اللاتي يحضن في شهر حيضة لاستقامة الحيض وقل أولاد اللاتي يحضن في السنة حيضة لفساد الدم , قال فكثر نسل أولئك.

(الكافي) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لما أظهر الله نبوة نوح وأيقن الشيعة بالفرج اشتدت البلوى ووثبوا إلى نوح بالضرب المبرح حتى مكث في بعض الأوقات مغشياً عليه ثلاثة أيام يجري الدم من أذنه ثم أفاق وذلك بعد سنة ثلاثمائة من مبعثه وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلا ونهاراً فيهربون ويدعوهم سراً فلا يجيبون ويدعوهم علانية فيولون. فهمَّ بعد ثلاثمائة سنة بالدعاء عليهم وجلس بعد صلاة الفجر للدعاء فهبط إليه وفد من السماء السابعة وهم ثلاثة أملاك فسلموا عليه ثم قالوا له: يا نبي الله حاجتنا أن تؤخر الدعاء على قومك , فإنها أول سطوة لله عز وجل في الأرض , قال: قد أخرت الدعاء عليهم ثلاثمائة سنة أخرى , وعاد إليهم فصنع ما كان يصنع ويفعلون ما كانوا يفعلون حتى إذا انقضت ثلاثمائة سنة أخرى ويئس من إيمانهم جلس في وقت ضحى النهار للدعاء , فهبط إليه وفد من السماء السادسة فسلموا عليه وسألوه مثل ما سأله الوفد الأول فأجابهم مثل ما أجاب أولئك , ثم عاد وقومه بالدعاء حتى انقضت ثلاثمائة سنة تتمة تسعمائة سنة فصارت إليه الشيعة وشكوا ما ينالهم من العامة والطواغيت وسألوه الدعاء بالفرج فأجابهم إلى ذلك وصلى ودعا , فهبط جبرئيل عليه السلام فقال: ان الله تبارك وتعالى قد أجاب دعوتك فقل للشيعة يأكلوا التمر ويغرسوا النوى ويراعوه حتى يثمر , فإذا أثمر فرجت عنهم , فعرَّفهم ذلك واستبشروا ففعلوا ذلك وراعوه حتى أثمر أتوا به نوحاً فسألوه أن ينجز لهم الوعد , فسأل الله عز وجل عن ذلك , فأوحى الله إليهم: قل لهم: كلوا التمر واغرسوا النوى , فارتد الثلث الآخر , وبقى الثلث. فأكلوا التمر وغرسوا النوى , فلما أثمر أتوا به نوحاً عليه السلام فأخبروه وقالوا: لم يبق منا إلا القليل ونحن نتخوف على أنفسنا بتأخر الفرج أن نهلك , فصلى نوح عليه السلام فقال: يا رب لم يبق من أصحابي إلا هذه العصابة واني أخاف عليهم الهلاك إن تأخر الفرج , فأوحى الله عز وجل إليه: قد أجبت دعوتك فاصنع الفلك فكان بين إجابة الدعاء والطوفان خمسون سنة.

(الخرائج) عن النبي صلى الله عليهم وآله أنه قال: لما أراد الله أن يهلك قوم نوح أوحى الله إليه أن شق ألواح الساج فلما شقها لم يدر ما يصنع بها فهبط جبرئيل فأراه هيأة السفينة ومعه تابوت بها مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار فسمَّر المسامير كلها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يضيء الكوكب الدري في أفق السماء فتحير نوح فأنطق الله المسمار بلسان طلق ذلق فقال أنا على اسم خير الأنبياء محمد بن عبدالله فهبط جبرئيل عليه السلام فقال له: يا جبرئيل ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله ؟ فقال: هذا باسم سيد الانبياء محمد بن عبدالله , أسمره على أولها على جانب السفينة الأيمن ثم ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار , فقال جبرئيل (ع) : هذا مسمار فاطمة , فأسمره إلى جانب مسمار أبيها , ثم ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار , فقال جبرئيل ((عليه السلام) ) هذا مسمار الحسن فأسمره إلى جانب أبيه , ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة , فقال جبرئيل ((عليه السلام) ) : هذا مسمار الحسين عليه السلام فأسمره إلى جانب مسمار أبيه , فقال نوح يا جبرئيل ما هذه النداوة ؟ فقال: هذا الدم فذكر قصة الحسين عليه السلام وما تعمل الأمة به , فلعن الله قاتله وظالمه وخاذله.

(وعن) أبي عبدالله عليه السلام أنه قال لبعض غلمانه في شيء جرى : لئن انتهيت وإلا ضربتك ضرب الحمار , قيل وما ضرب الحمار ؟ قال ان نوحاً عليه السلام لما أدخل السفينة من كل زوجين اثنين جاء إلى الحمار , فأبى أن يدخل , فأخذ جريدة من نخل فضربه ضربة واحدة وقال له: عبسا شيطانا , أي أدخل يا شيطان.

(المحاسن) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لما حسر الماء عن عظام الموتى فرأى ذلك نوح عليه السلام فجزع جزعاً شديداً , فاغتم بذلك , فأوحى الله إليه: ان كل العنب الأسود ليذهب غمك.

(العياشي) عن عبدالله العلوي قال: كانت السفينة مطبقة بطبق وكان معه خرزتان تضيء احدهما بالنهاء ضوء الشمس وتضيء احدهما بالليل ضوء القمر وكانوا يعرفون وقت الصلاة وكان آدم معه في السفينة فلما خرج من السفينة صيَّر قبره تحت المنارة بمسجد منى.

قال السيد نعمة الله الجزائري : أكثر الأخبار دالة على أن قبره بالنجف الأشرف ضجيع قبر أمير المؤمنين ((عليه السلام) ) وقبر نوح عليه السلام.

وعن أبي عبدالله عليه السلام: ان مدة لبثهم في السفينة سبعة أيام ولياليها. وفي حديث آخر: مائة وخمسين يوماً بلياليها. وقيل ستة اشهر.

(العياشي) عن الأعمش يرفعه إلى علي عليه السلام في قوله: (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ) فقال: أما والله ما هو تنور الخبز , ثم أومأ بيده إلى الشمس فقال طلوعها.

(وفي تفسير العياشي) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: صنعها في مائة سنة ثم أمره أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين , الأزواج الثمانية التي خرج بها آدم من الجنة ليكون معيشة لعقب نوح عليه السلام في الأرض كما عاش آدم ((عليه السلام) ) فإن الأرض تغرق وما فيها إلا ما كان معه في السفينة قال فحمل نوح ((عليه السلام) ) في السفينة الأزواج الثمانية من الضأن اثنين ومن المعز الثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين فكان زوجين من الضأن زوج يربيها الناس ويقومون بأمرها وزوج من الضأن التي تكون في الجبال وهي الوحشية أحل لهم صيدها , ومن العز اثنين زوج يربيها الناس , وزوج من الضباء , ومن البقر اثنين زوج يربيه الناس , وزوج هو البقر الوحشي , ومن الإبل زوجين وهو النجاتي والغراب وكل طير وحشي وأنسي ثم غرقت الأرض.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : المفسرون قالوا المراد بالزوجين الصنفان , يعني الذكر والأنثى وما قاله عليه السلام هو الأصوب والأنسب. وعنه عليه السلام قال: ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز شهادته ولا يؤم بالناس لم يحمله نوح في السفينة وقد حمل فيها الكلب والخنزير. وعنه عليه السلام في قوله : (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) قال آمن معه ثمانية نفر من قومه.

(وعنه عليه السلام) بأسانيد متعددة في قول الله (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) فقال ليس بابنه إنما هو ابن زوجته على لغة طي يقولون لابن المرأة ابنه.

(وعن) أبي الحسن عليه السلام : ان الله أوحى إلى الجبال اني واضع سفينة نوح على جبل منكن في الطوفان , فتطاولت وشمخت وتواضع جبل بالموصل يقال له الجوديّ , فمرت السفينة تدور في الطوفان على الجبال كلها حتى انتهت إلى الجودي , فوقفت عليه , فقال نوح بارات قني بارات قني , يعني اللهم أصلح اللهم اصلح , وفي حديث آخر أنه ضرب جؤجؤ السفينة الجبل فخاف عليها , فقال يا ماريا اتقن , يعني رب أصلح , وفي حديث آخر أنه قال: يا رهما اتقن وتأويلها رب أحسن.

(وعن) أبي عبدالله عليه السلام قال: سأل نوح ربه أن ينزل على قومه العذاب , فأوحى الله إليه أن يغرس نواة من النخل فإذا بلغت وأثمرت هلك قومه , فغرس نوح النواة وأخبر أصحابه بذلك , فلما أثمرت وأطعم أصحابه , قالوا له يا نبي الله الوعد الذي وعدتنا , فأوحى الله إليه أن يعيد الغرس ثانية , حتى إذا بلغ النخل وأثمر فأكل منه نزل عليهم العذاب , فأخبر نوح أصحابه بذلك , فصاروا ثلاثة فرق , فرقة ارتدت وفرقة نافقت وفرقة ثبتت مع نوح عليه السلام , ففعل نوح عليه السلام ذلك حتى إذا بلغت النخلة وأثمرت وأكل منها وأطعم أصحابه قالوا يا نبي الله الوعد الذي وعدتنا , فدعى نوح ربه , أوحى الله إليه : أن يغرس الغرسة الثالثة فإذا بلغ وأثمر أهلك قومه. فأخبر أصحابه , فافترقوا ثلاث فرق فرقة ارتدت وفرقة نافقت وفرقة ثبتت معه حتى فعل نوح ذلك عشر مرات وفعل الله بأصحابه الذين يبقون معه فيفترقون كل فرقة ثلاث فرق على ذلك فلما كان في العاشرة جاء إليه رجل من أصحابه فقال: يا نبي الله فعلت بنا ما وعدت أو لم تفعل , فأنت صادق نبي مرسل لا شك فيك ولو فعلت ذلك بنا , قال فعند ذلك من قولهم أهلكهم الله لقول نوح , وأدخل الخاص معه السفينة فنجاهم الله تعالى ونجى نوحاً معهم بعد ما صفوا وذهب الكدر منهم.

(كتاب القصص) لمحمد بن جرير الطبري: ان الله تعالى أكرم نوحاً بطاعته وكان طوله ثلاثمائة وستين ذراعاً , بذراع زمانه. وكان لباسه الصوف ولباس إدريس قبله الشعر , وكان يسكن الجبال ويأكل من نبات الأرض.

وفي حديث آخر : أنه كان نجاراً فجاءه جبرئيل عليه السلام بالرسالة وقد بلغ عمره أربعمائة سنة وستين سنة , فقال له : ما بالك معتزلا ؟ قال لأن قومي لا يعرفون الله فاعتزلت عنهم , فقال جبرئيل عليه السلام فجاهدهم , فقال نوح عليه السلام لا طاقة لي بهم , ولو عرفوني لقتلوني فقال له فإن أعطيت القوة كنت تجاهدهم ؟ قال واشوقاه إلى ذلك , فقال له نوح من أنت ؟ فصاح جبرئيل (ع) صيحة واحدة , فأجابته الملائكة بالتلبية ورجت الأرض وقالت لبيك لبيك يا رسول رب العالمين فبقى نوح مرعوباً , فقال له جبرئيل عليه السلام أنا صاحب أبويك آدم وإدريس والرحمن يقرؤك السلام , وقد أتيتك بالبشارة وهذا ثوب الصبر وثوب اليقين وثوب النصرة وثوب الرسالة والنبوة وآمرك أن تتزوج بعمارة بنت ضمران بن اخنوخ فإنها أول من تؤمن بك فمضى نوح عليه السلام يوم عاشوراء إلى قومه وفي يده عصاً بيضاء وكانت العصا تخبره بما يكن به قومه , وكان رؤساؤهم سعبين ألف جبار عند أصنامهم في يوم عيدهم , فنادى: لا إله إلا الله , فارتجت الأصنام وخمدت النيران وأخذهم الخوف , وقال الجبارون من هذا ؟ فقال نوح: أنا عبدالله وابن عبديه , بعثني إليكم رسولا , فسمعت عمورة كلما نوح فآمنت به فعاتبها أبوها أيؤثر فيك قول نوح في يوم واحد وأخاف أن يعرف الملك بك فيقتلك , فقالت عمورة: يا أبت أين عقلك وحلمك نوح رجل وحيد ضعيف يصيح فيكم تلك الصيحة فيجري عليكم ما يجري فتوعدها , فلم ينفع , فأشاروا عليه بحبسها ومنعها الطعام , فحبسها فبقيت في الحبس سنة وهم يسمعون كلامها , فأخرجها بعد سنة , وقد صار عليها نور عظيم وهي في أحسن حال فتعجبوا من حياتها بغير طعام , فسألوها فقالت : انها استغاثت برب نوح وان نوحاً عليه السلام كان يحضر عندها بما تحتاج إليه , ثم ذكر تزويجه بها وانها ولدت له سام بن نوح , وذكروا أنه كان لنوح امرأتان , إحداهما رايعة , وهي الكافرة فهلكت , وحمل نوح معه في السفينة امرأته المسلمة.

وعن الصادق عليه السلام قال: يوم النيروز هو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح عليه السلام على الجوديّ.

(دعوات الراوندي) قال: لما ركب نوح في السفينة أبى أن يحمل العقرب معه فقالت عاهدتك أن لا ألسع أحداً يقول: سلام على محمد وآل محمد وعلى نوح في العالمين.

وقال علي عليه السلام: صلى نبي الله نوح عليه السلام ومن معه ستة أشهر قعوداً , لأن السفينة كانت تنكفأ بهم.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:43 PM
قصة إسماعيل صادق الوعد

قال تعالى في سورة مريم : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا )).


( معاني الأخبار ) عن أبي عبدالله (ع) قال: إن إسماعيل الذي قال الله عز وجل في كتابه ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا )لم يكن إسماعيل بن غبراهيم , بل كان نبياً من الأنبياء , بعثه الله عز وجل إلى قومه , فأخذوه وسلخوا فروة رأسه ووجهه , فأتاه ملك فقال: إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت , فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين.

وفي (قصص الأنبياء) عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أفضل الصدقة صدقة اللسان تحقن به الدماء وتدفع به الكريهة وتجر المنفعة إلى أخيك المسلم. ثم قال صلى الله عليه وآله : إن عابد من بني إسرائيل الذي كان أعبدهم , كان يسعى في حوائج الناس عند الملك , وانه لقي إسماعيل بن حزقيل , فقال لا تبرح حتى أرجع إليك يا إسماعيل فابقى عند الملك فبقى إسماعيل إلى الحول هناك , فأنبت الله لإسماعيل عشباً , فكان يأكل منه وأجرى له عينين وأظله بغمام. فخرج الملك بعد ذلك إلى التنزه ومعه العابد , فرأى إسماعيل , فقال: إنك لها هنا يا إسماعيل ؟ فقال له: قلت لا تبرح , فلم ابرح. فسمي صادق الوعد.

قال: وكان جبار مع الملك كذب هذا العبد , قد بربرت بهذه البرية فلم تقول اني هاهنا , فقال له إسماعيل : إن كنت كاذباً فنزع الله صالح ما أعطاك. قال: فتناثرت أسنان الجبار , فقال الجبار إني كذبت على هذا العبد الصالح , فاطلب أن يدعو الله أن يرد أسناني فإني شيخ كبير , فطلب إليه الملك فقال: إني أفعل , قال: الساعة ؟ قال: لا. قال: وأخره إلى السحر , ثم دعا , ثم قال: إن أفضل ما دعوتم الله بالأسحار. قال الله تعالى : ( وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )

وفي حديث آخر : أنه عليه السلام قال لمن وعده : لو لم يجئني لكان منه المحشر , فأنزل الله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ).

(كامل الزيارة) بإسناده إلى بريد العجلي قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام يابن رسول الله أخبرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ). أكان إسماعيل بن إبراهيم فإن الناس يزعمون أنه إسماعيل بن إبراهيم , فقال عليه السلام إن إسماعيل مات قبل إبراهيم وأن إبراهيم كان حجة الله على خلقه , فإلى من أرسل إسماعيل إذا قلت فمن كان ؟ قال إسماعيل بن حزقيل النبي , بعثه الله إلى قومه فكذبوه وقتلوه وسلخوا جلدة وجهه. فغضب الله عليهم , فوجه سطاطائيل ملك العذاب , فقال له: يا إسماعيل أنا ملك العذاب وجهني رب العزة إليك لأعذب قومك بأنواع العذاب إن شئت فقال له إسماعيل : لا حاجة لي في ذلك يا سطاطائيل.

فأوحى الله إليه : ما حاجتك يا إسماعيل ؟ فقال إسماعيل : يا رب انك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبية ولمحمد بالنبوة ولأوصيائه بالولاية وأخبرت خلقك بما يفعل بالحسين بن علي من بعد نبيها , وإنك وعدت الحسين أن تكرّه إلى الدنيا حتى ينقتم ممن فعل ذلك به , فحاجتي إليك يا رب أن تكر بي إلى الدنيا , حتى أنتقم ممن فعل بي كما تكر الحسين (ع) فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك. فهو يكر مع الحسين بن علي عليهما السلام.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:49 PM
قصة يوسف عليه السلام

قبل أن نبدأ بقصة يوسف عليه السلام، نود الإشارة لعدة أمور.

تختلف طريقة رواية قصة يوسف عليه السلام في القرآن لاكريم عب بقية قص الانباء، فجاء قصص الأنبياء في عدة سور، بينما جاءت قصة يوسف كاملة في سورة واحدة.

قال تعالى في سورة (يوسف):

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ


واختلف العلماء لم سميت هذه القصة أحسن القصص؟ قيل إنها تنفرد من بين قصص القرآن باحتوائها على عالم كامل من العبر والحكم.. وقيل لأن يوسف تجاوز عن إخوته وصبر عليهم وعفا عنهم.. وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والعفة والغواية، وسير الملوك والممالك، والرجال والنساء، وحيل النساء ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، وتعبير الرؤيا وتفسيرها، فهي سورة غنية بالمشاهد والانفعالات.. وقيل: إنها سميت أحسن القصص لأن مآل من كانوا فيها جميعا كان إلى السعادة.

ومع تقديرنا لهذه الأسباب كلها.. نعتقد أن ثمة سببا مهما يميز هذه القصة.. إنها تمضي في خط واحد منذ البداية إلى النهاية.. يلتحم مضمونها وشكلها، ويفضي بك لإحساس عميق بقهر الله وغلبته ونفاذ أحكامه رغم وقوف البشر ضدها.

وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ

هذا ما تثبته قصة يوسف بشكل حاسم، لا ينفي حسمه أنه تم بنعومة وإعجاز.

لنمضي الآن بقصة يوسف -عليه السلام- ولنقسمها لعدد من الفصول والمشاهد ليسهل علينا تتبع الأحداث.

المشهد الأول من الفصل الأول:

يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ

يحكي الصبي الصغير لأبيه رؤياه. أدرك يعقوب -عليه السلام- بحدسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤية شأننا عظيما لهذا الغلام. فغاية ما يحلم به الصغير أن تكون الكواكب بين يديه يلعب بها كيفما شاء، أما أن يرها متمثلة في صورة (العقلاء) وتسجد له تعظيما. لذلك نصحه بأن لا يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعورا ما وراءها لأخيهم الصغير -غير الشقيق، حيث تزوج يعقوب من امرأة ثانية أنجبت له يوسف وشقيقه- فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمرا يسوؤه:

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

لقد أحس يعقوب -عليه السلام- وهو ابن إسحاق بن إبراهيم، أن هذا الشأن متعلق بالدين والصلاح، فتوقع أن يكون يوسف هو الذي ستحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة الماباركة من بيت إبراهيم.

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ

كذلك يختارك ربك.. كذلك يصطفيك. ومعنى التأويل هو معرفة المآل، وكشف النتيجة.. وإدراك أسرار لم تقع بعد.. فما الأحاديث؟

قالوا إنها الرؤى والأحلام.. سيستطيع يوسف فيما بعد أن يفسر الأحلام والرؤى فيرى من رموزها الغامضة ما يقع من أحداث.. وقالوا إن الأحاديث هي الأحداث.. سيعرف مآل الأحداث التي تنتهي إليه من بداياتها وأوائلها.. سيلهمه الله إلهاما أن يعرف.

إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

رد النبي العلم والحكمة إلى الله في ختام حديثه.. فجاء ذلك مناسبا للبدء.

وفي العلماء من يقول أن الآية السابقة ليست جزءا من حوار يعقوب مع ابنه يوسف.. وإنما هي ثناء من الله تعالى على يوسف.. أدخلت في نسيج القصة منذ بدايتها.. وهي ليست منها.. فالمفروض ألا يعرف يوسف ويعقوب تأويل الحلم وتفسيره منذ البداية.. ونحن نختار هذا الرأي ذهب إليه القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن

وإذن نفهم الحوار فهما آخر.. إن الله يتحدث هنا عن اختياره ليوسف.. وهذا يعني نبوة يوسف.. وليس تعليمه تأويل الأحاديث، وإطلاعه على حقائق الرموز التي تقع في الحياة أو الحلم، غير معجزات له كنبي.. والله أعلم حيث يجعل رسالته.. تجد حكمته أسبابها، وعلمه محيط.

استمع الأب إلى رؤيا ابنه وحذره أن يحكيها لأخوته. استجاب يوسف لتحذير أبيه.. لم يحدث أخوته بما رأى، وأغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن يطمئن إليهم ويحكي لهم دخائله الخاصة وأحلامه.

المشهد الثاني:

اجتمع أخوة يوسف يتحدثون في امره.

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ

تقول أوراق العهد القديم إن يوسف حدثهم عن رؤياه.. ولا يفيد السياق القرآني أن ذلك وقع.. ولو وقع لجاء ذكره على ألسنتهم.. ولكان أدعى أن يهيج حقدهم عليه فيقتلوه.. لذلك لنبقى مع السياق القرآني. (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) أي نحن مجموعة قوية تدفع وتنفع، فأبونا مخطئ في تفضيل هذين الصبيين على مجموعة من الرجال النافعين الدافعين!

اقترح أحدهم حلا للموضوع.. اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا

إنا الحقد وتدخل الشيطان ضخم حب أبيهم ليوسف وإيثاره عليهم حتى جعلها توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله. وطرحه في أرض بعيدة نائية مرادف للقتل، لأنه سيموت هناك لا محاله.

ولماذا هذا كله؟! حتى لا يراه أبوه فينساه فيوجه حبه كله لهم. ومن ثم يتوبون عن جريمتهم.

وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ

قال قائل منهم -حرك الله أعماقه بشفقة خفية، أو أثار الله في أعماقه رعبا مهولا من القتل، قال هذا القائل: ما الداعي لقتله؟ أنتم تريدون الخلاص منه.. تعالوا نلقه في بئر تمر عليها القوافل.. ستلتقطه قافلة وترحل به بعيدا.. سيختفي عن وجه أبيه.. ويتحقق غرضنا من إبعاده.

انهزمت فكرة القتل، واختيرت فكرة النفي والإبعاد. نفهم من هذا أن الأخوة، رغم شرهم وحسدهم، كان في قلوبهم، أو في قلوب بعضهم، بعض خير لم يمت بعد.

المشهد الثالث:

توجه الأبناء لأبيهم يطلبون منه السماح ليوسف بمرافقتهم.

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ

دار الحوار بينهم وبين أبيهم بنعومة وعتاب خفي، وإثارة للمشاعر.. مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ..؟

أيمكن أن يكون يوسف أخانا، وأنت تخاف عليه من بيننا ولا تستأمننا عليه، ونحن نحبه وننصح له ونرعاه؟ لماذا لا ترسله معنا يرتع ويلعب؟ أفضل لصحته الخروج واللعب والانطلاق.. انظر إلى وجهه الأصفر من فرط البقاء في البيت.. إن لون الطفل يشحب لأنه لا يمارس في طفولته اللعب.

وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب عليه السلام ينفي -بطريقة غير مباشرة- أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب:

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ

ففندوا فكرة الذئب الذي يخاف أبوه أن يأكله.. نحن عشرة من الرجال.. فهل نغفل عنه ونحن كثرة؟ نكون خاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك.. لن يأكله الذئب ولا داعي للخوف عليه.

وافق الأب تحت ضغط أبنائه.. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته!

المشهد الرابع:

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَـتُـنَـبِّـأَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

صحبوا يوسف في اليوم التالي وذهبوا به إلى الصحراء.. اختاروا بئرا لا ينقطع عنها مرور القوافل وحملوه وهموا بإلقائه في البئر.. وأوحى الله إلى يوسف أنه ناج فلا يخاف.. وأنه سيلقاهم بعد يومهم هذا وينبئهم بما فعلوه.

المشهد الخامس:

وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ

عند العشاء جاء الأبناء باكين ليحكوا لأبيهم قصة الذئب المزعومة.

لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها من المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع، وقد اكن أبوهم يحذرهم منها أمس، وهم ينفونها، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه امس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ونسوا في انفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف.. جاءوا بالقميص كما هو سليما، ولكن ملطخا بالدم.. وانتهى كلامهم بدليل قوي على كذبهم حين قالوا: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقوله.

أدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ومن الأكذوبة الواضحة، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما، وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب:

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

المشهد الأخير من الفصل الأول من حياة سيدنا يوسف عليه السلام:

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ

أثناء وجود يوسف بالبئر، مرت عليه قافلة.. قافلة في طريقها إلى مصر.. قافلة كبيرة.. سارت طويلا حتى سميت سيارة.. كلها تتجه إلى البئر.. توقفوا للتزود بالماء.. أدلى الدلو في البئر.. تعلق يوسف به.. ظن من دلاه أنه امتلأ بالماء فسحبه.. يا للبشرى! هذا غلام.. حكمه حكم الأشياء المفقودة التي يلتقطها أحد.. يصير عبدا لمن التقطه.. هكذا كان قانون ذلك الزمان البعيد.

فرح به من وجده في البداية، ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته، وزهد فيه لأنه وجده صبيا صغيرا.. وعول على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر.. ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق الرقيق بثمن بخس دراهم معدودة. ومن هناك اشتراه رجل تبدو عليه الأهمية.

انتهت المحنة الأولى في حياة هذا النبي الكريم، لبتدأ المحنة الثانية، والفصل الثاني من حياته.

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

انظر كيف يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف. ألقي في البئر، أهين، حرم من أبيه، التقط من البئر، صار عبدا يباع في الأسواق، اشتراه رجل من مصر، صار مملوكا لهذا الرجل.. انطبقت المأساة، وصار يوسف بلا حول ولا قوة.. هكذا يظن أي إنسان.. غير أن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما.

ما نتصور نحن أنه مأساة ومحنة وفتنة.. كان هو أول سلم يصعده يوسف في طريقه إلى مجده.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) .. ينفذ تدبيره رغم تدبير الآخرين. ينفذ من خلاله تدبير الآخرين فيفسده ويتحقق وعد الله، وقد وعد الله يوسف بالنبوة.

وها هو ذا يلقي محبته على صاحبه الذي اشتراه.. وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وليس هذا السيد رجلا هين الشأن.. إنما هو رجل مهم.. رجل من الطبقة الحاكمة في مصر.. سنعلم بعد قليل أنه وزير من وزراء الملك. وزير خطير سماه القرآن "العزيز"، وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء. فهذا العزيز.. وهذا العادل.. وهذا القوي.. إلى آخره.. وأرجح الآراء أن العزيز هو رئيس وزراء مصر.

وهكذا مكن الله ليوسف في الأرض.. سيتربى كصبي في بيت رجل يحكم. وسيعلمه الله من تأويل الأحاديث والرؤى.. وسيحتاج إليه الملك في مصر يوما. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). تم هذا كله من خلال فتنة قاسية تعرض لها يوسف.

ثم يبين لنا المولى عز وجل كرمه على يوسف فيقول:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

كان يوسف أجمل رجل في عصره.. كان وجهه يحمل طاقة من الجمال البشري المدهش.. وكان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان على وجهه مزيدا من الجمال. وأوتي صحة الحكم على الأمور.. وأوتي علما بالحياة وأحوالها. وأوتي أسلوبا في الحوار يخضع قلب من يستمع إليه.. وأوتي نبلا وعفة، جعلاه شخصية إنسانية لا تقاوم.

وأدرك سيده أن الله قد أكرمه بإرسال يوسف إليه.. اكتشف أن يوسف أكثر من رأى في حياته أمانة واستقامة وشهامة وكرما.. وجعله سيده مسئولا عن بيته وأكرمه وعامله كابنه.

ويبدأ المشهد الأول من الفصل الثاني في حياته:

في هذا المشهد تبدأ محنة يوسف القانية، وهي أشد واعمق من المحنة الاولى. جاءته وقد أوتي صحة الحكم واوتي العلم -رحمة من الله- ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

لا يذكر السياق القرآني شيئا عن سنها وسنه، فلننظر في ذلك من باب التقدير. لقد أحضر يوسف صبيا من البئر، كانت هي زوجة في الثلاثة والعشرين مثلا، وكان هو في الثانية عشرا. بعد ثلاثة عشر عاما صارت هي في السادسة والثلاثين ووصل عمره إلى الخامسة والعشرين. أغلب الظن أن الأمر كذلك. إن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها مكتملة جريئة.

والآن، لنتدبر معنا في كلمات هذه الآيات.

(وَرَاوَدَتْهُ) صراحة (عَن نَّفْسِهِ )، وأغلقت (الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ). لن تفر مني هذه المرة. هذا يعني أنه كانت هناك مرات سابقة فر فيها منها. مرات سابقة لم تكن الدعوة فيها بهذه الصراحة وهذا التعري. فيبدوا أن امرأة العزيز سئمت تجاهل يوسف لتلميحاتها المستمرة وإباءه.. فقررت أن تغير خطتها. خرجت من التلميح إلى التصريح.. أغلقت الأبواب ومزقت أقنعة الحياء وصرحت بحبها وطالبته بنفسه.

ثم يتجاوزز السياق القرآني الحوار الذي دار بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلام، ولنا أن نتصور كيف حاولت إغراءه إما بلباسها أو كلماتها أو حركاتها. لكن ما يهمنا هنا هو موقف يوسف -عليه السلام- من هذا الإغواء.

يقف هذا النبي الكريم في وجه سيدته قائلا:

قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

أعيذ نفسي بالله أن أفعل هذا مع زوجة من أكرمني بان نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن. ولا يفلح الظالمون الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه.

قال تعالى:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ

اتفق المفسرون حول همها بالمعصية، واختلفوا حول همه. فمنهم من أخذ بالإسرائيليات وذكر أن يعقوب ظهر له، أو جبريل نزل إليه، لكن التلفيق والاختلاق ظاهر في هذه الزوايات الإسرائيلية. ومن قائل: إنها همت به تقصد المعصية وهم بها يقصد المعصية ولم يفعل، ومن قائل: إنها همت به لتقبله وهم بها ليضربها، ومن قائل: إن هذا الهم كان بينهما قبل الحادث. كان حركة نفسية داخل نفس يوسف في السن التي اجتاز فيها فترة المراهقة. ثم صرف الله عنه. وأفضل تفسير تطمئن إليه نفسي أن هناك تقديما وتأخيرا في الآية.

قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا). قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير. بمعنى ولقد همت به.. ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. يستقيم هذا التفسير مع عصمة الأنبياء.. كما يستقيم مع روح الآيات التي تلحقه مباشرة (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وهذه الآية التي تثبت أن يوسف من عباد الله المخلصين، تقطع في نفس الوقت بنجاته من سلطان الشيطان. قال تعالى لإبليس يوم الخلق:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ

وما دام يوسف من عباده المخلصين، فقد وضح الأمر بالنسبة إليه. لا يعني هذا أن يوسف كان يخلو من مشاعر الرجولة، ولا يعني هذا أنه كان في نقاء الملائكة وعدم احتفالهم بالحس. إنما يعني أنه تعرض لإغراء طويل قاومه فلم تمل نفسه يوما، ثم أسكنها تقواها كونه مطلعا على برهان ربه، عارفا أنه يوسف بن يعقوب النبي، ابن إسحق النبي، ابن إبراهيم جد الأنبياء وخليل الرحمن.

يبدو أن يوسف -عليه السلام- آثر الانصراف حتى لا يتطور الأمر أكثر. لكن امرأة العزيز لحقت به لتمسكه، تدفهعا الشهوة لذلك. فتقطع المفاجأة. يختصر المولى عز وجل ما حدث في كتابه فيقول:

وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ

وهنا تتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضرا على السؤال البديهي الذي يطرح الموقف. فتقول متهمة الفتى:

قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

واقترحت هذه المراة -العاشقة- سريعا العقاب -المأمون- الواجب تنفيذه على يوسف، خشية أن يفتك به العزيز من شدة غضبه. بيّنت للعزيز أن أفضل عقاب له هو السجن. بعد هذا الاتهام الباطل والحكم السريع جهر يوسف بالحقيقة ليدافع عن نفسه:

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي

تجاوز السياق القرآني رد الزوج، لكنه بين كيفية تبرأة يوسف -عليه السلام- من هذه التهمة الباطلة:

وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ

لا نعلم إن كان الشاهد مرافقا للزوج منذ البداية، أم أن العزيز استدعاه بعد الحادثة ليأخذ برأيه.. كما أشارت بعض الروايات أن هذا الشاهد رجل كبير، بينما أخبرت روايات أخرى أنه طفل رضيع. كل هذا جائز. وهو لا يغير من الأمر شيئا. ما يذكره القرآن أن الشاهد أمرهم بالنظر للقميص، فإن كان ممزقا من الأمام فذلك من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان قميصه ممزقا من الخلف فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب، فهي كاذبة وهو صادق.

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ

لما تأكد الزوج من خيانة زوجته. لم يثر دمه في عروقه ولم يصرخ ولم يغضب. فرضت عليه قيم الطبقة الراقية التي وقع فيها الحادث أن يواجه الموقف بلباقة وتلطف.. نسب ما فعلته إلى كيد النساء عموما. وصرح بأن كيد النساء عموم عظيم. وهكذا سيق الأمر كما لو كان ثناء يساق. ولا نحسب أنه يسوء المرأة أن يقال لها: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). فهو دلالة على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد.

بعدها التفت الزوج إلى يوسف قائلا له:

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا

أهمل هذا الموضوع ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به.

هذا هو المهم.. المحافظة على الظواهر.. ثم يوجه عظة -مختصرة- للمرأة التي ضبطت متلبسة بمراودة فتاها عن نفسها وتمزيق قميصه:

وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

انتهى الحادث الأول.. لكن الفتنة لم تنته.. فلم يفصل سيد البيت بين المرأة وفتاها.. كل ما طلبه هو إغلاق الحديث في هذا الموضوع. غير أن هذا الموضوع بالذات. وهذا الأمر يصعب تحقيقه في قصر يمتلئ بالخدم والخادمات والمستشارين والوصيفات.

المشهد الثاني:

بدأ الموضوع ينتشر.. خرج من القصر إلى قصور الطبقة الحاكمة أو الراقية يومها.. ووجدت فيه نساء هذه الطبقة مادة شهية للحديث. إن خلو حياة هذه الطبقات من المعنى، وانصرافها إلى اللهو، يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط بشخصيات شهيرة.. وزاد حديث المدينة:

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ

وانتقل الخبر من فم إلى فم.. ومن بيت إلى بيت.. حتى وصل لامرأة العزيز

المشهد الثالث:

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ

قررت امرأة العزيز أن تعد مأدبة كبيرة في القصر. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. ويبدوا أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا، فأعدت لهن هذا المتكأ. واختارت ألوان الطعام والشراب وأمرت أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم. ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) بهتن لطلعته، ودهشن. (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. (وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله.. (مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات التوحيد تسربت لأهل ذلك الزمان.

ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها، والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛ وإن كان قد استعصم في المرة الأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى إلى أن يلين: انظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! لقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم، وإن لم لطعني سآمر بسجنه لأذلّه.

إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية أما نساء طبقتها. فقالتها بكل إصرار وتبجح، قالتها مبيّنة أن الإغراء الجديد تحت التهديد.

واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادته لنفسها.. ويدلنا على ذلك أمران هما:

الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فلم يقل (ما تدعوني إليه).. والأمر الآخر هو سؤال الملك لنهم فيما بعد (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ).

أمام هذه الدعوات -سواء كانت بالقول أم بالحركات واللفتات- استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه. دعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته، ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراء.

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ

واستجاب له الله.. وصرف عنه كيد النسوة.

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى يحس في نفسه أثرا منه. أو بهما جميعا. وهكذا اجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته، فهو الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء.

ما انتهت المحنة الثانية إلا لتبدأ الثالثة.. لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة.

يبدأ الفصل الثالث من حياة يوسف عليه السلام بدخوله السجن.

ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على برائته، لتنسى القصة. قال تعالى في سورة (يوسف):

ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ

وهكذا ترسم الآية الموجزة جو هذا العصر بأكمله.. جو الفساد الداخلي في القصور، جو الأوساط الأرستقراطية.. وجو الحكم المطلق.

إن حلول المشكلات في الحكم المطلق هي السجن.. وليس هذا بغريب على من يعبد آلهة متعددة. كانوا على عبادة غير الله.. ولقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره. وها نحن أولاء نرى في قصة يوسف شاهدا حيا يصيب حتى الأنبياء. صدر قرارا باعتقاله وأدخل السجن. بلا قضية ولا محاكمة، ببساطة ويسر.. لا يصعب في مجتمع تحكمه آلهة متعددة أن يسجن بريء. بل لعل الصعوبة تكمن في محاولة شيء غير ذلك.

دخل يوسف السجن ثابت القلب هادئ الأعصاب أقرب إلى الفرح لأنه نجا من إلحاح زوجة العزيز ورفيقاتها، وثرثرة وتطفلات الخدم. كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر في ربه.

ويبين لنا القرآن الكريم المشهد الأول من هذا الفصل:

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِين (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ

يختصر السياق مرة أخرى ما كان من أمر يوسف في السجن.. لكن ما يتبادر للذهب عند قراءة هذه الآيات هو انتهاز يوسف -عليه السلام- فرصة وجوده في السجن، ليقوم بالدعوة إلى الله. مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك.

انتهز يوسف -عليه السلام- هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته وحبه لمخلوقاته، كان يسأل الناس: أيهما أفضل.. أن ينهزم العقل ويعبد أربابا متفرقين.. أم ينتصر العقل ويعبد رب الكون العظيم؟ وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئة وحواره الذكي وصفاء ذهنه، ونقاء دعوته.

لنعد للسجينين الذين سألاه تفسير رؤياهما.

إن أول ما قام به يوسف -عليه السلام- هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علما خاصا، جزاء على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه. ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد، وتبيان ما هم عليه من الظلال. قام بكل هذا برفق ولطف ليدخل إلى النفوس بلا مقاومة.

بعد ذلك فسر لهما الرؤى. بيّن لهما أن أحدها سيصلب، والآخر سينجو. لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفا وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء.

أوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عن الملك. لكن الرجل لم ينفذ الوصية. فربما ألهته حياة القصر المزدحمة يوسف وأمره. فلبث في السجن بضع سنين. أراد الله بهذا أن يعلم يوسف -عليه السلام- درسا.

فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاءه جبريل قال: يا يوسف من نجّاك من إخوتك؟ قال: الله. قال: من أنقذك من الجب؟ قال: الله. قال: من حررك بعد أن صرت عبدا؟ قال: الله. قال: من عصمك من النساء؟ قال: الله. قال: فعلام تطلب النجاة من غيره؟

وقد يكون هذا الأمر زيادة في كرم الله عليه واصطفاءه له، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد.

المشهد الثاني:

في هذا المشهد تبدأ نقطة التحول.. التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء.. من محنة العبودية والرق لمحنة السلطة والملك.

في قصر الحكم.. وفي مجلس الملك: يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها:

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ

لكن المستشارين والكهنة لم يقوموا بالتفسير. ربما لأنهم لم يعرفوا تفسيرها، أو أنهم أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها للملك، وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية -التي تعودت على قول كل ما يسر الملك فقط. وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك أنها أجزاء من أحلام مختلطة ببعضها البعض، ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها.

قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ

المشهد الثالث:

وصل الخبر إلى الساقي -الذي نجا من السجن.. تداعت أفكاره وذكره حلم الملك بحلمه الذي رآه في السجن، وذكره السجن بتأويل يوسف لحلمه. وأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف. قال له: إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك. لقد أوصاني أن أذكره عندك ولكنني نسيت.

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ

وأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف. ويبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك نفسها، لأنه هنا بصدد تفسير حلم، وهو يريد أن يكون التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك. وكان الساقي يسمي يوسف بالصديق، أي الصادق الكثير الصدق.. وهذا ما جربه من شأنه من قبل.

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ

جاء الوقت واحتاج الملك إلى رأيه.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). سئل يوسف عن تفسير حلم الملك.. فلم يشترط خروجه من السجن مقابل تفسيره. لم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا.. هكذا ببراءة النبي حين يلجأ إليه الناس فيغيثهم.. وإن كان هؤلاء أنفسهم سجانيه وجلاديه.. وكلام يوسف هنا ليس التأويل المباشر المجرد، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقه. وهذا أكمل:

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات. وعلى المصريين ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع. لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون، وأفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو.

بهذا انتهى حلم الملك.. وزاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك، عام من الرخاء. عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرون خمرا، وينمو سمسمهم وزيتونهم فيعصرون زيتا. كان هذا العام الذي لا يقابله رمز في حلم الملك. علما خاصا أوتيه يوسف. فبشر به الساقي ليبشر به الملك والناس.

.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:52 PM
قصة يوسف عليه السلام - الجزء 2

المشهد الرابع:

عاد الساقي إلى الملك. أخبره بما قال يوسف، دهش الملك دهشة شديدة. ما هذا السجين..؟ إنه يتنبأ لهم بما سيقع، ويوجههم لعلاجه.. دون أن ينتظر أجرا أو جزاء. أو يشترط خروجا أو مكافأة.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ

أصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره فورا إليه. ذهب رسول الملك إلى السجن. ولا نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أم أنه شخصية رفيعة مكلفة بهذه الشؤون. ذهب إليه في سجنه. رجا منه أن يخرج للقاء الملك.. فهو يطلبه على عجل. رفض يوسف أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته. لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. ويظهر أثر التربية واضحا في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتي قطعن أيدهن، الفارق بين الموقفين كبير.

المشهد الخامس:

تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك ورسوله، وردة فعل الملل. ليقف بنا أمام المحاكة. وسؤال الملك لنساء الطبقة العليا عما فعله مع يوسف:

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ

يبدوا أن الملك سأل عن القصة ليكون على بينة من لامر وظروفه قبل أن يبدأ التحقيق، لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء. فاعترف النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها:

قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ

وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء بصراحة:

قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ

يصور السياق القرآني لنا اعتراف امرأة العزيز، بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر عميقة (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) شهادة كاملة بإثمها هي، وبراءته ونظافته وصدقه هو. شهادة لا يدفع إليها خوف أو خشية أو أي اعتبار آخر.. يشي السياق القرآني بحافز أعمق من هذا كله. حرصها على أن يحترمها الرجل الذي أهان كبرياءها الأنثوية، ولم يعبأ بفتنتها الجسدية. ومحاولة يائسة لتصحيح صورتها في ذهنه. لا تريده أن يستمر على تعاليه واحتقاره لها كخاطئة. تريد أن تصحح فكرته عنها: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). لست بهذا السوء الذي يتصوره فيني. ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).

وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:

وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ

إن تأمل الآيات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف. تحولت إلى التوحيد. إن سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها. آمنت بربه واعتنقت ديانته، وأحبته على البعد، وما زالت هي المرأة العاشقة التي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه، أو خاطرة ارتياح. ولو بالغيب.. وعلى البعد.. ودون لقاء أو أمل في لقاء.

ويصدر الأمر الملكي بالإفراج عنه وإحضاره.

يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما، يسقطها من المشاهد، فلا نعرف ماذا كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف.

وقد لعبت الأساطير دورها في قصة المرأة.. قيل: إن زوجها مات وتزوجت من يوسف، فاكتشف أنها عذراء، واعترفت له أن زوجها كان شيخا لا يقرب النساء.. وقيل: إن بصرها ضاع بسبب استمرارها في البكاء على يوسف، خرجت من قصرها وتاهت في طرقات المدينة، فلما صار يوسف كبيرا للوزراء، ومضى موكبه يوما هتفت به امرأة ضريرة تتكفف الناس: سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية، وجعل العبيد ملوكا بالطاعة.

سأل يوسف: صوت من هذا؟ قيل له: امرأة العزيز. انحدر حالها بعد عز. واستدعاها يوسف وسألها: هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا؟

قالت: نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف.. ناولني نهاية سوطك. فناولها. فوضعته على صدرها، فوجد السوط يهتز في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها.

وقيلت أساطير أخرى، يبدو فيها أثر المخيلة الشعبية وهي تنسج قمة الدراما بانهيار العاشقة إلى الحضيض.. غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة.

أغفلها من سياق القصة، بعد أن شهدت ليوسف.. وهذا يخدم الغرض الديني في القصة، فالقصة أساسا قصة يوسف وليست قصة المرأة.. وهذا أيضا يخدم الغرض الفني.. لقد ظهرت المرأة ثم اختفت في الوقت المناسب.. اختفت في قمة مأساتها.. وشاب اختفاءها غموض فني معجز.. ولربما بقيت في الذاكرة باختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا بقية قصتها.

ويبدأ فصل جديد من فصول حياة يوسف عليه السلام:

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ

بعد ما رأى الملك من أمر يوسف. براءته، وعلمه، وعدم تهافته على الملك. عرف أنه أمام رجل كريم، فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه، وإنما طلبه ليكون مستشاره. وعندما جلس معه وكلمه، تحقق له صدق ما توسمه فيه. فطمئنه على أنه ذو مكانه وفي أمان عنده. فماذا قال يوسف؟

لم يسج شكرا للملك، ولم بقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يفعل المتملقون للطواغيت؛ كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الازمة القادمة.

كما وأورد القرطبي في تفسيره. أن الملك قال فيما قاله: لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا الأمر.. ولم يكونوا فيه أمناء.

كان الملك يقصد الطبقة الحاكمة وما حولها من طبقات.. إن العثور على الأمانة في الطبقة المترفة شديد الصعوبة

اعتراف الملك ليوسف بهذه الحقيقة زاد من عزمه على تولي هذا الامر، لأنقاذ مصر وما حولها من البلاد من هذه المجاعة.. قال يوسف: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). لم يكن يوسف في كلمته يقصد النفع أو الاستفادة. على العكس من ذلك. كان يحتمل أمانة إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات.. شعوب يمكن أن تمزق حكامها لو جاعت.. كان الموضوع في حقيقته تضحية من يوسف.

لا يثبت السياق القرآني أن الملك وافق.. فكأنما يقول القرآن الكريم إن الطلب تضمن الموافقة.. زيادة في تكريم يوسف، وإظهار مكانته عند الملك.. يكفي أن يقول ليجاب.. بل ليكون قوله هو الجواب، ومن ثم يحذف رد الملك.. ويفهمنا شريط الصور المعروضة أن يوسف قد صار في المكان الذي اقترحه>

وهكذا مكن الله ليوسف في الأرض.. صار مسؤولا عن خزائن مصر واقتصادها.. صار كبيرا للوزراء.. وجاء في رواية أن الملك قال ليوسف: يا يوسف ليس لي من الحكم إلا الكرسي.. ولا ينبئنا السياق القرآني كيف تصرف في مصر.. نعرف أنه حكيم عليم.. نعرف أنه أمين وصادق.. لا خوف إذا على اقتصاد مصر.

دارت عجلة الزمن.. طوى السياق دورتها، ومر مرورا سريعا على سنوات الرخاء، وجاءت سنوات المجاعة.. وهنا يغفل السياق القرآني ذكر الملك والوزراء.. كأن الأمر كله قد صار ليوسف.

المشهد الثاني من هذا الفصل:

لا يذكر القآن لنا أن المجاعة بدأت.. لا يصف لنا بدؤها، إنما يعرض لمشهد أخوة يوسف وقد جاءوا من فلسطين لابتياع طعام من مصر.

وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

قيل أن يوسف -عليه السلام- كان يعطي كل فرد في الفترة الواحدة حمل بعير. لم يكن كل من يملك الشراء يشتري المقادير التي يستطيع شرائها لخزنها ويموت الآخرون. وكان قصد يوسف أن يوازن بين حاجات المحتاجين والزمن الطويل الذي يضطلع فيه بالتموين.

جاء أخوة يوسف من الصحراء.. جاءوا يبتاعون طعاما من مصر.

عرف يوسف اخوته على الفور.. ولم يعرفوه هم.. يستحيل أن يعبر طيف يوسف أفكارهم الآن.. لقد تخلصوا منه من زمان بعيد.. وضاق بهم الحال فجاءوا من فلسطين يبحثون عن الطعام في مصر.. وأجرى يوسف حواره مع إخوته، بغير أن يكشف لهم عن نفسه.

كان عدد الأخوة عشرة.. وكان معهم أحد عشر بعيرا.

سألهم يوسف -مستخدما أحد المترجمين- لكي لا يتحدث لغته العبرانية: نظامنا يقضي بإعطاء كل إنسان قدر بعير من الطعام.. كم عددكم؟
قالوا: نحن أحد عشر.
قال يوسف للترجمان قل لهم: لغتكم مخالفة للغتنا.. وزيكم يخالف زينا.. فلعلكم جواسيس.
قالوا: والله ما نحن بجواسيس.. بل نحن بنو أب واحد.. شيخ طيب.
سأل يوسف: قلتم أن عددكم أحد عشر.. ولكنكم عشرة..؟
قالوا: كنا أثني عشر أخا.. هلك لنا أخ في البرية.. ولنا أخ آخر يحبه أبونا، ولا يستطيع أن يصبر على فراقه.. جئنا ببعيره بدلا منه.
قال يوسف: كيف أتأكد من صدقكم؟
قالوا: اختر شيئا تسكن إليه نفسك.
قال يوسف: يقضي النظام ألا نصرف لأحد غير موجود.. ائتوني بأخيكم لأصرف له طعامه.. (أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ)...؟

استمر الحوار بين أخوة يوسف ويوسف.. أفهمهم يوسف أنه سيستثنيهم هذه المرة.. فإذا جاءوا في المرة القادمة بغير أخيهم فلن يصرف لهم.. قالوا له سنحاول إقناع والده بأن يتركه معنا.

انتهى هذا المشهد في مصر، لبدا مشهد أخر في أرض كنعان.

المشهد الثالث:

فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

رجع الأخوة إلى أبيهم.. قبل أن ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم، دخلوا على أبيهم. قائلين له بعتاب: إن لم ترسل معنا أخانا الصغير في المرة القادمة فلن يعطينا عزيز مصر الطعام. وختموا كلامهم بوعد جديد ليعقوب عليه السلام (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

ويبدوا أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب. فهو ذاته وعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهز بما أثاره الوعد من شجونه:

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

وفتح الأبناء أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال.. فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها.. مردودة إليهم مع الغلال والطعام.. ورد الثمن يشير إلى عدم الرغبة في البيع، أو هو إنذار بذلك.. وربما كان إحراجا لهم ليعودوا لسداد الثمن مرة أخرى.

وأسرع الأبناء إلى أبيهم (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) ..لم نكذب عليك.. لقد رد إلينا الثمن الذي ذهبنا نشتري به. هذا معناه أنهم لن يبيعوا لنا إلا إذا ذهب أخونا معنا.

واستمر حوارهم مع الأب.. أفهموه أن حبه لابنه والتصاقه به يفسدان مصالحهم، ويؤثران على اقتصادهم، وهم يريدون أن يتزودوا أكثر، وسوف يحفظون أخاهم أشد الحفظ وأعظمه.. وانتهى الحوار باستسلام الأب لهم.. بشرط أن يعاهدوه على العودة بابنه، إلا إذا خرج الأمر من أيديهم وأحيط بهم.. نصحهم الأب ألا يدخلوا -وهم أحد عشر رجلا- من باب واحد من أبواب بمصر.. كي لا يستلفتوا انتباه أحد.. وربما خشي عليهم أبوهم شيئا كالسرقة أو الحسد.. لا يقول لنا السياق ماذا كان الأب يخشى، ولو كان الكشف عن السبب مهما لقيل.

المشهد الرابع:

عاد إخوة يوسف الأحد عشر هذه المرة .

وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

يقفز السياق قفزا إلى مشهد يوسف وهو يحتضن أخاه ويكشف له وحده سر قرابته، ولا ريب أن هذا لم يحدث فور دخول الإخوة على يوسف، وإلا لانكشفت لهم قرابة يوسف، إنما وقع هذا في خفاء وتلطف، فلم يشعر إخوته، غير أن السياق المعجز يقفز إلى أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه ورؤيته لأخيه.. وهكذا يجعله القرآن أول عمل، لأنه أول خاطر، وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العظيم.

يطوي السياق كذلك فترة الضيافة، وما دار فيها بين يوسف وإخوته، ويعرض مشهد الرحيل الأخير.. ها هو ذا يوسف يدبر شيئا لإخوته.. يريد أن يحتفظ بأخيه الصغير معه.

يعلم أن احتفاظه بأخيه سيثير أحزان أبيه، وربما حركت الأحزان الجديدة أحزانه القديمة، وربما ذكره هذا الحادث بفقد يوسف.. يعلم يوسف هذا كله.. وها هو ذا يرى أخاه.. وليس هناك دافع قاهر لاحتفاظه به، لماذا يفعل ما فعل ويحتفظ بأخيه هكذا!؟

يكشف السياق عن السر في ذلك.. إن يوسف يتصرف بوحي من الله.. يريد الله تعالى أن يصل بابتلائه ليعقوب إلى الذروة.. حتى إذا جاوز به منطقة الألم البشري المحتمل وغير المحتمل، ورآه صابرا رد عليه ابنيه معا، ورد إليه بصره.


يحكي الله تعالى ما حدث:

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

إنه مشهد مثير، حافل بالحركات والانفعالات المفاجآت.

أمر يوسف -عليه السلام- رجاله أن يخفوا كأس الملك الذهبية في متاع أخيه خلسة.. وكانت الكأس تستخدم كمكيال للغلال.. وكانت لها قيمتها كمعيار في الوزن إلى جوار قيمتها كذهب خالص

أخفى الكأس في متاع أخيه.. وتهيأ إخوة يوسف للرحيل، ومعهم أخوهم.. ثم أغلقت أبواب العاصمة.. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)..!!

كانت صرخة الجند تعني وقوف القوافل جميعا.. وانطلق الاتهام فوق رؤوس الجميع كقضاء خفي غامض.. أقبل الناس، وأقبل معهم إخوة يوسف..( مَّاذَا تَفْقِدُونَ)؟

هكذا تسائل إخوة يوسف.. قال الجنود: (نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ).. ضاعت كأسه الذهبية.. ولمن يجيء بها مكافأة.. سنعطيه حمل بعير من الغلال.

قال إخوة يوسف ببراءة: لم نأت لنفسد في الأرض ونسرق! قال الحراس (وكان يوسف قد وجههم لما يقولونه): أي جزاء تحبون توقيعه على السارق؟

قال إخوة يوسف: في شريعتنا نعتبر من سرق عبدا لمن سرقه.

قال الحارس: سنطبق عليكم قانونكم الخاص.. لن نطبق عليكم القانون المصري الذي يقضي بسجن السارق.

كانت هذه الإجابة كيدا وتدبيرا من الله تعالى، ألهم يوسف أن يحدث بها ضباطه.. ولولا هذا التدبير الإلهي لامتنع على يوسف أن يأخذ أخاه.. فقد كان دين الملك أو قانونه لا يقضي باسترقاق من سرق. وبدأ التفتيش.

كان هذا الحوار على منظر ومسمع من يوسف، فأمر جنوده بالبدء بتفتيش رحال أخوته اولا قبل تفتيش رحل أخيه الصغير. كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش.

اطمأن إخوة يوسف إلى براءتهم من السرقة وتنفسوا الصعداء، فلم يبقى إلا أخوهم الصغير. وتم استخراج الكأس من رحله.

صار أخو يوسف عبدا ليوسف بمقتضى قانونهم الذي طبقه القضاء على الحادث.

أعقب ذلك مشهد عنيف المشاعر.. إن إحساس الإخوة براحة الإنقاذ والنجاة من التهمة، جعلهم يستديرون باللوم على شقيق يوسف.. قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ

إنهم يتنصلون من تهمة السرقة.. ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب.

سمع يوسف بأذنيه اتهامهم له، وأحس بحزن عميق.. كتم يوسف أحزانه في نفسه ولم يظهر مشاعره.. قال بينه وبين نفسه.. أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ

لم يكن هذا سبابا لهم، بقدر ما كان تقريرا حكيما لقاعدة من قواعد الأمانة.

أراد أن يقول بينه وبين نفسه: إنكم بهذا القذف شر مكانا عند الله من المقذوف، لأنكم تقذفون بريئين بتهمة السرقة.. والله أعلم بحقيقة ما تقولون.

سقط الصمت بعد تعليق الإخوة الأخير.. ثم انمحى إحساسهم بالنجاة، وتذكروا يعقوب.. لقد أخذ عليهم عهدا غليظا، ألا يفرطوا في ابنه. وبدءوا استرحام يوسف: يوسف أيها العزيز.. يوسف أيها الملك.. إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

قال يوسف بهدوء: كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده.. ونأخذ بدلا منه أنسانا آخر..؟ هذا ظلم.. ونحن لا نظلم.

كانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم حين يرجعون.

المشهد الخامس:

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

عقدوا مجلسا يتشاورون فيه. لكن السياق القرآني لا يذكر أقوالهم جميعا. إنما يثبت آخرها الذي يكشف عما انتهوا إليه. ذكر القرآن قول كبيرهم إذ ذكّرهم بالموثق المأخوذ عليهم، كما ذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل. ثم يبين قراره الجازم: ألا يبرح مصر، وألا يواجه أباه، إلا أن يأذن أبوه، أو يقضي الله له بحكم، فيخض له وينصاع. وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق، فأخذ بما سرق. ذلك ما علموه شهدوا به. أما إن كان بريئا، وكا هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه، فهم غير موكلين بالغيب. وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها -أي أهل مصر- وليسأل القافلة التي كانوا فيها، فهم لم يكونوا وحدهم، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتأخذ الطعام.

المشهد السادس:

فعل الأبناء ما أمرهم به أخوهم الكبير، وحكوا ليعقوب -عليه السلام- ما حدث. استمع يعقوب إليهم وقال بحزن صابر، وعين دامعة:

بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) كلمته ذاتها يوم فقد يوسف.. لكنه في هذه المرة يضيف إليها الامل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.

هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته. وهو مؤمن بأن الله يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات. ويأتي بكل امر في وقته المناسب، عندما تتحق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع. يحس أنه منفرد بهمه، وحيد بمصابه، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه، فينفرد في معزل، يندب فجيعته في ولده الحبيب يوسف. الذي لم ينسه، ولم تهوّن من مصيبته السنون، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ

أسلمه البكاء الطويل إلى فقد بصره.. أو ما يشبه فقد بصره. فصارت أمام عينيه غشاوة بسبب البكاء لا يمكن أن يرى بسببها.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

والكظيم هو الحزين الذي لا يظهر حزنه. ولم يكن يعقوب -عليه السلام- يبكي أمام أحد.. كان بكاؤه شكوى إلى الله لا يعلمها إلا الله.

ثم لاحظ أبناؤه أنه لم يعد يبصر ورجحوا أنه يبكي على يوسف، وهاجموه في مشاعره الإنسانية كأب.. حذروه بأنه سيهلك نفسه:

قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

ردهم جواب يعقوب إلى حقيقة بكائه.. إنه يشكو همه إلى الله.. ويعلم من الله ما لا يعلمون.. فليتركوه في بكائه وليصرفوا همهم لشيء أجدى عليهم:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

إنه يكشف لهم في عمق أحزانه عن أمله في روح الله.. إنه يشعر بأن يوسف لم يمت كما أنبئوه.. لم يزل حيا، فليذهب الإخوة بحثا عنه.. وليكن دليلهم في البحث، هذا الأمل العميق في الله.

المشهد السابع:

تحركت القافلة في طريقها إلى مصر.. إخوة يوسف في طريقهم إلى العزيز.. تدهور حالهم الاقتصادي وحالهم النفسي.. إن فقرهم وحزن أبيهم ومحاصرة المتاعب لهم، قد هدت قواهم تماما.. ها هم أولاء يدخلون على يوسف.. معهم بضاعة رديئة.. جاءوا بثمن لا يتيح لهم شراء شيء ذي بال.. قال تعالى:

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

انتهى الأمر بهم إلى التسول.. إنهم يسألونه أن يتصدق عليهم.. ويستميلون قلبه، بتذكيره أن الله يجزي المتصدقين.

عندئذ.. وسط هوانهم وانحدار حالهم.. حدثهم يوسف بلغتهم، بغير واسطة ولا مترجم:

قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ

يكاد الحوار يتحرك بأدق تعبير عن مشاعرهم الداخلية.. فاجأهم عزيز مصر بسؤالهم عما فعلوه بيوسف.. كان يتحدث بلغتهم فأدركوا أنه يوسف.. وراح الحوار يمضي فيكشف لهم خطيئتهم معه.. لقد كادوا له وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ

مرت السنوات، وذهب كيدهم له.. ونفذ تدبير الله المحكم الذي يقع بأعجب الأسباب.. كان إلقاؤه في البئر هو بداية صعوده إلى السلطة والحكم.. وكان إبعادهم له عن أبيه سببا في زيادة حب يعقوب له. وها هو ذا يملك رقابهم وحياتهم، وهم يقفون في موقف استجداء عطفه.. إنهم يختمون حوارهم معه بقولهم:

قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ

إن روح الكلمات واعترافهم بالخطأ يشيان بخوف مبهم غامض يجتاح نفوسهم.. ولعلهم فكروا في انتقامه منهم وارتعدت فرائصهم.. ولعل يوسف أحس ذلك منهم فطمأنهم بقوله:

قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

لا مؤاخذة، ولا لوم، انتهى الأمر من نفسي وذابت جذوره.. لم يقل لهم إنني أسامحكم أو أغفر لكم، إنما دعا الله أن يغفر لهم، وهذا يتضمن أنه عفا عنهم وتجاوز عفوه، ومضى بعد ذلك خطوات.. دعا الله أن يغفر لهم.. وهو نبي ودعوته مستجابة.. وذلك تسامح نراه آية الآيات في التسامح.

ها هو ذا يوسف ينهي حواره معهم بنقلة مفاجئة لأبيه.. يعلم أن أباه قد ابيضت عيناه من الحزن عليه.. يعلم أنه لم يعد يبصر.. لم يدر الحوار حول أبيه لكنه يعلم.. يحس قلبه.. خلع يوسف قميصه وأعطاه لهم:

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

وعادت القافلة إلى فلسطين.

المشهد الثامن:

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ

في فلسطين.. قال يعقوب -عليه السلام- لمن حوله: إني أشم رائحة يوسف، لولا أنكم تقولون في أنفسكم أنني شيخ خرِف لصدقتم ما أقول.

فرد عليه من حوله:

قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ

لكن المفاجأة البعيدة تقع:

فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

هنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه:

قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئا من بنيه، وأنه لم يصف لهم بعد، وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح.

ها هو المشهد الأخير في قصة يوسف:

بدأت قصته برؤيا.. وها هو ذا الختام تأويل رؤياه:

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

تأمل الآن مشاعره ورؤياه تتحقق.. إنه يدعو ربه:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

هي دعوة واحدة.. تَوَفَّنِي مُسْلِمًا

لا نريد أن نترك قصة يوسف الكريم ابن يعقوب الكريم، قبل أن نلاحظ هذه الملاحظة:

في قصة سيدنا إبراهيم، ينزع الحب الغريزي من قلبه لابنه سيدنا إسماعيل، حتى يصير القلب خالصا لله وحده.. فإذا تحقق الأمر يرفع أمر الذبح ويأتي الفداء.

وثمة مماثلة في قلب سيدنا يعقوب.. بالنسبة لابنه يوسف، أحب يوسف فابتلي بضياعه، فلما صار قلبه خالصا لله دون أغيار من يوسف وأخيه، رد الله إليه ولديه.

وثمة مماثلة في قصة الإفك.. إذ ينزع ميل سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى السيدة عائشة، رضي الله تعالى عنها، حتى يصير القلب خالصا لله دون أغيار.. بعدها تنزل براءتها وتحتل مكانتها باسم الله.. بكلمة الله

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:54 PM
قصص زكريا ويحيى عليهما السلام

( عيون الأخبار ) عن الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا عليه السلام في أول يوم من المحرم فقال: يا بن شبيب أصائم أنت ؟ فقلت لا , فقال: ان هذا اليوم الذي دعا فيه زكريا عليه السلام فقال: (( رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء )) فاستجاب الله وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلي في المحراب (( أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى )) فمن صام هذا اليوم ودعا الله عز وجل , استجاب الله له كما استجاب لزكريا عليه السلام.

( الكافي ) عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت ما عنى الله تعالى بقوله في يحيى (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال فما بلغ من تحنن الله عليه ؟ قال: إذا قال: يا رب , قال الله عز وجل : لبيك يا يحيى.

( الأمالي ) بإسناده إلى النبي (ص) قال: كان من زهد يحيى بن زكريا (ع) أنه أتى بيت المقدس بنظر إلى المجتهدين من الأحبار والرهبان عليهم مدارع الشعر وبرانس الصوف وإذا هم خرقوا تراقيهم وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى سواري المسجد. فلما نظر إلى ذلك , أتى إلى أمه , فقال: يا أماه إنسجي لي مدرعة من شعر وبرنساً من صوف حتى آتي بيت المقدس فأعبد الله مع الأحبار والرهبان فقالت له أمه حتى يأذن نبي الله وأوامره في ذلك , فدخل بمقالة يحيى , فقال زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا وإنما أنت صبي صغير ؟ فقال له يا أبت أما رأيت من هو أصغر سناً مني قد ذاق الموت ؟ قال بلى , ثم قال لأمه انسجي له مدرعة من شعر وبرنساً من صوف , ففعلت.

فتدرع المدرعة على بدنه ووضع البرنس على رأسه , ثم أتى بيت المقدس فأقبل يعبد الله عز وجل مع الأحبار , حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه. فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه , فبكى , فأوحى الله تعالى : يا يحيى أتبكي مما قد نحل من جسمك , وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار إطلاعة , لتدرعت مدرعة الحديد فضلاً عن المنسوج , فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه , وبدا للناظرين أضراسه.

فبلغ ذلك أمه , فدخلت عليه وأقبل زكريا واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه , فقال ما شعرت بذلك , فقال زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا إنما سألت ربي أن يهبك لي لتقر بك عيني ؟ قال أنت أمرتني بذلك يا أبة , قال ومتى ذلك يا بني ؟ قال: ألست القائل : أن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله ؟ قال بلى , فجد واجتهد وشأنك غير شأني. فقام يحيى فنفض مدرعته , فأخذته أمه فقالت : أتأذن لي يا بني أن أتخذ لك قطعتي لبود يواريان أضراسك وينشفان دموعك ؟ فقال لها: شأنك. فاتخذت له قطعتي لبود يواريان أضراسه وتنشفان دموعه , حتى إبتلتا من دموع عينيه , فحسر عن ذراعيه , ثم أخذهما فعصرهما فتحدر الدموع بين أصابعه.

فنظر زكريا إلى ابنه وإلى دموع عينيه , فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم ان هذا ابني وهذه دموع عينيه وأنت أرحم الراحمين.

وكان زكريا عليه السلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يميناً وشمالاً فإن رأى يحيى لم يذكر جنة ولا نار.

فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل , وأقبل يحيى قد لف رأسه بعباءة , فجلس في غمار الناس , والتفت زكريا يميناً وشمالاً فلم ير يحيى , فأنشأ يقول : حدثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى : إن في جهنم جبلاً يقال له السكران في أصل ذلك الجبل وادياً يقال له الغضبان , يغضب لغضب الرحمن تبارك وتعالى , في ذلك الوادي جب قامته مائة عام في ذلك الجب توابيت من نار في تلك التوابيت صناديق من نار وثياب من نار وسلاسل من نار وأغلال من نار.

فرفع يحيى (ع) رأسه فقال: واغفلتاه من السكران , ثم أقبل هائماً على وجهه فقام زكريا من مجلسه ودخل على أم يحيى فقال لها: يا أم يحيى قومي فاطلبي يحيى فإني قد تخوفت أن لا نراه إلا وقد ذاق الموت , فقامت فخرجت في طلبه حتى مرت بفتيان من بني إسرائيل فقالوا لها يا أم يحيى أين تريدين ؟ قالت أن أطلب ولدي يحيى ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه.

فمضت أمي يحيى والفتية معها , حتى مرت براعي غنم , فقالت له: يا راعي هل رأيت شاباً من صفته كذا وكذا ؟ فقال لها لعلك تطلبين يحيى بن زكريا ؟ قالت نعم ذاك ولدي , ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه , فقال إني تركته الساعة على عقبة ثنية كذا وكذا ناقعاً على قدميه في الماء رافعاً بصره إلى السماء يقول: وعزتك يا مولاي لا ذقت بارد الشراب حتى أنظر إلى منزلتي منك.

وأقبلت أمه , فلما رأته دنت منه فأخذت برأسه فوضعته بين ثدييها وهي تناشده بالله أن ينطلق معها إلى المنزل , فانطلق معها إلى المنزل. فقالت: هل لك أن تخلع مدرعة الشعر ؟ وتلبس مدرعة الصوف فإنه ألين , ففعل , وطبخ له عدس فأكل واستوفى , فنام فذهب به النوم فلم يقم لصلاته.

فنودي في منامه : يا يحيى بن زكريا أردت داراً خيراً من داري وجواراً خيراً من جواري , فاستيقظ فقام فقال: يا رب اقلني عثرتي إلهي فوعزتك لا استظل بظل سوى بيت المقدس , وقال لأمه : ناوليني مدرعة الشعر فقد علمت أنكما ستوردا بي المهالك , فدفعت إليه المدرعة وتعلقت به فقال لها زكريا: يا أم يحيى دعيه فإن ولدي قد كشف عن قناع قلبه ولن ينتفع بالعيش. فقام يحيى فلبس مدرعته ووضع البرنس على رأسه , ثم أتى بيت المقدس فجعل يعبد الله عز وجل مع الأحبار حتى كان من أمره ما كان. وعن أمير المؤمنين عليه السلام:ما بكت السماء والأرض إلى على يحيى بن زكريا والحسين بن علي عليهما السلام.

وقيل : لأن الله سبحانه أحياه بالإيمان . أو أن الله سبحانه أحيى قلبه بالنبوة , ولم يسم أحد قبله بيحيى.

( الأمالي ) عن الرضا عليه السلام : أن إبليس كان يأتي الأنبياء (ع) من لدن آدم (ع) إلى أن بعث الله المسيح (ع) يتحدث عندهم ويسائلهم ولم يكن بأحد منهم أشد بأساً منه بيحيى بن زكريا (ع).

فقال له يحيى (ع) : يا أبا مرة إن لي إليك حاجة فقال أنت أعظم قدراً من أن أردك بمسألة فسلني ما شئت فإني غير مخالفك فيما تريده فقال له يحيى (ع) يا أبا مرة أريد أن تعرض علي مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بني آدم , فقال له إبليس : حباً وكرامة وواعده لغد.

فلما أصبح يحيى (ع) قعد في بيته ينتظر الموعد وأغلق عليه الباب فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته , فإذا وجهه صورة وجه القرد وجسده على صورة الخنزير وإذا عيناه مشقوقتان طولاً وأسنانه عظم واحد بلا ذقن ولا لحية وله أربعة أيد يدان في الصدر ويدان في منكبه وإذا عراقيبه قوادمه وأصابعه خلفه وعليه قباء وقد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط بين أحمر وأصفر وأخضر وجميع الألوان وإذا بيده جرس عظيم وعلى رأسه بيضة وإذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاليب.

فلما تأمله يحيى (ع) قال له: ما هذه المنطقة التي في وسطك ؟ فقال هذه المجوسية أنا الذي سننتها وزينتها لهم , فقال وما هذه الخيوط الألوان ؟ قال له هذه جميع أصباغ النساء لا تزال المرأة تصبغ الصبغ حتى تقع مع لونها , فافتتن الناس بها فقال له: فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال هذا كل لذة من طنبور وبربط وطبل وناي وصرناي , وأن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوا استخفهم الطرب فمن بين من يرقص ومن بين من يفرقع بإصابعه ومن بين من يشق ثيابه , فقال له: وأي الأشياء أقر لعينك ؟ فقال النساء هن فخوخي ومصائدي فإني إذا اجتمعت على دعوات الصالحين ولعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن فقال له يحيى (ع) فما هذه البيضة التي على رأسك ؟ قال بها أوتي دعوات المؤمنين قال فما هذه الحديدة التي أرى فيها الكلاليب ؟ قال بهذه أقلب قلوب الصالحين , قال يحيى (ع) فهل ظفرت بي ساعة قط ؟ قال لا ولكن فيك خصلة تعجبني بها , قال يحيى (ع) : فما هي ؟ قال أنت رجل أكول فإذا ظفرت وأكلت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل قال يحيى (ع) : فإني أعطي الله عهداً لا أشبع من الطعام حتى ألقاه. قال له إبليس وأنا أعطي الله عهداً ألا أنصح مسلماً حتى ألقاه , ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك.

وعن علي بن الحسين عليهم السلام قال: خرجنا مع الحسين (ع) فما نزل منزلاً ولا ارتحل إلا وذكر يحيى بن زكريا عليهما السلامز وقال يوماً : إن من هوان الدنيا على الله عز وجل أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

( كتاب الإحتجاج ) سأل سعد بن عبدالله القائم عليه السلام عن تأويل ( كهيعص ) فقال (ع) : هذه الحروف من أنباء الغيب , اطلع الله عليها عبده ثم قصها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وذلك أن زكريا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة , فأهبط الله عليه جبرئيل فعلمه إياها. فكان زكريا عليه السلام إذا ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً وفاطمة والحسن (ع) انكشف عنه همه وانجلى كربه , وإذا ذكر الحسين عليه السلام خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة – يعني الزفير – وتتابع النفس. فقال (ع) ذات يوم : إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي , وإذا ذكرت الحسين (ع) تدمع عيني وتثور زفرتي , فأنبأه الله تعالى عن قصته فقال: ( كهيعص ) فالكاف اسم كربلاء والهاء هلاك العترة والياء يزيد وهو ظالم الحسين (ع) والعين عطشه والصاد صبره. فلما سمع زكريا (ع) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيهن الناس من الدخول عليه وأقبل على البكاء والنحيب. وكان يرثيه ويقول: إلهي أتفجع خير خلقك بولده ؟ إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه ؟ إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة ؟ إلهي أتحل كربة هذه المصيبة بساحتها.

ثم كان يقول : إلهي أرزقني ولداً تقر به عيني على الكبر , فإذا رزقتنيه فافتني بحبه , ثم افجعني به , كما تفجع محمداً حبيبك بولده. فرزقه الله يحيى (ع) وفجعه به. وكان حمل يحيى (ع) ستة اشهر , وحمل الحسين (ع) كذلك.

( علل الشرايع ) بالإسناد إلى وهب قال: انطلق إبليس يستقري مجالس بني إسرائيل أجمع ويقول في مريم عليها السلام ويقذفها بزكريا حتى إلتحم الشرع وشاعت الفاحشة على زكريا (ع). فلما رأى زكريا ذلك هرب , واتبعه سفهاؤهم وشرارهم وسلك في واد , حتى إذا توسطه انفرج له جذع شجرة فدخل فيه وانطبقت عليه الشجرة , وأقبل إبليس يطلبه معهم حتى انتهى إلى الشجرة التي دخل فيها زكريا (ع) فقاس لهم إبليس الشجرة من أسفلها إلى أعلاها , حتى إذا وضع يده على موضع القلب من زكريا عليه السلام فنشروا بمناشرهم وقطعوا الشجرة وقطعوه في وسطها , ثم تفرقوا عنه وتركوه وغاب عنهم إبليس حتى فرغ مما أراد.

فكان آخر العهد منهم به ولم يصب زكريا عليه السلام من ألم المنشار سيء. ثم بعث الله عز وجل الملائكة فغسلوا زكريا وصلوا عليه ثلاثة أيام من قبل أن يدفن . وكذلك الأنبياء عليهم السلام لا يتغيرون ولا يأكلهم التراب ويصلى عليهم ثلاثة أيام , ثم يدفنون.

( قصص ) الراوندي عن الصادق (ع) قال: إ ن ملكاً كان على عهد يحيى بن زكريا عليه السلام , لم يكفه ما كان عليه من الطروقة , حتى ينال امرأة بغياً , فكانت تأتيه حتى اسنت , فلما اسنت هيأت ابنتها ثم قالت لها إني أريد أن آتي بك الملك , فإذا واقعك فيسأل ما حاجتك فقولي حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا. فلما واقعها , سألها عن حاجتها فقالت قتل يحيى بن زكريا.

فبعث إلى يحيى (ع) فجاءوا به , فدعا بطشت فذبحه فيها , وصبوه على الأرض , فيرتفع الدم ويعلو , فاقبل الناس يطرحون عليه التراب , فيعلو عليه الدم حتى صار تلاً عظيماً , ومضى ذلك القرن.

فلما كان من أمر بخت نصر ما كان رأى ذلك فسأل عنه فلم يجد أحداً يعرفه حتى دل على شيخ كبير فسأله فقال أخبرني أبي عن جدي أنه كان من قصة يحيى بن زكريا (ع) كذا وكذا , وقص عليه القصة والدم دمه , فقال بخت نصر لا جرم لأقتلن عليه حتى يسكن , فقتل عليه سبعين ألفاً. فلما وافى عليه سكن الدم.

( قصص الراوندي ) عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن عاقر ناقة صالح كان أزرق بن بغي , وأن قاتل يحيى بن زكريا ابن بغي , وأن قاتل علي عليه السلام ابن بغي.

وقال: في قوله تعالى : (( لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا )) قال يحيى بن زكريا (ع) لم يكن له سمياً قبله, والحسين بن علي لم يكن له سمي قبله , وبكت السماء عليهما أربعين صباحاً , وكذلك بكت الشمس عليهما وبكاؤها أن تطلع حمراء وتغيب.

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:55 PM
قصص النبي أيوب عليه السلام

قال تعالى في سورة الأنبياء : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين)).
وقال في سورة ص : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)).

قال أمين الإسلام الطبرسي طاب ثراه : أي ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) حين دعا ( رَبَّهُ ) لما اشتدت عليه المحنة به : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي نالني وأصابني الجهد (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

وهذا تعريض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء ( بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) أي متعب ومكروه ومشقة. وقيل: بوسوسة , فيقول له طال من ضرك ولا يرحمك ربك. وقيل: بأن يذكره ما كان فيه من نعم الله تعالى , وكيف زال ذلك كله طمعاً أن يزله بذلك , فوجده صابراً مسلماً لأمر الله.

قال قتادة : دام ذلك سبع سنين. وروي ذلك عن أبي عبدالله عليه السلام. ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) أي ادفع برجلك الأرض ( هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) وفي الكلام حذف , أي فركض برجله فنبعت بركضته عين ماء. وقيل نبعت عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فروي: والمغتسل الموضع الذي يغتسل فيه. وقيل: هو اسم للماء الذي يغتسل به.

( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) وهو ملأ الكف من الشماريخ وما أشبه ذلك أي وقلنا له ذلك. وذلك أنه حلف على امرأته لأمر أنكره من قولها إن عوفي: ليضربنها مائة جلدة. فقيل له: خذ ضغثاً بعدد ما حلفت فاضربها به دفعة واحدة. فإنك إذا فعلت ذلك برت يمينك ( وَلَا تَحْنَثْ ) أي يمينك.

(وروي) عن ابن عباس أنه قال: كان السبب في ذلك ان إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته إلى مداواة أيوب. فقال أداويه على أنه إذا برء قال أنت شفيتني لا أريد جزاءاً سواه ؟ فقالت نعم , فأشارت إلى أيوب بذلك فحلف ليضربنها ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أي رجاع إلى الله منقطع إليه.

( روى العياشي ) بإسناده أن عباد المللكي قال: قال لي سفيان الثوري : اني أرى لك من أبي عبدالله منزلة فاسأله عن رجل زنى وهو مريض فإن أقيم عليه الحد خافوا أن يموت ما يقول فيه. فسألته فقال لي: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان ؟ فقلت ان سفيان الثوري أمرني أن اسألك عنها فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل احبن – يعني به الاستسقاء – قد استسقى وبدت عروقه وقد زنى بامرأة مريضة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله فأتي بعرجون فيه شمراخ. فضرب به ضربة وخلى سبيله. رواه الصدوق في (الفقيه) بسند صحيح.

(الكافي) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ان الله عز وجل يبتلي المؤمن بكل بلية ويميته بكل ميتة ولا يبتليه بذهاب عقله , أما ترى أيوب كيف سلط أبليس على ماله وعلى ولده وعلى أهله وعلى كل شيء منه ولم يسلط على عقله , ترك له ليوحد الله به.

(وعنه) عليه السلام قال: يؤتى بالمرأة الحساب يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول يارب حسنت وجهي حتى لقيت ما لقيت , فيجاء بمريم عليها السلام فيقال أنت أحسن أو هذه ؟ قد حسناها فلم تفتتن. ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه , فيقول يا رب قد حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت , فيجاء بيوسف صلى الله عليه فيقال : أنت أحسن أو هذا قد حسناه فلم يفتتن. ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابته الفتنة في بلائه فيقول: يارب شددت علي البلاء حتى افتتنت. فيؤتى بأيوب صلى الله عليه فيقال: أبليتك أشد أم بلية هذا فقد ابتلي ولم يفتتن.

(تفسير علي بن إبراهيم) بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال أبوبصير: سألته عن بلية أيوب عليه السلام التي ابتلي بها في الدنيا لأي علة كانت ؟ قال: لنعمة أنعم الله عليه بها في الدنيا , وأدى شكرها.

وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس من دون العرش , فلما صعد ورأى شكر نعمة أيوب , حسده إبليس , فقال يارب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبداً فقيل له: قد سلطتك على ماله وولده , قال: فانحدر مسرعاً خشية أن تدركه رحمة الله عز وجل فلم يبق له مالا وولداً إلا أعطاه. فازداد أيوب لله شكراً وحمداً. قال فسلطني على زرعه , قال: قد فعلت. فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق , فازداد أيوب شكراً وحمداً. فقال يارب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه ولسانه وسمعه. فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه. فبقى في ذلك دهراً يحمد الله ويشكره حتى وقع في بدنه الدود. وكانت تخرج من بدنه فيردها ويقول لها: ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه. فنتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية , وكانت امرأته : رحمة بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم وعليها تتصدق من الناس بما تجده.

فلما طال عليه البلاء ورأى إبليس صبره , أتى أصحاباً له كانوا في الجبال رهباناً وقال لهم مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته , فركبوا بغالاً شهباناً وجاءوا , فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فقرنوا بعضها إلى بعض ثم مشوا إليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه ,فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يتبل به أحد إلا من أمر كنت تسره فقال أيوب: وعزة ربي انه ليعلم أني ما أكلت طعاماً إلا وعلى خواني يتيم أو ضعيف يأكل معي , وما عرض لي أمران كليهما طاعة إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب: سوأة لكم عمدتم إلى نبي الله فغيرتموه حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسرها. فقال أيوب : لو جلست مجلس الخصم منك لأدليت بحجتي فبعث الله إليه غمامة , فنطق فيها ناطق بعشرة آلاف لسان أو ستة آلاف لغة : يا أيوب أدل بحجتك فإني منك قريب ولم أزل قريباً قال فشد عليه مئزره وجثى على ركبتيه وقال: ابتليتني بهذه البلية وأنت تعلم انه لم يعرض لي أمران قط إلا لزمت بأحسنهما على بدني ولم آكل أكلة من طعام إلا وعلى خواني يتيم قال: فقيل له: يا أيوب من حبب إليك الطاعة ؟ ومن صيرك تعبد الله والناس عنه غافلون؟ أتمن على الله بما لله المن فيه عليك ؟ فأخذ التراب ووضعه في فيه , ثم قال: أنت يارب فعلت ذلك بي. فأنزل الله عليه ملكاً , فركض برجله , فخرج الماء فغسله بذلك الماء , فعاد أحسن ما كان , فأنبت الله عليه روضة خضراء , ورد عليه أهله وماله وولده وزرعه , وقعد معه الملك يحدثه , فاقبلت امرأته معها الخبز اليابس , فلما انتهت إلى الموضع , إذا الموضع متغير وإذا رجلان جالسان , فبكت وصاحت وقالت: يا أيوب ما دهاك ؟ فناداها أيوب فاقبلت , فلما رأته وقد رد الله عليه بدنه ونعمته سجدت لله شكراً , فرأى ذوابتها مقطوعة , وذلك أنها سألت قوماً أن يعطوها تحمله إلى أيوب من طعام , وكانت حسنة الذوابة , فقالوا لها تبيعينا ذوابتك هذه حتى نعطيك ؟ فقطعتها ودفعتها إليهم وأخذت منهم طعاماً لأيوب. فلما رآها مقطوعة الشعر غضب وحلف عليها أن يضربها مائة. فأخبرته: أنه كان سببه كيت وكيت , فاغتم أيوب من ذلك , فأوحى الله إليه : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ) فأخذ مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة , فخرج من يمينه.

ثم قال : ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ ) قال: فرد الله عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء , كلهم أحياهم الله فعاشوا معه.
وسئل أيوب عليه السلام بعد ما عافاه الله , أي شيء كان أشد عليك مما مرَّ عليك ؟ قال: شماتة الأعداء.

قال: فأمطر الله عليه في داره فراش الذهب وكان يجمعه , فإذا ذهب الريح بشيء عدا خلفه فرده , فقال له جبرئيل : أما تشبع يا أيوب ؟ قال: ومن يشبع من رزق ربه ؟

وعن ابن عباس كان الله رد على المرأة شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ذكراً , وكان له سبعة بنين وسبع بنات أحياهم الله له بأعيانهم.

(وعن) أبي عبدالله عليه السلام قال: ابتلي أيوب سبع سنين بلا ذنب. (وعنه) عليه السلام : ان الله تبارك وتعالى ابتلى أيوب عليه السلام بلا ذنب , فصبر حتى عُير , وان الأنبياء لا يصبرون على التعيير.

(الأمالي) بإسناده إلى الصادق عليه السلام : ان أيوب عليه السلام مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة ولا قبحت له صورة ولا خرجت منه مدة ولا دم ولا قيح ولا استقذره أحد رآه ولا استوحش منه أحد شاهده ولا تدود شيء من جسده , وهكذا يصنع الله عز وجل من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه , وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره , لجهلهم بماله عند ربه تعالى ذكره , من التأييد والفرج.

وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : أعظم الناس بلاءاً : الأنبياء , ثم الأمثل فالأمثل , وانما أبتلاه الله عز وجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لكيلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى شاهدوه وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله تعالى , على ضربين , استحقاق واختصاص , ولئلا يحتقروا ضعيفاً لضعفه ولا فقير لفقره ولا مريضاًِ لمرضه وليعلموا أنه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء كيف يشاء بأي سبب شاء , ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشقاوة لمن شاء وسعادة لمن شاء , وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله , لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا قوة إلا به.

(الكافي) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ان الله عز وجل لما عافى أيوب نظر إلى بني إسرائيل قد ازدرعوه. فرفع طرفه إلى السماء فقال: إلهي وسيدي عبدك أيوب المبتلى عافيته ولم يزدرع شيئاً وهذا لبني إسرائيل زرع فأوحى الله عز وجل إليه : يا أيوب خذ سبحتك كفاً فابذره. وكانت سبحته فيها ملح , فأخذ أيوب كفاً فبذره فخرج هذا العدس. وأنتم تسمونه الحمص ونحن نسميه العدس.

(معاني الأخبار) معنى أيوب من آب يؤب وهوانه يرجع إلى العافية والنعم والأهل والمال والولد بعد البلاء.
وقال الصادق عليه السلام : ما سأل أيوب العافية في شيء من بلائه.

قال الثعلبي في (العرائس) : قال وهب وكعب وغيرهما من أهل الكتاب كان أيوب الني عليه السلام رجلا من الروم وكان مكتوباً على جبهته المبتلى الصابر. وهو أيوب بن اموص بن دارح بن روم بن عيص بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وكانت أمه من ولد لوط بن هاران عليه السلام وكانت له البثة بلدة من بلاد الشام. وكان له فيها من أصناف المال من الإبل والبقر والخيل والغنم وكان براً تقياً رحيماً وكان يحترز من الشيطان وكيده وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدقوه , رجل من أهل اليمن يقال له اليفن , رجلان من أهل بلاده بلدد وصافن.

قال وهب: ان لجبرئيل عليه السلام بين يدي الله مقاماً ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة وان جبرئيل عليه السلام هو الذي يتلقى الكلام , فإذا ذكر الله تعالى عبداً بخير تلقاه جبرئيل عليه السلام ثم لقاه ميكائيل وحوله الملائكة المقربون حافين من حول العرش , فإذا شاع ذلك في الملائكة المقربين شاعت الصلوات على ذلك العبد من أهل السماوات فإذا صلت عليه ملائكة السماوات هبطت بالصلاة إلى ملائكة الأرض.

وكان إبليس لعنه الله , لا يحجب عن شيء من السماوات وكان يقف فيهن حيث ما أراد ووصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة , فلم يزل على ذلك يصعد , حتى رفع الله تعالى عيسى , فحجب من أربع وكان يصعد في ثلاث. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله , حجب الثلاثة الباقية , فهو وجنوده محجوبون من جميع السماوات إلى يوم القيامة ( إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ).

فلما سمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب عليه السلام وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه , فأدركه البغي والحسد , فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه فقال يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك فعافيته فحمد ثم لم تجربه بشدة وبلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته ببلاء ليكفرن بك ولينسينك. فقال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله , فانقض عدو الله حتى وقع إلى الارض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظمائهم فقال ماذا عندكم من القوة والمعرفة فإني سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة إذا شئت تحولت إعصاراً من نار وأحرقت كل شيء آتي عليه , قال له إبليس فأت الإبل ورعاتها. فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها في مراعيها , فلم يشعر الناس حتى فار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم لا يدنو منها إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها فلما أتى على آخرها , تمثل إبليس براعيها ثم انطلق يؤم أيوب حتى وجده قائماً يصلي فقال يا أيوب قال: لبيك قال هل تدري مالذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعاتها ؟ قال أيوب : إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء تركه وإن شاء نزعه , وقديماً ما وطنت نفسي ومالي على الفناء. فقال إبليس وان ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت كلها , فترك الناس مبهوتون وقوفاً عليها متعجبون منها. منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور. ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً , لمنع وليه. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل يشمت به عدوه ويفجع به صديقه.

قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني , عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود في التراب وعرياناً أحشر إلى الله تعالى. ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته.

الله أولى بك وبما أعطاك , ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لقبض روحك مع الأرواح فآجرني فيك وصرت شهيد ولكنه علم منك شراً فخلصك من البلاء.

فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً فقال لهم ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلبه. قال عفريت من عظمائهم عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت نفسه. قال له إبليس فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى إذا توسطها صاح صوتاً فماتت من عند آخرها ومات رعاتها , ثم خرج متمثلا بقهرمان الرعاة حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلي فقال له القول الأول ورد عليه أيوب الرد الأول.

فجعل إبليس يصيب ماله مالا مالا حتى مرَّ على آخره بالهلاك , وهو يحمد الله ويشكره على البلاء. فلما رأى إبليس أنه لم ينجح منه بشيء , صعد سريعاً إلى موقفه فقال إلهي ان أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال , فهل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة المضلة والمصيبة التي لا يقوى عليها صبر الرجال ! فقال انطلق فقد سلطتك على ولده. فانقض حتى جاء بني أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تهدم قواعده ثم جعل يناطح جداره بعضها ببعض ويرميهم بالحجارة حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكبين , وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة , وهو جريح يسيل دمه وقال يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف قلبوا على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم ولو رأيت كيف شقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك فلم يزل يقول هذا , حتى رق أيوب وأخذ قبضة من التراب فوضعها على رأسه , فاغتنم إبليس ذلك , فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً.

ثم لم يلبث أن رجع إلى ربه فتاب واستغفر , وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته , فبدروا إبليس إلى الله تعالى فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً فقال يا إلهي إنما هون على أيوب ما ذهب منه , أنك متعته بنفسه , فهل أنت مسلطه على جسده فإنك إن ابتليته في جسده كفر بك فقال الله عز وجل : انطلق فقد سلطتك على جسده ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله.

ولم يسلطه الله سبحانه عليه إلا ليعظم له الثواب وجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل ليأنسوا به بالصبر ورجاء الثواب.

فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب (ع) ساجداً فأتاه في موضع في وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار قرحة واحدة ووقعت فيه حكة لا يملكها , فحك بدنه بالفخار والحجارة , فلم يزل يحك بدنه حتى تقطع لحمه وتغير وانتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه خلق الله كلهم , غير امرأته رحمة بنت افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم صلوات الله على نبينا وآله وعليهم السلام وكانت تختلف إليه بما يصلحه , وكان له أصحاب ثلاثة فاتهموه ورفضوه من غير أن يفارقوا دينه وأخذوا في لومه وتعنيفه وكان من بينهم شاب فلامهم على ما كان منهم وما عيروا به أيوب حتى قال لهم: انكم أشد علي من مصيبتي.

ثم أعرض عنهم وقال: يا رب لأي شيء خلقتني ؟ يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت ؟ فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي ؟ فالموت كان أجمل بي ألماً للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً , إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي , جعلتني للبلاء غرضاً , وقع علي بلاء لو وقع على جبل ضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ؟ إلهي تقطعت أصابعي فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيدي معاً فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني , تساقطت لهواتي ولحم رأسي وأن دماغي ليسيل من فمي , تساقط شعر عيني فكأنما أحرق بالنار وجهي وحدقتاي متدليان على خدي وورم لساني حتى ملأ فمي فما أدخل منه طعاماً إلا غصني وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني , وتقطعت أمعائي في بطني فإني لأدخلها الطعام فيخرج ما ذهب , فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمنها علي ويعيرني , هلك أولادي فلو بقي أحد منهم أعانني على بلائي , ملني أهلي وعقني أرحامي وتنكرت معارفي , وان سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي , ولو أن ربي نزع الهيبة من صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملأ فمي بمكان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي و لكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ولا نظر إلي فرحمني ولا دنا مني ولا أدناني فأتكلم ببرائتي وأخاصم عن نفسي.

فلما قال ذلك أيوب عليه السلام وأصحابه عنده أظلته غمام , ثم نودي : يا أيوب إن الله عز وجل يقول لك : ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً , فقم فادل بعذرك وتكلم ببرائتك وخاصم نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا يمكن أن يخاصمني إلا من يجعل الزيار في فم الأسد والسخال في فم العنقا واللجام في فم التنين ويكيل مكيالا من النور ويزن مثقالا من الريح ويصر صرة من الشمس وير دامس لقد منتك نفسك أمراً ما تبلغ بمثل قوتك أردت أن تخاصمني بعيك أم أردت أن تكابرني بضعفك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها ؟ أم كنت معي ؟ أم كنت تمتد بأطرافها ؟ أم تعلم ما بعد زواياها ؟ أم على أي شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض ؟ أم بحكمك كانت الأرض للماء غطاء ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهوى لا بعلائق ولا تحملها دعم من تحتها ؟ يبلغ من حكم أن تجري نورها ؟ أو تسير نجومها ؟ أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها أين كنت مني يوم سجرت البحار ؟ وأنبعت الأنهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها ؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ؟ ونصبت شوامخ الجبال ؟ هل لك من ذراع تطيق حملها أم هل تدري كم مثقال فيها ؟ أين الماء الذي أنزل من السماء ؟ أحكمتك أحصت القطر ؟ وقسمت الأرزاق ؟ أم قدرتك تثير السحاب وتجري الماء ؟ هل تدري ما أصوات الرعود ؟ أم من أي شيء لهب البرق ؟ وهل رايت عمق البحر ؟ هل تدري ما بعد الهوا ؟ هل تدري أين خزانة الثلج ؟ وأين خزانة البرد ؟ أم أين جبال البرد ؟ أم هل تدري أين خزانة الليل والنهار ؟ وأين طريق النور وبأي لغة تتكلم الأحجار ؟ وأين خزانة الريح ؟ وكيف نحبسه ؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال ؟ ومن شق الأسماع والأبصار؟.

فقال أيوب عليه السلام : فصرت عن هذا الأمر الذي تعرض علي , ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها , ولم أتكلم بشيء يسخط , ربي اجتمع علي البلاء. إلهي قد جعلتني لك مثل العدو وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي وقد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يدك وتدبير حكمتك , وإنما تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني , كلمة زلت عن لساني , فلن أعود وقد وضعت يدي في فمي وعضضت لساني وألصقت بالتراب خدي , فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.

فقال الله تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي , إذا أخطأت فقد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ( وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ ) لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزاً للصابرين ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فركض برجله فانفجرت له عين , فدخل فيها واغتسل , فأذهب الله تعالى كل ما كان فيه من البلاء. ثم خرج وجلس , فأقبلت امرأته فقامت تلمسه في مضجعه فلم تجده , فقامت مترددة كالوالهة , ثم قالت : يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا ؟ فقال لها: هل تعرفينه إذا رأيتيه ؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه , فتبسم وقال: أنا هو , فعرفته بمضحكه فاعتنقته.

فذلك قوله تعالى : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ) واختلف العلماء في وقت ندائه ومدة بلائه والسبب الذي قال من أجله : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ...).

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 10:58 PM
قصص داود عليه السلام

قال تعالى في سورة سبأ: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ )). وقال تعالى في سورة ص (( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ )).

( عن أبي جعفر (ع) ) قال: إن الله تبارك وتعالى لم يبعث الأنبياء ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح : ذو القرنين واسمه عياش وداود وسليمان يوسف عليهم السلام.

فأما عياش : فملك ما بين المشرق والمغرب.
وأما داود : فملك ما بين الشامات إلى بلاد اصطخر. وكذلك كان ملك سليمان وأما يوسف: فملك مصر وبراريها. لم يجاوزها إلى غيرها.

( تفسير علي بن إبراهيم ) ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) – أي سبحي لله – (وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) قال: كان داود عليه السلام إذا مر في البراري يقرأ الزبور , تسبح الجبال والطير معه والوحوش وألان الله له الحديد مثل الشمع , حتى كان يتخذ منه ما أحب.

قال الصادق (ع) : أطلبوا الحوائج يوم الثلاثاء , فإنه اليوم الذي ألان الله فيه الحديد لداود عليه السلام. وقوله : ( إَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) قال : الدرع , وقدر في السرد المسامير التي في الحلقة.

( قصص الأنبياء ) للفاضل الراوندي , بإسناده إلى أبي عبدالله عليه السلام قال: إن داود عليه السلام كان يدعو أن يعلمه الله القضاء بين الناس بما هو عنده تعالى الحق فأوحى الله إليه : يا داود إن الناس لا يحتملون ذلك واني سأفعل. وارتفع إليه رجلان , فاستدعى أحدهما على الآخر , فأمر المستدعى عليه أن يقوم المستدعي فيضرب عنقه ففعل.

فاستعظمت بنوا إسرائيل ذلك ! وقالت رجل جاء يتظلم من رجل , فأمر الظالم أن يضرب عنقه ! فقال صلوات الله عليه : ( رب إنقذني من هذه الورطة ). قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا داود سألتني أن ألهمك القضاء بين عبادي بما هو عندي الحق , وان هذا المستعدي قتل أبا هذا المستعدى عليه , فأمرت فضربت عنقه فوداه بأبيه وهو وهو مدفون في حائط كذا وكذا تحت شجرة كذا فأته فناده باسمه , فإنه سيجيبك فسله.

قال: فخرج داود عليه السلام وقد فرح فرحاً شديداً , فقال لبني إسرائيل : قد فرج الله , فمشى ومشوا معه فانتهى إلى شجرة , فنادى : يا فلان ! فقال لبيك يا نبي الله , قال من قتلك ؟ قال فلان. قال بنو إسرائيل , لسمعناه يقول يا نبي الله فنحن نقول يا نبي الله كما قال !! فأوحى الله تعالى إليه : يا داود لا يطيقون الحكم بما هو عندي الحكم , فسل المدعي البينة وأضف المدعى إلى اسمي.

( وعن أبي عبدالله عليه السلام ) قال: كان على عهد داود عليه السلام سلسلة يتحاكم الناس إليها , وأن رجلا أودع رجلا جواهر , فجحده إياها ! فدعاه إلى السلسلة , فذهب معه إليها وأدخل الجوهر في قناة , فلما أراد أن يتناول السلسلة قا له أمسك هذه القناة حتى أخذ السلسلة فأمسكها , ودنا الرجل من السلسلة فتناولها وأخذها وصارت في يده , فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : أحكم بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به , ورفعت السلسلة.

قال أبو جعفر عليه السلام : عرض على آدم عليه السلام أسماء الأنبياء عليهم السلام وأعمارهم , فمر بإسم داود فإذا عمره أربعون سنة , فقال آدم عليه السلام يا رب وما أقصر عمر داود وأكثر عمري ؟ يا رب إن أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتكتب ذلك له ؟ قال: نعم , قال إني زدته من عمري ثلاثين سنة فأثبتها له وإطرحها من عمري ! فأثبتها الله لداود ومحاها من آدم. فذلك قوله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ).

فلما دنا عمر آدم هبط عليه ملك الموت ليقبض روحه فقال يا ملك الموت قد بقي من عمري ثلاثون سنة , فقال ألم تجعلها لابنك داود وأنت بوادي الروحا ؟ فقال آدم عليه السلام يا ملك الموت ما أذكر هذا , فقال يا آدم لا تجهل , ألم تسأل الله أن يثبتها لداود ويمحوها عن عمرك؟ قال آدم فأحضر الكتاب حتى أعلم ذلك , وكان آدم صادقاً لم يذكر. فمن ذلك أمر الله العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل مسمى , لنسيان آدم عليه السلام وجحود ما جعل على نفسه.


( من لا يحضره الفقيه ) قال أبو جعفر عليه السلام : دخل علي عليه السلام المسجد , فاستقبله شاب وهو يبكي وحوله قوم يسكتونه , فقال له عليه السلام : ما أبكاك ؟ فقال يا أمير المؤمنين إن شريحاً قضى علي بقضية ما أدري ما هي , ان هؤلاء النفر خرجوا بأبي في سفرهم فرجعوا , لم يرجع أبي ! فسألتهم عنه فقالوا مات فسألتهم عن ماله , فقالوا ما ترك مالاً , فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم ! وقد علمت يا أمير المؤمنين أن أبي خرج ومعه مال كثير فقال ارجعوا فردهم جميعاً والفتى معهم إلى شريح.

فقال: يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء ؟ فحكى له , فقال: يا شريح هيهات هكذا تحكم في مثل هذا , والله لأحكمن فيهم بحكم ما حكم به قبلي إلا داود النبي (ع) يا قنبر أدع لي شرطة الخميس فدعاهم , فوكل بكل رجل منهم رجلاً من الشرطة , ثم نظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى وجوههم فقال أتقولون اني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى اني إذاً لجاهل , ثم قال فرقوهم وغطوا رؤوسهم ففرق بينهم وأقيم كل واحد منهم إلى إسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم , ثم دعا بعبيدالله بن أبي رافع كاتبه , فقال هات صحيفة ودواة وجلس (ع) في مجلس القضاء واجتمع الناس إليه , فقال إذا أنا كبرت فكبروا , ثم قال للناس أفرجوا , ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه فكشف عن وجهه , ثم قال لعبيدالله أكتب قراره وما يقول , ثم أقبل عليه بالسؤال فقال في أي حين خرجتم من منازلكم وأبو هذا الفتى معكم فقال في يوم كذا وشهر كذا , ثم قال وإلى أين بلغتم من سفركم حين مات ؟ قال إلى موضع كذا , قال وفي أي منزل مات ؟ قال في منزل فلان بن فلان , قال وما كان مرضه ؟ قال كذا وكذا , قال كم يوماً مرض ؟ قال كذا وكذا يوماً , قال فمن كان يمرضه وفي أي يوم مات ومن غسله ومن كفنه وبما كفنتموه ومن صلى عليه ومن نزل قبره ؟ .

فلما سأله عن جميع ما يريد , كبر وكبر الناس معه ! فارتاب أولئك الباقون ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر عليهم وعلى نفسه , فأطرق يغطي رأسه. ثم دعى بآخر فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه , ثم قال كلا زعمت أني لا أعلم ما صنعتم , فقال يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم ولقد كنت كارهاً لقتله فأقر. ثم دعا بواحد بعد واحد , وكلهم يقر بالقتل , وأخذ المال , ثم رد الأول فأقر أيضاً , فألزمهم المال والدية.

وقال شريح يا أمير المؤمنين وكيف كان حكم داود ؟ فقال إن داود النبي عليه السلام مر بغلمة يلعبون وينادون بعضهم مات الدين ! فدعا منهم غلاماً , فقال يا غلام ما اسمك ؟ فقال اسمي مات الدين سمتني به أمي.

فانطلق إلى أمه فقال لها من سماه بهذا الاسم ؟ قالت أبوه , قال وكيف ذلك ؟ قالت أن أباه خرج في سفر له ومعه قوم وهذا الصبي حمل في بطني , فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي وقالوا مات ! قلت أين ماله ؟ قالوا لم يخلف مالاً ! فقلت أوصاكم بوصية ؟ قالوا نعم زعم أنك حبلى فما ولدت سميه مات الدين فسميته , فقال أتعرفين القوم الذين كانوا خرجوا مع زوجك ؟ قالت نعم وهم أحياء , قال فانطلقي بنا إليهم ثم مضى معها فاستخرجهم من منازلهم , فحكم بينهم بهذا الحكم , فثبت عليهم المال والدم , ثم قال للمرأة سمي ابنك عاش الدين.

( وعن أبي عبدالله عليه السلام ) قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليها السلام : إنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئاً.
قال: فبكى داود عليه السلام , فأوحى الله تعالى إلى الحديد أن لن لعبدي داود , فألآن الله له الحديد , فكان يعمل كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم , فعمل ثلثماة وستين درعاً , فباعها بثلثماة وستين ألفاً , واستغنى عن بيت المال.

( بشارة المصطفى ) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إذا قام قائم آل محمد عليهم السلام حكم بين الناس بحكم داود لا يحتاج إلى بيّنة , يلهمه الله تعالى.

وقال صاحب ( الكامل ) كان داود بن ايشا من أولاد يهودا , فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه عليهم. فلما ملك جعله الله نبياً ملكا وأنزل عليه الزبور وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح , ولم يعط الله أحداً مثل صوته , كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحش حتى يأخذ بأعناقها و كان يقوم الليل ويصوم النهار ونصف الدهر , فكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف , وكان يأكل من كسب يده.

قيل : قيل أصاب الناس في زمن داود عليه السلام طاعون جارف فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس , وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء فلهذا قصده ليدعو فيه. فلما وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم فاستجاب الله ورفع الطاعون , فاتخذوا ذلك الموضع مسجداً وكان الشروع في بنائه لأحد عشر سنة مضت من ملكه , وتوفي قبل أن يستتم بناؤه وأوصى إلى سليمان بإتمامه. ثم أن داود عليه السلام توفي , وكانت له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح ويقوم إلى عبادته , فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلاً , فقالت من أدخلك الدار ؟ فقال : أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن , فسمع داود قوله فقال: أنت ملك الموت , فهلا أرسلت إلي فأستعد للموت ؟ قال قد أرسلت إليك كثيراً , قال: من كان رسولك ؟ قال أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك ؟ قال: ماتوا , قال فهم رسلي إليك بأنك تموت كما ماتوا , ثم قبضه . فلما مات ورث سليمان ملكه , وكان له تسعة عشر ولداً فورثه سليمان دونهم وكان عمر داود عليه السلام مائة سنة ومدة ملكه أربعين سنة.

( الكافي ) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: أن داود عليه السلام لما وقف الموقف بعرفة نظر إلى الناس وكثرتهم فصعد الجبل فأقبل يدعو , فلما قضى نسكه أتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: يا داود يقول لك ربك : لم صعدت الجبل ظننت أنه يخفى علي صوت من صوت ثم مضى به إلى البحر إلى جدة , فرسب به الماء مسيرة أربعين صباحاً إلى البر , فإذا صخرة ففلقها فإذا فيها دودة , فقال : يا داود يقول لك ربك أنا أسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر , فظننت أنه يخفى علي صوت من صوت.

( وعنه عليه السلام ) قال: قال داود النبي عليه السلام : لأعبدن الله اليوم عبادة ولأقرأن قراءة لم أفعل مثلها قط , فدخل محرابه ففعل , فلما فرغ من صلاته إذا هو بضفدع في المحراب , فقال له: يا داود أعجبك اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك ؟ فقال: نعم , فقالت لا يعجبك فإني أسبّح الله في كل ليلة ألف تسبيحة يتشعب لي مع كل تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة , واني لأكون في قعر الماء فيصوت الطير في الهواء فأحسبه جائعاً , فأطفو له على الماء ليأكلني , وما لي ذنب.

قصته عليه السلام مع اوريا.
( روى علي بن إبراهيم في تفسيره ) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن داود عليه السلام لما جعله الله خليفة في الأرض وأنزل عليه الزبور وأوحى الله عز وجل إلى الجبال والطير أن يسبحن معه وكان سببه: أنه إذا صلى يقوم وزيره لما يفرغ من الصلاة فيحمد الله ويسبحه ويكبره ويهلله ثم يمدح الأنبياء عليهم السلام نبياً نبياً ويذكر من فضلهم وأفعالهم وشكرهم في عبادتهم لله سبحانه والصبر على بلائه , ولا يذكر داود. فنادى داود عليه السلام ربه فقال: يا رب , قد أثنيت على الأنبياء بما قد أثنيت عليهم ولا تثن علي ؟ فأوحى الله عز وجل إليه: هؤلاء عباداً ابتليتهم فصبروا وأنا أثني عليهم بذلك , فقال: يا رب فابتليني حتى أصبر فقال يا داود تختار البلاء على العافية إني ابتليت هؤلاء فلم أعلمهم , وأنا ابتليتك وأعلمك أنه يأتيك بلائي في سنة كذا من شهر كذا في يوم كذا. وكان داود يفرغ نفسه لعبادته يوماً يقعد في محرابه ويماً يقعد لبني إسرائيل فيحكم بينهم.

فلما كان في اليوم الذي وعده الله عز وجل فيه اشتدت عبادته وخلا في محرابه وحجب الناس عن نفسه , فبينما هو يصلي فإذا طائر قد وقع بين يديه جناحاه من زبرجد أخضر ورجلاه من ياقوت أحمر ومنقاره من اللؤلؤ والزبرجد , فأعجبه ونسي ما كان فيه , فقام ليأخذه ! فطار الطائر فوقع على حائط بين داود وبين اوريا وكان داود عليه السلام قد بعث اوريا في بعث , فصعد داود عليه السلام الحائط ليأخذ الطير , وإذا امرأة جالسة تغتسل فلما رأت ظل داود نشرت شعرها وغطت به بدنها , فنظر إليها داود عليه السلام وافتتن بها ورجع إلى محرابه ونسى ما كان فيه.

وكتب إلى صاحبه في ذلك البعث : أن يصيروا إلى موضع كيت وكيت ويوضع التابوت بينهم وبين عدوهم فإذا رجع عنه انسان كفر , ولا يرجع أحد عنه إلا ويقتل , فكتب داود إلى صاحبه الذي بعثه أن ضع التابوت بينك وبين عدوك وقدم اوريا بين يدي التابوت فقدمه وقتل.

فلما قتل دخل عليه الملكان من سقف البيت وقعدا بين يديه , ففزع داود منهما , فقالا : لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط . وكان لداود عليه السلام حينئذ تسعة وتسعون امرأة , ما بين مهيرة إلى جارية فقال أحدهما لداود عليه السلام ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) – أي ظلمني وقهرني – فقال داود عليه السلام ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ....) الآية. فضحك المستدعى عليه من الملائكة وقال حكم الرجل على نفسه , فقال داود عليه السلام تضحك وقد عصيت ! لقد هممت أن أهشم فاك. قال: فعرجا , فقال الملك المستعدى عليه: لو علم داود أنه أحق بهشم فيه مني , ففهم داود الأمر وذكر الخطيئة. فبقى أربعين يوماً ساجداً يبكي ليله ونهاره ولا يقوم إلا وقت الصلاة , حتى انخرق جبينه وسال الدم من عينيه.

فلما كان بعد أربعين يوماً نودي : يا داود ما لك أجائع أنت فنشبعك ؟ أو ظمآن فنسقيك ؟ أم عريان فنكسوك ؟ أم خائف فنؤمنك ؟ فقال: إي رب وكيف لا أخاف وقد علمت وأنت الحكم العدل لا يجوزك ظلم ظالم . فأوحى الله عز وجل إليه: تبت يا داود ؟ فقال: إي رب وأنى لي بالتوبة ؟ قال: سر إلى قبر اوريا حتى ابعثه إليك وأسأله أن يغفر لك , فإن غفر لك غفرت لك, قال: يا رب فإن لم يفعل ؟ قال: أستوهبك منه.

فخرج داود عليه السلام يمشي على قدميه ويقرأ الزبور حتى انتهى إلى جبل وعليه نبي عابد يقال له حزقيل , قلما سمع دوي الجبال وصوت السباع تسبح علم أنه داود فقال: هذا النبي الخاطيء فقال داود :يا حزقيل تأذن لي أن أصعد إليك ؟ قال: لا فإنك مذنب.

فأوحى الله تعالى إلى حزقيل : يا حزقيل لا تعيّر داود بخطيئته واسألني العافية فنزل حزقيل وأخذ داود وأصعده إليه , فقال داود : يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط ؟ قال: لا , قال: فهل دخلك العجب مما أنت فيه من عبادة الله عز وجل ؟ قال: لا , قال: فهل ركنت إلى الدنيا وأحببت تأخذ من شهواتها ولذاتها ؟ قال: بلى ربما عرض ذلك بقلبي , قال: فما تصنع ؟ قال أدخل هذا الشعب فأعتبر بما فيه.

فدخل داود عليه السلام الشعب فإذا بسرير من حديد عليه جمجمة بالية وعظام نخرة وإذا لوح من حديد فيه مكتوب , فقرأه داود فإذا فيه: أنا اورى بن سلم , ملكت ألف مدينة وبنيت ألف مدينة وافتضضت ألف جارية ! فكان آخر أمري أن صار التراب فراشي والحجارة وسادي والحيات والديدان جيراني , فمن رآني فلا يغتر بالدنيا.

ومضى داود حتى أتى قبر اوريا , فناداه فلم يجبه. ثم ناداه , فلم يجبه. ثم ناداه ثالثة , فقال اوريا: ما لك يا نبي الله لقد شغلتني عن سروري وقرة عيني , قال يا اوريا اغفر لي خطيئتي , فأوحى الله عز وجل: يا داود بين له ما كان منك , فناداه داود فأجابه في الثالثة فقال: يا اوريا فعلت كذا وكذا وكيت وكيت ,فقال اوريا: أتفعل الأنبياء مثل هذا ؟ فناداه فلم يجبه , فوقع داود على الأرض باكياً فأوحى الله عز وجل إلى صاحب الفردوس ليكشف عنه فكشف عنه , فقال اوريا لمن هذا ؟ قال لمن غفر لداود خطيئته , فقال يا رب قد وهبت لداود خطيئته. فرجع داود إلى بني إسرائيل وكان إذا صلى قام وزيره يحمد الله ويثني عليه ويثني على الأنبياء عليهم السلام ثم يقول كان من فضل نبي الله داود (ع) قبل الخطيئة كيت وكيت.

فاغتم داود عليه السلام , فأوحى الله عز وجل إليه : يا داود قد وهبت لك خطيئتك وألزمت عار ذنبك بني إسرائيل , قال يا رب كيف وأنت الحكم الذي لا يجور ؟ قال: لأنه لم يعالجوك النكير.

وتزوج داود عليه السلام بامرأة اوريا بعد ذلك , فولد منها سليمان عليه السلام. ثم قال الله عز وجل : ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ )

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام : أن داود كتب إلى صاحبه أن لا تقدم اوريا بين يدي التابوت ورده , فقدم اوريا إلى أهله ومكث ثمانية أيام ثم مات.


قال السيد نعمة الله الجزائر رحمه الله : هذا الحديث محمول على التقية لموافقته مذاهب العامة ورواياتهم وعدم منافاته لقواعدهم من جواز مثله على الأنبياء. والأخبار الواردة برده كثيرة من طرقنا , فلا مجال لتأويله , إلا الحمل على التقية.

( عيون الأخبار ) بإسناده إلى أبي الصلت الهروي قال: سأل الرضا عليه السلام علي بن محمد بن الجهم فقال ما يقول من قبلكم في داود عليه السلام فقال: يقولون أن داود كان في محرابه يصلي إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور , فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير ! فسقط الطير في دار اوريا بن حنان فاطلع داود في أثره , فإذا بامرأة اوريا تغتسل , فلما نظر إليها هواها , وكان قد أخرج اوريا في بعض غزواته , فكتب إلى صاحبه أن قدم اوريا أمام الحرب فقدم اوريا فظفر اوريا بالمشركين . فصعب ذلك على داود , فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم , فقتل اوريا , وتزوج بامرأته.

قال: فضرب على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون , لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله على التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل. فقال يا بن رسول الله ما كانت خطيئته فقال: ويحك أن داود ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقاً هو أعلم مني . فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب , فقالا: ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه , ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له ما يقول . فكان هذا خطيئة داود , لا ما ذهبتم إليه. ألا تسمع الله عز وجل يقول : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ...) الآية.

فقال يا بن رسول الله فما قصته مع اوريا ؟ قال الرضا عليه السلام : ان المرأة في أيام داود عليه السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً , وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه السلام , فتزوج بامرأة اوريا , أو قتل لا تتزوج لما قتل وانقضت عدتها منه. فذلك الذي شق على اوريا.

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام ما تقول فيما يقول الناس في داود عليه السلام وامرأة اوريا ؟ فقال ذلك شيء تقوله العامة.


وقال الطبرسي : اختلف في استغفار داود من أي شيء كان:

فقيل أنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع والتذلل بالعبادة والسجود. كما حكى الله سبحانه عن إبراهيم بقوله: ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) .

وأما قوله : ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فالمعنى إنا قبلناه منه وأثبتناه عليه , فأخرجه على لفظ الجزاء. وهذا قول من ينزه الأنبياء عن جميع الذنوب , من الإمامية وغيرهم. ومن جوز على الأنبياء الصغائر , قال إن استغفاره كان لصغيرة. ثم انهم اختلفوا في ذلك على وجوه.

أحدها : أن اوريا خطب امرأة فأراد أهلها أن يزوجوها له , فبلغ داود , جمالها فخطبها أيضاً فزوجوها منه وقدموه على اوريا , فعوتب داود على الحرص على الدنيا. عن الجبائي.

وثانيها : أنه خرج اوريا إلى بعض ثغوره فقتل , فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده , إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته , فعوتب على ذلك بنزول الملكين.

وثالثها : أنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلّف امرأة , فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزويج بها , فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوج بها. فلما قتل اوريا , خطب داود امرأته ومنعت هيبة داود وجلالته أولياؤه أن يخطبوها , فعوتب على ذلك.

ورابعها : أن داود عليه السلام كان متشاغلا بالعبادة , فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه , فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها , وذلك مباح. فمالت نفسه ميل الطباع , ففصل بينهما , وعاد إلى عبادة ربه , فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله , فعوتب.

وخامسها : أنه عوتب على عجلته في الحكم التثبت , وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيه ولا يحكم عليه قبل ذلك , وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في وقت العبادة. انتهى.

وقال الرازي : بعد الطعن في الرواية المشهورة وإقامة الدلائل على بطلانها , وذكر بعض الوجوه السابقة والكلام عليها.

( روي ) أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه , فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب. فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعونه , فخافوا فوضعوا كذباً , فقالوا خصمان بغى بعضنا على .... إلى آخر القصة. وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج في لحاق الذنب بداود عليه السلام إلا ألفاظ أربعة :
أحدهما – قوله ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) وثانيها – قوله : ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) وثالثها – قوله : ( وَأَنَابَ . ورابعها – قوله : ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ).

ثم نقول: وهذه الألفاظ لاي دل شيء منها على ماذكروه. وتقريره من وجوه :

الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليه السلام دعاه الغضب إلى أن يشغل بالإنتقام منهم , إلا أنه مال إلى الصفح عنهم , طلباً لمرضات الله تعالى , فكانت هذه الواقعة هي الفتنة , لأنها جارية مجرى الإبتلاء والإمتحان , ثم أنه ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) مما هم به من الإنتقام منهم , وتاب عن ذلك الهم ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) القدر من الهم والعزم.

الثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه , إلا أنه قدم على ذلك الظن , وقال لما لم تقم دلالة ولا إمارة على أن الأمر كذلك , فبئس ما عملت بهم حتى ظننت بهم هذا.فكان هذا المراد من قوله : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) فغفر الله له ذلك.

الثالث : أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام إلا أنه استغفر لذلك لذلك الداخل العازم على قتله.
وقوله : ( فَغَفَرْنَا لَهُ ) أي لاحترام داود عليه السلام وتعظيمه , انتهى.
وقال البيضاوي : وأقصى ما في هذه الاشعار بأنه عليه السلام وإن كان له ما لغيره وكان له أمثاله , فنبهه الله بهذه القضية , فاستغفر وأناب عنه , انتهى.
واعلم أنه لما ثبت عصمة الأنبياء عليهم بالبراهين والأدلة القاطعة , وجب تأويل ما يكون ظاهره منافياً له.

وهذه الوجوه وإن كان يحصل بها الخلاص من القدح في شأن داود عليه السلام إلا أن المعول على ما في الأخبار الخالية من التقية.


فيما أوحي إليه وما صدر عنه من الحكم

( أمالي الصدوق ) رحمه الله بإسناده إلى أبي عبدالله عليه السلام قال: أوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: يا داود كما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها , كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون.

وعنه عليه السلام : إن العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة , فأبيحه جنتي : فقال داود : يا رب وما تلك الحسنة ؟ قال يدخل على عبدي المؤمن سروراً ولو بتمرة , فقال داود عليه السلام: حق لمن عرفك ألا يقطع رجاءه منك.

وعنه عليه السلام قال: أوحى الله تعالى إلى داود (ع) : يا داود إن العبد ليأتيني بالحسنة يوم القيامة فأحكمه بها في الجنة , فقال يا رب وما هذا العبد الذي يأتيك بالحسنة يوم القيامة فتحكمه بها الجنة ؟ قال: عبد مؤمن سعى في حاجة أخيه المؤمن أحب قضاها , فقضيت له أو لم تقض.

وقال المسعودي من علمائنا : أنزل الله الزبور بالعبرانية خمسين ومائة سورة جعله ثلاثة أثلاث , ثلث في الأول فيه ما يلقون من بخت نصر وما يكون من أمره في المستقبل , وفي الثلث الثاني ما يلقون من أهل الثور , وفي الثلث الثالث مواعظ وترغيب ليس فيه أمر ولا نهي ولا تحليل ولا تحريم.

وقال الله سبحانه لداود عليه السلام : إحببني وحببني إلى خلقي , قال: يا رب أنا أحبك فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال: أذكر ايادي عندهم , فإنك إذا ذكرت ذلك لهم أحبوني.

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: بينما داود عليه السلام جالس وعنده شاب رث الهيئة يكثر الجلوس عنده ويطيل الصمت , إذ أتاه ملك الموت فسلم عليه وأخذ ملك الموت النظر إلى الشاب , فقال داود عليه السلام : نظرت إلى هذا فقال: نعم اني أمرت بقبض روحه إلى سبعة أيام في هذا الموضع , فرحمه داود عليه السلام فقال: يا شاب هل لك امرأة ؟ فقال لا وما تزوجت قط. قال داود : فأت فلاناً – رجلا كان عظيم القدر في بني إسرائيل – فقل له ان داود عليه السلام يأمرك أن تزوجني ابنتك وتدخل بها في هذه الليلة وخذ من النفقة ما تحتاج إليه وكن عندها فإذا مضت سبعة أيام فوافني في هذا الموضع.

فمضى الشاب برسالة داود عليه السلام فزوجه الرجل ابنته وأدخلوها عليه وأقام عندها سبعة أيام. ثم وافى داود عليه السلام يوم الثامن , فقال له داود عليه السلام : يا شاب كيف رأيت ما كنت فيه ؟ قال ما كنت في نعمة وسرور قط أعظم مما كنت فيه , قال داود عليه السلام أجلس! فجلس , وداود عليه السلام ينتظر أن يقبض روحه.

فلما طال قال: انصرف إلى منزلك فكن مع أهلك , فإذا كان يوم الثامن فوافني هاهنا . فمضى الشاب , ثم وافاه يوم الثامن وجلس عنده , ثم انصرف أسبوعاً آخر , ثم أتاه وجلس. فجاء ملك الموت إلى داود عليه السلام فقال له داود عليه السلام : ألست حدثتني بأنك أمرت بقبض روح هذا الشاب إلى سبعة أيام ؟ قال بلى فقد مضت ثمانية وثمانية وثمانية , قال يا داود إن الله تعالى رحمه برحمتك له , فأخر في أجله ثلاثين سنة.

وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن خلادة بنت اوس بشرها بالجنة واعلمها أنها قرينتك في الجنة.

فانطلق إليها وقرع الباب وخرجت وقالت هل نزلت فيّ شيء ؟ قال إن الله أوحى إلي فأخبرني أنك في الجنة وأن أبشرك بالجنة , قالت أو يكون اسم وافق اسمي , قال إنك لأنت هي , قالت يا بني ما أكذبك ولا والله ما أعرف من نفسي ما وصفتني به , قال داود عليه السلام أخبريني عن ضميرك وسريرتك ما هو ؟ فقالت: أما هذا فسأخبرك به , أخبرك أنه لم يصبني وجع قط نزل بي كائناً ما كان ولا نزل ضر بي حاجة وجوع كائناً ما كان إلا صبرت عليه , ولم اسأل الله كشفه عني حتى يحوله الله عني إلى العافية والسعة , ولم أطلب بها بدلا وشكرت الله عليها وحمدته. فقال لها داود عليه السلام : فبهذا بلغت ما بلغت. وقال أبو عبدالله عليه السلام: هذا دين الله الذي ارتضاه للصالحين.

( كتاب الحسين بن سعيد بن ابي البلاد ) عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان في بني إسرائيل عابد , فأعجب به داود (ع) , فأوحى الله تبارك وتعالى : لا يعجبك من أمره فإنه مراء. قال: فمات الرجل , فأتى داود عليه السلام فقيل له مات الرجل. فقال: أدفنوا صاحبكم.
قال: فأنكرت بنوا إسرائيل وقالوا كيف لم يحضره.
قال: فلما غسل , قام له خمسون رجلا فشهدوا بالله ما يعلمون منه إلا خيراً , فلما صلوا عليه قام خمسون رجلاً فشهدوا بالله ما يعلمون منه إلا خيراً. فأوحى الله تعالى إلى داود (ع): ما منعك أن تشهد فلاناً ؟ قال: الذي أطلعتني عليه من أمره , قال: إن كان كذلك ولكن هشد قومن الأحبار والرهبان فشهدوا له ما يعلمون إلا خيراً , فأجزت شهادتهم عليه وغفرت له علمي فيه.
يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:01 PM
مرور سليمان (ع) بوادي النمل

قال تعالى في سورة النمل : (( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * ))

وادي النمل : هو واد بالطائف.
وقيل : بالشام , وتلك النملة كانت رئيسة النمل.
وقولها : ( لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ) يدل على أن سليمان وجنوده كانوا ركباناً ومشاة على الأرض ولم تحملهم الريح ولأن الريح , لو حملتهم بين السماء والأرض لما خافت النملة أن يطأها بأرجلهم.


( عيون الأخبار وعلل الشرايع ) بإسناده إلى داود بن سليمان الغازي قال: سمعت علي بن موسى الرضا يقول عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عليهم السلام في قوله تعالى : ( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا – لما قالت النملة - : يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ...) الآية . حملت الريح صوت النملة إلى سليمان وهو مار في الهواء والريح قد حملته , فوقف وقال: علي بالنملة.

فلما أتي بها و قال سليمان : يا أيتها النملة أما علمت أني نبي ؟ وأني لا أظلم أحداً ؟ قالت النملة : بلى , قال سليمان (ع) : فلم حذرتهم ظلمي ؟ قالت: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن ذكر الله تعالى ذكره.

ثم قالت النملة : أنت أكبر أم أبوك داود ؟ قال سليمان : بلى أبي داود , قالت النملة : فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود ؟ قال: ما لي بهذا علم. قالت النملة لأن أباك داود داوى جرحه بود. فسمي داود وأنت يا بن داود أرجو أن تلحق بأبيك. ثم قالت النملة: هل تدري لم سخرت لك الريح من بين سائر المملكة ؟ قال سليمان ما لي بهذا علم , قالت النملة يعني (ع) بذلك لو سخرت لك هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح. فحينئذ ( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا ).

وفي ( تفسير الثعلبي ) قالت النملة هل علمت لم سمي أبوك داود ؟ فقال: لا , فقالت لأنه داوى جرحه بود , هل تدري لم سميت سليمان ؟ قال: لا , قالت لأنك سليم وكنت إلى ما أوتيت لسلامة صدرك , وأن لك أن تلحق بأبيك.

وروى الطبرسي في ( مشارق الأنوار ) : أن سليمان عليه السلام كان سماطه كل يوم سبعة أكرار , فخرجت دابة من دواب البحر يوماً وقالت: يا سليمان أضفني اليوم فأمر أن يجمع لها مقدار سماطه شهراً , فاجتمع على ساحل البحر كالجبل العظيم , أخرجت الحوت رأسها وابتلعته , وقالت: يا سليمان أين تمام قوتي اليوم ؟ هذا بعض قوتي , فتعجب سليمان وقال لها: هل في البحر دابة مثلك ؟ فقالت : ألف أمة فقال سليمان : سبحان الله الملك العظيم.

وروى غيره : أن سليمان عليه السلام رأى عصفوراً يقول لعصفورته : لم تمنعين نفسك مني؟ ولو شئت أخذت قبة سليمان بمنقاري فألقيها في البحر ! فتبسم سليمان عليه السلام من كلامه. ثم دعاهما وقال للعصفور : أتطيق أن تفعل ذلك ؟ فقال لا يا رسول الله ولكن المرء قد يزين نفسه ويعظمها عند زوجته والمحب لا يلام على ما يقول , فقال للعصفورة لم تمنعيه من نفسك وهو يحبك ؟ فقالت يا نبي الله أنه ليس محباً ولكنه مدع , يحب معي غيري. فأثر كلام العصفورة في قلب سليمان وبكى بكاءاً شديداً واحتجب عن الناس أربعين يوماً يدعو الله أن يفرغ قلبه لمحبة الله وأن لا يخالطها بمحبة غيره.

وروي : أنه عليه السلام سمع يوماً عصفوراً يقول لزوجته ادني مني أجامعك لعل الله يرزقنا ولداً ذكراً يذكر الله تعالى فإنا كبرنا. فتعجب سليمان من كلامه وقال: هذه النية خير من ملكي. ومر سليمان عليه السلام على بلبل يتصوت ويترقص , فقال: يقول إذا أكلت نصف التمرة فعلى الدنيا العفى.

وقال الثعلبي في تفسيره : قال مقاتل كان سليمان عليه السلام جالساً , إذ مر به طائر يطوف فقال: هذا الطائر يقول السلام عليك أيها الملك المتسلط على بني إسرائيل أعطاك الله سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوك , إني منطلق إلى فروخي , ثم أمر بك الثانية , وأنه سيرجع إلينا. فنظر القوم طويلاً , فمر بهم , فقال السلام عليك أيها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت فأذن له.

وقال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام , فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا , قال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا.
وصاح طاووس فقال: إنه يقول كما تدين تدان.
وصاح هدهد فقال: إنه يقول من لا يرحم لا يرحم.
وصاح صرد عنده فقال: إنه يقول أستغفروا الله يا مذنبين.
وصاح طوطي فقال: إنه يقول كل حي ميت وكل جديد بال.
وصاح خطاف فقال: قدموا خيراً تجدوه.
وهدرت حمامة فقال: تقول سبحان ربي الأعلى ملأ سماواته وأرضه.
وصاح قمري فقال: تقول سبحان ربي الأعلى.
قال: والغراب يدعو على العشارين.
والحدءة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه.
والقطا تقول: من سكت سلم.
والببغاء وهو طائر يقول: لمن الدنيا همه.
والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس.
والباز يقول: سبحان ربي وبحمده.
والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل مكان.
وصاح دراج فقال: إنها تقول: الرحمن على العرش استوى.


( دعوات الراوندي ) ذكروا أن سليمان كان جالساً على شاطيء بحر , فبصر بنملة تحمل حبة قمح تذهب بها نحو البحر , فجعل سليمان ينظر إليها حتى بلغت الماء فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها , فدخلت النملة وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة وسليمان يتفكر في ذلك متعجباً. ثم أنها خرجت من الماء وفتحت فاها فخرجت النملة ولم يكن معها الحبة. فدعاها سليمان عليه السلام وسألها وشأنها وأين كانت ؟ فقالت : يا نبي الله إن في قعر البحر الذي تراه صخرة مجوفة وفي جوفها دودة عمياء وقد خلقها الله تعالى هنالك , فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها , وقد وكلني الله برزقها فأنا أحمل رزقها وسخر الله تعالى هذه الضفدعة لتحملني فلا يضرني الماء في فيها , وتضع فاها على ثقب الصخرة وأدخلها , ثم إذا أوصلت رزقها إليها وخرجت من ثقب الصخرة إلى فيها فتخرجني من البحر. فقال سليمان عليه السلام : وهل سمعت لها من تسبيحة ؟ قالت نعم , تقول : يا من لا ينساني في جوف هذه اللجة برزقك , لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك.
حكاية الخيل

قال الله سبحانه وتعالى : (( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ )).

( تفسير ) علي بن إبراهيم : وذلك أن سليمان عليه السلام كان يحب الخيل ويستعرضها فعرضت عليه يوماً إلى أن غابت الشمس وفاته صلاة العصر , فاغتم من ذلك ودعا الله أن يرد عليه الشمس حتى يصلي العصر, فردهاعليه إلى وقت العصر فصلاها , وأقبل يضرب أعناق الخيل ويسوقها بالسيف حتى قتلها كلها. وهو قوله عز اسمه : ( رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) وذلك أن سليمان عليه السلام لما تزوج بالبائنة ولد له منها ابن , وكان يحبه فنزل ملك الموت على سليمان , وكان كثيراً ما ينزل عليه , فنظر إلى ابنه نظراً حديداً , ففزع سليمان من ذلك وقال لأمه : إنَّ ملك الموت نظر إلى ابني نظرة أظنه أمر بقبض روحه.

فقال للجن والشياطين : هل لكم أن تفروه من الموت ؟ فقال واحد أنا أضعه تحت عين الشمس في المشرق ! فقال واحد منهم أنا أضعه في الأرضين السابعة ! فقال إن ملك الموت يبلغ , فقال آخر أنا أضعه في السحاب والهواء , فرفعه ووضعه في السحاب. فجاء ملك الموت فقبض روحه في السحاب , فوقع ميتاً على كرسي سليمان , فعلم أنه قد أخطأ.

فحكى الله ذلك في قوله : ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ...) الآيات. وقال الصادق عليه السلام: جعل الله عز وجل ملك سليمان في خاتمه فكان إذا لبسه حضرته الجن والإنس والشياطين وجميع الطير والوحوش , فأطاعوه , فيقعد على كرسيه , ويبعث الله عز وجل ريحاً تحمل الكرسي بجميع ما عليه من الشياطين والطير والدواب والإنس والجن , فتمر بها في الهواء إلى موضع يريده سليمان , وكان يصلي الغداة بالشام والظهر بفارس , وكان يأمر الشياطين أن يحملوا الحجارة من فارس ويبنوها بالشام.

فلما قتل الخيل سلبه الله ملكه , وكان إذا دخل الخلاء دفع خاتمه إلى بعض من يخدمه. فجاء شيطان فخدع خادمه وأخذ منه الخاتم ولبسه , فحشرت عليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحوش , وخرج سليمان في طلب الخاتم فلم يجده , فهرب ومر على ساحل البحر.

وأنكرت بنوا إسرائيل الشياطين الذين تصوروا في صورة سليمان , وصاروا إلى أمه , فقالوا لها أتنكرين من سليمان شيئاً ؟ فقالت: كان أبر الناس بي وهو اليوم يعصيني , وصاروا إلى جواريه ونسائه وقالوا أتنكرون من سليمان شيئاً ؟ قلن : لم يكن يأتينا في الحيض وهو يأتينا في الحيض. فلما خاف الشيطان أن يفطنوا به ألقى الخاتم في البحر , فبعث الله سمكة فالتقمته وهرب الشيطان. فبقى بنو إسرائيل يطلبون سليمان أربعين يوماً. وكان سليمان يمر على ساحل البحر تائباً إلى الله مما كان منه. فلما كان بعد أربعين يوماً مر بصياد يصيد السمكة , فقال له: أعينك على أن تعطيني من السمك شيئاً ؟ قال نعم , فأعانه سليمان.

فلما اصطاد دفع إلى سليمان سمكة فأخذها وشق بطنها , فوجد الخاتم في بطنها فلبسه , وخرت عليه الشياطين والجن والإنس ورجع إلى مكانه , وطلب ذلك الشيطان وجنوده فقيدهم وحبس بعضهم في جوف الماء وبعضهم في جوف الصخر فهم محبوسون معذبون إلى يوم القيامة.

فلما رجع سليمان إلى ملكه قال لآصف , وكان آصف كاتب سليمان وهو الذي كان عنده علم من الكتاب : قد عذرت الناس بجهالتهم , فكيف أعذرك ؟ قال: لا تعذرني فلقد عرفت الشيطان الذي أخذ خاتمك وأباه وأمه وخاله , ولقد قال لي أكتب لي , فقلت له : إن العلم لا يجري بالجور , فقال أجلس ولا تكتب , فكنت أجلس ولا أكتب شيئاً ولكن أخبرني عنك صرت تحب الهدهد وهو أخس الطير منتناً وأخبثه ريحاً , قال إنه يبصر الماء وراء الصفاء الأصم , فقال وكيف يبصر الماء من وراء الصفاء الأصم ؟ وإنما يوارى عنه القمح بكف من التراب يأخذ رقبته , فقال سليمان : قف يا وقاف فإنه إذا جاء القدر حال دون البصر.

يقول السيد نعمة الله الجزائري ( رحمه الله ) في كتابه قصص الأنبياء : هذه الرواية موفقة للعامة , فهي محمولة على التقية.
والصحيح الوارد في الأخبار عن الصادق (ع) : انها لما عرضت على سليمان عليه السلام الخيل وفاته وقت الصلاة ردت عليه الشمس وشرع يتوضأ ويمسح بساقه وعنقه – يعني يتوضأ للصلاة هو من معه – وإلا فالخيل لا ذنب لها , حتى يمسح سوقها وأعناقها بالسيف.
قصته مع بلقيس والهدهد (ع).
( تفسير علي بن إبراهيم ) : كان سليمان عليه السلام إذا قعد على كرسيه جاءت جميع الطير , فتظل الكرسي بجميع من عليه من الشمس من موضعه في حجر سليمان , فرفع رأسه وقال (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ....) الآيات. فلم يكث إلا قليلاً إذ جاء الهدهد , فقال له سليمان : ( أين كنت قال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) وحكى له قصة سبأ , فقال له سليمان: خذ الكتاب إليها. فجاء به ووضعه في حجرها , فارتاعت من ذلك , وجمعت جموعها وقالت لهم ( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ – أي مختوم - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ) الآيات.

وذكر الكتاب إلى قولها إن كان نبياً من عند الله كما يدعي , فلا طاقة لنا به , ولكن سأبعث إليه بهدية ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) , فإن كان ملكاً يميل إلى الدنيا فيقبلها ! وعلمنا أنه لا يقدر علينا. فبعثت إليه حقة فيها جوهرة عظيمة , وقالت للرسول: قل له تثقب هذه الجوهرة بلا حديد ولا نار.

فأتاه الرسول بذلك , فأمر سليمان عليه بعض جنوده , فأخذ خيطاً في فمه ثم ثقبها وأخرج الخيط من الجانب الآخر , وقال سليمان (ع) لرسولها: ( فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) فرجع إليها الرسول فأخبرها بقوة سليمان , فعلمت أنه لا محيص لها , فارتحلت وخرجت نحو سليمان.

فلما أخبره الله : بإقبالها نحوه , قال للجن والشياطين : ( يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) قال سليمان عليه السلام أريد أسرع فقال آصف : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) فدعا الله بالاسم الأعظم. فخرج السري من تحت كرسي سليمان , فقال سليمان : ( نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا – أي غيروه - نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ).

فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو , وكان سليمان قد أمر أن يتخذ لها بيت من قوارير , ووضعه على الماء , ثم قيل لها : أدخلي الصرح فظنت أنه ماء , فرفعت ثوبها وأبدت ساقيها , فإذا عليها شعر كثير , فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير ( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فتزوجها سليمان (ع) وقال للشياطني اتخذوا لها شيئاً يذهب عنها هذا الشعر فعملوا الحمامات وطبخوا النورة.

وفي ( الكافي ) عن أبي الحسن الأول عليه السلام : أن الله ما بعث نبياً إلا ومحمد صلى الله عليه وآله أعلم منه. ثم قال: أن سليمان بن داود (ع) قال للهدهد حين فقده : ( مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) ؟ فغضب لفقده , لأنه كان يدله على الماء , فهذا وهو طائر أعطي ما لم يعط سليمان فلم يكن سليمان عليه السلام يعرف الماء تحت الهواء – أي الأرض – وكان الطير يعرفه , وأن الله يقول في كتابه : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْر) وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان ويحيي به الموتى, ونحن نعرف الماء تحت الهواء – يعني الأرض -.

وعن أبي جعفر عليه السلام : إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً , وإنما كان عند آصف منها حرف واحد , فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس , حتى تناول السرير بيده , ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين , ونحن عندنا من الإسم الأعظم إثنان وسبعون حرفاً , وحرف عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وفيه عن أبي عبدالله عليه السلام : من أراد الإطلاء بالنورة فأخذ من النورة بإصبعه فسمه وجعله على طرف أنفه وقال: صلى الله على سليمان بن داود كما أمرنا بالنورة , لم تحرقه النورة.

وروى العياشي بالإسناد قال: قال أبوحنيفة لأبي عبدالله (ع) : كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال: لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة.

فنظر أبوحنيفة إلى أصحابه وضحك ! فقال أبو عبدالله عليه السلام ما يضحكك ؟ قال ظفرت بك جعلت فداك , قال وكيف ذلك ؟ قال الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخ في التراب حتى يأخذ بعنقه , فقال أبو عبدالله عليه السلام : يا نعمان أما علمت أنه إذا نزل القدر أعشي البصر , وفي قوله : ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) أي أنتف ريشه وألقيه في الشمس.


وفي ( تفسير العسكري عليه السلام ) أن سليمان لما سار من مكة ونزل باليمن قال الهدهد: إن سليمان (ع) قد اشتغل بالنزول , فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك ونظر يميناً وشمالاً , فرأى بستاناً لبلقيس فمال إلى الخضرة فوقع فيه , فإذا هو بهدهد فهبط عليه , وكان اسم هدهد سليمان (ع) يعفور واسم هدهد اليمن عنقير , فقال عنقير ليعفور من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليه السلام وقال ومن سليمان بن داود ؟ قال ملك الجن والإنس والطير والوحوش والشياطين والرياح , فمن أين أنت ؟ قال أنا من هذه البلاد قال ومن ملكها ؟ قال امرأة يقال لها بلقيس وان لصاحبكم سليمان ملكاً عظيماً , وليس ملك بلقيس دونه , فإنها ملكة اليمن , وتحت يدها اثني عشر الف قائد ! فهل أنت منطلق معي ؟ حتى تنظر إلى ملكها ؟ قال أخاف أن يتفقدني سليمان (ع) في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء , قال الهدهد اليماني إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة.

فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها , وما رجع إلى سليمان إلا وقت العصر. فلما طلبه سليمان فلم يجده دعا عريف الطيور . وهو النسر فسأله عنه فقال ما أدري أين هو , وما أرسلته مكاناً , ثم دعا بالعقاب فقال علي بالهدهد فارتفع فإذا هو بالهدهد مقبلا , فانقض نحوه فناشده الهدهد : بحق الله الذي قوّاك وغلبك علي , إلا ما رحمتني ولم تعرض لي بسوء فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمك , إن نبي الله حلف أن يعذبك أو يذبحك. ثم طارا متوجهين إلى سليمان عليه السلام.

فلما انتهى إلى المعسكر تلقته النسر والطير , فقالوا : توعدك نبي الله , فقال الهدهد : أو ما استثنى نبي الله ؟ فقالوا بلى ( أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) فلما أتيا سليمان وهو قاعد على كرسيه , قال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان عليه السلام , فأخذ برأسه فمده إليه , فقال أين كنت ؟ فقال يا نبي الله أذكر وقوفك بين يدي الله تعالى فارتعد سليمان (ع) وعفى عنه.
قصة نفش الغنم
( التهذيب ) عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قوله الله عز وجل ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) فقال: لا يكون النفش إلا بالليل , إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار , وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار , إنما رعيها وإرزاقها بالنهار , فما أفسدت فليس عليها , وعلى صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث النهار فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا. وأن داود عليه السلام حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم , وحكم سليمان اللبن والصوف في ذلك العام.

وفيه عنه عليه السلام قال له أبو بصير : قول الله عز وجل ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) قلت حين حكما في الحرث كانت قضية واحدة فقال: أنه كان أوحى الله عز وجل إلى النبيين قبل داود (ع) , إلى أن بعث داود (ع) أي غنم فنفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم , ولا يكون النفش إلا بالليل , وأن على صاحب الزرع أن يحفظ بالنهار , وعلى صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل. فحكم داود عليه السلام بما حكمت به الأنبياء عليهم السلام من قبله.

وأوحى الله تعالى إلى سليمان : أي غنم نفشت في الزرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج في بطونها , وكذلك جرت السنة بعد سليمان عليه السلام , وهو قول الله عز وجل ( وَكُلاً آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز وجل.

( تفسير علي بن إبراهيم ) عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كان في بني إسرائيل رجل كان له كرم ونفشت فيه غنم لرجل بالليل وقضمته وأفسدته فجاء صاحب الكرم إلى داود (ع) فاستدعى على صاحب الغنم فقال داود (ع) إذهب إلى سليمان (ع) ليحكم بينكما. فقال سليمان (ع) : إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها , وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم.
وكان هذا حكم داود , وإنما أراد أن تعرف بني إسرائيل أن سليمان (ع) وصيه بعده ولم يختلفا في الحكم , ولو اختلف حكمهما لقال ( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ).

في ( الكافي ) عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود لرجال مسمين , ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود عليه السلام : أن اتخذ وصياً من أهلك فإنه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبياً إلى وله وصي من أهله. وكان لداود (ع) عدة أولاد فيهم غلام كانت أمه ضد داود عليه السلام وكان لها محباً , فدخل داود عليه السلام عليها حين أتاه الوحي , فقال لها: إن الله عز وجل أوحى إليّ : أن اتخذ وصياً من أهلي فقالت له امرأته : فليكن ابني قال ذاك اريد. وكان السابق في علم الله المحتوم : أنه سليمان (ع).

فأوحى الله تعالى إلى داود (ع) : أن لا تعجل , دون أن يأتيك أمري. فلم يلبث أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أن اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب , فهو وصيك من بعدك. فجمع داود (ع) ولده , فلما أن قص الخصمان قال سليمان (ع) : يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك ؟ قال دخلته ليلاً , قال: قد قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك. ثم قال له داود (ع) : فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل ؟ فكان ثمن الكرم قيمة الغنم , فقال سليمان : إن الكرم لم يحنث من اصله وإنما أكل حمله وهو عائداً في قابل. فأوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام : ان القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به , يا داود أردت أمراً وأردنا غيره. فدخل داود (ع) على امرأته فقال لها أردنا أمراً وأراد الله غيره , ولم يكن إلا ما أراد الله عز وجل , وسلمنا.
وفاة النبي سليمان (ع)
( علل الشرايع وعيون الأخبار ) مسنداً إلى الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (ع) قال سليمان بن داود (ع) ذات يوم لأصحابه : إن الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي , سخر لي الريح والجن والإنس والطير والوحوش وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء , ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تم لي سرور يوم إلى الليل , وقد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي , فلا تأذنوا لأحد علي لئلا ينغص عليَّ يومي ! قالوا نعم.

فلما كان من الغد , أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره وقف متكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أوتي فرحاً بما أعطي. إذ نظر إلى شاب حسن الوجه واللباس خرج عليه من زوايا قصره , فلما أبصر به سليمان عليه السلام قال له: من أدخلك هذا القصر ؟ وقد أردت أن أخلو فيه اليوم , فبإذن من دخلت ؟ فقال الشاب : أدخلني هذا القصر ربه وبإذنه دخلت فقال: ربه أحق به مني , فمن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت , قال وفيم جئت ؟ قال: جئت لأقبض روحك , فقال: إمض لما أمرت به , فهذا يوم سروري , وأبى الله عز وجل أن يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهومتكيء على عصاه. فبقي سليمان عليه السلام متكئاً على عصاه وهو ميت ما شاء الله , والناس ينظرون إليه وهم يقدرون أنه حي , فافتنوا فيه واختلفوا.

فمنهم من قال: إن سليمان (ع) قد بقي متكئاً على عصاه , هذه المدة الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب , إنه لربنا الذي يجب أن نعبده ! وقال قوم : إن سليمان (ع) ساحر وانه يرينا أنه واقف متكيء على عصاه يسحر أعيننا ! وليس كذلك.

وقال المؤمنون : إن سليمان (ع) هو عبدالله ونبيه , يدبر الله أمره بما شاء . فلما اختلفوا بعث الله عز وجل الأرضة في عصاه , فلما أكلت جوفها انكسرت العصا وخر سليمان (ع) من قصره على وجهه , فشكرت الجن للأرضة صنيعها , لأجل ذلك لا توجد الأرضة مكان إلا وعندها ماء وطين. وذلك قول الله عز وجل ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ – يعني عصاه - فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ )

( علل الشرايع ) بإسناده إلى أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمر سليمان بن داود الجن , فصنعوا له قبة من قوارير فبينما هو متكيء على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف يعملون وهو ينظر , إذ جاءت منه إلتفاته , فإذا رجل معه في القبة , قال: من أنت ؟ قال: الذي لا أقبل الرشا ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه وهو قائم متكيء على عصاه في القبة والجن ينظرون إليه , فمكثوا سنة يدأبون حوله حتى بعث الله الأرضة... الحديث.

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:03 PM
قٌصة أصحاب الكهف

قال الله تعالى:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا .
سورة الكهف


كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين ما ذكره محمد بن إسحاق في "السيرة" وغيره،
أن قريشا بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عنها؛ ليختبروا ما يجيب به فيها
فقالوا:
سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض وعن الروح. فأنزل الله تعالى
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وقال ههنا:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أي؛
ليسوا بعجب عظيم بالنسبة إلى ما أطلعناك عليه من الأخبار العظيمة، والآيات الباهرة والعجائب الغريبة. والكهف هو الغار في الجبل. قال شعيب الجبائي: واسم كهفهم حيزم. وأما الرقيم فعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما المراد به. وقيل: هو الكتاب المرقوم فيه أسماؤهم وما جرى لهم، كتب من بعدهم. اختاره ابن جرير وغيره. وقيل: هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم. قال ابن عباس وشعيب الجبائي: واسمه بناجلوس. وقيل: هو اسم واد عند كهفهم. وقيل: اسم قرية هنالك. والله أعلم.
قال شعيب الجبائي: واسم كلبهم حمران. واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح، وأنهم كانوا نصارى. والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام. قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم: كانوا في زمن ملك يقال له: دقيانوس. وكانوا من أبناء الأكابر. وقيل: من أبناء الملوك. واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له. ويقال: إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد، انحاز عن الناس، واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد، كما صح في البخاري الأرواح جنودة مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف فكل منهم سأل الآخر عن أمره وعن شأنه، فأخبره ما هو عليه، واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم والخروج من بين أظهرهم، والفرار بدينهم منهم، وهو المشروع حال الفتن وظهور الشرور.

قال الله تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ
أي؛ بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه وصاروا من الأمر عليه
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي؛ وإذ قد فارقتموهم في دينهم وتبرأتم مما يعبدون من دون الله، وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله، كما قال الخليل: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم لبعض: إذ قد فارقتم قومكم في دينهم، فاعتزلوهم بأبدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرا فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا أي؛
يسبل عليكم ستره، وتكونوا تحت حفظه وكنفه، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، كما جاء في الحديث: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا إليه، وأن بابه موجه الى نحو الشمال، وأعماقه إلى جهة القبلة، وذلك أنفع الأماكن؛ أن يكون المكان قبليا، وبابه نحو الشمال، فقال: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ وقرىء:
(تزور) عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فأخبر أن الشمس، يعني في زمن الصيف وأشباهه، تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي، ثم تشرع في الخروج منه قليلا قليلا، وهو ازورارها ذات اليمين فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار، ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه من جهته الشرقية قليلا قليلا إلى حين الغروب، كما هو المشاهد في مثل هذا المكان، والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الأحيان أن لا يفسد هواؤه وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أي؛ بقاؤهم على هذه الصفة دهرا طويلا من السنين، لا يأكلون ولا يشربون، ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله وبرهان قدرته العظيمة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ قال بعضهم: لأن أعينهم مفتوحة؛ لئلا تفسد بطول الغمض وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ قيل: في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب، ويحتمل أكثر من ذلك. فالله أعلم. وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قال شعيب الجبائي: اسم كلبهم حمران. وقال غيره: الوصيد أسكفة الباب. والمراد أن كلبهم الذي كان معهم، وصحبهم حال انفرادهم من قومهم، لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف، بل ربض على بابه ووضع يديه على الوصيد، وهذا من جملة أدبه ومن جملة ما أكرموا به؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، ولما كانت التبعية مؤثرة، حتى في كلب هؤلاء، صار باقيا معهم ببقائهم؛ لأن من أحب قوما سعد بهم، فإذا كان هذا في حق كلب فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للإكرام. وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبرا طويلا أكثره متلقى من الإسرائيليات، وكثير منها كذب، ومما لا فائدة فيه، كاختلافهم في اسمه ولونه.

وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف، فقال كثيرون: هو بأرض أيلة. وقيل: بأرض نينوى . وقيل: بالبلقاء. وقيل: ببلاد الروم. وهو أشبه. والله أعلم. ولما ذكر الله تعالى ما هو الأنفع من خبرهم، والأهم من أمرهم، ووصف حالهم، حتى كأن السامع راء، والمخبر مشاهد لصفة كهفهم، وكيفيتهم في ذلك الكهف وتقلبهم من جنب إلى جنب، وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. قال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا أي؛ لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه، ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أي؛ أيها الإنسان؛ وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالبا، ولهذا قال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة، كما جاء في الحديث؛ لأن الخبر قد حصل ولم يحصل الفرار ولا الرعب. ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين، فلما استيقظوا قال بعضهم لبعض:

كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي؛
بدراهمكم هذه، يعني التي معهم، إلى المدينة ويقال، كان اسمها دفسوس. فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أي؛ أطيب مالا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ

أي؛ بطعام تأكلونه، وهذا من زهدهم وورعهم وليتلطف أي؛ في دخوله إليها وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا أي؛
إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها؛ وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوما أو بعض يوم أو أكثر من ذلك، ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة وقد تبدلت الدول أطوارا عديدة، وتغيرت البلاد ومن عليها، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم، وجاء غيرهم وذهبوا وجاء غيرهم؛ ولهذا لما خرج أحدهم، وهو تيذوسيس فيما قيل، وجاء إلى المدينة متنكرا؛ لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه تنكرت له البلاد واستنكره من رآه من أهلها، واستغربوا شكله وصفته ودراهمه. فيقال: إنهم حملوه إلى متوليهم، وخافوا من أمره أن يكون جاسوسا أو تكون له صولة يخشون من مضرتها، فيقال: إنه هرب منهم.
ويقال: بل أخبرهم خبره ومن معه، وما كان من أمرهم، فانطلقوا معه ليريهم مكانهم، فلما قربوا من الكهف دخل إلى أخوانه فأخبرهم حقيقة أمرهم ومقدار ما رقدوا، فعلموا أن هذا من قدرة الله. فيقال: إنهم استمروا راقدين. ويقال: بل ماتوا بعد ذلك.
وأما أهل البلدة، فيقال: إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار، وعمي الله عليهم أمرهم. ويقال: لم يستطيعوا دخوله حسا. ويقال: مهابة لهم.

واختلفوا في أمرهم؛ فقائلون يقولون:
ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا أي؛ سدوا عليهم باب الكهف؛ لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون، وهم الغالبون على أمرهم
قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا أي؛ معبدا يكون مباركا لمجاورته هؤلاء الصالحين. وهذا كان شائعا فيمن كان قبلنا، فأما في شرعنا فقد ثبت في "الصحيحين" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا.

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:04 PM
اصحاب الفيل

كان سبب قصة أصحاب الفيل - على ما ذكر محمد بن إسحاق - أن أبرهة بن الصباح كان عاملا للنجاشي ملك الحبشة على اليمن فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة - شرفها الله - فبنى كنيسة بصنعاء . وكتب إلى النجاشي " إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها ، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب " فسمع به رجل من بني كنانة فدخلها ليلا . فلطخ قبلتها بالعذرة . فقال أبرهة من الذي اجترأ على هذا ؟ قيل رجل من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت . فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها .

وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك فسأله أن يبعث إليه بفيله . وكان له فيل يقال له محمود لم ير مثله عظما وجسما وقوة . فبعث به إليه . فخرج أبرهة سائرا إلى مكة . فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم .

فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له ذو نفر . فقاتله . فهزمه أبرهة وأخذه أسيرا ، فقال أيها الملك فاستبقني خيرا لك ، فاستبقاه وأوثقه .

وكان أبرهة رجلا حليما . فسار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي ، ومن اجتمع إليه من قبائل العرب . فقاتلوهم فهزمهم أبرهة . فأخذ نفيلا ، فقال له أيها الملك إنني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة . فاستبقني خيرا لك . فاستبقاه . وخرج معه يدله على الطريق .

فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف . فقال له أيها الملك نحن عبيدك . ونحن نبعث معك من يدلك . فبعثوا معه بأبي رغال مولى لهم . فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال ، وهو الذي يرجم قبره . وبعث أبرهة رجلا من الحبشة - يقال له الأسود بن مفصود - على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نعم الناس . فجمع الأسود إليه أموال الحرم . وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير .

ثم بعث رجلا من حمير إلى أهل مكة ، فقال أبلغ شريفها أنني لم آت لقتال بل جئت لأهدم البيت . فانطلق فقال لعبد المطلب ذلك .

فقال عبد المطلب : ما لنا به يدان . سنخلي بينه وبين ما جاء له . فإن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم . فإن يمنعه فهو بيته وحرمه . وأن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوة .

قال فانطلق معي إلى الملك - وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب - فأتاه فقال يا ذا نفر هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا ، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل فإنه لي صديق فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك .

فأرسل إليه فقال لأبرهة إن هذا سيد قريش يستأذن عليك . وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف لأمرك ، وأنا أحب أن تأذن له .

وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما . فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه . وكره أن يجلس معه على سريره . وأن يجلس تحته . فهبط إلى البساط فدعاه فأجلسه معه . فطلب منه أن يرد عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله .

فقال أبرهة لترجمانه قل له إنك كنت أعجبتني حين رأيتك . ولقد زهدت فيك . قال لم ؟ قال جئت إلى بيت - هو دينك ودين آبائك ، وشرفكم وعصمتكم - لأهدمه . فلم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير ؟ قال أنا رب الإبل . والبيت له رب يمنعه منك .

فقال ما كان ليمنعه مني . قال فأنت وذاك . فأمر بإبله فردت عليه . ثم خرج وأخبر قريشا الخبر . وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رءوس الجبال خوفا عليهم من معرة الجيش . ففعلوا . وأتى عبد المطلب البيت . فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول

يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهمو حماكا
إن عدو البيت من عاداكا فامنعهمو أن يخربوا قراكا

وقال أيضا :

لا هم إن المرء يمنع رحله وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
جروا جموعهم وبلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
إن كنت تاركهم وكعب تنا فأمر ما بدا لك


ثم توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه . وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول . وعبأ جيشه . وهيأ فيه . فأقبل نفيل إلى الفيل . فأخذ بأذنه . فقال ابرك محمود . فإنك في بلد الله الحرام . فبرك الفيل فبعثوه فأبى . فوجهوه إلى اليمن ، فقام يهرول . ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى المشرق ففعل ذلك .

فصرفوه إلى الحرم فبرك . وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل فأرسل الله طيرا من قبل البحر مع كل طائر ثلاثة أحجار . حجرين في رجليه وحجرا في منقاره . فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم . فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك . وليس كل القوم أصابت . فخرج البقية هاربين يسألون عن - 36 - نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فماج بعضهم في بعض . يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل .

وبعث الله على أبرهة داء في جسده . فجعلت تساقط أنامله حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ . وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك .


أصحاب الفيل




كانت اليمن تابعة للنجاشي ملك الحبشة. وقام والي اليمن (أبرهة) ببناء كنيسة عظيمة، وأراد أن يغيّر وجهة حجّ العرب. فيجعلهم يحجّون إلى هذه الكنيسة بدلا من بيت الله الحرام. فكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك, ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. إلا أن العرب أبوا ذلك، وأخذتهم عزتهم بمعتقداتهم وأنسابهم. فهم أبناء إبراهيم وإسماعيل، فكيف يتركون البيت الذي بناه آباءهم ويحجّوا لكنيسة بناها نصراني! وقيل أن رجلا من العرب ذهب وأحدث في الكنيسة تحقيرا لها. وأنا بنو كنانة قتلوا رسول أبرهة الذي جاء يطلب منهم الحج للكنيسة.

فعزم أبرهة على هدم الكعبة. وجهّز جيشا جرارا، ووضع في مقدمته فيلا مشهورا عندهم يقال أن اسمه محمود. فعزمت العرب على تقال أبرهة. وكان أول من خرج للقاءه، رجل من أشراف من اليمن يقال له ذو نفر. دعى قومه فأجابوه، والتحموا بجيش أبرهة. لكنه هُزِم وسيق أسيرا إلى أبرهة.

ثم خرج نفيل بن حبيب الخثعمي، وحارب أبرهة. فهزمهم أبرهة وأُخِذَ نفيل أسيرا، وصار دليلا لجيش أبرهة. حتى وصلوا للطائف، فخرج رجال من ثقيف، وقالوا لأبرهة أن الكعبة موجودة في مكة –حتى لا يهدم بيت اللات الذي بنوه في الطائف- وأرسلوا مع الجيش رجلا منهم ليدلّهم على الكعبة! وكان اسم الرجل أبو رغال. توفي في الطريق ودفن فيها، وصار قبره مرجما عند العرب. فقال الشاعر:

وأرجم قبره في كل عام * * * كرجم الناس قبر أبي رغال

وفي مكان يسمى المغمس بين الطائف ومكة، أرسل أبرهة كتيبة من جنده، ساقت له أموال قريش وغيرها من القبائل. وكان من بين هذه الأموال مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، كبير قريش وسيّدها. فهمّت قريش وكنانة وهذيل وغيرهم على قتال أبرهة. ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .

وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد, ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت, فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك. فلما أخب الرسول عبد المطلب برسالة الملك، أجابه: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام. وبيت خليله إبراهيم عليه السلام.. فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه, وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.

ثم انطلق عبد المطلب مع الرسول لمحادثة أبرهة. وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه, وأكرمه عن أن يجلسه تحته, وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره, فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه. ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك? فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك, قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه? قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل. وإن للبيت رب سيمنعه. فاستكبر أبرهة وقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك!.. فردّ أبرهة على عبد المطلب إبله.

ثم عاد عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم بما حدث، وأمرهم بالخروج من مكة والبقاء في الجبال المحيطة بها. ثم توجه وهو ورجال من قريش إلى للكعبة وأمسك حلقة بابها، وقاموا يدعون الله ويستنصرونه. ثم ذهب هو ومن معه للجبل.

ثم أمر أبرهة جيشه والفيل في مقدمته بدخول مكة. إلا أن الفيل برك ولم يتحرك. فضربوه ووخزوه، لكنه لم يقم من مكانه. فوجّهوه ناحية اليمن، فقام يهرول. ثم وجّهوه ناحية الشام، فتوجّه. ثم وجّهوه جهة الشرق، فتحرّك. فوجّهوه إلى مكة فَبَرَك.

ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده, فأرسل عليهم جماعات من الطير، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره, وحجران في رجليه, أمثال الحمص والعدس, لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة. فهاج الجيش وماج، وبدوا يسألون عن نفيل بن حبيب; ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:

أين المفر والإله الطالب * * * والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضا:

حمدت الله إذ أبصرت طيرا * * * وخفت حجارة تلقى علينا

فكل القوم يسأل عن نفيـل * * * كأن علي للحبشان دينـا

وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يتساقط لحمه قطعا صغيرة تلو الأخرى، حتى وصلوا إلى صنعاء, فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات.

إن لهذه القصة دلالات كثيرة يصفا الأستاذ سيّد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن):

فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .

وأول ما توحي به أن الله - سبحانه - لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت, ويحمونه ويحتمون به. فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية. وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام, حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته, بحميتهم الجاهلية.

كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة. حتى والشرك يدنسه, والمشركون هم سدنته. ليبقي هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين, مصونا من كيد الكائدين.

ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن, إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية, ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة. فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون, سيحفظه إن شاء الله, ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين!

والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض. بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام. كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة. وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحيانا تقوم تحت حماية الفرس. وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان. ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه. ولكنه ظل في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية. وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة, ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة. وما حدث في عام الفيل كان مقياسا لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي.

وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه. وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب. قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش, وتتولى قيادة البشرية, بعد أن تزيح القيادات الضالة. ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب! نسوا نعرة الجنس, وعصبية العنصر, وذكروا أنهم ومسلمون. مسلمون فقط. ورفعوا راية الإسلام, وراية الإسلام وحدها. وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة برا بالبشرية; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية. حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهبا أرضيا يخضعون الناس لسلطانه. وخرجوا من أرضهم جهادا في سبيل الله وحده, ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها, ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها, ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده. عندئذ فقط كان للعرب وجود, وكانت لهم قوة, وكانت لهم قيادة. ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله. وقد ظلت لهم قوتهم. وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة. حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم, وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم, لأن الله قد تركهم حيثما تركوه، ونسيهم مثلما نسوه!

وما العرب بغير الإسلام? ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة? وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة? إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة. والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق, والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا, إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها. والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية, وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة, فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة, ولم يعد لهم في التاريخ دور. وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيدا إذا هم أرادوا الحياة, وأرادوا القوة، وأرادوا القيادة. والله الهادي من الضلال.


يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:07 PM
اصحاب الاخدود


قال الله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج(1)ِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ(2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود(3)ٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُود(4)ِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود(5)ِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود(6)ٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود(7)ٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد(8)ِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد(9)ٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق(10)


قد زعم محمد بن إسحاق أنهم كانوا بعد مبعث المسيح ، وخالفه غيره ، فزعموا أنهم كانوا قبله. وقد ذكر غير واحد أن هذا الصنيع مكرر في العالم مرارا في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين ، ولكن هؤلاء المذكورون في القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع وأثر أورده ابن إسحاق وهما متعارضان ، وهانحن نوردهما لتقف عليهما.

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فلأعلمه السحر . فدفع إليه غلاما ، فكان يعلمه السحر ، وكان بين الملك وبين الساحر راهب ، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه ، فأعجبه نحوه وكلامه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه ، وقالوا ما حبسك فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر .

قال : فبينا هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس ، فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال : اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب قال : فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ، ومضى فأخبر الراهب بذلك فقال : أي بني أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ، ويشفيهم الله على يديه .

وكان جليس للملك فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمع . فقال : ما أنا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به ودعوت الله شفاك فآمن فدعا الله فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك : يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال : ربي قال : أنا قال : لا ربي وربك الله قال : ولك رب غيري ؟ قال : نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فأتي به فقال :
أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء قال : ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله عز وجل قال : أنا قال : لا قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله قال : فأخذه أيضا بالعذاب ولم يزل به حتى دل على الراهب فأتي بالراهب ، فقال : ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه .
وقال للغلام : ارجع عن دينك فأبى ،
فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه ، فذهبوا به فلما علوا الجبل قال : اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك فقال : كفانيهم الله ، فبعث به مع نفر في قرقور فقال : إذا لججتم البحر ، فإن رجع عن دينه ، وإلا فأغرقوه في البحر ، فلججوا به البحر فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون ، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك فقال : كفانيهم الله .


ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني ، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، ففعل ، ووضع السهم في كبد القوس ، ثم رماه وقال :
بسم الله رب الغلام ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ، ومات فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال من رجع عن دينه فدعوه ، وإلا فأقحموه فيها. وقال : فكانوا يتعادون فيها ، ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي :
اصبري يا أماه فإنك على الحق كذا رواه الإمام أحمد ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمة زاد النسائي : وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به ، ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ثابت بإسناده ، نحوه وحرر إيراده ، كما بسطنا ذلك في التفسير
وقد أورد محمد بن إسحاق هذه القصة على وجه آخر فقال : حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر ، فلما نزلها فيميون - ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا :

رجل نزلها - فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر ، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه ، جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه فكتمه إياه .
وقال له : يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان ، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه ، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح ، لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد نارا ثم جعل يقذفها قدحا قدحا ،
حتى إذا مر بالاسم الأعظم ، قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه فقال : وما هو ؟ قال : كذا وكذا قال : وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع قال : أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل.

فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال : يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك عما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول : نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى ، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ، ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال : أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك قال :

لا تقدر على ذلك فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك ، فيلقى به فيها فيخرج ليس به بأس ، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر : إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به ،
فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني قال : فوحد الله ذلك الملك ، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ، وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث ، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق فهذا حديث محمد بن كعب وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر ، فالله أعلم أي ذلك كان قال : فسار إليهم ذو نواس بجنده ، فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو القتل فاختاروا القتل فخدوا الأخدود وحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم فقتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ الآيات وهذا يقتضي أن هذه القصة غير ما وقع في سياق مسلم.

وقد زعم بعضهم أن الأخدود وقع في العالم كثيرا كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان أنبأنا صفوان عن عبد الرحمن بن جبير قال : كانت الأخدود في اليمن زمان تبع ، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد واتخذ أتونا وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد وفي العراق في أرض بابل في زمان بختنصر حين صنع الصنم وأمر الناس فسجدوا له فامتنع دانيال وصاحباه عزريا ومشايل ، فأوقد لهم أتونا وألقى فيها الحطب والنار ، ثم ألقاهما فيه فجعلها الله عليهم بردا وسلاما ، وأنقذهم منها وألقى فيها الذين بغوا عليه ، وهم تسعة رهط فأكلتهم النار.

وقال أسباط عن السدي في قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ قال : كان الأخدود ثلاثة ، خد بالشام ، وخد بالعراق ، وخد باليمن رواه ابن أبي حاتم .


يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:10 PM
الخضر

قال تعالى:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) (الكهف)

كان لموسى -عليه السلام- هدف من رحلته هذه التي اعتزمها،, وأنه كان يقصد من ورائها امرا، فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفه في الوصول. فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).

نرى أن القرآن الكريم لا يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث، ولا يحدد لنا التاريخ، كما أنه لم يصرح بالأسماء. ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟

اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما ضبب أسماء الأشخاص لحكمة عليا.

إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب.. وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض.. علم القدر الأعلى، وذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.. مكان اللقاء مجهول كما رأينا.. وزمان اللقاء غير معروف هو الآخر.. لا نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.

وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع الأحداث، ولا زمانه، يخفي السياق القرآني أيضا اسم أهم أبطالها.. يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه.. هذا العبد هو الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه.

لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة. فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولي العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما كلمه الله تكليما.. هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم.. ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه السلام- كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها.

ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى.. يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا.. ثم يوافق على صحبته بشرط.. ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.

والخضر هو الصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.. إن هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.. وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.. ورغم علم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه علما.

وقد اختلف العلماء في الخضر: فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله، وفيهم من يعتبره نبيا.. وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده، فقيل إنه لا يزال حيا إلى يوم القيامة، وهي قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها، فلا نقول فيها إلا أنه مات كما يموت عباد الله.. وتبقى قضية ولايته، أو نبوته.. وسنرجئ الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما أوردها القرآن الكريم.

قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، ويبدو أن حديثه جاء جامعا مانعا رائعا.. بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟
قال موسى مندفعا: لا..
وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟
أدرك موسى أنه تسرع.. وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إن لله عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم.. سأل كيف السبيل إليه.. فأمر أن يرحل، وأن يحمل معه حوتا في مكتل، أي سمكة في سلة.. وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم.. انطلق موسى -طالب العلم- ومعه فتاه.. وقد حمل الفتى حوتا في سلة.. انطلقا بحثا عن العبد الصالح العالم.. وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.

ويظهر عزم موسى -عليه السلام- على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره الأمر إلى أن يسير أحقابا وأحقابا. قيل أن الحقب عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد.

وصل الاثنان إلى صخرة جوار البحر.. رقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا.. وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر.. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).. وكان تسرب الحوت إلى البحر علامة أعلم الله بها موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه.

نهض موسى من نومه فلم يلاحظ أن الحوت تسرب إلى البحر.. ونسي فتاه الذي يصحبه أن يحدثه عما وقع للحوت.. وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما.. ثم تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب.. (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا).. ولمع في ذهن الفتى ما وقع.

ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك.. وأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع، رغم غرابة ما وقع، فقد اتخذ الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).. كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون، لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علامة وكأنه طير يتلوى على الرمال.

سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).. هذا ما كنا نريده.. إن تسرب الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.. ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين.. انظر إلى بداية القصة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام.

أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت.. وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر.. وهناك وجدا رجلا.

يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه.

فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك سلام..؟ من أنت؟
قال موسى: أنا موسى.
قال الخضر: موسى بني إسرائيل.. عليك السلام يا نبي إسرائيل.
قال موسى: وما أدراك بي..؟
قال الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي.. ماذا تريد يا موسى..؟
قال موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).
قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك.. وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).

نريد أن نتوقف لحظة لنلاحظ الفرق بين سؤال موسى الملاطف المغالي في الأدب.. ورد الخضر الحاسم، الذي يفهم موسى أن علمه لا ينبغي لموسى أن يعرفه، كما أن علم موسى هو علم لا يعرفه الخضر.. يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى: إن علمي أنت تجهله.. ولن تطيق عليه صبرا، لأن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم له سببا أو تدري له علة.. وإذن لن تصبر على علمي يا موسى.

احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه.. وقال له موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا.

تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.

قال الخضر لموسى -عليهما السلام- إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم منه هو ألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه.. فوافق موسى على الشرط وانطلقا..

انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر.. مرت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها.. فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.. اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا.

فاستنكر موسى فعلة الخضر. لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، كما حركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).

وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).

سارا معا.. فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما.. ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا.. يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).. ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا).

ومضى موسى مع الخضر.. فدخلا قرية بخيلة.. لا يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.. وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يريد أن ينقض.. جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.. وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.. ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، إن القرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. انتهى الأمر بهذه العبارة.. قال عبد الله لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).


لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال. وجاء دور التفسير الآن..

إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره.. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية.. وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، وهكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يعلم موسى، رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد الرباني من علم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر، من ماء البحر..

كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.. كشف له أن علمه -أي علم موسى- محدود.. كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى.

إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصبا، ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة.. وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا.

أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.. غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول.

وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.

أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.

ثم ينفض الرجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه.

واختفى هذا العبد الصالح.. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.. إلا أن موسى تعلم من صحبته درسين مهمين:

تعلم ألا يغتر بعلمه في الشريعة، فهناك علم الحقيقة.

وتعلم ألا يتجهم قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحزن والآلام والموت.

هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.

والآن من يكون صاحب هذا العلم إذن..؟ أهو ولي أم نبي..؟

يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى، أطلعه الله على جزء من علمه اللدني بغير أسباب انتقال العلم المعروفة.. ويرى بعض العلماء أن هذا العبد الصالح كان نبيا.. ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه:

1. أحدها قوله تعالى:

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) (الكهف)

2. والثاني قول موسى له:

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) (الكهف)

فلو كان وليا ولم يكن نبي، لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد. ولو أنه كان غير نبي، لكان هذا معناه أنه ليس معصوما، ولم يكن هناك دافع لموسى، وهو النبي العظيم، وصاحب العصمة، أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة.

3. والثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام بوحي من الله وأمر منه.. وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة.. إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.. وإذن ففي إقدام الخضر على قتل الغلام دليل نبوته.

4. والرابع قول الخضر لموسى:

رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

يعني أن ما فعلته لم أفعله من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه.

فرأى العلماء أن الخضر نبيا، أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله.

ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه.. قول وهب بن منبه: قال الخضر: يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها. وقول بشر بن الحارث الحافي.. قال موسى للخضر: أوصني.. قال الخضر: يسر الله عليك طاعته.

ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني، غير أننا لا نجد نصا في سياق القرآن على نبوته، ولا نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه الله بعض علمه اللدني.. ولعل هذا الغموض حول شخصه الكريم جاء متعمدا، ليخدم الهدف الأصلي للقصة.. ولسوف نلزم مكاننا فلا نتعداه ونختصم حول نبوته أو ولايته.. وإن أوردناه في سياق أنبياء الله، لكونه معلما لموسى.. وأستاذا له فترة من الزمن.





وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) (الكهف)

كان لموسى -عليه السلام- هدف من رحلته هذه التي اعتزمها،, وأنه كان يقصد من ورائها امرا، فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفه في الوصول. فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).

نرى أن القرآن الكريم لا يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث، ولا يحدد لنا التاريخ، كما أنه لم يصرح بالأسماء. ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟

اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما ضبب أسماء الأشخاص لحكمة عليا.

إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب.. وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض.. علم القدر الأعلى، وذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.. مكان اللقاء مجهول كما رأينا.. وزمان اللقاء غير معروف هو الآخر.. لا نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.

وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع الأحداث، ولا زمانه، يخفي السياق القرآني أيضا اسم أهم أبطالها.. يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله : (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه.. هذا العبد هو الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه.

لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة. فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولي العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما كلمه الله تكليما.. هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم.. ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه السلام- كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها.

ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى.. يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا.. ثم يوافق على صحبته بشرط.. ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.

والخضر هو الصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.. إن هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.. وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.. ورغم علم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه علما.

وقد اختلف العلماء في الخضر: فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله، وفيهم من يعتبره نبيا.. وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده، فقيل إنه لا يزال حيا إلى يوم القيامة، وهي قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها، فلا نقول فيها إلا أنه مات كما يموت عباد الله.. وتبقى قضية ولايته، أو نبوته.. وسنرجئ الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما أوردها القرآن الكريم.

قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، ويبدو أن حديثه جاء جامعا مانعا رائعا.. بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟
قال موسى مندفعا: لا..
وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟
أدرك موسى أنه تسرع.. وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إن لله عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم.. سأل كيف السبيل إليه.. فأمر أن يرحل، وأن يحمل معه حوتا في مكتل، أي سمكة في سلة.. وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم.. انطلق موسى -طالب العلم- ومعه فتاه.. وقد حمل الفتى حوتا في سلة.. انطلقا بحثا عن العبد الصالح العالم.. وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.

ويظهر عزم موسى -عليه السلام- على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره الأمر إلى أن يسير أحقابا وأحقابا. قيل أن الحقب عام، وقيل ثمانون عاما. على أية حال فهو تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد.

وصل الاثنان إلى صخرة جوار البحر.. رقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا.. وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر.. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).. وكان تسرب الحوت إلى البحر علامة أعلم الله بها موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه.

نهض موسى من نومه فلم يلاحظ أن الحوت تسرب إلى البحر.. ونسي فتاه الذي يصحبه أن يحدثه عما وقع للحوت.. وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما.. ثم تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب.. (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا).. ولمع في ذهن الفتى ما وقع.

ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك.. وأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع، رغم غرابة ما وقع، فقد اتخذ الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).. كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون، لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علامة وكأنه طير يتلوى على الرمال.

سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).. هذا ما كنا نريده.. إن تسرب الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.. ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين.. انظر إلى بداية القصة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام.

أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت.. وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر.. وهناك وجدا رجلا.

يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه.

فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك سلام..؟ من أنت؟
قال موسى: أنا موسى.
قال الخضر: موسى بني إسرائيل.. عليك السلام يا نبي إسرائيل.
قال موسى: وما أدراك بي..؟
قال الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي.. ماذا تريد يا موسى..؟
قال موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).
قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك.. وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).

نريد أن نتوقف لحظة لنلاحظ الفرق بين سؤال موسى الملاطف المغالي في الأدب.. ورد الخضر الحاسم، الذي يفهم موسى أن علمه لا ينبغي لموسى أن يعرفه، كما أن علم موسى هو علم لا يعرفه الخضر.. يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى: إن علمي أنت تجهله.. ولن تطيق عليه صبرا، لأن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم له سببا أو تدري له علة.. وإذن لن تصبر على علمي يا موسى.

احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه.. وقال له موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا.

تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.

قال الخضر لموسى -عليهما السلام- إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم منه هو ألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه.. فوافق موسى على الشرط وانطلقا..

انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر.. مرت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها.. فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.. اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا.

فاستنكر موسى فعلة الخضر. لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، كما حركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).

وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).

سارا معا.. فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما.. ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا.. يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).. ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا).

ومضى موسى مع الخضر.. فدخلا قرية بخيلة.. لا يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.. وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يريد أن ينقض.. جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.. وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.. ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، إن القرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. انتهى الأمر بهذه العبارة.. قال عبد الله لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).

لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال. وجاء دور التفسير الآن..

إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره.. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية.. وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، وهكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يعلم موسى، رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد الرباني من علم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر، من ماء البحر..

كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.. كشف له أن علمه -أي علم موسى- محدود.. كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى.

إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصبا، ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة.. وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا.

أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.. غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول.

وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه، ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.

أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.

ثم ينفض الرجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه.

واختفى هذا العبد الصالح.. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول.. إلا أن موسى تعلم من صحبته درسين مهمين:

تعلم ألا يغتر بعلمه في الشريعة، فهناك علم الحقيقة.

وتعلم ألا يتجهم قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحزن والآلام والموت.

هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.

والآن من يكون صاحب هذا العلم إذن..؟ أهو ولي أم نبي..؟

يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى، أطلعه الله على جزء من علمه اللدني بغير أسباب انتقال العلم المعروفة.. ويرى بعض العلماء أن هذا العبد الصالح كان نبيا.. ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه:

1. أحدها قوله تعالى:

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) (الكهف)

2. والثاني قول موسى له:

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) (الكهف)

فلو كان وليا ولم يكن نبي، لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد. ولو أنه كان غير نبي، لكان هذا معناه أنه ليس معصوما، ولم يكن هناك دافع لموسى، وهو النبي العظيم، وصاحب العصمة، أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة.

3. والثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام بوحي من الله وأمر منه.. وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة.. إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.. وإذن ففي إقدام الخضر على قتل الغلام دليل نبوته.

4. والرابع قول الخضر لموسى:

رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

يعني أن ما فعلته لم أفعله من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه.

فرأى العلماء أن الخضر نبيا، أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله.

ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه.. قول وهب بن منبه: قال الخضر: يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها. وقول بشر بن الحارث الحافي.. قال موسى للخضر: أوصني.. قال الخضر: يسر الله عليك طاعته.

ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني، غير أننا لا نجد نصا في سياق القرآن على نبوته، ولا نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه الله بعض علمه اللدني.. ولعل هذا الغموض حول شخصه الكريم جاء متعمدا، ليخدم الهدف الأصلي للقصة.. ولسوف نلزم مكاننا فلا نتعداه ونختصم حول نبوته أو ولايته.. وإن أوردناه في سياق أنبياء الله، لكونه معلما لموسى.. وأستاذا له فترة من الزمن.:

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:12 PM
قصة ذي القرنين

قال الله تعالى:
" وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ".

ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا، وأثنى عليه بالعدل وأنه بلغ المشارق والمغارب وملك الأقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالمعدلة التامة والسلطان المؤيد المظفر المنصور القاهر المقسط. والصحيح، أنه كان ملكا من الملوك العادلين، وقيل: كان نبيا. وقيل: كان رسولا. وأغرب من قال: ملكا من الملائكة. وقد حكى هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: مه، ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. ذكره السهيلي.

وقد روى وكيع، عن إسرائيل عن جابر عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان ذو القرنين نبيا. وروى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي محمد بن أبي نصر، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي ثابت، حدثنا محمد بن حماد، أنبأنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدري أتبع كان لعينا أم لا، ولا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبيا أم لا وهذا غريب من هذا الوجه. وقال إسحاق بن بشر، عن عثمان بن الساج عن خصيف عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا،
رضي الله عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورا، وكان الخضر وزيره. وذكر أن الخضر، عليه السلام، كان على مقدمة جيشه وكان عنده بمنزلة المشاور الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في اصلاح الناس اليوم. وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل، عليه السلام. وروي عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله وغيرهما، أن ذا القرنين حج ماشيا، وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد. والله أعلم.

واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين؛ فقيل: لأنه كان له في رأسه شبه القرنين. وقال وهب بن منبه كان له قرنان من نحاس في رأسه. وهذا ضعيف. وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك فارس والروم. وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا، وملك ما بينهما من الأرض. وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري. وقال الحسن البصري كانت له غديرتان من شعر يطأ فيهما؛ فسمي ذا القرنين. وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني، فكسره،
فسمي ذا القرنين. وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فمات، فسمي ذا القرنين. وهكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به. وفي بعض الروايات، عن أبي الطفيل عن علي قال: لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا.

وقد اختلف في اسمه؛ فروى الزبير بن بكار عن ابن عباس: كان اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد. وقيل: مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن غوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان.
وقد جاء في حديث أنه كان من حمير، وأمه رومية، وأنه كان يقال له: ابن الفيلسوف؛ لعقله. وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعرا يفخر بكونه أحد أجداده فقال:

قد كان ذو القـرنين جـدي مسلما ملكا تـدين لـه الملوك وتحشـد
بلـغ المشـارق والمغارب يبتغي أسباب أمـر مـن حـكيم مرشـد
فرأى مغيـب الشمس عند غروبها في عيـن ذي خـلب وثأط حرمد
من بعـده بلقيس كـانت عمتـي ملكتهم حــتى أتاهــا الهدهـد

قال السهيلي: وقيل: كان اسمه مرزبى بن مرزبة، ذكره ابن هشام وذكر في موضع آخر أن اسمه الصعب بن ذي مراثد. وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئرالسبع. وقيل: إنه أفريدون بن أسفيان، الذي قتل الضحاك. وفي خطبة قس: يا معشر إياد، أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان كلحظة عين، ثم أنشد ابن هشام للأعشى:
والصعب ذو القـرنين أصبح ثاويا

بالحنو فـي جـدث أميـم مقيـم


وذكر الدارقطني وابن ماكولا أن اسمه هرمس. ويقال: هرويس بن فيطون بن رومي بن لنطي بن كسلوجين بن يونان بن يافث بن نوح. فالله أعلم. وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين، وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح، عليه السلام. فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيليبس بن مضريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن نونة بن سرحون بن رومة بن ثرنط بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في "تاريخه"، المقدوني اليوناني المصري، باني إسكندرية، الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة،
وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم. وإنما نبهنا عليه؛ لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره، فيقع بسبب ذلك خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا. وأما الثاني، فكان مشركا، وكان وزيره فيلسوفا، وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة. فأين هذا من هذا، لا يستويان ولا يشتبهان، إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور.

قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا. فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين. ولهذا قال: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا أي؛ من خبره وشأنه ذكرا أي؛ خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره وشرح حاله فقال: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا أي؛ وسعنا مملكته في البلاد وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة والمقاصد الجسيمة.

قال قتيبة، عن أبي عوانة عن سماك عن حبيب بن حماز قال: كنت عند علي بن أبي طالب وسأله رجل عن ذي القرنين، كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال: سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له في النور. وقال: أزيدك؟ فسكت الرجل، وسكت علي، رضي الله عنه.
وعن أبي إسحاق السبيعي، عن عمرو بن عبد الله الوادعي، سمعت معاوية يقول: ملك الأرض أربعة؛ سليمان بن داود النبي، عليهما السلام، وذو القرنين، ورجل من أهل حلوان ورجل آخر. فقيل له: الخضر؟ قال: لا.
وقال الزبير بن بكار حدثني إبراهيم بن المنذر عن محمد بن الضحاك، عن أبيه عن سفيان الثوري قال: بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ سليمان النبي، وذو القرنين، ونمرود، وبخت نصر. وهكذا قال سعيد بن بشير، سواء.

وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن الحسن قال: كان ذو القرنين ملك بعد النمرود، وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا أتى المشرق والمغرب، مد الله له في الأجل ونصره حتى قهر البلاد واحتوى على الأموال، وفتح المدائن وقتل الرجال وجال في البلاد والقلاع، فسار حتى أتى المشرق والمغرب، فذلك قول الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا أي؛ خبرا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا أي؛ علما بطلب أسباب المنازل.
قال إسحاق: وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه، وإلا قتله. وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة وعبيد بن يعلى والسدي، وقتادة والضحاك وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يعني علما. وقال قتادة ومطر الوراق: معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم.

والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها؛ فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه، ويعينه على أهل الإقليم الآخر.
وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض، ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي كل هذه المدة نظر. والله أعلم. وقد روى البيهقي وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا مطولا جدا، وهو منكر جدا. وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو متهم، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا. والله أعلم.
وقوله: فَأَتْبَعَ سَبَبًا أي؛ طريقا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يعني من الأرض، انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له: أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال، على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا. وعنده شاهد مغيب الشمس -فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته- تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ والمراد بها البحر في نظره، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه، ولهذا قال: وجدها أي؛ في نظره، ولم يقل: فإذا هي. تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي؛ ذات حمأة. قال كعب الأحبار وهو الطين الأسود. وقرأه بعضهم (حامية). فقيل: يرجع إلى الأول. وقيل: من الحرارة. وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها.
وقد روى الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال: في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض فيه غرابة، وفيه رجل مبهم لم يسم، ورفعه فيه نظر، وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين، فكان يحدث منها، والله أعلم.
ومن زعم من القصاص، أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة، فقد أخطأ، وأبعد النجعة، وقال ما يخالف العقل والنقل.
***
وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع عن أبيه، عن معتمر بن سليمان عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له: رناقيل. فسأله ذو القرنين: هل تعلم في الأرض عينا يقال لها: عين الحياة؟ فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها. وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك، وأنه أعطاه حجرا، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه، فوضعوه في كفة ميزان، وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها، حتى سأل الخضر فوضع قباله حجرا، وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به، وقال: هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب. فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما. والله أعلم.
ثم ذكر تعالى أنه حكمه في أهل تلك الناحية قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا أي؛ فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة، وبدأ بعذاب الدنيا؛ لأنه أزجر عند الكافر وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة، وعطف عليه الإحسان منه إليه، وهذا هو العدل والعلم والإيمان.



قصة ذي القرنين

قال تعالى في سورة الكهف :(( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ))


وكان اسمه عياشياً وكان أول الملوك بعد نوح عليه السلام ملك ما بين المشرق والمغرب.

قال أمين الإسلام الطبرسي في قوله تعالى : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ) أي بسطنا يده في الأرض وملكناه حتى استولى عليها.

وروي عن علي عليه السلام أنه قال: سخر الله له السحاب فحمله عليها ومد له في الأسباب وبسط له النور , فكان الليل والنهار عليه سواء , فهذا معنى تمكينه في الأرض.

( وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) أي وأعطيناه من كل شيء علماً وقدرة وآلة يتسبب بها إلى إرادته. ( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) أي فاتبع طريقاً وأخذ في سلوكه. (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) أي آخر العمارة من جانب المغرب , وبلغ قوماً يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس. (وَجَدَهَا تَغْرُبُ ) أي كأنها تغرب.
( عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) وإن كانت تغرب وراءها لأن الشمس لا تزايل الفلك فلا تدخل في عين الماء , ولكن لما بلغ ذلك الموضع ترائى له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر يراها كأنها تغرب في الماء من كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء. والعين الحمئة ذات الحماة وهي الطين الأسود المنتن والحامية الحارة.
وعن كعب قال أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين.

(علل الشرايع والأمالي) مسنداً إلى وهب قال: وجدت في بعض كتب الله تعالى أن ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه , فبينما هو يسير بجنوده إذ مر على شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته فقال له ذو القرنين كيف لم يرعك ما حضرك من جنودي ؟ قال كنت أناجي من هو أكثر جنوداً منك وأعز سلطاناً وأشد قوة , ولو صرفت وجهي إليك لم أبلغ حاجتي قبله فقال ذو القرنين هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي وأستعين بك على بعض أمري ؟ قال نعم إن ضمنت لي أربعة خصال : نعيما لا يزول وصحة لا سقم فيها وشباباً لا هرم فيه وحياة لا موت فيها , فقال له ذو القرنين وأي مخلوق يقدر على هذه الخصال ؟ فقال له الشيخ فإني مع من يقدر عليها ويملكها وإياك. ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين أخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عز وجل قائمين ؟ وعن شيئين مختلفين ؟ وعن شيئين جاريين ؟ وعن شيئين متباغضين.

فقال له ذو القرنين : أما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر , وأما الشيئان المختلفان فالليل والنهار , وأما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة.

فقال: انطلق فإنك عالم. فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى فوقف عليه بجنوده فقال: له أخبرني أيها الشيخ لأي شيء تقلب هذه الجماجم ؟ فقال لأعرف الشريف من الوضيع والغني من الفقير فما عرفت واني لأقلبها منذ عشرين سنة فانطلق ذو القرنين وتركه , فقال: ما عنيت بهذا أحداً غيري.

فبينما هو يسير إذ وقع إلى الأمة العالمة من قوم موسى (ع) الذي يهدون بالحق وبه يعدلون فلما رآهم قال لهم أيها القوم أخبروني بخبركم , فإني قد درت الأرض شرقها وغربها وبرها وبحرها فلم ألق مثلكم فأخبروني ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا لئلا ينسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ قالوا ليس فينا لص ولا ظنين – أي متهم – وليس فينا إلا أمين قال فما بالكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا لا نتظالم. قال فما بالكم ليس بينكم حكام ؟ - يعني القضاة – قالوا لا نختصم. قال فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا لا نتكاثر. قال فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون ؟ قالوا من قبل إنا متواسون متراحمون. قال فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا من قبل إلفة قلوبنا , وصلاح ذات بيننا. قال فما بالكم لا تسبون ولا تقتلون ؟ قالوا من قبل إنا غلبنا طبايعنا – يعني بالعزم – ومسسنا أنفسنا بالحكم. قال فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟ قالوا من قبل إنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً قال فاخبروني لم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ قالوا من قبل إنا نقسم بالسوية. قال فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا من قبل الذل والتواضع. قال فلم جعلكم الله أطول الناس أعماراً ؟ قالوا من قبل انا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل. قال فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا من قبل انا لا نغفل عن الإستغفار. قال فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا من قبل انا وطنا أنفسنا على البلاء فعزينا أنفسنا. قال فما بالكم لا تصيبكم الآفات ؟ قالوا من قبل انا لا نتوكل على غير الله عز وجل ولا نستمطر بالأنواء والنجوم. قال: فحدثوني أيها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ قالوا : وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ويواسون فقيرهم ويعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم ويستغفرون لمسيئهم ويصلون أرحامهم ويؤدون أمانتهم ويصدقون ولا يكذبون فأصلح الله لهم بذلك أمرهم. فأقام عندهم ذو القرنين حتى قبض وله خمسمائة عام.

(تفسير علي بن إبراهيم) بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال: ان ذا القرنين بعثه الله إلى قومه فضرب على قرنه الأيمن , فأماته الله خمسمائة عام. ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فضرب على قرنه الأيسر , فأماته الله خمسمائة عام. ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملّكه مشارق الأرض ومغاربها.

وسئل أمير المؤمنين عليه السلام عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً ؟ فقال: لا ملكاً ولا نبياً بل عبداً أحب الله فأحبه الله , ونصح لله فنصح له , فبعثه إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن , فغاب عنهم , ثم بعثه الثانية فضربوه على قرنه الأيسر , فغاب عنهم , ثم بعثه الثالثة , فمكّن الله له في الأرض , وفيكم مثله. يعني نفسه.

وكان ذو القرنين إذا مر بقرية زئر فيها كما يزئر الأسد المغضب , فينبعث في القرية ظلمات ورعد وبرق وصواعق يهلك من خالفه.

وقيل له: إن لله في أرضه عين يقال لها عين الحياة لا يشرب منها ذو روح إلا لم يمت حتى الصيحة , فدعا ذو القرنين الخضر وكان أفضل أصحابه عنده ودعا ثلاثمائة وستين رجلا ودفع إلى كل واحد منهم سمكة وقال لهم اذهبوا إلى موضع كذا وكذا فإن هناك ثلاثمائة وستين عيناً , فيغسل كل واحد سمكته في عين غير عين صاحبه. فذهبوا يغسلون وقعد الخضر يغسل فانسابت منه السمكة في العين وبقي الخضر متعجباً مما رأى وقال في نفسه : ما أقول لذي القرنين ؟ ثم نزع ثيابه يطلب السمكة , فشرب من مائها واغتمس فيه ولم يقدر على السمكة , فرجعوا إلى ذي القرنين , فأمر ذو القرنين بقبض السمك من أصحابه. فلما انتهوا إلى الخضر لم يجدوا معه , فدعاه وقال له ما حال السمكة ؟ فأخبره الخبر , فقال له ماذا صنعت ؟ قال اغتمست فيها فجعلت أغوص وأطلبها فلم أجدها , قال فشربت من مائها ؟ قال نعم. قال فطلب ذو القرنين العين فلم يجدها , فقال للخضر : كنت أنت صاحبها.

(الأمالي) عن الصادق عليه السلام قال: ان ذا القرنين لما انتهى إلى السد جاوزه فدخل في الظلمات , فإذا هو بملك قائم على جبل طوله خمسمائة ذراع , فقال له الملك: يا ذا القرنين أما كان خلفك مسلك ؟ فقال له ذو القرنين من أنت ؟ قال أنا ملك من ملائكة الرحمان موكل بهذا الجبل فليس من جبل خلقه الله عز وجل إلا وله عرق إلى هذا الجبل فإذا أراد الله عز وجل أن يزلزل مدينة أوحى إليّ فزلزلتها.

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى لم يبعث أنبياءاً ملوكاً في الأرض إلا أربعة بعد نوح عليه السلام : ذو القرنين واسمه عياش وداود وسليمان ويوسف , وأما عياش فملك ما بين المشرق والمغرب , وأما داود فملك ما بين الشامات إلى بلاد الاصطخر , وكذلك كان ملك سليمان , وأما يوسف فملك مصر وبراريها لم يجاوزها إلى غيرها.

قال الصدوق طاب ثراه : جاء في الخبر هكذا , والصحيح الذي أعتقده في ذي القرنين أنه لم يكن نبياً صالحاً أحب الله فأحبه الله.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : وفيكم مثله. وذو القرنين ملك مبعوث وليس برسول ولا نبي , كما كان طالوت ملكاً.

وعني أبي عبدالله عليه السلام قال: ملك الأرض كلها أربعة : مؤمنا وكافران فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين عليهما السلام , والكافران نمرود وبخت نصر , واسم ذي القرنين عبدالله بن ضحاك بن معبد.

(علل الشرايع) بإسناده إلى الباقر عليه السلام قال: أول اثنين تصافحا على وجه الأرض ذو القرنين وإبراهيم الخليل عليه السلام استقبله إبراهيم فصافحه , وأول شجرة نبتت على وجه الأرض النخلة.

(بصائر الدرجات) عن أبي جعفر عليه السلام قال: ان ذا القرنين قد خير بين السحابين , واختار الذلول , وذخر لصاحبكم الصعب. قال: قلت وما الصعب ؟ قال كان من سحاب فيه رعد وصاعقة وبرق , فصاحبكم يركبه , أما أنه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع خمس عوامر واثنتان خراب.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : المراد بصاحبكم هو القائم عليه السلام.

(إكمال الدين) بإسناده إلى عبدالله بن سليمان وكان قارئاً للكتب قال: قرأت في بعض كتب الله عز وجل أن ذا القرنين كان رجلا من أهل الإسكندرية وأمه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له إسكندر وكان له أدب وخلق وعفة من وقت ما كان فيه غلاماً إلى أن بلغ رجلا وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها وشرقها وغربها , فلما قص رؤياه على قومه سموه ذا القرنين. هذه الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه وكان أول ما أجمع عليه أمره أن أسلم لله ودعا قومه إلى الإسلام , فأسلموا هيبة له , ثم أمرهم أن يبنوا له مسجداً , فأجابوه إلى ذلك , فأمر أن يجعل طوله أربعمائة ذراع وعرض حائطه اثنين وعشرين ذراعاً وعلوه إلى السماء مائة ذراع , فقالوا له يا ذا القرنين كيف لك بخشب يبلغ ما بين الحائطين قال فاكبسوه بالتراب حتى يستوي الكبس مع حيطان المسجد فإذا فرغتم من ذلك فرضتم على كل رجل من المؤمنين على قدره من الذهب والفضة ثم قطعتموه مثل قلامة الظفر وخلطتموه مع ذلك الكبس وعملتم له خشباً من نحاس وصفائح تذيبون ذلك وأنتم متمكنون من العمل كيف شئتم على أرض مستوية فإذا فرغتم من ذلك دعوتم المساكين لنقل ذلك التراب فيسارعون فيه من أجل ما فيه من الذهب والفضة. فبنوا المسجد وأخرج المساكين ذلك التراب وقد استقل السقف بما فيه واستغنى المساكين فجندهم أربعة أجناد في جند عشرة آلاف ثم نشرهم في البلاد وحدّث نفسه بالسير فاجتمع إليه قومه فقالوا ننشدك بالله لا تؤثر علينا بنفسك غيرنا فنحن أحق برؤيتك وفينا كان مسقط رأسك وهذه أموالنا وأنفسنا , فأنت الحاكم فيها وهذه أمك عجوز كبيرة وهي أعظم خلق الله عليك حقاً فلا تخالفها , فقال ان القول لقولكم وان الرأي لرأيكم ولكنني بمنزلة المأخوذ بقلبه وسمعه وبصره ويقاد ويدفع من خلفه لا يدري أين يؤخذ به, ولكن هلمو معشر قومي فادخلوا هذا المسجد واسلموا على آخركم ولا تخالفوا علي فتهلكوا , ثم دعا دهقان الإسكندرية فقال هل: أعمر مسجدي وعز عني أمي , فلما رأى الدهقان جزع أمه وطول بكائها احتال ليعزيها بما أصاب الناس قبلها وبعدها من المصائب والبلاء فيصنع عيداً عظيماً , ثم أذن مؤذنه أيها الناس ان الدهقان يدعوكم أن تحضروا يوم كذا وكذا , فلما كان ذلك اليوم أذن مؤذنه أسرعوا واحذروا أن يحضر هذا العيد إلا رجل قد عري من البلاء والمصائب فاحتبس الناس كلهم , فقالوا ليس فينا أحد عرى من البلاء ما منا أحد إلا وقد أصيب ببلاء أو بموت حميم , فسمعت أم ذي القرنين فأعجبها ولم تدر ما أراد الدهقان , ثم ان الدهقان أمر منادياً ينادي فقال: يا أيها الناس ان الدهقان قد أمركم أن تحضروا يوم كذا وكذا ولا يحضر إلا رجل قد ابتلي وأصيب وفجع ولا يحضره أحد عري من البلاء فإنه لا خير فيمن لا يصيبه البلاء , فلما فعل ذلك قال الناس هذا رجل قد بخل , ثم ندم واستحى فتدارك أمره ومحى عيبه.

فلما اجتمعوا خطبهم و ثم قال: اني لم أجمعكم لما دعوتكم له ولكني جمعتكم لأكلمكم في ذي القرنين وفيما فجعنا به من فقده وفراقه فاذكروا آدم أن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته ثم ابتلاه بأن عظم بليته وهو الخروج من الجنة , ثم ابتلى إبراهيم بالحريق وابتلى ابنه بالذبح , ويعقوب بالحزن والبكاء ويوسف بالرق وأيوب بالسقم ويحيى بالذبح وزكريا بالقتل وعيسى بالأمر , وخلقاً من خلق الله كثيراً لا يحصيهم إلا الله عز وجل فلما فرغ من هذا الكلام قال لهم : انطلقوا فعزوا أم الإسكندر لننظر كيف صبرها فإنها أعظم مصيبة في ابنها , فلما دخلوا عليها قالوا لها: هل حضرت الجمع اليوم وسمعت الكلام ؟ قالت لهم: ما غاب علي من أمركم شيء وما كان فيكم أحد أعظم مصيبة بالإسكندر مني ولقد صبَّرني الله وأرضاني وربط على قلبي , فلما رأوا حسن عزائها انصرفوا عنها. وانطلق ذو القرنين يسير على وجهه حتى أمعن في البلاد يؤم المغرب وجنوده يومئذ المساكين , فأوحى الله جل جلاله إليه: يا ذا القرنين إنك حجتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس إلى مغربها , وهذا تأويل رؤياك. فقال ذو القرنين: إلهي إنك ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره غيرك فاخبرني عن هذ الأمة بأية قوم أكاثرهم وبأي عدد أغلبهم وبأية حيلة أكيدهم وبأي لسان أكلمهم وكيف لي بأن أعرف لغاتهم ؟ فأوحى الله تعالى إليه : أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء وأحفظ عليك فلا يعزب منك شيء وأشد ظهرك فلا يهولك شيء وأسخر لك النور والظلمة أجعلهما جندين من جنودك النور يهديك والظلمة تحوطك وتحوش عليك الأمم من ورائك فانطلق ذو القرنين برسالة ربه عز وجل , فمر بمغرب الشمس فلا يمر بأمة من الأمم إلا دعاهم إلى الله عز وجل فإن أجابوه قبل منهم وإن لم يجيبوه أغشاهم الظلمة , فأظلمت مدنهم وقراهم وحصونهم وبيوتهم وأغشت أبصارهم ودخلت على أفواههم وآنافهم , فلا يزالون فيها متحيرين حتى يستجيبوا لله عز وجل.
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ) الآية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه , ففعل بهم مع غيرهم حتى فرغ مما بينه وبين المغرب.

ثم مشى على الظلمة ثمانية أيام وثمان ليال وأصحابه ينظرونه حتى انتهى إلى الجبل الذي هو محيط بالأرض كلها , فإذا بملك من الملائكة قابض على الجبل وهو يسبح الله , فخر ذو القرنين ساجداً , فلما رفع رأسه , قال له الملك: كيف قويت يابن آدم على أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك ؟ قال ذو القرنين: قوَّاني على ذلك الذي قوَّاك على قبض هذا الجبل وهو محيط بالأرض كلها قال له الملك صدقت , لولا هذا الجبل لانكفأت الأرض بأهلها وليس على وجه الأرض جبل أعظم منه وهو أول جبل أسسه الله عز وجل , فرأسه ملصق بالسماء الدنيا وأسفله بالأرض السابعة السفلى وهو محيط به كالحلقة , وليس على وجه الأرض مدينة إلا ولها عرق إلى هذا الجبل , فإذا أراد الله عز وجل أن يزلزل مدينة فأوحى الله إليَّ فحركت العرق الذي يليها فزلزلتها.

ثم رجع ذو القرنين إلى أصحابه , ثم عطف بهم نحو المشرق يستقري ما بينه وبين المشرق من الأمم , فيفعل بهم ما فعل بأمم المغرب , حتى إذا فرق ما بين المشرق والمغرب عطف نحو الروم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه , فإذا هو بأمة ( لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) وإذا ما بينه وبين الروم مشحون من أمة يقال لها ياجوج وماجوج أشباه البهائم يأكلون ويشربون ويتوالدون وهم ذكور وإناث وفيهم مشابة من الناس الوجوه والأجساد والخلقة ولكنهم قد نقصوا في الأبدان نقصاً شديداً وهم في طول الغلمان لا يتجاوزون خمسة أشبار وهم على مقدار واحد في الخلق والصور عراة حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون , عليهم وبر كوبر الإبل يواريهم ويسترهم من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان أحدهما ذات شعر والأخرى ذات وبر ظاهرهما وباطنهما ولهم مخالب في موضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع , وإذا نام أحدهم افترش إحدى أذنيه والتحف الأخرى فتسعه لحافاً , وهم يرزقون نون البحر كل عام يقذفه عليهم السحاب , فيعيشون به ويستمطرون في أيامه كما يستمطر الناس المطر في أيامه , فإذا قذفوا به أخصبوا وسمنوا وتوالدوا وأكثروا فأكلوا منه إلى الحول المقبل ولا يأكلون منه شيئاً غيره وإذا أخطأهم النون جاعوا وساحوا في البلاد فلا يدعون شيئاً أتوا عليه إلا أفسدوه وأكلوه وهم أشد فساداً من الجراد والآفات وإذا أقبلوا من أرض إلى أرض جلا أهلها عنها وليس يغلبون ولا يدفعون حتى لا يجد أحد من خلق الله موضعاً لقدمه ولا يستطيع أحد أن يدنو منهم لنجاستهم وقذارتهم فبذلك غلبوا وإذا أقبلوا إلى الأرض يسمع حسهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم , كما يسمع حس الريح البعيدة ولهم همهمة إذا وقعوا في البلاد كهمهمة النحل , إلا أنه أشد وأعلى وإذا أقبلوا إلى الأرض حاشوا وحوشها وسباعها حتى لا يبقى فيها شيء , لأنهم يملؤون ما بين أقطارها ولا يتخلف وراءهم من ساكن الأرض شيء فيه روح إلا اجتلبوه وليس فيهم أحد إلا وعرف متى يموت وذلك من قبل أنه لا يموت منهم ذكر حتى يولد له ألف ولد ولا تموت أنثى حتى تلد ألف ولد , فإذا ولدوا الألف , برزوا للموت وتركوا طلب المعيشة. ثم أنهم أجفلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضاً أرضاً وأمة أمة وإذا توجهوا لوجه لم يعدلوا عنه أبداً.

فلما أحست تلك الأمم بهم وسمعوا همهمتهم استغاثوا بذي القرنين وهو نازل في ناحيتهم , قالوا له فقد بلغنا ما آتاك الله من الملك والسلطان وما أيَّدك به من الجنود ومن النور والظلمة , وإنا جيران ياجوج وماجوج وليس بيننا وبينهم سوى هذه الجبال وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الجبلين لو مالوا علينا أجلونا من بلادنا ويأكلون ويفرسون الدواب والوحوش كما يفرسها السباع ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب وكل ذي روح ولا نشك أنهم يملؤون الأرض ويجلون أهلها منها , ونحن نخشى كل حين أن يطلع علينا أوايلهم من هذين الجبلين , وقد أتاك الحيلة والقوة ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.... ) الآية.

ثم انه دلهم على معدن الحديد والنحاس فضرب لهم في جبلين حتى فتقهما واستخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس قالوا: فبأي قوة نقطع هذا الحديد والنحاس ؟ فاستخرج لهم من تحت الأرض معدناً آخر يقال له السامور وهو أشد شيء بياضاً وليس شيء منه يوضع على شيء إلا ذاب تحته , فصنع لهم منه أداة يعملون بها.

وبه قطع سليمان بن داود أساطين بيت المقدس , وصخوره جاءت بها الشياطين من تلك المعادن , فجمعوا من ذلك ما اكتفوا به. فأوقدوا على الحديد النار , حتى صنعوا منه زبراً مثل الصخور فجعل حجارته من حديد ثم أذاب النحاس فجعله كالطين لتلك الحجارة ثم بنى وقاس ما بين الجبلين فوجده ثلاثة أميال , فحفروا له أساساً حتى كاد يبلغ الماء وجعل عرضه ميلا وجعل حشوه زبر الحديد وأذاب النحاس فجعله خلال الحديد فجعل طبقة من نحاس وأخرى من حديد ثم ساوى الردم بطول الصدفين فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد.

فيأجوج يأتونه في كل سنة مرة وذلك أنهم يسيحون في بلادهم , حتى إذا وقعوا إلى الردم حبسهم , فرجعوا يسيحون في بلادهم , فلا يزالون كذلك حتى تقرب الساعة , فإذا جاء أشراطها وهو قيام القائم عجل الله فرجه فتحه الله عز وجل لهم.

فلما فرغ ذو القرنين من عمل السد انطلق على وجهه , فبينما هو يسير إذ وقع على الأمة العالمة الذين منهم قوم موسى ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) فأقام عندهم حتى قبض ولم يكن له فيهم عمر وكان قد بلغ السن فأدركه الكبر وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عز وجل إلى يوم قبض خمسمائة عام.

(قصص الأنبياء) للراوندي بإسناده إلى أبي جعفر عليه السلام قال: حج ذو القرنين في ستمائة ألف فارس , فلما دخل الحرم شيعه بعض أصحابه إلى البيت , فلما انصرف قال: رأيت رجلا ما رأيت أكثر نوراً منه , قالوا: ذاك خليل الرحمان صلوات الله عليه , قال: أسرجوا فأسرجوا ستمائة ألف دابة في مقدار ما يسرج دابة واحدة , ثم قال: لا , بل نمشي إلى خليل الرحمان. فمشى ومشى معه أصحابه حتى التقيا. قال إبراهيم عليه السلام: بم قطعت الدهر ؟ قال: بإحدى عشر كلمة : سبحان من هو باق لا يفنى , سبحان من هو عالم لا ينسى , سبحان من هو حافظ لا يسقط , سبحان من هو بصير لا يرتاب , سبحان من هو قيوم لا ينام , سبحان من هو ملك لا يرام , سبحان من هو عزيز لا يضام , سبحان من هو محتجب لا يرى , سبحان من هو واسع لا يتكلف , سبحان من هو قائم لا يلهو , سبحان من هو دائم لا يسهو.

(العياشي) عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سئل عن ذي القرنين ؟ قال: كان عبداً صالحاً واسمه عياش اختاره الله وابتعثه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المغرب وذلك بعد طوفان نوح عليه السلام فضربوه على قرنه الأيمن فمات منها. ثم أحياه الله تعالى بعد مائة عام ثم بعثه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المشرق فضربوه ضربة على قرنه الأيسر فمات منها. ثم أحياه الله تعالى بعد مائة عام وعوضه من الضربتين اللتين على رأسه قرنين في موضع الضربتين أجوفين , وجعل عز ملكه وآية نبوته في قرنه , ثم رفعه الله إلى السماء الدنيا فكشط الأرض كلها حتى أبصره ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كل شيء علماً وأيده في قرنيه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ثم هبط إلى الأرض وأوحى إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها فقد طويت لك البلاد وذللت لك العباد فأرهبتهم منك فسار ذو القرنين إلى ناحية المغرب , فكان إذا مرَّ بقرية زأر فيها كما يزأر الأسد المغضب , فبعث من قرنيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق تهلك من يخالفه , فدان له أهل المشرق والمغرب , فانتهى مع الشمس إلى العين الحامية فوجدها تغرب فيها ومعها سبعون ألف ملك يجرونها بسلاسل الحديد والكلاليب يجرونها من البحر في قطر الأرض الأيمن كما تجر السفينة على ظهر الماء.

فلما ملك ما بين المشرق والمغرب كان له خليل من الملائكة يقال له: رفائيل ينزل إليه فيحدثه ويناجيه , فقال له ذو القرنين أين عبادة أهل السماء من أهل الأرض ؟ فقال ما في السماوات موضع قدم إلا وعليه ملك قائم لا يقعد أبداً أو راكع لا يسجد أبداً أو ساجد لا يرفع رأسه أبداً. فبكى ذو القرنين وقال: أحب أن أعيش حتى أبلغ من عبادة ربي ما هو أهله ؟ قال رفائيل: يا ذا القرنين إن لله في الأرض عيناً تدعى عين الحياة , من شرب منها لم يمت حتى يكون هو يسأل الموت , فإن ظفرت بها تعش ما شئت , قال: وأين تلك العين وهل تعرفها ؟ قال: لا , غير إنا نتحدث في السماء: إن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان. فقال ذو القرنين: وأين تلك الظلمة ؟ قال: ما أدري , ثم صعد رفائيل , فدخل ذو القرنين حزن طويل من قول رفائيل ومما أخبره عن العين والظلمة ولم يخبره بعلم ينتفع به منهما , فجمع ذو القرنين فقهاء أهل مملكته وعلماءهم.

فلما اجتمعوا عنده قال لهم : هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله أنّ لله عيناً تدعى عين الحياة من شرب منها لم يمت ؟ قالوا: لا , قال فهل وجدتم أنّ لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان قالوا: لا. فحزن ذو القرنين وبكى إذ لم يخبر عن العين والظلمة بما يحب وكان فيمن حضره غلام من الغلمان من أولاد الأنبياء , فقال له : إنَّ علم ما تريد عندي , ففرح ذو القرنين , فقال الغلام : إني وجدت في كتاب آدم الذي كتب يوم سمي ما في الأرض من عين أو شجر فوجدت فيه: أنّ لله عيناً تدعى عين الحياة بظلمة لم يطأها إنس ولا جان , ففرح ذو القرنين وقال له الغلام : إنها على قرن الشمس – يعني مطلعها – ففرح ذو القرنين وبعث إلى أهل مملكته فجمع أشرافهم وعلمائهم فاجتمع إليه ألف حكيم وعالم.

فلما اجتمعوا تهيؤا للمسير , فسار يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال , فسار اثني عشر سنة حتى انتهى إلى طرف الظلمة فإذا هي ليست بظلمة ليل ولا دخان , فنزل بطرفها وعسكر عليها وجمع أهل الفضل من عسكره فقال: اني أريد أن أسلك هذه الظلمة , فقالوا: إنك تطلب أمراً ما طلبه أحد قبلك من الأنبياء والمرسلين ولا من الملوك , قال: انه لا بد لي من طلبها. قالوا إنا نعلم أنك إن سلكتها ظفرت بحاجتك ولكنا نخاف هلاكك. قال: ولا بد من أن أسلكها , ثم قال: أخبروني بأبصر الدواب ؟ قالوا الخيل الإناث فأصاب ستة آلاف فرس في عسكره , فانتخب من أهل العلم ستة آلاف رجل , فدفع إلى كل رجل فرساً , وكان الخضر على مقدمته في ألفي فارس , فأمرهم أن يدخلوا الظلمة , وسار ذو القرنين في أربعة آلاف وأمر أهل عسكره أن يلزموا معسكره اثني عشر سنة فإن رجع هو إليهم وإلا لحقوا ببلادهم , فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك في الظلمة لا يرى بعضنا بعضاً كيف نصنع بالضلال إذا أصابنا ؟ فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء كأنها مشعلة لها ضوء , فقال: خذ هذه الخرزة فإذا أصابكم الضلال فارم بها إلى الأرض فإنها تصيح فإذا صاحت رجع أهل الضلال إلى صوتها. فأخذها الخضر ومضى في الليلة وكان الخضر يرتحل وينزل ذو القرنين , فبينما الخضر يسير ذات يوم إذ عرض له واد في الظلمة فقال لأصحابه: قفوا في هذا الموضع ونزل عن فرسه فتناول الخرزة ورمى بها , فأبطأت عنه بالإجابة حتى خاف أن لا تجيبه , ثم أجابته , فخرج إلى صوتها فإذا هي العين وإذا ماؤها أشد بياضاً من اللبن وأصفى من الياقوت وأحلى من العسل , فشرب منها , ثم خلع ثيابه فاغتسل فيها ولبس ثيابه , ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فأجابته , فخرج إلى أصحابه وركب وأمرهم بالمسير فساروا , ومرَّ ذو القرنين بعده فأخطأ الوادي , فسلك تلك الظلمة أربعين يوماً , ثم خرجوا بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر ولكنه نور , فخرجوا إلى أرض حمراء رملة , كانت حصاها اللؤلؤ , فإذا هو بقصر مبني على طول فرسخ , فجاء ذو القرنين إلى الباب فعسكر عليه , ثم توجه ( بوجهه – نسخة - ) وحده إلى القصر , فإذا طائر وإذا حديدة طويلة , قد وضع طرفاها على جانب القصر والطير أسود معلق في تلك الحديدة بين السماء والأرض كأنه الخطاف , فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا ؟ قال: أنا ذو القرنين. فقال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل كثر في الأرض بنيان الآجر والجص ؟ قال: نعم. فانتفض الطير وامتلأ حتى ملأ الحديد ثلثها , فخاف منه ذو القرنين , فقال: لا تخف وأخبرني. قال: هل ارتكب الناس شهادة الزور في الأرض ؟ قال: نعم. فانتفض انتفاضة وانتفخ , فسد ما بين جداري القصر , فامتلأ ذو القرنين منه خوفاً فقال: لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل ترك الناس شهادة : لا إله إلا الله ؟ قال: لا. فانضم ثلثه , ثم قال يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني. قال: سل. قال: هل ترك الناس الصلاة ؟ قال: لا. فانضم ثلث آخر , ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني هل ترك الناس الغسل من الجنابة ؟ قال: لا. فانضم حتى عاد إلى الحالة الأولى فإذا هو بدرجة مدرجة إلى أعلى القصر , فقال الطير: أسلك هذه الدرجة , فسلكها وهو خائف حتى استوى على ظهرها فإذا هو بسطح ممدود مد البصر وإذا رجل شاب أبيض (مضيء) الوجه عليه ثياب بيض وإذا هو رافع رأسه إلى السماء ينظر إليها , واضع يده على فيه , فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا ؟ قال: أنا ذو القرنين قال يا ذا القرنين ما كفاك ما وراك حتى وصلت إلي ؟ قال ذو القرنين ما لي أراك واضعاً يدك على فيك ؟ قال أنا صاحب الصور وان الساعة قد اقتربت وأنا أنتظر أن أؤمر بالنفخ فأنفخ , ثم ضرب بيده فتناول حجراً فرمى به إلى ذي القرنين فقال خذها , فإن جاع جعت وإن شبع شبعت فارجع.

فرجع ذو القرنين بذلك الحجر حتى خرج إلى أصحابه , فأخبرهم بالطير وما سأله عنه وما قاله له وأخبرهم بصاحب السطح , ثم قال أعطاني هذا الحجر , فأخبروني بأمره , فوضع في إحدى الكفتين ووضع حجر مثله في الكفة الأخرى , رفع الميزان فإذا الحجر الذي جاء به أرجح بمثل الآخر , فوضعوا آخر فمال به حتى وضعوا ألف حجرة كلها مثله ثم رفع الميزان فمال بها ولم يشتمل به الألف حجر , فقالوا أيها الملك لا علم لنا بهذا الحجر , فقال له الخضر: اني أوتيت علم هذا الحجر , فقال ذو القرنين : أخبرنا به ؟ فتناول الخضر الميزان فوضع الحجر الذي جاء به ذو القرنين في كفة الميزان ثم وضع حجراً آخر في كفة أخرى ثم وضع كف تراب على حجر ذي القرنين يزيده ثقلاً ثم رفع الميزان فاعتدل , فقالوا: أيها الملك هذا أمر لم يبلغه علمنا وإنا لنعلم أن الخضر ليس بساحر فكيف هذا وقد وضعنا ألف حجر كلها مثله فمال بها وهذا قد اعتدل به وزاده تراباً , قال ذو القرنين : بيّن يا خضر لنا. قال الخضر أيها الملك إن أمر الله نافذ في عباده وسلطانه وإن الله ابتلى العالم بالعالم وانه ابتلاني بك وابتلاك بي. فقال ذو القرنين: يرحمك الله يا خضر إنما تقول ابتلاني بك حين جعلت أعلم مني وجعلت تحت يدي. أخبرني عن أمر هذا الحجر ؟ فقال الخضر: إن أمر هذا الحجر مَثَلٌ ضربه لك صاحب الصور يقول: إن مثل بني آدم مثل هذا الحجر الذي وضع , فوضع معه ألف فمال بها ثم إذا وضع عليه التراب شبع وعاد حجراً مثله. فيقول كذلك مثلك أعطاك من الملك ما أعطاك فلم ترض حتى طلبت أمراً لم يطلبه أبداً من كان قبلك ودخلت مدخلا لم يدخله إنس ولا جان , يقول كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب. فبكى ذو القرنين وقال: صدقت يا خضر لا جرم أني لا أطلب أثراً في البلاد بعد مسلكي هذا.

ثم انصرف راجعاً في الظلمة. فينما هم يسيرون إذ سمعوا خشخشة – أي صوتاً – تحت سنابك خيلهم فقالوا : أيها الملك ما هذا ؟ فقال خذوا منه فمن أخذ منه ندم ومن تركه ندم. فأخذ بعض وترك بعض. فلما خرجوا من الظلمة إذا هم بالزبرجد. فندم الآخذ والتارك. ورجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكان بها منزله. فلم يزل بها حتى قبضه الله إليه.

وكان صلى الله عليه وآله إذا حدث بهذا الحديث قال: رحم الله أخي ذا القرنين ما كان مخطئاً إذ سلك وطلب ما طلب ولو ظفر بوادي الزبرجد في ذهابه لما ترك فيه شيئاً إلا أخرجه للناس , لأنه كان راغباً ولكنه ظفر به بعد ما رجع فقد زهد.

وفيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إنّ ذا القرنين عمل صندوقاً من قوارير ثم حمل في مسيره ما شاء الله , ثم ركب البحر , فلما انتهى إلى موضع قال لأصحابه: أدلوني , فإذا حركت الحبل فأخرجوني فإن لم أحرك الحبل فأرسلوني إلى آخره فأرسلوه في البحر وأرسلوا الحبل مسيرة أربعين يوماً فإذا ضارب يضرب جنب الصندوق ويقول يا ذا القرنين أين تريد ؟ قال أريد أن أنظر إلى ملك ربي في البحر كما رأيته في البر ؟ فقال يا ذا القرنين إنّ هذا الموضع الذي أنت فيه مرَّ فيه نوح زمان الطوفان , فسقط منه قدوم فهو يهوي في قعر البحر إلى الساعة لم يبلغ قعره , فلما سمع ذلك ذو القرنين حرك الحبل وخرج.

(العياشي) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: تغرب الشمس في عين حمئة في بحر , دون المدينة التي مما يلي المغرب يعني جابلقا.

قال الرازي : اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو ؟ وذكروا أقوالاً :

القول الأول : انه الإسكندر بن فليقوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه المشرق والمغرب ومثل ذلك الملك البسيط لا شك انه على خلاف العادة وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الأرض وأن لا يبقى خفياً مستتراً والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ: أنه بلغ ملكه إلى هذا القدر ليس إلا الإسكندر وذلك أنه مات أبوه , جمع ملك الروم بعد أن كانت طوائف , ثم حصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر , ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية باسم نفسه , ثم دخل الشام وقهر بني إسرائيل , ثم انعطف إلى العراق ودان له أهلها , ثم توجه إلى دارا وهزمه مرات إلى أن قتله واستولى الإسكندر على ملوك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بسهرورد (شهرزور – خ ل ) ومات بها. فلما ثبت بالقرآن أنّ ذا القرنين ملك الأرض كلها وثبت بعلم التواريخ انّ الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر ابن فليقوس اليوناني.

ثم ذكروا في تسمية ذي القرنين بهذا الاسم وجوهاً :
الأول : أنه لقب به لأنه بلغ قرني الشمس يعني مشرقها ومغربها.
الثاني : ان الفرس قالوا ان دارا الأكبر كان تزوج بنت فيلقوس , فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها على أبيها وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها (فيلقس – خ ل ) فبقى الإسكندر عند فيلقس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر , قالوا : والديل على ذلك أن الإسكندر لما أدرك دارا ابن دارا وبه رمق , وضع رأسه في حجره وقال لدارا : يا أخي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم منه لك ؟ فهذا ما قالته الفرس. قالوا فعلى هذا التقدير فالإسكندر دارا الأكبر وأمه بنت فيلقس , فهذا إنما تولد من أصلين مختلفين الفرس والروم وهذا ما قاله الفرس وإنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم , وهو في الحقيقة كذلك , وإنما قال الإسكندر يا أخي , على سبيل التواضع وإكرام دارا بذلك الخطاب.

والقول الثاني : قول أبي الريحان البيروني المنجم في كتابه الذي سماه : بالآثار الباقية من القرون الخالية.
قيل: أن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عمير بن افريقش الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به الشعراء من حمير , ثم قال أبوالريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب , لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أساميهم من ذي , كذي المنار وذي قواس وذي النون.

القول الثالث : أنه كان عبداً صالحاً ملَّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة , وإن كنا لا نعرف من هو ؟. ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً :

الأول – ما روي أن ابن الكوّا سأل علياً عليه السلام عن ذي القرنين وقال: أملك هو أو نبي ؟ قال: لا ملكاً ولا نبياً , كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن فمات , ثم بعثه الله تعالى فضرب على قرنه الأيسر فمات , فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله.

الثاني – سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس.

الثالث – قيل : كان صفحة رأسه من نحاس.

الرابع – كان على رأسه ما يشبه القرنين.

الخامس – كان لتاجه قرنان.

السادس – عن النبي صلى الله عليه وآله : أنه سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها.

السابع – كان له قرنان – أي ظفيرتان - .

الثامن – أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه.

التاسع – يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته , كما يسمى الشجاع بالقرن لأنه يقطع أقرانه.

العاشر – أنه رأى في المنام : كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها – أي جانبيها – فسمي لهذا السببت بذي القرنين.

الحادي عشر – سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة.

القول الرابع : أن ذا القرنين ملك من الملائكة.
والقول الأول أظهر , للدليل الذي ذكرناه وهو : ان مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال وهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو : أنه كان تلميذاً لارسطا طاليس الحكيم وكان على مذهبه , فتعظيم الله إ ياه يوجب الحكم بأن مذهب ارسطا طاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه.


اختلفوا في أن ذا القرنين هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال إنه كان من الأنبياء. واحتجوا عليه بوجوه :

الأول – قوله تعالى : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ) والأولى حمله على التمكين في الدين , والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.

الثاني – قوله تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) وهذا يدل على أن الله تعالى آتاه من النبوة سبباً.

الثالث – قوله تعالى : ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً. ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.

قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله : المستفاد من الأخبار كما قال شيخنا المحدث : انه غير الإسكندر وانه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وانه أول الملوك بعد نوح عليه السلام.
وأما إستدلاله فلا يخفى ضعفه بعد ما عرفت من أن الملوك المتقدمة لم تضبط أحوالهم بحيث لا يشذ عنهم أحد , وأيضاً الظاهر من كلام أهل الكتاب الذين يعولون عليهم في التواريخ عدم الإتحاد , والظاهر من الأخبار أيضاً أنه لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً مؤيداً من عند الله تعالى.

وروى حذيفة قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله عن يأجوج ومأجوج فقال: يأجوج أمة ومأجوج أمة , كل أمة أربعمائة أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه , كل قد حمل السلاح. قلت يا رسول الله صفهم لنا ؟ قال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز , وهي شجر بالشام وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى , ولا يمرون بشيء إلا أكلوه , مقدمتهم بالشام ومؤخرتهم بخراسان , يشربون أنهار المشرق والمغرب.

وقال وهب ومقاتل : إنهم من ولد يافث بن نوح أب الترك.

وقال السدي : هم نادرة من ولد آدم , وذلك ان آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب , فخلق الله من ذلك الماء والتراب يأجوج ومأجوج , فهم متصلون بنا من طرف الأب دون الأم .. انتهى وهو بعيد.

وأما سد ذي القرنين فقال أمين الإسلام الطبرسي : قيل: إن هذا السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرها البحر المحيط. وقيل : أنه من وراء دربند وخزر من ناحية أرمينية وآذربيجان.

وجاء في الحديث : أنهم يدأبون في حفر السد نهارهم حتى إذا أمسوا وكادوا يبصرون شعاع الشمس قالوا نرجع غداً ونفتحه ولا يستثنون فيعودون من الغد وقد استوى كما كان , حتى إذا جاء وعد الله – يعني خروج القائم عليه السلام – قالوا غداً نفتح ونخرج إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس , فيخرقونه فيخرجون على الناس فينشفون المياه , فتحصن الناس في حصونهم فراراً منهم فيرمون سهامهم إلى السماء , فترجع وفيها كهيئة الدماء , فيقولون قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء , فيبعث الله عليهم بققاً في أقفائهم , فتدخل في آذانهم فيهلكون بها ودواب الأرض تسمن من لحومهم.

وفي تفسير الكليني : إن الخضر وإلياس يجتمعان في كل ليلة على ذلك السد , يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج.

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:15 PM
صاحب الجنتين

* منح الله أحد الرجال مالاً وفيراً وأرضاً شاسعة تَجود بالخيرات , وكان لهذا الرجل ولدان تختلف طباعُهما , وتتباين آراؤهما , فالأول كريم يحب الفقراء والمساكين , ويساعدهم كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً , والثاني متعال لا يساعد فقيرا أو محتاجاً , ويسخر من إقبال أخيه على المساكين والفقراء .
شبَ الولدان , وبلغا مبلغ الرجال وهما إلى جانب أبيهما يُساعدانه في إدارة الأعمال وجني الأرباح التي كانت تُغلها الأرض وغيرها من أملاك أبيهما , وتمر الأيام , وتتوالى السنين , فتزداد ثروة الأب , وتصبح الأرض بساتين تَجود بكل أنواع الثمار والخيرات , ويتقدم العمر بالأب , ثم يمرض ويموت مخلفاً لهذين الأخوين كل ما جناه في حياته الطويلة , فيتقاسمان الميراث , ويستقل كل واحد عن الآخر , وينفرد بتدبير أمره .

......................................

ولم يكن بُدٌ من أن يترك اختلافهما في الطباع والآراء آثاراً واضحة قوية في تصرفات كل منهما , فقد كان الأول يشعر بما يشعر به الفقير والمعدوم , أما الثاني فكان في كل يوم تُشرق عليه الشمس يَشتدُّ حرصاً على المال , وطمعاً في زيادته .

....................................

أَخذ الأول نصيبه من مال أبيه , فراح يبحث عن الفقراء والمساكين ليعطيهم مما أعطاه الله وأن الله أعطاه هذا المال ليمتحنه فيه ويختبره , وعلى هذا النحو الذي ليس فيه تكلف أو تظاهرٌ مضى هذا الأخ في سيرته يُعينُ المحتاج , ويعطي المحروم ويفك الأسير حتى لم يبق له من أمواله إلا ما يسدُّ حاجاته وحاجات أهل بيته .

...................................

أما أخوه فقد كان مُسرفاً في حب المال , والسعي وراء تكديسه , يسمع أنَّات المحرومين وأصوات الجائعين والمحتاجين فيتجاهلهما , ولا يَحفلُ بها , فتكدست الأموال , وهو بها فرح , وازداد بطراً وتكبراً على الناس .
وكي يأخذه البطر والغرور بما هو فيه , انهالت عليه الأموال , فكدسها في خزائنه , ورزق أولاداً كثيرين زادوه غروراً وتكبراً , وماكان هذا النعيم الذي غرق فيه ليغير شيئاً من طباعه , كانت معظم أموال هذا الأخ وثروته , تتدفق عليه من بساتين عظيمين , ومن بساتين الكروم , وقد جاد البستانان وما فيهما من زروعٍ بكل أنواع الثمر والفواكه__{{ واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخيل وجعلنا بينهما زرعاً * كلتا الجنتين آتت أُكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً }}__

................................

وأراد هذا الأخ المتكبر أن يسخر من أخيه , فأخذه من يده , وأدخله إلى بستانه الذي ينصفه النهر , ونفسه تُنكر أن تبيد جنته لطول أمله وتمادي غفلته , فيقينه بالله مزعزع غير راسخ , وقال لأخيه إن هذه الجنة لن تهلك ولن تفنى ولن تتلف __{{ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً }}__
...............................

سمع أخوه المؤمن هذا الكلام , فوعظه : وقال له الله خلقك من نطفة وعدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال__{{ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً }}__ فإذا كنت كافراً بالله فإنني مؤمن موحد__{{ لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً }}__ولأنك كفرت بنعمة الله , ولم تشكرها , التي اعتقدت أنها لا تبيد ولا تفنى , قادر على أن يذهب ماء جنتك , ويجعله غائراً في الأرض فيفنى بستناك__{{ ولو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترنِ أنا أقل منك مالاً وولداً , فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً , أو يصبح ماؤها غوراً فلن نستطيع له طلباً }}__أسرف هذا الأخ في البخل وازدراء نعمة الله , وأسرف في إيثار نفسه وأولاده على كل شيء ,
وهذه الجنة التي كانت مَضرِبَ المثل في عظمتها وازدهارها , هذه الجنة التي حرم الفقراء والمحتاجون من خيراتها ومالها , قد خوت من على عروشها محطمة مهشمة , وأصاب الهلاك كل ثمرها فلم يسلم منها شيء , وراح صاحبها يضرب إحدى كفيه على الأخرى ندماً وتحسراً على الأموال التي أنفقها عليها , وتذكر نصح أخيه__{{وأحيط بثمره فأصبح يُقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً , ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وماكان منتصراً , هنالك الولاية لله الحق هو خيرٌ ثواباً وخير عقباً }}__

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:16 PM
قصة بقرة بني اسرائيل

قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .


قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي وغير واحد من السلف: كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخا كبيرا وله بنو أخ وكانوا يتمنون موته؛ ليرثوه فعمد أحدهم فقتله في الليل، وطرحه في مجمع الطرق ويقال: على باب رجل منهم. فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى عليه السلام، فقال موسى عليه السلام: أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به.
فلم يكن عند أحد منهم علم ، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عز وجل، فسأل ربه عز وجل في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة، فقال:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يعنون؛ نحن نسألك عن أمر هذا القتيل وأنت تقول هذا. قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

أي؛ أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي. وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه.
قال ابن عباس وعبيدة ومجاهد وعكرمة والسدي وأبو العالية وغير واحد: فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. وقد ورد فيه حديث مرفوع، وفي إسناده ضعف، فسألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم، وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في "التفسير".
والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان؛ وهي الوسط بين النصف الفارض وهي الكبيرة والبكر وهي الصغيرة. قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة. ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها فأمروا بصفراء فاقع لونها أي مشرب بحمرة تسر الناظرين، وهذا اللون عزيز. ثم شددوا أيضا فقالوا:

ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه: لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا وفي صحته نظر والله أعلم. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ

وهذه الصفات أضيق مما تقدم حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول وهي المذللة بالحراثة وسقى الأرض بالسانية مسلمة وهي الصحيحة التي لا عيب فيها. قاله أبو العالية وقتادة وقوله: لا شِيَةَ فِيهَا أي؛ ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها، فلما حددها بهذه الصفات وحصرها بهذه النعوت والأوصاف قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ويقال: إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه فطلبوها منه فأبى عليهم فأرغبوه في ثمنها حتى -أعطوه فيما ذكر السدي- بوزنها ذهبا فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات فباعها منهم فأمرهم نبي الله موسى بذبحها فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أي؛ وهم يترددون في أمرها. ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها، قيل: بلحم فخذها. وقيل: بالعظم الذي يلي الغضروف. وقيل: بالبضعة التي بين الكتفين، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى فقام وهو تشخب أوداجه، فسأله نبي الله: من قتلك؟ قال قتلني ابن أخي. ثم عاد ميتا كما كان، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي؛ كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له، كذلك أمره في سائر الموتى، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة، كما قال: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ .

يتبع ..

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:18 PM
قــارون

يروي لنا القرآن قصة قارون، وهو من قوم موسى. لكن القرآن لا يحدد زمن القصة ولا مكانها. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أو وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ وبعيدا عن الروايات المختلفة، نورد القصة كما ذكرها القرآن الكريم.

يحدثنا الله عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز، كان يصعب حملها على مجموعة من الرجال الأشداء. ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال، فكيف كانت الكنوز ذاتها؟! لكن قارون بغى على قومه بعد أن آتاه الله الثراء. ولا يذكر القرآن فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم. وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء. وربما بغى عليهم بغير هذه الأسباب.

ويبدو أن العقلاء من قومه نصحوه بالقصد والاعتدال، وهو المنهج السليم. فهم يحذروه من الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال، وينصحونه بالتمتع بالمال في الدنيا، من غير أن ينسى الآخرة، فعليه أن يعمل لآخرته بهذا المال. ويذكرونه بأن هذا المال هبة من الله وإحسان، فعليه أن يحسن ويتصدق من هذا المال، حتى يرد الإحسان بالإحسان. ويحذرونه من الفساد في الأرض، بالبغي، والظلم، والحسد، والبغضاء، وإنفاق المال في غير وجهه، أو إمساكه عما يجب أن يكون فيه. فالله لا يحب المفسدين.

فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي). لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال وأعماه الثراء. فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه.

وخرج قارون ذات يوم على قومه، بكامل زينته، فطارت قلوب بعض القوم، وتمنوا أن لديهم مثل ما أوتي قارون، وأحسوا أنه في نعمة كبيرة. فرد عليهم من سمعهم من أهل العلم والإيمان: ويلكم أيها المخدوعون، احذروا الفتنة، واتقوا الله، واعلموا أن ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون.

وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل القدرة الإلهية لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغراءها، وتحطم الغرور والكبرياء، فيجيء العقاب حاسما (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) هكذا في لمحة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.

وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار. فقال الذين كانوا يتمنون أن عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا: حقا إن الله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويوسع عليهم، أو يقبض ذلك، فالحمد لله أن منّ علينا فحفظنا من الخسف والعذاب الأليم. إنا تبنا إليك سبحانك، فلك الحمد في الأولى والآخرة


يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:24 PM
قصة لقمان

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ


هو لقمان بن عنقاء بن سدون ويقال لقمان بن ثاران حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي .
قال السهيلي : وكان نوبيا من أهل أيلة قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة ، وحكمة عظيمة ويقال : كان قاضيا في زمن داود عليه السلام فالله أعلم .
وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان عبدا حبشيا نجارا وقال قتادة : عن عبد الله بن الزبير قلت لجابر بن عبد الله : ما انتهى إليكم في شأن لقمان قال كان قصيرا أفطس من النوبة .
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة.

وقال الأوزاعي : حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد : لا تحزن من أجل أنك أسود ، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر .
وقال الأعمش عن مجاهد كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وفي رواية مصفح القدمين وقال : عمر بن قيس كان عبدا أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال : نعم
قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن أبي يزيد بن جابر قال : إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال : ألست عبد بن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالأمس قال : بلى قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني .

وقال ابن وهب أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة قال : وقف رجل على لقمان الحكيم فقال : أنت لقمان أنت عبد بني الحسحاس قال : نعم قال : فأنت راعي الغنم الأسود قال : أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من امرئ قال : وطء الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك قال : يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك قال : ما هو ؟ قال لقمان : غضي بصري ، وكفي لساني ، وعفة مطمعي وحفظي فرجي وقيامي بعدتي ووفائي بعهدي وتكرمتي ضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني فذاك الذي صيرني كما ترى.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا عمرو بن واقد عن عبدة بن رباح عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال يوما ، وذكر لقمان الحكيم فقال :
ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال ، ولكنه كان رجلا صمصامة سكيتا طويل التفكر عميق النظر لم ينم نهارا قط ولم يره أحد يبزق ، ولا يتنحنح ، ولا يبول ولا يتغوط ولا يغتسل ، ولا يعبث ، ولا يضحك ، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد وكان قد تزوج وولد له أولاد ، فماتوا فلم يبك عليهم وكان يغشى السلطان ، ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي ومنهم من زعم أنه عرضت عليه النبوة فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة لأنها أسهل عليه وفي هذا نظر والله أعلم وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره وروى ابن أبي حاتم و ابن جرير من طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر الجعفي عن عكرمة أنه قال : كان لقمان نبيا وهذا ضعيف لحال الجعفي.
والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيما وليا ولم يكن نبيا وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه ، وهو أشفق الناس عليه فكان من أول ما وعظ به أن قال يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فنهاه عنه وحذره منه.
وقد قال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان ؟ " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " ورواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به ثم اعترض تعالى بالوصية بالوالدين وبيان حقهما على الولد وتأكده وأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ

ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل فإن الله يسأل عنها ويحضرها حوزة الحساب ويضعها في الميزان كما قال تعالى

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وقال تعالى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ .

وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة ولو كان في جوف صخرة صماء لا باب لها ، ولا كوة أو لو كانت ساقطة في شيء من ظلمات الأرض أو السماوات في اتساعهما وامتداد أرجائهما لعلم الله مكانها

إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما تراءى للنواظر أو توارى كما قال تعالى وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وقال وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وقال عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة الصخرة التي تحت الأرضين السبع وهكذا حكي عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم وفي صحة هذا القول من أصله نظر ثم في أن هذا هو المراد نظر آخر فإن هذه الآية نكرة غير معرفة فلو كان المراد بها ما قالوه لقال : فتكن في الصخرة وإنما المراد فتكن في صخرة أي صخرة كانت كما قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان ثم قال يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ أي أدها بجميع واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها وما شرع فيها واجتنب ما نهي عنه فيها ثم قال وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي بجهدك وطاقتك أي إن استطعت باليد فباليد وإلا فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك ثم أمره بالصبر فقال وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه ولكن له العاقبة ولهذا أمره بالصبر على ذلك ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج وقوله إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ التي لا بد منها ولا محيد عنها وقوله وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك ويزيد بن الأصم وأبو الجوزاء وغير واحد : معناه لا تتكبر على الناس وتميل خدك حال كلامك لهم وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم قال أهل اللغة : وأصل الصعر داء يأخذه الإبل في أعناقها فتلتوي رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم.

وقوله وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا يعني : لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه ، ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الأرض بوطئك عليها ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولا فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك .
وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وفي الحديث الآخر إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله .
كما قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه فإنه لابد له أن يمشي فنهاه عن الشر ، وأمره بالخير فقال وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي لا تبتاطأ مفرطا ولا تسرع إسراعا مفرطا ولكن بين ذلك قواما كما قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ثم قال وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ يعني : إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك ، فإن أرفع الأصوات ، وأنكرها صوت الحمير.

وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل فإنها رأت شيطانا ولهذا نهي عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت وتخمير الوجه كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما رفع الصوت بالأذان وعند الدعاء إلى الفئة للقتال وعند الإهلال ونحو ذلك فذلك مشروع فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن من الحكم ، والمواعظ ، والوصايا النافعة الجامعة للخير المانعة من الشر وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه ، وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا ابن المبارك أنبأنا سفيان أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لقمان الحكيم كان يقول إن الله إذا استودع شيئا حفظه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل مذلة بالنهار . .

وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا ضمرة حدثنا السري بن يحيى قال لقمان لابنه : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك وحدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا ، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم وحدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال : وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفد الخردل فقال : يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر قال : فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي حدثنا أبين بن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن قال الطبراني : يعني الحبشي ، وهذا حديث غريب منكر.

وقد ذكر له الإمام أحمد ترجمة في كتاب الزهد ذكر فيها فوائد مهمة وفرائد جمة فقال : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن رجل عن مجاهد وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ قال : الفقه والإصابة في غير نبوة وكذا روي عن وهب بن منبه

وحدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيا.
وحدثنا أسود حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا.

وحدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك يعني ابن دينار قال : قال لقمان لابنه : يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة.




قصص لقمان الحكيم عليه السلام
قال تعالى في سورة لقمان : ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )).

( تفسير علي بن إبراهيم ) عن حماد قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عز وجل ؟ فقال: أما والله لقد أوتي لقمان الحكمة لا بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال , ولكنه كان رجلا قوياً في أمر الله متورعاً في الله عميق النظر طويل الفكر لم ينم نهاراً قط ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال , لشدة تستره , ولم يضحك من شيء قط ولم ينازع إنساناً قط ولم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا ولا حزن منها على شيء قط , وقد نكح من النساء وولد له الأولاد الكثيرة وقد مات أكثرهم إفراطاً فما بكى لأحد منهم , ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما , ولم يسمع قولاً من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمن أخذه ؟ وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء , وكان يغشي القضاة والملوك والسلاطين , فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ويرحم الملوك والسلاطين لعزتهم بالله وطمأنينتهم بذلك ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه وكان يداوي قلبه بالتفكر ويداوي نفسه بالعبر وكان لا يتكلم إلا فيما يعنيه. فبذلك أوتي الحكمة , وأن الله تعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقابلة: فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض وتحكم بين الناس ؟ فقال لقمان: لقد أمرني ربي فالسمع والطاعة , لأنه إن فعل بي ذلك أعانني وعلمني وعصمني وان هو خيرني قبلت العافية , فقالت الملائكة : يا لقمان لم قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين وأكثر فتناً وبلاءاً.

ثم ساق الحديث إلى قوله : فعجبت الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاءاً , فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه وخرج على الناس ينطق بالحكمة.

فلما أوتي الحكمة ولم يقبلها , أمر الله الملائكة فنادت داود بالخلافة , فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان , فأعطاه الله الخلافة في الأرض , وابتلي فيها غير مرة , وكل ذلك يهوي في الخطأ , فيقيه الله ويغفر له. وكان لقمان يكثر زيارة داود ويعظه بمواعظه , وكان يقول له داود عليه السلام طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية , وأعطي داود عليه السلام الخلافة وابتلي بالخطأ والفتنة.

فوعظ لقمان ابنه بالنار حتى تفطر وانشق , وكان فيما وعظه أن قال: يا بني انك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد , يابني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك وخذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها تكون عيالا على الناس , وصم صوماً يقطع شهوتك ولا تصم صياماً يمنعك من الصلاة أحب إلى الله من الصيام , يا بني إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير , فاجعل سفينتك فيها الإيمان واجعل شراعها التوكل واجعل زادك فيها تقوى الله , فإن نجوت فبرحمة الله وإن هلكت بذنوبك , يا بني إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً , يا بني خف الله خوفاً لو أتيت ببر الثقلين خفت أن يعذبوك , وارج الله رجاءاً لو وافيت القيامة بذنوب الثقلين ورجوت أن يغفر الله لك.

فقال ابنه : يا أبة وكيف أطيق هذا وإنما لي قلب واحد فقال يابني لو استخرج قلب المؤمن فشق , لوجد فيه نوران , نور للخوف ونور للرجاء , لو وزنا ما رجح أحدهما على الآخر مثقال ذرة , يابني لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها , فما خلق الله خلقاً هو أهون عليه منها , ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواباً للمطيعين ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.

وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: كان فيما أوصى به لقمان ابنه ناتان أن قال له يابني ليكن مما تتسلح به على عدوك فتصرع : المماسحة – أي المصادقة وإعلان الرضا عنه – ولا تزاوله بالمجانبة فيه , فيبدو له ما في نفسك فيتأهب لك , يابني اني حملت الجندل والحديد وكل حمل ثقيل فلم أحمل شيئاً أثقل من جار السوء , وذقت المرارات كلها فلم أذق شيئاً أمر من الفقر , يا بني اتخذ ألف صديق وألف قليل ولا تأخذ عدواً واحداً , والواحد كثير.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام :

تكثر من الإخوان ما سطعت انهم عماد إذا ما استنجدوا وظهور
وليس كثير ألف خل وصاحب وان عـدواً واحـداً لكثير

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال له : يابني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق إن الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره وأتاه رزقه ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة , والله تبارك وتعالى سيرزقه في الحالة الرابعة. وأما أول ذلك : فكان في رحم أمه يرزقه هناك في قرار مكين حيث لا يؤذيه حر ولا برد , ثم أخرجه من ذلك وأجرى له رزقاً من لبن أمه يكفيه به ويربيه من غير حول ولا قوة , ثم فطم من ذلك فأجرى له رزقاً من كسب أبويه ورأفة له من قلوبهما لا يملكان غير ذلك , حتى أنهما يؤثرانه على أنفسهما في أحوال كثيرة حتى إذا كبر وعقل واكتسب وضاق به أمره وظن الظنون بربه وجحد الحقوق في ماله وقتر على نفسه وعياله مخافة إقتار رزق وسوء يقين بالخلف من الله له في العاجل والآجل ّ فبئس العبد هذا يابني.

ثم قال: يا بني إن تك في شك من الموت فادفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك , وإن كنت في شك من البعث فادفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك , فإنك إذا نكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك , وإنما النوم بمنزلة الموت وإنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت , يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبتعد فتهان كل دابة تحب مثله وابن آدم لا يحب مثله لا تنشر برك إلا عند باغيه , يابني لا تتخذ الجاهل رسولا فإن لم تصب عاقلا حكيما يكون رسولك , فكن أنت رسول نفسك , فإذا تحيرتم في طريقكم فانزلوا وإذا شككتم بالقصد فقفوا وتوامروا وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه , فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله أن يكون عيناً للصوص أو يكون هو الشيطان الذي يحيركم , واحذروا الشخصين أيضاً إلا أن تروا ما لا أرى , فإن العاقل إذا بصر بعينه شيئاً , عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب , يابني فإذا جاء وقت الصلاة فلا تأخرها لشيء وصلها واسترح منها , فإنها دين , وصل في جماعة ولو على رأس زج ولا تنامن على دابتك , فإن ذلك سريع في دبرها وليس ذلك من فعل الحكماء إلا أن تكون في محل يمكنك التمدد لاسترخاء المفاصل وإذا قربت من المنزل فانزل عن دابتك وابدأ بعلفها قبل نفسك , وإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس وإذا أردت قضاء حاجة فابعد المذاهب في الأرض وإذا ارتحلت فصل ركعتين وودع الأرض التي حللت بها وسلم عليها وعلى أهلها , فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة , وإياك والسير من أول الليل وعليك بالتعريس والدلجة من لدن نصف الليل إلى آخره وإياك ورفع الصوت في مسيرك.

وقال أمين الإسلام الطبرسي : اختلف في لقمان :
فقيل : انه كان حكيما ولم يكن نبياً . عن ابن عباس وأكثر المفسرين
وقيل : انه كان نبياً.
وقيل : انه كان عبداً أسوداً حبشياً غليظ المشافر مشقوق الرجلين في زمن داود عليه السلام.
وقال له بعض الناس : ألست كنت ترعى الغنم معنا فمن أين أوتيت الحكمة ؟ قال: أداء الأمانة وصدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.
وقيل : انه كان ابن أخت أيوب.
وقيل : ابن خالته.

وعنه صلى الله عليه وآله : لم يكن لقمان نبياً ولكنه كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين , أحب الله فأحبه ومنّ عليه بالحكمة.
وذكر : أن مولى لقمان دعاه فقال: إذبح شاة فأتني بأطيب مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان , ثم أمره بذبح شاة فقال له: إئتني بأخبث مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان , فسأله عن ذلك فقال: إنهما أطيب شيء إذا طابا , وأخبث شيء إذا خبثا.

وروي : أن مولاه دخل المخرج فأطال الجلوس , فناداه لقمان : إنّ طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبد ويورث الباسور ويصعد الحراراة إلى الرأس , فاجلس هوناً وقم هوناً. قال : فكتب حكمته على باب الحشر.

وروي : أنه قدم من سفر فلقى غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي ؟ قال مات قال: ملكت أمري , قال: ما فعلت امرأتي ؟ قال: ماتت , قال: أجدد فراشي , قال: ما فعلت أختي ؟ قال: ماتت , قال: سترت عورتي , قال: ما فعل أخي ؟ قال: مات , قال: إنقطع ظهري.

وقيل له : ما أقبح وجهك , قال تعيب على النقش أو على فاعل النقش.

وروي : أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع , وقد ليّن الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت , فلما أتمها لبسها وقال نعم لبوس الحرب أنت , فقال الصمت حكمة وقليل فاعله , فقال له داود بحق ما سميت حكيما.

ومن حكمته أنه قال: يابني إن الناس قد أجمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولا من جمعوا له , وإنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجراً فأوفه عملك واستوف أجرك ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت , فكان حتفها عند سمنها. ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر , أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها . واعلم أنك ستسأل غداً إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع : شبابك فيما أبليته ؟ وعمرك فيما أفنيته ؟ ومالك مما اكتسبته ؟ وفيما أنفقته فتأهب لذلك وأعد له جواباً.

وقال لقمان : لأن يضر بك الحكيم فيؤذيك , خير من يدهنك الجاهل بدهن طيب , يابني لا تطأ أمتك ولو أعجبتك وانه نفسك عنها وزوجها , يابني لا تفشين سرك إلى امرأتك ولا تجعل مجلسك على باب دارك , يابني تعلمت سبعة آلاف من الحكمة , فاحفظ منها أربعاً وسر معي إلى الجنة : أحكم سفينتك فإن بحرك عميق , وخفف حملك فإن العقبة كؤد , وأكثر الزاد فإن السفر بعيد , وأخلص العمل فإن الناقد بصير.

(بيان التنزيل) لابن شهر آشوب قال: أول ما ظهر من حكم لقمان أن تاجراً سكر وخاطر نديمه أن يشرب ماء البحر كله وإلا سلم إليه ماله وأهله ! فلما أصبح وصحا ندم وجعل صاحبه يطالبه بذلك ! فقال لقمان : أنا أخلصك بشرط أن لا تعود إلى مثله , قل له: إشرب الماء الذي كان فيه وقت إفادتي به أو اشرب ماءه الآن ؟ فسد أفواهه لأشربه , أو اشرب الماء الذي يأتي به فاصبر حتى يأتي فأمسك صاحبه عنه.

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:26 PM
يأجوج ومأجوج

اسمان أعجميان ، وقيل : عربيان
وعلى هذا يكون اشتقاقهما من أجت النار أجيجا : إذا التهبت . أو من الأجاج : وهو الماء الشديد الملوحة ، المحرق من ملوحته ، وقيل عن الأج : وهو سرعة العدو. وقيل : مأجوج من ماج إذا اضطرب،ويؤيد هذا الاشتقاق قوله تعالى ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) ، وهما على وزن يفعول في ( يأجوج ) ، ومفعول في ( مأجوج ) أو على وزن فاعول فيهما

هذا إذا كان الاسمان عربيان ، أما إذا كانا أعجميين فليس لهما اشتقاق ، لأن الأعجمية لا تشتق

وأصل يأجوج ومأجوج من البشر من ذرية آدم وحواء عليهما السلام . وهما من ذرية يافث أبي الترك ، ويافث من ولد نوح عليه السلام . والذي يدل على أنهم من ذرية آدم عليه السلام ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يقول الله تعالى : يا آدم ! فيقول لبيك وسعديك ، والخير في يديك . فيقول اخرج بعث النار . قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين . فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ). قالوا : وأينا ذلك الواحد ؟ قال : ( ابشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف) رواه البخاري

وعن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، وأنهم لو أرسلوا إلى الناس لأفسدوا عليهم معايشهم، ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ) ه

صفتهم

هم يشبهون أبناء جنسهم من الترك المغول، صغار العيون ، ذلف الأنوف ، صهب الشعور، عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة ، على أشكال الترك وألوانهم . وروى الإمام أحمد : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب ، فقال ( إنكم تقولون لا عدو ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج : عراض الوجوه ، صغار العيون ، شهب الشعاف ( الشعور ) ، من كل حدب ينسلون ، كأن وجوههم المجان المطرقة) .

وقد ذكر ابن حجر بعض الاثار في صفتهم ولكنها كلها روايات ضعيفة ، ومما جاء فيها أنهم ثلاثة أصناف

صنف أجسادهم كالأرز وهو شجر كبار جدا

وصنف أربعة أذرع في أربعة أذرع

وصنف يفترشون آذانهم ويلتحفون بالأخرى

وجاء أيضا أن طولهم شبر وشبرين ، وأطولهم ثلاثة أشبار

والذي تدل عليه الروايات الصحيحة أنهم رجال أقوياء ، لا طاقة لأحد بقتالهم، ويبعد أن يكون طول أحدهم شبر أو شبرين. ففي حديث النواس بن سمعان أن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بخروج يأجوج ومأجوج ، وأنه لا يدان لأحد بقتالهم، ويأمره بإبعاد المؤمنين من طريقهم ، فيقول لهم ( حرز عبادي إلى الطور) ه

أدلة خروجهم

قال تعالى ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ) الأنبياء:96-97

وقال تعالى في قصة ذي القرنين ( ثم أتبع سببا . حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا. قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا . قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا . وتركنا بعضهم يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ) الكهف : 92- 99

وهذه الآيات تدل على خروجهم ، وأن هذا علامة على قرب النفخ في الصور وخراب الدنيا، وقيام الساعة

وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا يقول ( لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ( وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها ) قالت زينب بنت جحش : فقلت يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم ، إذا كثر الخبث )ه

وجاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه وفيه ( إذا أوحى الله على عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أولئك على بحيرة طبرية ، فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب إلى الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف( دود يكون في أنوف الإبل والغنم ) في رقابهم فيصبحون فرسى ( أي قتلى ) كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ) رواه مسلم وزاد في رواية – بعد قوله ( لقد كان بهذه مرة ماء ) – ( ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر ، وهو جبل بيت المقدس فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما )ه

وجاء في حديث حذيفة رضي الله عنه في ذكر أشراط الساعة فذكر منها ( يأجوج ومأجوج ) رواه مسلم

سد يأجوج ومأجوج

بنى ذو القرنين سد يأجوج ومأجوج ، ليحجز بينهم وبين جيرانهم الذين استغاثوا به منهم. كما قال تعالى ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا. قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) الكهف

هذا ما جاء به الكلام على بناء السد ، أما مكانه ففي جهة المشرق لقوله تعالى ( حتى إذا بلغ مطلع الشمس ) ولا يعرف مكان هذا السد بالتحديد

والذي تدل عليه الآيات أن السد بني بين جبلين ، لقوله تعالى ( حتى إذا بلغ بين السدين ) والسدان : هما جبلان متقابلان. ثم قال ( حتى إذا ساوى بين الصدفين) ، أي : حاذى به رؤوس الجبلين وذلك بزبر الحديد، ثم أفرغ عليه نحاس مذابا ، فكان السد محكما

وهذا السد موجود إلى أن يأتي الوقت المحدد لدك هذا السد ، وخروج يأجوج ومأجوج، وذلك عند دنو الساعة، كما قال تعالى ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا . وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ) الكهف

والذي يدل على أن هذا السد موجود لم يندك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه، قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدا . قال : فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان ، حتى إذا بلغوا مدتهم، وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس ، قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله تعالى، واستثنى. قال : فيرجعون وهو كهيئته حين تركوه ، فيخرقونه ويخرجون على الناس ، فيستقون المياه ، ويفر الناس منهم ) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:28 PM
قابيل وهابيل

ورد ذكر القصة في سورة المائدة الآيات 27-31

يروي لنا القرآن الكريم قصة ابنين من أبناء آدم هما هابيل وقابيل. حين وقعت أول جريمة قتل في الأرض. وكانت قصتهما كالتالي.



كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا. وفي البطن التالي ابنا وبنتا. فيحل زواج ابن البطن الأول من البطن الثاني.. ويقال أن قابيل كان يريد زوجة هابيل لنفسه.. فأمرهما آدم أن يقدما قربانا، فقدم كل واحد منهما قربانا، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل. قال تعالى في سورة (المائدة):

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَإِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) (المائدة)

لاحظ كيف ينقل إلينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد، ويتجاهل تماما كلمات القاتل. عاد القاتل يرفع يده مهددا.. قال القتيل في هدوء:

إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) (المائدة)



انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقتا. بعد أيام.. كان الأخ الطيب نائما وسط غابة مشجرة.. فقام إليه أخوه قابيل فقتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل". جلس القاتل أمام شقيقه الملقى على الأرض. كان هذا الأخ القتيل أول إنسان يموت على الأرض.. ولم يكن دفن الموتى شيئا قد عرف بعد. وحمل الأخ جثة شقيقه وراح يمشي بها.. ثم رأى القاتل غرابا حيا بجانب جثة غراب ميت. وضع الغراب الحي الغراب الميت على الأرض وساوى أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الأرض بمنقاره ووضعه برفق في القبر وعاد يهيل عليه التراب.. بعدها طار في الجو وهو يصرخ.

اندلع حزن قابيل على أخيه هابيل كالنار فأحرقه الندم. اكتشف أنه وهو الأسوأ والأضعف، قد قتل الأفضل والأقوى. نقص أبناء آدم واحدا. وكسب الشيطان واحدا من أبناء آدم. واهتز جسد القاتل ببكاء عنيف ثم أنشب أظافره في الأرض وراح يحفر قبر شقيقه.

قال آدم حين عرف القصة: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) وحزن حزنا شديدا على خسارته في ولديه. مات أحدهما، وكسب الشيطان الثاني. صلى آدم على ابنه، وعاد إلى حياته على الأرض: إنسانا يعمل ويشقى ليصنع خبزه. ونبيا يعظ أبنائه وأحفاده ويحدثهم عن الله ويدعوهم إليه، ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه. ويروي لهم قصته هو نفسه معه، ويقص لهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه.

يتبع ...

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:29 PM
حوار بين الرب سبحانه وتعالي .. والملائكة

قبل خلق آدم عليه السلام حدث حوار سماوي عظيم بين الرب سبحانه وتعالى والملائكة عليهم السلام قال تعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) }البقرة. والخليفة هو الذي ينتج ويترك وراءه خلف تلو خلف ، وخليفة إيضا نائب ، أبو بكر خليفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعني ناب عنه بعد وفاته ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى فالله سبحانه وتعالى أراد ان يجعل خليفة يحكم الأرض ويعمر ها ، يريد هذه الأرض أن تعمر .

فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في احسن تقويم صورة سبحانه احسن الصور ونفخ فيه من روحه فسألت الملائكة الرب عز وجل { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (30) } البقرة. كبف عرفت الملائكة إن آدم وذريته يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، ما قالوا هذا على وجه الاعتراض ، كلا حاشاهم ، وانما قالوا على وجه الاستفسار يسألون بعدما رأوا من صنع الجن في الأرض ، فالله -سبحانه وتعالى- خلق الجن وأعطاهم التخيير ففسدوا وفسقوا في الأرض والآن سيخلق خلق آخر في الأرض لعله سيفسد كما أفسد الجن أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما فعل الجن يعني هذا معنى الآية فمستغربين وخشوا آن يكونوا قصروا في عبادة الله عز وجل فأرادوا آن يسألوا هل نحن قصرنا حتى تخلق خلقا غيرنا ولذلك جاء في كلامهم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك يعني نحن هل قصرنا في تقديسنا وتسبيحنا حتى تخلق خلقا غيرنا إذا السؤال من جانبين هل ستخلق خلقا يفسدون في الأرض كما فعل الجن وهل نحن قصرنا حتى تخلق خلقا غيرنا هذا معنى الآيات . والله سبحانه وتعالى رد عليهم قال { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30) } هنا تحدث الملائكة بينهم فقالوا ليخلق هنا ما شاء فلن يخلق خلقا إلا كن اكرم على الله منه وأعلم ، ويعلمون انهم الوحيدون الذين يسبحون الله تعالى لا يفترون ويفعلون ما يأمرون ويتحملون التكاليف من الله سبحانه وتعالى وينفذون أمره في السموات والأرض وهم أكرم الخلق عند الله عز وجل فقالوا لن يخلق الله تعالى خلقا إلا كن أكرم على الله منه وأعلم عند الله سبحانه وتعالى

mr.cOoOl
18-07-2008, 11:36 PM
وفي النهاية أرجو أن ينال الموضوع إعجابكم

أنا أدري أن الموضوع ضخم جداً ويصعب قراءته, ولكن يمكن اعتباره كمرجع.
وكما لاحظتم لقد قمت بتقسيم القصص في ردود مستقلة لتسهيل البحث وقراءة القصة المرادة.

بالطبع جميع القصص منقولة من مواقع مختلفة، أحببت أن أجمعها لكم في موضوع واحد، وعذراً للمشرفين إذا كان الموضوع ضخم جداً

والسلام ختام :ciao: