المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر و نثر Prof. Ahmad al-Hawary - Modernist Iraqi poetry



Ahmad Hawary
21-08-2008, 01:26 AM
لم يعد خافياً اليوم أن انفجار زمنية العصر الحديث وسرعة إيقاعها، والإرباك الذي لحق الحياة جراء ذلك أثر تأثيراً مباشراً على الإنسان المعاصر، كما أثر على طرائق عيشه وعلى الفلسفة والفن والعلم والرؤى التي يفكر بها ويعيش من خلالها، وقد تسلل ذلك الانفجار والشعور بسرعة زوال الأشياء والظواهر التي كان التغيير يداهمها إلى كل شيء، ولا سيما في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، مما جعل هذه العوامل تنتزع من الناس ذلك الشعور بالديمومة الذي كان يميز الفترات التي اتصفت بالاطمئنان وبطء التغير، فقد تحطمت التشكيلات القديمة في جميع مجالات الحياة، حتى صارت الاندفاعية التي أعقبت الثبات النسبي للماضي تفرز أشكالاً جديدة تتبلور بسرعة، ولكنها لا تلبث أن تذوب مرة أخرى في التيار(1)
وعلى مستوى الأدب، وفي عصر متغير كهذا لا بد من انبثاق بنىً فنية ـ شعرية جديدة مغايرة لما هو سائد، ومن طبيعة السياق التاريخي الذي يعمل به الشعر يمكن ملاحظة كيف كان الوزن والقافية هما مركز المغايرة الشعرية لقصيدة الرواد، وكيف كانت اللغة والشكل بوصفه أحد مستويات اللغة مركز المغايرة الشعرية لقصيدة الستينات، وكيف كان الإيقاع مركز المغايرة الشعرية في المدى اللاحق ولا سيما بعد أن هزت قوانين حركة التغير قوانين عمل القصيدة فأدخلت الشعر في مواضعة شعرية جديدة، وكان جيل الستينات أكثر توازناً في التجريب الشعري الذي طال أنظمة التفعيلة واللغة والشكل كما كان أقل اندفاعاً في المغامرة بهذا الميدان.(2) على أن اشتغال الأجيال المثابر في مشروع التنقيب ومحاولات التطوير نتج عنه تعدد الأشكال البنائية للقصيدة العربية الحديثة وتنوعها وثراء النصوص الجيدة منها، وقد عمل شعر التفعيلة في النصف الثاني من القرن العشرين على ارتياد آفاق تجريبية هدفها إغناء وتعميق وعي التجديد الذي بدأته نازك الملائكة، وعدم الوقوف في منعطفات السكونية الخطرة، فكان الالتفات إلى ذلك بصيغ متعددة منها الحدّ من جهرية الموسيقى الذي يقابله تنمية الإيقاع داخل اللغة، وتفجير بنية اللغة مقابلاً لتبديد أنظمة الدلالة، وتجاوز وحدة التفعيلة تنويعاً لمستويات الأداء، وتوسيع حقل الرؤية بإطلاق فضاء الرؤيا...(3)
وقد آزر ذلك انفتاح الشعر على الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، وفي طليعتها السرد والدراما والفنون التشكيلية وآليات فن السينما، وما أفرزه ذلك التداخل الأجناسي من ظواهر فنية في الشعر خاصة.
إن نظرية الأجناس الأدبية والفنية في فروعها المختلفة، قد بدأت تتزعزع نتيجة اهتزاز الأساس الفلسفي الذي انبنت عليه، وهو النظر العقلي والمعيار المنطقي الذي كان من نتائجه تفتيت الموقف الإنساني تجاه الأشياء، لكن هذا المعيار ما لبث أن انتهى على يد (كانت) الذي جعل من الرؤيا الإنسانية مركزاً للوجود ومفسراً له، وأصبحت المعرفة هي هذه الرؤيا الإنسانية التي تتمثل نتيجة للوعي الإنساني بالأشياء...(4) على أن حركة أخرى عملت على اهتزاز نظرية الأجناس في أصولها الأولى متمثلة في هجرة مفهوم (الشعرية..) من التشكيل اللغوي إلى مختلف الفنون الإبداعية الأخرى، ولعل ذلك يعود إلى محاولة المبدع أنسنة الأشياء والجمادات المحيطة به، وذلك بمنحها البعد الإنساني الذي ينتشلها من جمود المادة وجفائها إلى حيوية الحياة وإشراق الوعي الإنساني بها، ومن هنا سرت الروح الشعرية في مختلف الفنون، وصار الحوار الجدلي بين الشعر وسائر الميادين أمراً ممكناً، وأصبح الشعر حريصاً على الإفادة من التداخلات الأسلوبية والفنية التي تهدف إلى الكشف عن أبعاد الرؤيا بشموليتها وعمق أبعادها، فمسألة التراسل بين الفنون إذن إنما هي محاولة للوصول إلى عمل إبداعي مفتوح يستثمر عناصر شتى تزيده ثراءً وعمقاً وأمانة مع التجربة...(5)
لقد امتلك الشعر العراقي خصوصيته في التجربة الشعرية العربية في الربع الأخير من القرن العشرين، وذلك لعنف السياق الخارجي الذي هز حياة الإنسان العراقي في حربين ضاريتين، وشمولية ذلك العنف الذي طال بنى الحياة جميعها مما أخضع كلّ شيء لتحولات كبرى، وكان من الطبيعي أن يكون الفن والشعر في طليعتها حيث راح الشاعر يبحث عن ذلك الشكل الشعري القادر على استيعاب تجربة العذاب الكبرى التي يخوضها ضد قوى عاتية تشتغل على أهداف محددة ومرسومة، مهمتها المركزية تخريب البؤر الأساسية في الفكر العربي بغية استسلامه لصالح تنفيذ برامجها في العولمة، فكان على القصيدة الجيدة أن تتسلح بطاقاتها الإبداعية كلها من أجل التعبير عن الداخل في مواجهة الخارج، لذلك وجدناها وقد تفاعل فيها اليومي بالذهني، والبصري بالسمعي، والتشكيلي بالشعري، والسردي بالمشهدي، والنثري بالوزني...(6) بحيث تمكنت من النهوض بتلك التجربة العنيفة القائمة على أسطرة التداخل المدهش بين تناقضات المشاعر الإنسانية حزناً وفرحاً ويأساً وأملاً وتشبثاً مبدعاً بالحياة وسط ركام الصواريخ وأمشاج الدم.
من هنا فقد انفتح النص الشعري على الأساليب والفنون معاً، وبالرغم من كون الأدب سابقاً للسينما بآلاف السنين إلا أنهما أصبحا فنين متجاورين، فهما من نتاج الفكر الإنساني المبدع، تجمع بينهما سمات وتفرق بينهما أخرى، لكنّ علاقة حميمة ما تنفك تجمع بين الفنين، تلك هي الكلمة المكتوبة..(7) ويؤكد دارسو هذا الفن أنّ للسينما مدىً تعبيرياً غير اعتيادي فهي تشترك مع الفنون التشكيلية في حقيقة كونها تشكيلاً مرئياً يسقط على سطح ذي بعدين، ومع الرقص في قدرتها على معالجة الحركة المنسقة ومع المسرح في قدرتها على خلق كثافة درامية للأحداث، ومع الموسيقى في قدرتها على التأليف في إطار الإيقاع والجمل الزمنية، ومع الشعر في قدرتها على وضع الصور إلى جانب بعضها، ومع الأدب قدرتها على الإحاطة بالتجريد المعروف في اللغة عموماً عن طريق الشريط الصوتي..(8)
إن مجموع التقنيات السينمائية التي أثرت في الشعر العربي الحديث دعت الشاعر إلى ضرورة أن يكون مخرجاً جيداً لنصه وإذا كان الإخراج واحداً من أهم الفنون السينمائية في القرن العشرين فإنه سيكون أحد المعالم الرئيسة لفنون القرن الحادي والعشرين حيث ستمتزج هذه الفنون بعضها ببعض وتختفي الحواجز الفاصلة فيما بينها أو تكاد، لتكون في مجموعها فناً شاملاً تشترك فيه اللوحة والكلمة والموسيقى والحركة، وهي في كل ذلك تحتاج إلى يد المخرج الماهر لتصنع اللمسات الأخيرة على ذلك التناغم المبدع..(9)
ويتفق الشاعر المخرج على تحقيق هدف واحد هو العمل على إثارة المتلقي قصد الانفعال بالعمل الفني من خلال الصور التي يشكلها كلا الفنين ومحاولة استكناه تلك الصور جمالياً ودلالياً. إن تقنيات الآلة الحديثة ومنجزها الفني في السينما استطاع أن يؤثر على الشعر الحديث من خلال أبعاد واضحة يمكن تلخيصها ببعض الإشارات، منها الإفادة من تقنية الكاميرا وما يتبع ذلك من مونتاج حيث توظف تقنيتا القطع والوصل معاً من أجل تشييد صورة معينة، وتعد القصائد المشهدية خير مثال على ذلك وهي القصائد التي تتكون من مجموعة مقاطع مرقمة أو معلّمة، وعند الشعراء الذين وعوا هندسة القصيدة في ضوء الفن السينمائي وكتبوها بمقصدية مؤشرة نجد فنوناً أخرى تدخل حيز الشعر كالسيناريو والديكور، ومثال ذلك قصيدة الشاعر كاظم الحجاج بعنوان (مساء داخلي..) مثبتاً إزاء العنوان وبالمستوى الطباعي ذاته: قصيدة سيناريو، ويُعرّف السيناريو بأنه قصة تُروى بالصور والصور المتحركة هي وسط مرئي ينقل على نحو درامي الأحداث الرئيسة في قصة ما، وبغض النظر عن نوع القصة لا بد أن يكون للسيناريو بداية ووسط ونهاية..(10) ويعمل السيناريو على وصف الأحوال والإشارات، وهو الذي يعطي الإرشادات والإيعازات لتقطيع المنظر وحركية الكاميرا والأصوات واستخدام الموسيقى وتفاصيل فنية أخرى..(11) فالسيناريو إذاً نظام يتكون من بدايات ونهايات ومواضع حبكة ولقطات ومؤثرات ومشاهد وتتابعات بحيث تكون عناصر القصة مرتبة بطريقة معينة تتكثّف بصرياً وتخلق وحدة كاملة تقدم قصة تروى بمجموعة من الصور تتبدّى لنا من خلال عنصرين مهمين هما: المشاهد والتتابع، فالمشهد هو العنصر الأكثر أهمية في النص لأنه الوحدة المحددة للفعل، وهو المكان الذي تُروى فيه القصة، والمكان أنواع داخلي وخارجي وبيني، أما التتابع فهو العمود الفقري للنص لأنه جامع أجزائه كلها، فهو السلسلة التي تربط المشاهد ببعضها عبر فكرة واحدة...(12) فمشاهد القصيدة السيناريوية إذن تتشكل من مشاهد متتابعة ومتباينة، وتعتمد على اللقطة التي ترتبط بخيط دلالي مع اللقطة السابقة لها واللاحقة بها، وهذا الخيط الدلالي الذي يربط مشاهد القصيدة ولقطاتها جميعاً هو عنوان وحدتها العضوية التي صارت مع انفراط منظومات الدلالة ـ تتشكل بطرائق جديدة أكثر خفاءً وأشدّ إيغالاً في النص مما كانت عليه، بحيث تنتهي المشاهد إلى شريط شعري يقابل الشريط السينمائي.
وللتشكيل المشهدي في شعر التفعيلة أهمية خاصة لما ينطوي عليه المشهد الجيد من قدرة على الاختصار والتكثيف، ويتحدد في السيناريو نمطان من السرد: سرد ذاتي وسرد موضوعي، وفي السرد الذاتي نتتبع القصة في السيناريو من خلال عدسة آلة التصوير، فهي الراوي الذي يرى من خلال وجهة نظر محددة..(13) وهذا الراوي هو الذي يلتقط الصور التي يتشكل منها المشهد، وهو الذي يعمل على ضبط التحولات في الزمان والمكان عبر المشاهد المتتابعة في القصيدة، وفضلاً عن اهتمامه ذاك بالصور البصرية وعمليات التوليف والقطع، فإنه يهتم بتنمية المستويات السردية والحوارية داخل الخطاب الشعري، على أن القصيدة الحديثة لا تسلك في ذلك طريقاً أحادياً أو سلبياً من خلال التماهي مع الخطاب السينمائي ومحاكاته، بل هي تمارس تأثيراً إيجابياً على لغة ذلك الخطاب التي صارت تشف عن طاقات شعرية خصبة مكتسبة من ذلك التفاعل الدائم بالمعطى الشعري..(14) يوحي عنوان قصيدة الحجاج(15) بشطره الأول (مساء داخلي) أنّ المشاهد المصورة من قبل الكاميرا الشعرية التقطت مساءً وأن الأحداثتجري في فضاء ضبابي أقرب إلى الليل، فمنذ اللقطة الأولى وحتى النهاية تنكشف صور ذلك المساء (الداخلي) إشارة إلى أنّ المشاهد التقطت داخل بيت أو غرفة أو صالة، وإن تجاوزت الكاميرا ذلك الداخل لترصد الهلال وسط السماء فإن تأطير المشهد الخارجي بفتحة النافذة حسب ما يؤكد أن اللقطة نُفذت من الداخل، أما الشطر الثاني من العنوان (قصيدة سيناريو) فهو إشارة إلى مقصدية النص في اعتماده تقنية معينة بوعي يطرح الحدث من خلال مشاهد تترى في شريط شعري.


الهوامش:
(1) ينظر: الزمن والرواية، أ. أ، مندلاو، ترجمة: بكر عباس؛ ص 10ـ 11، دار صادر ـ بيروت، ط1، 1997.
(2) ينظر: الكتابة بأفق آخر، مقاربات ميتا ـ نقدية، عباس عبد جاسم: ص 9، منشورات الغسق، بابل، ط1، 2000.
(3) المصدر نفسه: ص 11.
(4) ينظر: الكتابة خارج الأقواس، دراسات في الشعر والقصة، سعيد مصلح السريحي: ص 67، نادي جازان الأدبي، جدة، ط1، 1986.
(5) المصدر نفسه: ص 67ـ 69.
(6) ينظر: هجرة النص، عنف التجربة وجماليات النهج الشعري، د. محمد صابر عبيد، مجلة الأقلام، 6/ 2001: ص 7.
(7) ينظر: الأدب والسينما، ملف الأقلام، مجلة الأقلام، 2/ 2001: ص 49.
(8) ينظر: فهم السينما، لوي دي جانيتي، ترجمة: جعفر علي: ص 11، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981.
(9) ينظر: فن الإخراج، زيغموند هييز، ترجمة، د. محمد هناء متولي، ملحق مجلة الثقافة الأجنبية، 1980: ص 124.
(10) ينظر: السيناريو، سدفيلد، ترجمة سامي محمد، ص 23، دار المأمون للترجمة والنشر، 1989.
(11) ينظر: حول صنعة كتابة السيناريو، كورت هانكو تبرود، ترجمة إقبال أيوب، دراسة منشورة ضمن كتاب: فن كتابة السيناريو: ص 13، دار الشؤون الثقافية العامة، كتاب الثقافة الأجنبية، 1986.
(12) ينظر: السيناريو، مصدر سابق: ص 103ـ 104.
(13) ينظر: سردية السيناريو بين السرديات الأدبية والسرديات الصورية، د. طه حسين الهاشمي، مجلة الأقلام، 2/ 2001: ص 62.
(14) بين الخطاب السينمائي والخطاب الشعري، القصيدة وتقنيات السيناريو: فاضل ثامر، مجلة الأدب المعاصر، 46/ 1994: ص14.
(15) غزالة الصبا، كاظم الحجاج: ص 43،


Prof. Ahmad al-Hawary, Melborne

ahmad.hawary@aussiemail.com.au