تهاويل
04-01-2002, 11:56 PM
مقال نشر بجريدة الأهرام القاهرية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدري أنها مغامرة أن يتصدى المرء للدفاع عن العرب الأفغان وهو العنوان
الذي اصبح سيئ السمعة وصار قرينة علي الضلوع في الإرهاب أو
الانتساب إليه لكني أبادر القول إنني أدافع عن إنسانيتهم وليس عن
أرائهم فضلا عن أفعالهم فأيا كان قدر جنوح بعضهم فذلك لا ينبغي ألا
ينسينا أنهم بشر وأناس لهم حق الكرامة والحياة وأنهم مواطنون لهم حق
الحماية ، وأنهم لنا بمثابة الأبناء الذين يتعين علينا أن نقوم من جنح منهم
وألا نلقي بهم إلي الجحيم ، أو نتركهم يلقون ذلك المصير ونحن ساكنون.
لا أعرف كم عددهم الآن :لكن معلوماتي أن عشرة آلاف شخص عبروا
الحدود الباكستانية إلي أفغانستان، في الفترة ما بين عامي 80 و90 وهذا
إحصاء باكستاني للذين قدموا من مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي
سواء للانضمام للعمل الجهادى أو للقيام بمهمة الإغاثة وحصلوا علي
تأشيرات دخول أوصلتهم إلي أفغانستان .
ولست هنا بصدد الوقوف أمام ما فعلوه أو ما نسب إليهم هنا أو هناك
بالحق أو بالباطل حيث أزعم أننا بصدد موقف يتطلب الاستعلاء فوق الآلام
والجراح وتختبر فيه مصداقية الوشائج الإنسانية والإسلامية فضلا عن
القومية إذ حين تستباح دماء هؤلاء بمظنة أنهم منبوذون حتى من أهلهم
وإخوانهم وأنه لا صاحب لهم ولا ظهير فيتعرضون للإبادة والتعذيب الوحشي
بعد وقوعهم في أسر قوات التحالف ، حينما يحدث ذلك فليس من المروءة
أن ندير ظهورنا له أو أن نشهر في وجوههم لوائح الاتهام إنما يفرض علينا
الاستعلاء فوق الجراح وأن نطالب باحترام إنسانيتهم وتطبيق بنود معاهدة
جنيف لحماية الأسري عليهم ومن ثم بالكف عن إلحاق الأذى الوحشي بهم
، ثم استعادتهم مع الاحتفاظ بالحق في محاكمة المسئولين عن ارتكاب أية
أعمال غير قانونية منهم طبقا لمبادئ العدالة الدولية .
لقد تابعنا خلال الأيام الماضية علي شاشات التلفزيون ومن خلال ما ينشر
في الصحف من صور جانبا مما يعانيه العرب الأفغان الذين وقعوا في
الأسر وبعض تلك الصور سجلت المسلسل كاملا ، منذ لحظة اسر العربي
الأفغاني ، إلي التجمهر حوله وتمزيق ثيابه والاعتداء عليه بالضرب إلي
سحله في الشوارع ثم إطلاق الرصاص عليه بعد ذلك وأحيانا إلي أن جاء
أحدهم بآلة حادة في يده وفتح فم القتيل ، ثم أدخل الآلة لكي ينتزع سنة
ذهبية من فمه.
غير أن الصورة التي هزتني وأشعرتني بقشعريرة مازالت تسري في
جسدي كلما تذكرتها هي تلك التي نشرتها " الأهرام " والصحف الأخرى
يوم الأربعاء 24/11 وكانت لواحد من عناصر التحالف الشمالي أمسك بثياب
عربي قتيل فرفع جثته قليلا من علي الأرض ثم راح يركل رأسه بحذائه
كما يركل اللاعب كرة القدم .
يوم ظهرت تلك الصورة البشعة نقلت وكالة رويترز من نيوزيلندا الخبر
التالي : بدأت حملة دولية لإنقاذ قط من نيوزيلندا تسلل إلي إحدى السفن
المتجهة إلي كوريا الجنوبية ثم نشرت صحيفة " تاراناكي " النيوزيلاندية أن
القط " كولنز " تسلل قبل أسبوعين إلي ناقلة راسية في ميناء "
تاراناكي " في حين أنه كان يعيش في رعاية أحد العاملين بالميناء منذ
تسع سنوات ، ولكن يبدو أن القط مل المكان الذي يعيش فيه فهرب إلي
الناقلة حيث دأب أحد أفراد طاقمها علي العناية به ولم يكتشف صاحبه أنه
لا يزال علي متنها إلا بعد إبحار الناقلة فأبلغ سلطات الميناء بذلك التي
أجرت اتصالات مع قيادتها لاستعادة القط ، واتسع نطاق الاتصالات لترتيب
نقله إلي أية سفينة أخري متجهة إلي نيوزلندا ومازالت الاتصالات الدولية
قائمة لضمان إعادة القط إلي صاحبه قبل وصول الناقلة إلي كوريا
الجنوبية .
حيث يخشى أن يحتجز في الحجر الصحي هناك الأمر الذي قد يسبب له
إيذاء نفسيا قد لا يحتمله .
لا يكاد المرء يفيق من تلك الصفعة حتى يتلقى واحدة أخري في صبيحة
اليوم التالي 29/11 حيث نقلت وكالة الأنباء الفرنسية من واشنطن خبرا
يقول : إن اتحاد ملاك حدائق الحيوان في أمريكا بدأ حملة تبرعات لمصلحة
حديقة حيوان كابول التي كانت إحدى ضحايا الحرب الأهلية في أفغانستان
وقد أوضح المسئولون أن هدف الحملة توفير الغذاء والمأوي والرعاية
الصحية للحيوانات والطيور القليلة التي مازالت موجودة بالحديقة ، وتأهيلها
لكي تعيش حياة طبيعة في المرحلة المقبلة ، وأعرب هؤلاء المسئولون
عن أملهم في أن يتمكنوا من جمع عشرة آلاف دولار من الولايات المتحدة
علاوة علي 20 ألفا من حدائق حيوان عالمية أخري .
تشاء المقادير أن تبث الوكالة الفرنسية في اليوم نفسه خبرا من نيويورك
يقول إن الأمم المتحدة رفضت فكرة تحمل مسئولية مئات "المرتزقة
الأجانب" -المقصود هم العرب الأفغان وغيرهم من الباكستانيين وأبناء
الدول الإسلامية الأخرى- بحجة أنها لا تملك وسائل العناية بأولئك
الأسرى . ونقلت الوكالة على لسان فريد أيكهارد المتحدث باسم الأمين
العام للأمم المتحدة قوله: "إن استقبال أولئك الأسرى يتطلب بنية تحتية
متينة وإمكانات بشرية أخرى ، وذلك كله لا يتوافر للأمم المتحدة حالياً".
إذا وضعت هذه الأخبار جنبا إلي جنب فستكون الخلاصة أن حيوانات حديقة
كابول وجدت من يعتني بها أما " إخواننا " العرب الأفغان ورفاقهم من أبناء
الدول الإسلامية الأخرى فليس لهم صاحب والأمر كذلك فلم يكن غريبا أن
ترفع في بلدة هيرات الأفغانية لافتات تقول : الموت للعرب وطالبان ، ولا
كان غريبا أن يعلن بعض قادة التحالف الشمالي بمنتهى الجرأة والوقاحة
أنهم سيقتلون " كل الكلاب العرب والشيشانيين والباكستانيين الذين
يصادقونهم" وهذا بالضبط ما حدث " .
هل أتاك حديث ما جرى في قلعة جانجي .؟
في يوم 26/11 نقلت وكالات الأنباء أن تمردا وقع بين الأسرى العرب
والباكستانيين الذين كانوا قد نقلوا إلي القلعة القريبة من مدينة مزار
الشريف والخاضعة لسلطان القائد الأوزبكي الجنرال عبد الرشيد دوستم
الذي كان مسئولا عن الشرطة السرية إبان الحكم الشيوعي لأفغانستان
وقالت الوكالات أنه بعد أن استسلم مقاتلوا طالبان في مدينة قندوز ، فإن
الأفغان سمح لهم بالخروج بينما اقتيد " الأجانب " إلي القلعة الحصينة
وهؤلاء قدر عددهم بعدة مئات من الأشخاص .
يوم 29/11 بعد ثلاثة أيام نقلت الوكالات تصريحا علي لسان الجنرال عبد
اللطيف أحد قيادات قوات التحالف ومن مساعدي دوستم ، قال فيه أنه تم
القضاء علي آخر الأجانب المتمردين في القلعة وأنه تم قتل 450 شخصا
هم كل " الأجانب " حيث لم يوافق أحد منهم علي الاستسلام .
غير أن صحيفة " التايمز " البريطانية ذكرت أنهم كانوا 800 مقاتل بينهم 250
عربيا ووصفت الصحيفة ما جري أنه مجزرة وأن عناصر من وكالة المخابرات
المركزية الأمريكية أسهمت فيها عن طريق استثارة المعتقلين حين كان
الحراس يكبلون الأسري العرب .
نقلت التايمز تفاصيل ما جري استنادا إلي رواية شاهد رئيسي تابع عن
كثب تفاصيل المواجهة فقالت إن الأوضاع تطورت فجأة صباح الأحد 25/11
عندما استفز عنصران من المخابرات المركزية يتحدثان الفارسية الأسري
وهم يرضخون لتقييدهم وسري شعور عام تملك أولئك المعتقلين الذين
كانوا قد استسلموا قبل يوم واحد ، بأن الهدف هو سوقهم إلي الإعدام .
قال الراوي : أن أحد العنصرين الأمريكيين - اسمه مايكل سيان - سأل
أسيرا عربيا عن سبب قدومه إلي أفغانستان فأجابه : نحن هنا لنقتلك
وهب إليه فعاجله الأمريكي بطلقة من مسدسه عليه وعلي ثلاثة آخرين
إلا أنه لم يلبث أن وقع علي الأرض بعد أن تكاثر عليه بقية الأسري وانهالوا
عليه ضربا حتى لفظ أنفاسه .
العنصر الثاني : ويدعي ديفيد نجح في قتل واحد من الأسري علي الأقل
ثم فر من المبني الذي اعتقلوا فيه وركض نحو مقره الرئيسي ومن هناك
ابلغ قيادته بالسفارة الأمريكية بطشقند (أوزبكستان ) عبر الهاتف المتصل
بالأقمار الصناعية بأن الأمر أفلت من يده وطلب إرسال طائرات مروحية
وتعزيزات من القوات الخاصة للتعامل مع الموقف .
وفي احدي الروايات أن الأسري استولوا علي سلاح عشرين من حراسهم
بعدما قتلوهم ثم اقتحموا مخزنا للسلاح واستولوا علي نحو 30 رشاشا
وسلاحين مضادين للدروع وقاذفتي قنابل .
بعد ثلاث ساعات من بدء التمرد وصل نحو 40 من القوات الأمريكية الخاصة
والجنود البريين حيث تولي هؤلاء قيادة الهجوم الذي قام فيه القناصة بدور
أساسي في الوقت نفسه بدأ القصف الجوي وشنت طائرات " أف 18"
أكثر من 40 غارة علي المواقع التي تحصن فيها الأسرى مستخدمة قنابل
عنقودية شديدة الانفجار شاهد الصحفيون انفجار بعضها في أثناء زيارتهم
للقلعة ولم تسجل التقارير والروايات أن الأمريكيين أو البريطانيين أو قوات
الجنرال دوستم وجهت نداءات إلي الأسري للاستسلام وحقن دمائهم .
قالت التايمز إن ما جري في القلعة يمكن أن يصنف بحسبانه انتفاضة إلا أنه
كان في حقيقته أشبه بالانتحار الجماعي الذي أقدم عليه أولئك
المستقلون البائسون الأمر الذي انتهي بمذبحة بشعة ، وأشار مراسل
الصحيفة الذي استقي معلوماته من داخل القلعة أن نحو 250 أسيرا كانوا
مقيدين قبل بدء التمرد وفي وصفه نتائج المجزرة قال : إن القصف قلب
الأرض وجعل أجساد الأسري المحترقة - الذين تفحم بعضهم بينما كانوا
مكبلين بالقيود وتفوح منها رائحة اللحم البشري ـ تنتصب فوق الأرض بعدما
أتت النيران عليها
وأضاف أن معاركهم استمرت ثلاثة ايام - وهم صائمون - وكانت وجبتهم
الأخيرة مساء الثلاثاء حصانا ذبحوه وأفطروا علي لحمه ، ثم قاتل كل واحد
منهم حتى قتل .
هل كانت القوات الأمريكية والبريطانية التي أبادت الأسرى عن آخرهم
مهتمة بسحق التمرد أم أنها انتهزت الفرصة للتخلص منهم وإشباع غريزة
الانتقام؟
ذلك واحد من أسئلة عديدة أثارتها المجزرة وأوردها معلق صحيفة
الجارديان البريطانية جواناثان فريدلاند وهو الذي لفت نظره أن عشرات من
الأسري المقيدين كانوا متفحمين مما ينفي اشتراكهم في التمرد وأثار
التساؤل أيضا أن وزارة الدفاع الأمريكية لم تعلن عن وجود أسري تنوى
المخابرات المركزية استجوابهم تحت رعاية قوات أمريكية وبريطانية ، ثم
كان هناك سؤال آخر حول موقف الحكومتين الأمريكية والبريطانية والتبرير
الذي يمكن أن تقدماه بعدما تمت المجزرة بعلمهما في حالة ما إذا فتح
تحقيق دولي في الموضوع .
مثل هذه المذابح لابد أنها تكررت في أماكن أخري وجري التعتيم عليها
والصور التي نشرتها الصحف والنشرات التي بثتها القنوات الفضائية تؤكد
ذلك وربما أسهم في انفضاح ما جري في قلعة جانجي أن مدينة مزار
الشريف مكتظة بالصحفيين الأجانب باعتبار أنها كانت أول مدينة مهمة
سقطت في أيدي التحالف الشمالي ، كما لفت الانتباه فيما جري العدد
الكبير من الأسري " الأجانب " الذين قتلوا في المذبحة ، واشتراك القوات
الأمريكية والبريطانية في دك القلعة وإبادة من فيها .
لقد أصدرت منظمة العفو الدولية بيانا احتجاجيا علي وقوع المذبحة طالبت
فيه بالتحقيق في ملابساتها ومحاسبة المسئولين عنها ودعت إلي ضرورة
التزام جميع الأطراف المعنية بالاتفاقات الدولية المتعلقة بالأسري وإلي
أهمية قيام الصليب الأحمر الدولي بدور رئيسي في الإشراف ومعاملة
الأسري في أفغانستان وهو موقف جدير بالحفاوة والتشجيع لاريب لكن
السؤال الذي لا يمكن تجاهله هو ماذا عنا نحن ؟
لا يستطيع المرء أن يرفع صوته منددا بالتخاذل الدولي إزاء عمليات الإبادة
والترويع الوحشية التي يتعرض لها العرب وغيرهم من أبناء الأمة
الإسلامية الذين وقعوا في الأسر خصوصا تلك الدول الغربية التي ما برحت
تعطينا دروسا في ضرورة احترام حقوق الإنسان ، وقيم الديمقراطية كما
أنه من المشين والمخجل أن تصدر الولايات قانونا تحاكم بمقتضاه دول
العالم التي ينسب إليها الاضطهاد الديني ، ثم يكون سلاح الجو الأمريكي
هو الذي ارتكب مذبحة قلعة جانجى وفي الوقت نفسه فإن واشنطن التي
تقود الحملة ضد الإرهاب هي نفسها التي تشارك في تلك العملية
الوحشية والإرهابية بامتياز
لا نستطيع أن نفصل أو نستطرد في فضح الموقف الغربي ، مادام العالم
العربي والإسلامي ظل ملتزما الصمت إزاء الذي جري لأبنائه وكأنه لم ير
ولم يسمع ما جري ويجري لهم .
إذ باستثناء اتصال هاتفي أجراه الرئيس الليبي معمر القذافي مع رئيس
التحالف الشمالي برهان الدين رباني فقد تجاهل العرب والمسلمين ما
جري لأبنائهم ، وكان محزنا أن يصرح وزير الدولة للشئون الخارجية الكويتي
الشيخ محمد الصباح ، حين سئل في الموضوع بأن " الكويت غير معنية
بقضية الأفغان العرب " (الرأي العام الكويتية 28/11) ذلك رغم أن الصحف
الكويتية نشرت أن 60 كويتيا علي الأقل موجودا في أفغانستان
ومحاصرون هناك ، أما المفارق حقا إنه حين وقعت المذبحة تحت الرعاية
الأمريكية والبريطانية فإن الجامعة العربية كانت مشغولة بمؤتمر التقت فيه
ثلة من المثقفين لمناقشة تحسين صورة العرب والمسلمين في الغرب .
الفواجع في المشهد كثيرة ، ومن مظاهرها ، غيبة أو غيبوبة المجالس
والمنظمات الشعبية في ذلك العالم العربي والإسلامي المترامي الأطراف
، وذهول المؤسسات الإسلامية وصمتها المدهش لتلك الأعداد الكبيرة من
المسلمين .
لا أريد أن أثير المواجع بالمقارنة بما كان يمكن أن يحدث لو أن أولئك
الأسرى كانوا من أبناء دول أخري ، أو أتباع ديانة أخري الإجابة ليست في
مصلحتنا علي كل حال لكني أذكر أنهم أبناؤنا ومنسوبون إلينا في نهاية
المطاف ، وأنهم مهما جنحوا - أكرر - فإن إنسانيتهم لها علينا حقوق ، وليتنا
نتعامل معهم كما تعامل النيوزيلنديون مع قطهم الغائب وكما تعامل آخرون
مع نزلاء حديقة الحيوان في كابول .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدري أنها مغامرة أن يتصدى المرء للدفاع عن العرب الأفغان وهو العنوان
الذي اصبح سيئ السمعة وصار قرينة علي الضلوع في الإرهاب أو
الانتساب إليه لكني أبادر القول إنني أدافع عن إنسانيتهم وليس عن
أرائهم فضلا عن أفعالهم فأيا كان قدر جنوح بعضهم فذلك لا ينبغي ألا
ينسينا أنهم بشر وأناس لهم حق الكرامة والحياة وأنهم مواطنون لهم حق
الحماية ، وأنهم لنا بمثابة الأبناء الذين يتعين علينا أن نقوم من جنح منهم
وألا نلقي بهم إلي الجحيم ، أو نتركهم يلقون ذلك المصير ونحن ساكنون.
لا أعرف كم عددهم الآن :لكن معلوماتي أن عشرة آلاف شخص عبروا
الحدود الباكستانية إلي أفغانستان، في الفترة ما بين عامي 80 و90 وهذا
إحصاء باكستاني للذين قدموا من مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي
سواء للانضمام للعمل الجهادى أو للقيام بمهمة الإغاثة وحصلوا علي
تأشيرات دخول أوصلتهم إلي أفغانستان .
ولست هنا بصدد الوقوف أمام ما فعلوه أو ما نسب إليهم هنا أو هناك
بالحق أو بالباطل حيث أزعم أننا بصدد موقف يتطلب الاستعلاء فوق الآلام
والجراح وتختبر فيه مصداقية الوشائج الإنسانية والإسلامية فضلا عن
القومية إذ حين تستباح دماء هؤلاء بمظنة أنهم منبوذون حتى من أهلهم
وإخوانهم وأنه لا صاحب لهم ولا ظهير فيتعرضون للإبادة والتعذيب الوحشي
بعد وقوعهم في أسر قوات التحالف ، حينما يحدث ذلك فليس من المروءة
أن ندير ظهورنا له أو أن نشهر في وجوههم لوائح الاتهام إنما يفرض علينا
الاستعلاء فوق الجراح وأن نطالب باحترام إنسانيتهم وتطبيق بنود معاهدة
جنيف لحماية الأسري عليهم ومن ثم بالكف عن إلحاق الأذى الوحشي بهم
، ثم استعادتهم مع الاحتفاظ بالحق في محاكمة المسئولين عن ارتكاب أية
أعمال غير قانونية منهم طبقا لمبادئ العدالة الدولية .
لقد تابعنا خلال الأيام الماضية علي شاشات التلفزيون ومن خلال ما ينشر
في الصحف من صور جانبا مما يعانيه العرب الأفغان الذين وقعوا في
الأسر وبعض تلك الصور سجلت المسلسل كاملا ، منذ لحظة اسر العربي
الأفغاني ، إلي التجمهر حوله وتمزيق ثيابه والاعتداء عليه بالضرب إلي
سحله في الشوارع ثم إطلاق الرصاص عليه بعد ذلك وأحيانا إلي أن جاء
أحدهم بآلة حادة في يده وفتح فم القتيل ، ثم أدخل الآلة لكي ينتزع سنة
ذهبية من فمه.
غير أن الصورة التي هزتني وأشعرتني بقشعريرة مازالت تسري في
جسدي كلما تذكرتها هي تلك التي نشرتها " الأهرام " والصحف الأخرى
يوم الأربعاء 24/11 وكانت لواحد من عناصر التحالف الشمالي أمسك بثياب
عربي قتيل فرفع جثته قليلا من علي الأرض ثم راح يركل رأسه بحذائه
كما يركل اللاعب كرة القدم .
يوم ظهرت تلك الصورة البشعة نقلت وكالة رويترز من نيوزيلندا الخبر
التالي : بدأت حملة دولية لإنقاذ قط من نيوزيلندا تسلل إلي إحدى السفن
المتجهة إلي كوريا الجنوبية ثم نشرت صحيفة " تاراناكي " النيوزيلاندية أن
القط " كولنز " تسلل قبل أسبوعين إلي ناقلة راسية في ميناء "
تاراناكي " في حين أنه كان يعيش في رعاية أحد العاملين بالميناء منذ
تسع سنوات ، ولكن يبدو أن القط مل المكان الذي يعيش فيه فهرب إلي
الناقلة حيث دأب أحد أفراد طاقمها علي العناية به ولم يكتشف صاحبه أنه
لا يزال علي متنها إلا بعد إبحار الناقلة فأبلغ سلطات الميناء بذلك التي
أجرت اتصالات مع قيادتها لاستعادة القط ، واتسع نطاق الاتصالات لترتيب
نقله إلي أية سفينة أخري متجهة إلي نيوزلندا ومازالت الاتصالات الدولية
قائمة لضمان إعادة القط إلي صاحبه قبل وصول الناقلة إلي كوريا
الجنوبية .
حيث يخشى أن يحتجز في الحجر الصحي هناك الأمر الذي قد يسبب له
إيذاء نفسيا قد لا يحتمله .
لا يكاد المرء يفيق من تلك الصفعة حتى يتلقى واحدة أخري في صبيحة
اليوم التالي 29/11 حيث نقلت وكالة الأنباء الفرنسية من واشنطن خبرا
يقول : إن اتحاد ملاك حدائق الحيوان في أمريكا بدأ حملة تبرعات لمصلحة
حديقة حيوان كابول التي كانت إحدى ضحايا الحرب الأهلية في أفغانستان
وقد أوضح المسئولون أن هدف الحملة توفير الغذاء والمأوي والرعاية
الصحية للحيوانات والطيور القليلة التي مازالت موجودة بالحديقة ، وتأهيلها
لكي تعيش حياة طبيعة في المرحلة المقبلة ، وأعرب هؤلاء المسئولون
عن أملهم في أن يتمكنوا من جمع عشرة آلاف دولار من الولايات المتحدة
علاوة علي 20 ألفا من حدائق حيوان عالمية أخري .
تشاء المقادير أن تبث الوكالة الفرنسية في اليوم نفسه خبرا من نيويورك
يقول إن الأمم المتحدة رفضت فكرة تحمل مسئولية مئات "المرتزقة
الأجانب" -المقصود هم العرب الأفغان وغيرهم من الباكستانيين وأبناء
الدول الإسلامية الأخرى- بحجة أنها لا تملك وسائل العناية بأولئك
الأسرى . ونقلت الوكالة على لسان فريد أيكهارد المتحدث باسم الأمين
العام للأمم المتحدة قوله: "إن استقبال أولئك الأسرى يتطلب بنية تحتية
متينة وإمكانات بشرية أخرى ، وذلك كله لا يتوافر للأمم المتحدة حالياً".
إذا وضعت هذه الأخبار جنبا إلي جنب فستكون الخلاصة أن حيوانات حديقة
كابول وجدت من يعتني بها أما " إخواننا " العرب الأفغان ورفاقهم من أبناء
الدول الإسلامية الأخرى فليس لهم صاحب والأمر كذلك فلم يكن غريبا أن
ترفع في بلدة هيرات الأفغانية لافتات تقول : الموت للعرب وطالبان ، ولا
كان غريبا أن يعلن بعض قادة التحالف الشمالي بمنتهى الجرأة والوقاحة
أنهم سيقتلون " كل الكلاب العرب والشيشانيين والباكستانيين الذين
يصادقونهم" وهذا بالضبط ما حدث " .
هل أتاك حديث ما جرى في قلعة جانجي .؟
في يوم 26/11 نقلت وكالات الأنباء أن تمردا وقع بين الأسرى العرب
والباكستانيين الذين كانوا قد نقلوا إلي القلعة القريبة من مدينة مزار
الشريف والخاضعة لسلطان القائد الأوزبكي الجنرال عبد الرشيد دوستم
الذي كان مسئولا عن الشرطة السرية إبان الحكم الشيوعي لأفغانستان
وقالت الوكالات أنه بعد أن استسلم مقاتلوا طالبان في مدينة قندوز ، فإن
الأفغان سمح لهم بالخروج بينما اقتيد " الأجانب " إلي القلعة الحصينة
وهؤلاء قدر عددهم بعدة مئات من الأشخاص .
يوم 29/11 بعد ثلاثة أيام نقلت الوكالات تصريحا علي لسان الجنرال عبد
اللطيف أحد قيادات قوات التحالف ومن مساعدي دوستم ، قال فيه أنه تم
القضاء علي آخر الأجانب المتمردين في القلعة وأنه تم قتل 450 شخصا
هم كل " الأجانب " حيث لم يوافق أحد منهم علي الاستسلام .
غير أن صحيفة " التايمز " البريطانية ذكرت أنهم كانوا 800 مقاتل بينهم 250
عربيا ووصفت الصحيفة ما جري أنه مجزرة وأن عناصر من وكالة المخابرات
المركزية الأمريكية أسهمت فيها عن طريق استثارة المعتقلين حين كان
الحراس يكبلون الأسري العرب .
نقلت التايمز تفاصيل ما جري استنادا إلي رواية شاهد رئيسي تابع عن
كثب تفاصيل المواجهة فقالت إن الأوضاع تطورت فجأة صباح الأحد 25/11
عندما استفز عنصران من المخابرات المركزية يتحدثان الفارسية الأسري
وهم يرضخون لتقييدهم وسري شعور عام تملك أولئك المعتقلين الذين
كانوا قد استسلموا قبل يوم واحد ، بأن الهدف هو سوقهم إلي الإعدام .
قال الراوي : أن أحد العنصرين الأمريكيين - اسمه مايكل سيان - سأل
أسيرا عربيا عن سبب قدومه إلي أفغانستان فأجابه : نحن هنا لنقتلك
وهب إليه فعاجله الأمريكي بطلقة من مسدسه عليه وعلي ثلاثة آخرين
إلا أنه لم يلبث أن وقع علي الأرض بعد أن تكاثر عليه بقية الأسري وانهالوا
عليه ضربا حتى لفظ أنفاسه .
العنصر الثاني : ويدعي ديفيد نجح في قتل واحد من الأسري علي الأقل
ثم فر من المبني الذي اعتقلوا فيه وركض نحو مقره الرئيسي ومن هناك
ابلغ قيادته بالسفارة الأمريكية بطشقند (أوزبكستان ) عبر الهاتف المتصل
بالأقمار الصناعية بأن الأمر أفلت من يده وطلب إرسال طائرات مروحية
وتعزيزات من القوات الخاصة للتعامل مع الموقف .
وفي احدي الروايات أن الأسري استولوا علي سلاح عشرين من حراسهم
بعدما قتلوهم ثم اقتحموا مخزنا للسلاح واستولوا علي نحو 30 رشاشا
وسلاحين مضادين للدروع وقاذفتي قنابل .
بعد ثلاث ساعات من بدء التمرد وصل نحو 40 من القوات الأمريكية الخاصة
والجنود البريين حيث تولي هؤلاء قيادة الهجوم الذي قام فيه القناصة بدور
أساسي في الوقت نفسه بدأ القصف الجوي وشنت طائرات " أف 18"
أكثر من 40 غارة علي المواقع التي تحصن فيها الأسرى مستخدمة قنابل
عنقودية شديدة الانفجار شاهد الصحفيون انفجار بعضها في أثناء زيارتهم
للقلعة ولم تسجل التقارير والروايات أن الأمريكيين أو البريطانيين أو قوات
الجنرال دوستم وجهت نداءات إلي الأسري للاستسلام وحقن دمائهم .
قالت التايمز إن ما جري في القلعة يمكن أن يصنف بحسبانه انتفاضة إلا أنه
كان في حقيقته أشبه بالانتحار الجماعي الذي أقدم عليه أولئك
المستقلون البائسون الأمر الذي انتهي بمذبحة بشعة ، وأشار مراسل
الصحيفة الذي استقي معلوماته من داخل القلعة أن نحو 250 أسيرا كانوا
مقيدين قبل بدء التمرد وفي وصفه نتائج المجزرة قال : إن القصف قلب
الأرض وجعل أجساد الأسري المحترقة - الذين تفحم بعضهم بينما كانوا
مكبلين بالقيود وتفوح منها رائحة اللحم البشري ـ تنتصب فوق الأرض بعدما
أتت النيران عليها
وأضاف أن معاركهم استمرت ثلاثة ايام - وهم صائمون - وكانت وجبتهم
الأخيرة مساء الثلاثاء حصانا ذبحوه وأفطروا علي لحمه ، ثم قاتل كل واحد
منهم حتى قتل .
هل كانت القوات الأمريكية والبريطانية التي أبادت الأسرى عن آخرهم
مهتمة بسحق التمرد أم أنها انتهزت الفرصة للتخلص منهم وإشباع غريزة
الانتقام؟
ذلك واحد من أسئلة عديدة أثارتها المجزرة وأوردها معلق صحيفة
الجارديان البريطانية جواناثان فريدلاند وهو الذي لفت نظره أن عشرات من
الأسري المقيدين كانوا متفحمين مما ينفي اشتراكهم في التمرد وأثار
التساؤل أيضا أن وزارة الدفاع الأمريكية لم تعلن عن وجود أسري تنوى
المخابرات المركزية استجوابهم تحت رعاية قوات أمريكية وبريطانية ، ثم
كان هناك سؤال آخر حول موقف الحكومتين الأمريكية والبريطانية والتبرير
الذي يمكن أن تقدماه بعدما تمت المجزرة بعلمهما في حالة ما إذا فتح
تحقيق دولي في الموضوع .
مثل هذه المذابح لابد أنها تكررت في أماكن أخري وجري التعتيم عليها
والصور التي نشرتها الصحف والنشرات التي بثتها القنوات الفضائية تؤكد
ذلك وربما أسهم في انفضاح ما جري في قلعة جانجي أن مدينة مزار
الشريف مكتظة بالصحفيين الأجانب باعتبار أنها كانت أول مدينة مهمة
سقطت في أيدي التحالف الشمالي ، كما لفت الانتباه فيما جري العدد
الكبير من الأسري " الأجانب " الذين قتلوا في المذبحة ، واشتراك القوات
الأمريكية والبريطانية في دك القلعة وإبادة من فيها .
لقد أصدرت منظمة العفو الدولية بيانا احتجاجيا علي وقوع المذبحة طالبت
فيه بالتحقيق في ملابساتها ومحاسبة المسئولين عنها ودعت إلي ضرورة
التزام جميع الأطراف المعنية بالاتفاقات الدولية المتعلقة بالأسري وإلي
أهمية قيام الصليب الأحمر الدولي بدور رئيسي في الإشراف ومعاملة
الأسري في أفغانستان وهو موقف جدير بالحفاوة والتشجيع لاريب لكن
السؤال الذي لا يمكن تجاهله هو ماذا عنا نحن ؟
لا يستطيع المرء أن يرفع صوته منددا بالتخاذل الدولي إزاء عمليات الإبادة
والترويع الوحشية التي يتعرض لها العرب وغيرهم من أبناء الأمة
الإسلامية الذين وقعوا في الأسر خصوصا تلك الدول الغربية التي ما برحت
تعطينا دروسا في ضرورة احترام حقوق الإنسان ، وقيم الديمقراطية كما
أنه من المشين والمخجل أن تصدر الولايات قانونا تحاكم بمقتضاه دول
العالم التي ينسب إليها الاضطهاد الديني ، ثم يكون سلاح الجو الأمريكي
هو الذي ارتكب مذبحة قلعة جانجى وفي الوقت نفسه فإن واشنطن التي
تقود الحملة ضد الإرهاب هي نفسها التي تشارك في تلك العملية
الوحشية والإرهابية بامتياز
لا نستطيع أن نفصل أو نستطرد في فضح الموقف الغربي ، مادام العالم
العربي والإسلامي ظل ملتزما الصمت إزاء الذي جري لأبنائه وكأنه لم ير
ولم يسمع ما جري ويجري لهم .
إذ باستثناء اتصال هاتفي أجراه الرئيس الليبي معمر القذافي مع رئيس
التحالف الشمالي برهان الدين رباني فقد تجاهل العرب والمسلمين ما
جري لأبنائهم ، وكان محزنا أن يصرح وزير الدولة للشئون الخارجية الكويتي
الشيخ محمد الصباح ، حين سئل في الموضوع بأن " الكويت غير معنية
بقضية الأفغان العرب " (الرأي العام الكويتية 28/11) ذلك رغم أن الصحف
الكويتية نشرت أن 60 كويتيا علي الأقل موجودا في أفغانستان
ومحاصرون هناك ، أما المفارق حقا إنه حين وقعت المذبحة تحت الرعاية
الأمريكية والبريطانية فإن الجامعة العربية كانت مشغولة بمؤتمر التقت فيه
ثلة من المثقفين لمناقشة تحسين صورة العرب والمسلمين في الغرب .
الفواجع في المشهد كثيرة ، ومن مظاهرها ، غيبة أو غيبوبة المجالس
والمنظمات الشعبية في ذلك العالم العربي والإسلامي المترامي الأطراف
، وذهول المؤسسات الإسلامية وصمتها المدهش لتلك الأعداد الكبيرة من
المسلمين .
لا أريد أن أثير المواجع بالمقارنة بما كان يمكن أن يحدث لو أن أولئك
الأسرى كانوا من أبناء دول أخري ، أو أتباع ديانة أخري الإجابة ليست في
مصلحتنا علي كل حال لكني أذكر أنهم أبناؤنا ومنسوبون إلينا في نهاية
المطاف ، وأنهم مهما جنحوا - أكرر - فإن إنسانيتهم لها علينا حقوق ، وليتنا
نتعامل معهم كما تعامل النيوزيلنديون مع قطهم الغائب وكما تعامل آخرون
مع نزلاء حديقة الحيوان في كابول .