المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حايك أمي



علاوي ياسين
12-10-2008, 07:39 PM
حايك أمي

http://www.7arakaat.com/up/files/cp2yerp8yu7zdxgwv7l8.jpg


لقد ماتت أمي، وشيعت جنازتها الملائكة، ورقصت لموتها الشياطين، وسال الدمع عن فراقها حتى امتلأت بحار الأحزان، ولم تسكت الثكلى من العويل حتى خرس اللسان...
عاشت أمي مع زوجها ستين سنة وبضعة شهور في ظل الجوع والعراء تحت سقف كوخ يُضاء ليلا بقنديل وشموع، سهرت الليالي الحالكات من أجل فلذات أكبادها فربتهم أحسن تربية، وماتت وهي بين حشد من أحفادها...

لقد عرفت أمي السعادة الحقيقية فامتلأ قلبها بالحب.. وهذا ما افتقدته امرأة اليوم.. لقد عاشت أمي من أجل غيرها.. رغم أن الحياة كانت مليئة بالمتاعب.. كانت أمي متجلدة بالصبر والحكمة...
كانت أمي عندما تنادي إخواني وكأني أسمع يا صاح لحن الحياة المشرقة؛ كان صوتها رخيما بمجرد ما تسمعه تعرف منه نسمة الحنان والحب.. لقد كانت جد هادئة في مناقشاتها.. في نزاهتها.. في علاقاتها مع الجيران والناس، وكانت علاقاتها مع كل أفراد العائلة جد طيبة.. كما كانت رقيقة المشاعر، تحس بكل من حولها؛ وأجمل ما كان في أمي قلبها الواسع.. وإن قلت لك يا صاح أنها كانت سعيدة بحياتها، قانعة راضية، حتى لو سألني سائل: ما هي السعادة؟ لأجبته: إنها أمي!
كانت أمي دائما تودع أبي بابتسامة حلوة على الباب قبل خروجه وهي تتفحص ثيابه وهندامه..
رغم أنها كانت أمية كانت وفية، متفهمة لدورها كزوجة، وأم، كانت جد واعية بالرسالة المنوطة بها قبل أي شيء آخرا.. لم تسمع أخبارا، ولا شاهدت مسلسلات، ولا عرفت تلفازا...
كانت أمي حتى في مرحلة حملها تتستر، لأنها كانت تعتبر هذه المرحلة ذات قدسية واحترام بدل أن تكون مرحلة نقاش مع أبنائها...
عجبا! يا صاح، لقد كانت أمي أثناء الخناقات مع أبي مطأطئة الرأس، لن تسمع لها صوتا مرتفعا.. كان غضبها صمتا! وانزعاجها سكونا! ورد فعلها كلمة طيبة يسجد لها كل جبار عنيد... كانت ابتسامة حلوة على شفتيها لا تتبدل ولا تتغير...

وبعد فترة من الزمن، أردت أن أبكي الأطلال فلم أجد حايك أمي! فانفجرت صرختي النبوءة: أين حايك أمي؟ أين حايك أمي؟ أين حايك أمي؟
ليس هناك من يجيبني في ليل دامس وسط الصحراء بين الضباب الكثيف؛ سرت لوحدي أحمل صرختي وأمشي بين الحفر إلى أن وصلت إلى قبر أمي فسقيت قبرها بدموعي وعكفت على قبرها أبكي الليالي الطوال.. وفجأة انشق قبر أمي بصوت لطيف: ما بك يا ولدي العزيز؟ أأبكي السؤال، أم أبكي سؤلي؟ أمّاه! ضاع الحايك؟
أمّاه! إن امرأة عصرنا تبرجت أكثر مما تبرجت نساء الجاهلية، كل فتاة لها خمسون خليلا، وأربعون مراسلا.. صدرها، وظهرها، وبطنها، وذراعاها، ورجلاها عارية.. وتجلس بجانبي، وأمامي، وورائي في القسم، وفي العمل، وتمشي في الشوارع والأسواق...
فجأة يا صاح سمعت بكاء أمي؛ لم تبكه في حياتها! فهيجت نوّاحي.. وبعد حين، سألتني: هل ماتوا آباءهم وأمهاتهم وكل أفراد عائلاتهم؟ أجبتها والخنين يؤثر عن كلامي: نعم يا أمّاه لقد ماتوا ولكنهم لازالوا يمشون بين الأحياء!

لقد زاحمت المرأة في عصرنا الرجل في حياته وعمله.. إلا أنها لم تنشد السعادة التي كانت تحلم بها.. لقد فقدتها كما فقدت حايك أمي...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: الحايك: إزار أبيض كانت المرأة في بلاد المغرب في المنطقة الشرقية تلتحف به حيث لا يظهر من جسدها سوى عين واحدة.



بقلم: علاوي ياسين