silent hary
08-11-2008, 03:17 PM
كان يا مكان , كانت هناك عاهرة تدعى ماريا . لحظة لو سمحتم " كان يا مكان " هذه هى العبارة المثلى للبدء بقصة خرافية لأطفال " فيما كلمة " عاهرة " كلمة تستعمل للبالغين .
كيف بالأمك ان اذا البدء بقصة على هذا التناقض المبين ؟ لكن بما أننا فى كل لحظة من حياتنا لدينا قدم فى قصص الجنيات الخرافية وقدم أخرى فى الهاوية , فلنحتفظ اذا بهذه البداية .
كان يا مكان , كانت هناك عاهرة تدعى ماريا . ولدت عذراء بريئة ككل العاهرات وحلمت ابان مراهقتها , بان تلتقى فتى أحلامها ( أرادته أن يكون ثريا وذكيأ وجميلا ) وأن تتزوجه ( مرتديه ثوب الزفاف ) وأن تنجب منه طفلين ( لا يلبثان أن يصبحا مشهورين فى المستقبل ) , وأن تقيم فى بيت جميل ( يشرف على البحر ) .
كان والدها وكيلا لأحدى الشركات التجارية ووالدتها خياطة . لم يكن هناك فى مدينتها نوردستا فى البرازيل الا صالة سينما واحدة وملهى ليلى ووكالة مصرفية . لذا كانت ماريا تنتظر اليوم الذى سيظهر فيه فارس أخلامها بغتة ودون سابق انذار فيمتلك قلبها وتنطلق لغزو العالم .
بما ان فارس الأحلام لم يظهر , فلم يتبق لها والحالة هذه سوى الحلم . عرفت طعم الحب لأول مرة فى الحادية عشرة من عمرها , عندما كانت تذهب الى المدرسة الأبتدائية سيرآ على القدمين . فى اليوم الأول من السنة الدراسية , أدركت أنها لم تكن وحيدة على الطريق وأن صبيآ يسكن فى الجوار يمشى على مسافة قريبة منها , ويذهب الى المدرسة فى الأوقات نفسها , ولم يكونا ليتبادلا كلمة واحدة .
لكن ماريا لاحظت أن اللحظات , التى كانت تدخل السرور الى قلبها وتشعرها بالبهجة أكثر من أى شئ أخر , هى تلك التى تقضيها على الطريق المغبزة بالرغم من العطش والتعب
فى الشمس المحرقة , والصبى الذى يسرع فى مشيته , فيما هى تبذل جهودآ مضنية لتبقى فى محاذاته .
تكرز المشهد لأشهر عدة , لم يكن لدى ماريا , التى تكره الدرس , من تسلية أخرى سوى مشاهدى التلفاز . لذا أخذت تتمنى أن يمضى الوقت بسرعة , وتنتظر بلهفة أوقات الذهاب الى المدرسة , وتشعر بالضجر فى عطلة نهاية الأسبوع بخلاف الفتيا اترابها .
كانت ماريا تتعذب , لان الساعات تمر بطئية بالأولاد , أبطا منها بالكبار , وتحس بأن أيامها متناهية الطول لأنها لا تمنحها الا عشر دقائق تقضيها على الطريق بمحاذاة فتى أحلامها , فيما تقضى آلاف الدقائق والساعات فى عالم الخيال تحلم بلقائه والتحدث اليه ولو لبرهة قصرة من الوقت .
وذات صباح اقترب منها الصبى وسألها ان تعيره قلمآ . فلما تجب وتظاهرت بأن هذا التقرب المتطفل يزعجها فحثت الخطى . ثم ما لبثت أن تجمدت من شدة الذعر عندما رأته يتجه ناحيتها . خشيت ان يكتشف أنها تحبه وتنتظره , وانها تحلم بأن ياخذ بيدها متجاوزا باب المدرية فتعبر الطريق برفقته حتى النهاية , الى ان تبلغ , كما يقال , مدينة كبيرة وأشخاصا يبدون وكأنهم طالعون من الورايات وفنانين وسيارات وقاعات سينما كثيرة وكل أنواع الفرائد .
طوال النهار , كان يشق عليها ان تستجمع أفكارها فى الصف , كان تصرفها العبثى يعذبها فى ان التفكير بأن الصبى استانس بوجودها هو ايضا , وبانه استخدم القلم ذريعة للدخول فى حديث معها , لانها لاحظت فلماً فى جيبه لدى اقترابه منها . كانت تتحرق شوقآ وحزنآ لرؤيته . فى تلك الليلة وفى الليالى التى اعقبتها , أخذت كافة الأجوبة التى يمكن أن تواجهه بها , الى ان عثرت على الطريقة المثلى التى تؤهلها البدء بقصة لن تنتهى ابدآ .
لكن الصبى لم يعد يتوجه اليها بالكلام . استمر لقاؤهما على طريق المدرسة , احيانا تقدمة ماريا يضع خطوات وتمسك قلمآ بيدها اليمنى , واحيانا تتخلف عنه قليلا ليتاح لها ان تراقبه ملياً . وقد وجدت لزاما عليها ان تكتفى بحبه , وتتعذب بصمت حتى نهاية السنة الدراسية .
بدت لها العطلة لا متناهية واستفاقت ذات صباح وساقاها ملطختان بالدم . ظنت انها مائتة لا محالة . فقررت ان تكتب رسالة للصبى تعترف له فيها انه كان الحب الأول الكبير فى حياتها . ثم خطرت لها فكرة ان تغرق فى " السرتا " وتفترسها احدى البهائم المتوحشة التى تلقى الذعر فى نقوس مزارعى تلك المنطقة كالغول الذئبى او البغلة التى لا راس لها .( * (http://www.montada.com/newthread.php?do=newthread&f=233#_ftn1) )
وهكذا , أخذت تفكر بان والديها لن يبكيا لموتها لان الفقراء يتعللون بالأمل , رغم المآسى التى ترهق كواهلهم . لا بل سيعتقدان ان عائلة ثرية دون أولاد قد اختطفتها وانها سترجع يومآ مكللة بالمجد والثروة . أما الحبيب الحالى ( والأبدى ) فى حياتها , فلن يتمكن من نسيانها وسيتعذب كل صباح لانه لم يتوجه اليها بالكلام .
لم تتمكن ماريا من كتابة الرسالة لانها امها دخلت غرفتها ورأت الئرائف الملظخة ببقع الدم وقالت " ها قد كبرت وصرت صبية يا صغيرتى " .
أرادت ماريا ان تعرف ما هى العلاقة بين كونها صارت صبية , والدم الذى انساب بين ساقيها . لكن امها عجزت عن شرح ذلك لها . أكدت لها فقط ان ما حدث لها طبيعى وانها من الان فصاعدا يتوخى عليها ان تضع منشفة صغيرة بسماكة وسادة دمية , مدة أربعة أو خمسة أيام فى الشهر . سألتها ماريا عما اذا الرجال يستعملون أنبوبآ لكى يمنعوا الدم من تلطيخ سراويلهم , وعلمت ان ذلك لا يحدث الا للنساء فقط .
شكت امرها لله , بيد انها ألفت أخر الامر , العادة الشهرية , لكن صعب عليها ان تألف غياب الصبى . تلوم نفسها على موقفها السخيف الذى يدفعها الى التهرب مما كانت تتمناه أكثر من اى شئ اخر .
عشية العودة الى المدرسة , دخلت الكنيسة الوحيدة فى المدينة وأقسمت امام القديس انطونيوس بانها ستتخذ المبادرة وتتحدث الى الصبى .
فى اليوم التالى , رتبت هندامها على أكمل وجه وارتدت الفستان الذى خاطته امها خصيصآ للمناسبة . ثم خرجت وهى تشكر الله على ان العطلة انتهت اخيرآ . لكن الصبى لم يظهر . وهكذا مر أسبوع جديد من الحيرة والقلق , ثم ما لبثت ان علمت من بعض الأصدقاء ان الصبى غادر المدينة .
قال لها أحدهم , غادر بعيدآ ....
عندئذ أدركت ماريا ان ليس هناك ما يمنع من ان نفقد بعض الأشياء الى الأبد , وعلمت أيضآ ان هناك مكانآ يدعى " بعيدآ " وان العالم واسع ومدينتها صغيرة . وان الكائنات الأهم يؤؤل بها الامر الى الرحيل دوما . ودت لو انها تستطيع ان تغادر هى أيضآ , لكنها لا تزال فتية جدآ . ومع ذلك , حسن شاهدت الطرقات المغبرة , اتخذت القرار بانها ستمشى ذات يوم على خطى الصبى , فى ايام الجمعة اللاحقة , وعلى مدى السنوات التالية , تناولت ماريا القربان المقدس وفق عادة دينية درجت عليها , وصلت للعذراء طالبة منها ان تنقذها يوماً من هذا المأزق .
تعذبت ماريا لبعض الوقت , وعبثا حاولت ان تجد أثرآ للصبى . لكن أحدآ لا يعرف الى اين انتقل اهله . عندئذ بدأت ماريا تشعر ان العالم واسع جدآ وان الحب العظيم . ايقنت أيضآ ان العذراء تقطن فى السموات البعيدة التى لا تصلها صلوات الأولاد وتضرعاتهم .
* * * * *
مرت ثلاث سنوات تعلمت خلالها ماريا الجغرافيا والرياضيات , وتابعت مشاهدة المسلسلات التلفزيونية . كما تفصحت سرآ فى المدرسة أولى المجلات الأباحية . وشرعت تكتب بانتظام يوميات تتحدث فيها عن حياتها الرتيبة ورغبتها الكاملة فى التعزف عن كتب الى ما تعلمته , المحيط , الثلج , الرجال الذين يرتدون العمامات , النساء الأنيقات المزدانات بالجواهر .. لكن , لما لم يكن أحد يستطيع التعايش مع الرغبات المستحيلة , وبخاصة حين تكون الأم خياطة والأب غائبآ دوما , فسرعان ما أدركت ماريا انه يجدر بها ان تولى ما يحدث من حولها اهتماما أكبر . كانت تتابع الدراسة لكى تتدبر أمرها فى الحياة , وتفتش فى الوقت نفسه عن رفيق يمكن ان يشاركها فى الحياة , وتفتش فى الوقت نفسه عن رفيق يمكن ان يشاركها احلامها فى الغامرة . عندما بلغت سن الخامسة عشر وقعت فى غرام صبى التقته خلال أحد الزياحات التى تجزى فى أسبوع الألام .
لم تكرر الخطأ الذى ارتكبته فى طفولتها , تحدثا وصارا صديقين ثم ذهبا الى السينما والى الأعياد معآ . وخلصت ماريا الى النتيجة نفسها التى تقول ان الحب يتجلى فى غياب الحبيب اكثر من هفى حضوره . كانت تفتقد حضور الفتى باستمرار , وتقشى الساعات متخيلة ما يمكن ان تقوله له فى اللقاء المقبل , مستعبدة كل ثانية تقاسمتها معه , مستحضرة ما فعلته من تصرفات جيدة او سيئة .
كانت تحب ان تظهر بمظهر الفتاة الشابة التى تملك تجربة فى الحياة والتى سبق لها ان كابدت هيامآ كبرآ , وعرفت مقدار الألم الذى يسببه هذا الشغف . كانت عازمة على الصراع بكل ما أوتيت من قوة , لتملك قلب هذا الرجل , أو ليس هو من سيتزوج بها , ويمنحها أولادآ ويهيبها بيتآ يشرف على البحر .
حدثت امها فى الامر فقالت متوسلة :
- لا يزال الوقت مبكرآ جدى يا بنتى .
- لكنك كنت فى السادسة عشرة عندما اقترنت بأبى .
امتنعت الام عن شرح سبب هذا الزواج المبكر الذى يعود الى ظهور بودار حمل غي متوقع . ارادت ان تضع حدا للنقاش , فلجأت الى الحجة القائلة بانه " فى ذلك الزمان , كان الامر مختلفآ " .
فى اليوم التالى ذهبت ماريا برفقة الصبى للتنزه فى الريف المحيط بالمدينة . أخذا يتبادلان أطراف الحديث , حدثته ماريا عن رغبتها فى السفر , فاخذها بين ذراعيه على سبيل الأجابة وقبلها .
أول قبلة فى حياتها ! حلمت بهذه اللحظة . كان المنظر بديعآ , طيور مالك الحزين المحلقة فى الجو والشمس الغاربة , والمنطقة شبه القاحلة بجمالها الوحشى , وصوت الموسيقى الصادحة فى البعيد .. تظاهرت ماريا بالتمنع ثم عانقته
وفجأة توقفت عن التقبيل .
سالها الصبى : الا ترغبين فى ذلك ؟ ..
ماذا عليها ان تجيبه ؟ اتجيبه بانها ترغب فى ذلك ؟ بالطبع ! لكن لا يجدر بالمرأة ان تستلم على هذا النحو , وبخاصة لزوجها المقبل , والا لأشتبه بأمرها طوال حياته , ولا أعتقد بانها تقبل كل شئ بسهولة كبيرة . لذا فضلت الا تقول شيئاً .
أخذها من جديد بين ذراعيه , بحماس أقل هذه المرة . ثم توقف وقد اشتد احمرار وجهه . أدركت ان هناك خللا ما طرأ , لكنها خافت ان تسأله عن الموضوع . أمسكت بيده وعاد الى المدينة , وهما يتحدثان عن امر اخر وكأن شيئآ لم يكن .
فى تلك الليلة , وايقنت ماريا ان حدثا جللا قد حصل , فدونت فى يومياتها هذه العبارات التى انتقتها بعناية .
" عندما نلتقى أحدهم ونقع فى غرامه , نشعر ان الكون كله يطاوعنا فى هذا الاتجاه . هذا ما حدث لى اليوم عند مغيب الشمس . لكن اذا حدث خلل منا , فان كل شئ عندئذ يتلاشئ ويختفى ! طيور مالك الحزين والموسيقى الصادحة فى البعيد وطعم شفتيه . ترى , كيف يمكن للجمال الذى كان حاضرآ بقوة ان يختفى بهذه السرعة ويتلاشئ ؟
الحياة تمر مسرعة وتنقلنا من الجنة الى الجحيم , ولا يحتاج الامر الا الى ثوان معدودات .
فى اليوم التالى , ذهبت لموافاة صديقتها شاهدنها جمعهم تتنزه برفقة " حبيبها " . يبدو انه ليس مهما فى نهاية المطاف أن يعيش الأنسان حبآ كبيرآ , المهم ان يعرف الجميع انك شخص يثير الرغبة لدى الأخر . كانت صديقتها متشوقات جدآ ليعرفن كيف جرت الأمور , فاعلنت ماريا لهن بفخر شديد أن افضل ما حصل لها هو عندما قبلها القبلة الأولى في حياتها .
اخذت احدى الفتيات بالضحك .
- ألم تفتحى فمك ؟
وبغتى , أصبح كل شئ واضحا لها , السؤال والخيبة .
- ولم على فعل ذلك ؟
- لكى تدعى لسانه يمر .
- وما الذى سيتغير ؟
- هكذا يقبل الرجل المرأة .
أطلقت الضحكات المكبوتة , وأظهرت بعض الفتيات تعاطفآ مخادعآ فيما كتمت الأخريات غيظهن , ولاحت فى أذهانهن مشاريع الانتقام , لانهم لم يعرفن حبيبا من قبل . تظاهرت ماريا بعد الاكتراث , وضحكت بدورها , حتى لو كانت روحها تبكى .
اخذت تلعن فى سرها كل الأفلام التى علمتها ان تغمض عينيها وتمسك بيدها رأس صديقها , ثد تدير راسها تارة الى اليسار وطورا الى اليمين دون ان تعلمها ما هو جوهرى . ثم ما لبثت ان صاغت تفسيراً ملائمآ لما جرى ( لم أشا الاستسلام فى الحال , لاننى لم أكن متأكدة بعد من مشاعرى . لكنى متيقنة الأن انه رجل حياتى ) وانتظرت الفرصة المقبلة .
بعد ثلاثة أيام , رات الفتى خلال احتفال اقمته البلدية , وكان يمسك بيد أحدى صديقاتها , تلك التى سألتها بالذات عن طعم القبلة الأولى . تظاهرت ماريا عندئذ بعدم الاكتراث . احتملت المشهد حتى نهاية السهرة , والهت نفسها بالتحدث الى صديقاتها الفنانات , والشبان الذين يسكنون فى الجوار . كما تظاهرت بتجاهل نظرات الاشفاق التى رمقتها بها أحدى
صديقاتها . لكن , ما ان رجعت الى البيت حتى شعرت انها عاجزة عن الامساك بزمام الامور وان عالمها قد انهار , فبكت طوال الليل .
تعذبت ثمانية أشهر متواصلة وخلصت الى ان الحب لم يخلق لها ولم تخلق هى من اجله . قررت عندئذ ان تسلك طرق الرهبنة وتكرس بقية حياتها لمحبة يسوع , لان هذا الحب لا يترك جراحآ اليمة فى القلب . سمعت الناس فى المدارس يتحدثون عن مرسلين الى أفريقيا للتبشير , فرأت فى ذلك منفذآ للخلاص من حياتها الرتيبة الخالية من الأنفعالات .
قررت الدخول الدير , وتعلمت الأسعافات الأولية ( لأن هناك ناسا كثيرين يقضون حتفهم فى أفريقيا بحسب ما يقول بعض الاساتذة ) , وشاركت بجد ومثابرة فى دروس التعليم الدينى . بدأت تتخيل نفسها قديسة الأزمنة الحديثة تخلص النفوس الخاطئة , وتستكشف الغابات المزدحمة بالنمور والأسود .
, بدأت ماريا تشعر ان ثقتها بنفسها تضعف فى حضور الرجال , وتملكتها رغبة عارمة فى مغادرة المكان الذى تعيش فيه . وقعت فى الحب مرة ثالثة ورابعة وتعلمت التقبيل والمداعبة والأستسلام لداعبة أحبائها , الا ان هناك دوما شيئآ لا يسير على ما يرام , ويحدث ان تنتهى العلاقة فى الوقت الذى تقتنع ماريا فيه بان شريكها مناسب لتقضى معه بقية أيام حياتها .
وفى النهاية , توصلت ماريا الى الاستنتاج ان الرجال لا يجلبون الا الألم والحرمان والعذاب والضجر . ذات يوم , بعد الظهيرة , حين صادف وجودها فى احدى الحدائق , اتخذت قرارآ , وهى تراقب اما تلاعب ابنها ذا السنتين , ان بامكانها ان يكون لها هى ايضآ زوج واولاد ومنزل يشرف على البحر , لكنها لن تقع فى الغرام اطلاقا , لان الغرام يفسد كل شئ .
* * * * *
ترقبو الجزء الثاني
silentcray@hotmail.com
كيف بالأمك ان اذا البدء بقصة على هذا التناقض المبين ؟ لكن بما أننا فى كل لحظة من حياتنا لدينا قدم فى قصص الجنيات الخرافية وقدم أخرى فى الهاوية , فلنحتفظ اذا بهذه البداية .
كان يا مكان , كانت هناك عاهرة تدعى ماريا . ولدت عذراء بريئة ككل العاهرات وحلمت ابان مراهقتها , بان تلتقى فتى أحلامها ( أرادته أن يكون ثريا وذكيأ وجميلا ) وأن تتزوجه ( مرتديه ثوب الزفاف ) وأن تنجب منه طفلين ( لا يلبثان أن يصبحا مشهورين فى المستقبل ) , وأن تقيم فى بيت جميل ( يشرف على البحر ) .
كان والدها وكيلا لأحدى الشركات التجارية ووالدتها خياطة . لم يكن هناك فى مدينتها نوردستا فى البرازيل الا صالة سينما واحدة وملهى ليلى ووكالة مصرفية . لذا كانت ماريا تنتظر اليوم الذى سيظهر فيه فارس أخلامها بغتة ودون سابق انذار فيمتلك قلبها وتنطلق لغزو العالم .
بما ان فارس الأحلام لم يظهر , فلم يتبق لها والحالة هذه سوى الحلم . عرفت طعم الحب لأول مرة فى الحادية عشرة من عمرها , عندما كانت تذهب الى المدرسة الأبتدائية سيرآ على القدمين . فى اليوم الأول من السنة الدراسية , أدركت أنها لم تكن وحيدة على الطريق وأن صبيآ يسكن فى الجوار يمشى على مسافة قريبة منها , ويذهب الى المدرسة فى الأوقات نفسها , ولم يكونا ليتبادلا كلمة واحدة .
لكن ماريا لاحظت أن اللحظات , التى كانت تدخل السرور الى قلبها وتشعرها بالبهجة أكثر من أى شئ أخر , هى تلك التى تقضيها على الطريق المغبزة بالرغم من العطش والتعب
فى الشمس المحرقة , والصبى الذى يسرع فى مشيته , فيما هى تبذل جهودآ مضنية لتبقى فى محاذاته .
تكرز المشهد لأشهر عدة , لم يكن لدى ماريا , التى تكره الدرس , من تسلية أخرى سوى مشاهدى التلفاز . لذا أخذت تتمنى أن يمضى الوقت بسرعة , وتنتظر بلهفة أوقات الذهاب الى المدرسة , وتشعر بالضجر فى عطلة نهاية الأسبوع بخلاف الفتيا اترابها .
كانت ماريا تتعذب , لان الساعات تمر بطئية بالأولاد , أبطا منها بالكبار , وتحس بأن أيامها متناهية الطول لأنها لا تمنحها الا عشر دقائق تقضيها على الطريق بمحاذاة فتى أحلامها , فيما تقضى آلاف الدقائق والساعات فى عالم الخيال تحلم بلقائه والتحدث اليه ولو لبرهة قصرة من الوقت .
وذات صباح اقترب منها الصبى وسألها ان تعيره قلمآ . فلما تجب وتظاهرت بأن هذا التقرب المتطفل يزعجها فحثت الخطى . ثم ما لبثت أن تجمدت من شدة الذعر عندما رأته يتجه ناحيتها . خشيت ان يكتشف أنها تحبه وتنتظره , وانها تحلم بأن ياخذ بيدها متجاوزا باب المدرية فتعبر الطريق برفقته حتى النهاية , الى ان تبلغ , كما يقال , مدينة كبيرة وأشخاصا يبدون وكأنهم طالعون من الورايات وفنانين وسيارات وقاعات سينما كثيرة وكل أنواع الفرائد .
طوال النهار , كان يشق عليها ان تستجمع أفكارها فى الصف , كان تصرفها العبثى يعذبها فى ان التفكير بأن الصبى استانس بوجودها هو ايضا , وبانه استخدم القلم ذريعة للدخول فى حديث معها , لانها لاحظت فلماً فى جيبه لدى اقترابه منها . كانت تتحرق شوقآ وحزنآ لرؤيته . فى تلك الليلة وفى الليالى التى اعقبتها , أخذت كافة الأجوبة التى يمكن أن تواجهه بها , الى ان عثرت على الطريقة المثلى التى تؤهلها البدء بقصة لن تنتهى ابدآ .
لكن الصبى لم يعد يتوجه اليها بالكلام . استمر لقاؤهما على طريق المدرسة , احيانا تقدمة ماريا يضع خطوات وتمسك قلمآ بيدها اليمنى , واحيانا تتخلف عنه قليلا ليتاح لها ان تراقبه ملياً . وقد وجدت لزاما عليها ان تكتفى بحبه , وتتعذب بصمت حتى نهاية السنة الدراسية .
بدت لها العطلة لا متناهية واستفاقت ذات صباح وساقاها ملطختان بالدم . ظنت انها مائتة لا محالة . فقررت ان تكتب رسالة للصبى تعترف له فيها انه كان الحب الأول الكبير فى حياتها . ثم خطرت لها فكرة ان تغرق فى " السرتا " وتفترسها احدى البهائم المتوحشة التى تلقى الذعر فى نقوس مزارعى تلك المنطقة كالغول الذئبى او البغلة التى لا راس لها .( * (http://www.montada.com/newthread.php?do=newthread&f=233#_ftn1) )
وهكذا , أخذت تفكر بان والديها لن يبكيا لموتها لان الفقراء يتعللون بالأمل , رغم المآسى التى ترهق كواهلهم . لا بل سيعتقدان ان عائلة ثرية دون أولاد قد اختطفتها وانها سترجع يومآ مكللة بالمجد والثروة . أما الحبيب الحالى ( والأبدى ) فى حياتها , فلن يتمكن من نسيانها وسيتعذب كل صباح لانه لم يتوجه اليها بالكلام .
لم تتمكن ماريا من كتابة الرسالة لانها امها دخلت غرفتها ورأت الئرائف الملظخة ببقع الدم وقالت " ها قد كبرت وصرت صبية يا صغيرتى " .
أرادت ماريا ان تعرف ما هى العلاقة بين كونها صارت صبية , والدم الذى انساب بين ساقيها . لكن امها عجزت عن شرح ذلك لها . أكدت لها فقط ان ما حدث لها طبيعى وانها من الان فصاعدا يتوخى عليها ان تضع منشفة صغيرة بسماكة وسادة دمية , مدة أربعة أو خمسة أيام فى الشهر . سألتها ماريا عما اذا الرجال يستعملون أنبوبآ لكى يمنعوا الدم من تلطيخ سراويلهم , وعلمت ان ذلك لا يحدث الا للنساء فقط .
شكت امرها لله , بيد انها ألفت أخر الامر , العادة الشهرية , لكن صعب عليها ان تألف غياب الصبى . تلوم نفسها على موقفها السخيف الذى يدفعها الى التهرب مما كانت تتمناه أكثر من اى شئ اخر .
عشية العودة الى المدرسة , دخلت الكنيسة الوحيدة فى المدينة وأقسمت امام القديس انطونيوس بانها ستتخذ المبادرة وتتحدث الى الصبى .
فى اليوم التالى , رتبت هندامها على أكمل وجه وارتدت الفستان الذى خاطته امها خصيصآ للمناسبة . ثم خرجت وهى تشكر الله على ان العطلة انتهت اخيرآ . لكن الصبى لم يظهر . وهكذا مر أسبوع جديد من الحيرة والقلق , ثم ما لبثت ان علمت من بعض الأصدقاء ان الصبى غادر المدينة .
قال لها أحدهم , غادر بعيدآ ....
عندئذ أدركت ماريا ان ليس هناك ما يمنع من ان نفقد بعض الأشياء الى الأبد , وعلمت أيضآ ان هناك مكانآ يدعى " بعيدآ " وان العالم واسع ومدينتها صغيرة . وان الكائنات الأهم يؤؤل بها الامر الى الرحيل دوما . ودت لو انها تستطيع ان تغادر هى أيضآ , لكنها لا تزال فتية جدآ . ومع ذلك , حسن شاهدت الطرقات المغبرة , اتخذت القرار بانها ستمشى ذات يوم على خطى الصبى , فى ايام الجمعة اللاحقة , وعلى مدى السنوات التالية , تناولت ماريا القربان المقدس وفق عادة دينية درجت عليها , وصلت للعذراء طالبة منها ان تنقذها يوماً من هذا المأزق .
تعذبت ماريا لبعض الوقت , وعبثا حاولت ان تجد أثرآ للصبى . لكن أحدآ لا يعرف الى اين انتقل اهله . عندئذ بدأت ماريا تشعر ان العالم واسع جدآ وان الحب العظيم . ايقنت أيضآ ان العذراء تقطن فى السموات البعيدة التى لا تصلها صلوات الأولاد وتضرعاتهم .
* * * * *
مرت ثلاث سنوات تعلمت خلالها ماريا الجغرافيا والرياضيات , وتابعت مشاهدة المسلسلات التلفزيونية . كما تفصحت سرآ فى المدرسة أولى المجلات الأباحية . وشرعت تكتب بانتظام يوميات تتحدث فيها عن حياتها الرتيبة ورغبتها الكاملة فى التعزف عن كتب الى ما تعلمته , المحيط , الثلج , الرجال الذين يرتدون العمامات , النساء الأنيقات المزدانات بالجواهر .. لكن , لما لم يكن أحد يستطيع التعايش مع الرغبات المستحيلة , وبخاصة حين تكون الأم خياطة والأب غائبآ دوما , فسرعان ما أدركت ماريا انه يجدر بها ان تولى ما يحدث من حولها اهتماما أكبر . كانت تتابع الدراسة لكى تتدبر أمرها فى الحياة , وتفتش فى الوقت نفسه عن رفيق يمكن ان يشاركها فى الحياة , وتفتش فى الوقت نفسه عن رفيق يمكن ان يشاركها احلامها فى الغامرة . عندما بلغت سن الخامسة عشر وقعت فى غرام صبى التقته خلال أحد الزياحات التى تجزى فى أسبوع الألام .
لم تكرر الخطأ الذى ارتكبته فى طفولتها , تحدثا وصارا صديقين ثم ذهبا الى السينما والى الأعياد معآ . وخلصت ماريا الى النتيجة نفسها التى تقول ان الحب يتجلى فى غياب الحبيب اكثر من هفى حضوره . كانت تفتقد حضور الفتى باستمرار , وتقشى الساعات متخيلة ما يمكن ان تقوله له فى اللقاء المقبل , مستعبدة كل ثانية تقاسمتها معه , مستحضرة ما فعلته من تصرفات جيدة او سيئة .
كانت تحب ان تظهر بمظهر الفتاة الشابة التى تملك تجربة فى الحياة والتى سبق لها ان كابدت هيامآ كبرآ , وعرفت مقدار الألم الذى يسببه هذا الشغف . كانت عازمة على الصراع بكل ما أوتيت من قوة , لتملك قلب هذا الرجل , أو ليس هو من سيتزوج بها , ويمنحها أولادآ ويهيبها بيتآ يشرف على البحر .
حدثت امها فى الامر فقالت متوسلة :
- لا يزال الوقت مبكرآ جدى يا بنتى .
- لكنك كنت فى السادسة عشرة عندما اقترنت بأبى .
امتنعت الام عن شرح سبب هذا الزواج المبكر الذى يعود الى ظهور بودار حمل غي متوقع . ارادت ان تضع حدا للنقاش , فلجأت الى الحجة القائلة بانه " فى ذلك الزمان , كان الامر مختلفآ " .
فى اليوم التالى ذهبت ماريا برفقة الصبى للتنزه فى الريف المحيط بالمدينة . أخذا يتبادلان أطراف الحديث , حدثته ماريا عن رغبتها فى السفر , فاخذها بين ذراعيه على سبيل الأجابة وقبلها .
أول قبلة فى حياتها ! حلمت بهذه اللحظة . كان المنظر بديعآ , طيور مالك الحزين المحلقة فى الجو والشمس الغاربة , والمنطقة شبه القاحلة بجمالها الوحشى , وصوت الموسيقى الصادحة فى البعيد .. تظاهرت ماريا بالتمنع ثم عانقته
وفجأة توقفت عن التقبيل .
سالها الصبى : الا ترغبين فى ذلك ؟ ..
ماذا عليها ان تجيبه ؟ اتجيبه بانها ترغب فى ذلك ؟ بالطبع ! لكن لا يجدر بالمرأة ان تستلم على هذا النحو , وبخاصة لزوجها المقبل , والا لأشتبه بأمرها طوال حياته , ولا أعتقد بانها تقبل كل شئ بسهولة كبيرة . لذا فضلت الا تقول شيئاً .
أخذها من جديد بين ذراعيه , بحماس أقل هذه المرة . ثم توقف وقد اشتد احمرار وجهه . أدركت ان هناك خللا ما طرأ , لكنها خافت ان تسأله عن الموضوع . أمسكت بيده وعاد الى المدينة , وهما يتحدثان عن امر اخر وكأن شيئآ لم يكن .
فى تلك الليلة , وايقنت ماريا ان حدثا جللا قد حصل , فدونت فى يومياتها هذه العبارات التى انتقتها بعناية .
" عندما نلتقى أحدهم ونقع فى غرامه , نشعر ان الكون كله يطاوعنا فى هذا الاتجاه . هذا ما حدث لى اليوم عند مغيب الشمس . لكن اذا حدث خلل منا , فان كل شئ عندئذ يتلاشئ ويختفى ! طيور مالك الحزين والموسيقى الصادحة فى البعيد وطعم شفتيه . ترى , كيف يمكن للجمال الذى كان حاضرآ بقوة ان يختفى بهذه السرعة ويتلاشئ ؟
الحياة تمر مسرعة وتنقلنا من الجنة الى الجحيم , ولا يحتاج الامر الا الى ثوان معدودات .
فى اليوم التالى , ذهبت لموافاة صديقتها شاهدنها جمعهم تتنزه برفقة " حبيبها " . يبدو انه ليس مهما فى نهاية المطاف أن يعيش الأنسان حبآ كبيرآ , المهم ان يعرف الجميع انك شخص يثير الرغبة لدى الأخر . كانت صديقتها متشوقات جدآ ليعرفن كيف جرت الأمور , فاعلنت ماريا لهن بفخر شديد أن افضل ما حصل لها هو عندما قبلها القبلة الأولى في حياتها .
اخذت احدى الفتيات بالضحك .
- ألم تفتحى فمك ؟
وبغتى , أصبح كل شئ واضحا لها , السؤال والخيبة .
- ولم على فعل ذلك ؟
- لكى تدعى لسانه يمر .
- وما الذى سيتغير ؟
- هكذا يقبل الرجل المرأة .
أطلقت الضحكات المكبوتة , وأظهرت بعض الفتيات تعاطفآ مخادعآ فيما كتمت الأخريات غيظهن , ولاحت فى أذهانهن مشاريع الانتقام , لانهم لم يعرفن حبيبا من قبل . تظاهرت ماريا بعد الاكتراث , وضحكت بدورها , حتى لو كانت روحها تبكى .
اخذت تلعن فى سرها كل الأفلام التى علمتها ان تغمض عينيها وتمسك بيدها رأس صديقها , ثد تدير راسها تارة الى اليسار وطورا الى اليمين دون ان تعلمها ما هو جوهرى . ثم ما لبثت ان صاغت تفسيراً ملائمآ لما جرى ( لم أشا الاستسلام فى الحال , لاننى لم أكن متأكدة بعد من مشاعرى . لكنى متيقنة الأن انه رجل حياتى ) وانتظرت الفرصة المقبلة .
بعد ثلاثة أيام , رات الفتى خلال احتفال اقمته البلدية , وكان يمسك بيد أحدى صديقاتها , تلك التى سألتها بالذات عن طعم القبلة الأولى . تظاهرت ماريا عندئذ بعدم الاكتراث . احتملت المشهد حتى نهاية السهرة , والهت نفسها بالتحدث الى صديقاتها الفنانات , والشبان الذين يسكنون فى الجوار . كما تظاهرت بتجاهل نظرات الاشفاق التى رمقتها بها أحدى
صديقاتها . لكن , ما ان رجعت الى البيت حتى شعرت انها عاجزة عن الامساك بزمام الامور وان عالمها قد انهار , فبكت طوال الليل .
تعذبت ثمانية أشهر متواصلة وخلصت الى ان الحب لم يخلق لها ولم تخلق هى من اجله . قررت عندئذ ان تسلك طرق الرهبنة وتكرس بقية حياتها لمحبة يسوع , لان هذا الحب لا يترك جراحآ اليمة فى القلب . سمعت الناس فى المدارس يتحدثون عن مرسلين الى أفريقيا للتبشير , فرأت فى ذلك منفذآ للخلاص من حياتها الرتيبة الخالية من الأنفعالات .
قررت الدخول الدير , وتعلمت الأسعافات الأولية ( لأن هناك ناسا كثيرين يقضون حتفهم فى أفريقيا بحسب ما يقول بعض الاساتذة ) , وشاركت بجد ومثابرة فى دروس التعليم الدينى . بدأت تتخيل نفسها قديسة الأزمنة الحديثة تخلص النفوس الخاطئة , وتستكشف الغابات المزدحمة بالنمور والأسود .
, بدأت ماريا تشعر ان ثقتها بنفسها تضعف فى حضور الرجال , وتملكتها رغبة عارمة فى مغادرة المكان الذى تعيش فيه . وقعت فى الحب مرة ثالثة ورابعة وتعلمت التقبيل والمداعبة والأستسلام لداعبة أحبائها , الا ان هناك دوما شيئآ لا يسير على ما يرام , ويحدث ان تنتهى العلاقة فى الوقت الذى تقتنع ماريا فيه بان شريكها مناسب لتقضى معه بقية أيام حياتها .
وفى النهاية , توصلت ماريا الى الاستنتاج ان الرجال لا يجلبون الا الألم والحرمان والعذاب والضجر . ذات يوم , بعد الظهيرة , حين صادف وجودها فى احدى الحدائق , اتخذت قرارآ , وهى تراقب اما تلاعب ابنها ذا السنتين , ان بامكانها ان يكون لها هى ايضآ زوج واولاد ومنزل يشرف على البحر , لكنها لن تقع فى الغرام اطلاقا , لان الغرام يفسد كل شئ .
* * * * *
ترقبو الجزء الثاني
silentcray@hotmail.com