رفعت خالد
25-12-2008, 12:09 AM
http://www.montada.com/picture.php?albumid=827&pictureid=7472
بسم الله الرحمن الرحيم
- هنا من فضلك !
قالها د.أمجد لسائق سيارة الأجرة النحيل فركنت العربة مستجيبة أمام بناء ضخم.. " مطار الدار البيضاء ".
نزل الدكتور يحمل حقيبتين بيديه و خطا بسرعة نحو بوابة المطار الزجاجية التي ما إن اقترب حتى فُتحت لتنغلق من جديد بعد أن ابتلعته !
لامس وجنتيه هواء المكيف البارد و صدم أذنيه صمت عقيم ، جامد !
" غريب ! "
تمتم بها د.أمجد و هو واقف وسط الساحة الفسيحة للمطار و الخالية تماما رغم كونه منتصف النهار من يوم الاثنين !
مطّ شفتيه في تعجّب و تقدّم و هو يلتفت في كل اتجاه..
الهدوء التام !
صوت قرع حذائه البني الأنيق على البلاط اللامع..
الخواء المزعج !
" أين الجميع ؟.. أليس هذا الجنون بعينه ؟ متى كان أكبر مطار في أيّ دولة فارغا ؟.. هـل... ؟ "
و بلع أفكاره لما خرجت من إحدى الزوايا.. كرة ملوّنة تتدحرج !
كرة كبيرة تدور حول نفسها ببطء و الألوان تتناوب على سطحها بهدوء مستفز وسط وجوم المكان و موته !
" ماذا يعني هذا ؟ "
ثم.. فجأة و قبل أن يحاول الفهم تردّد صدى ضحكات طفولية في المكان و صوت ركض هنا و هناك !
" تعالا هنا يا وغدان... سمير، خالد... تعالا حالا ! "
لابد أنه أب ينادي طفليه اللذان يركضان بمرح.. و هذا البالون لهما حتما. لكنه لا يرى الآن سوى هذا الأخير و هو يستقر ساكنا أمامه تماما !
تنهّد بنفاد صبر و عقد العزم ، فحثّ الخطى بجدية إلى المكان الذي خرجت منه الكرة.. دارت عيناه خلف عويناته السميكة بدهشة و ذعر لمّا لم يجد شيئا سوى كراسي نظيفة، فارغة !
ضغط على صدغيه بقوة حتى يطرد الأفكار التي تدفعه إلى تصديق كل هذا !.. ثم نظر إلى أعلى و هتف بصوت شرخ الصمت:
" مرحباااا.. هل من أحد هنااااا ؟... مرحبااااا... هيهوووو !... لكن أين الجميع ؟ "
" بّووووووووم ! "
صوت انفجار صدّع المكان و أذنيه و اقتلع قلبه اقتلاعا فالتفت بذعر صارخ ليرى... الكرة إياها و قد تحولت إلى أشلاء !
تسمّر مكانه للحظات لم يعرف طولها لأنها امتزجت باللاشيء الذي يطغى على المكان.. ثمّ..
" المرجو من السادة و السيدات المسافرين الكرام الوقوف أمام بوابة الخروج.. الطائرة المتوجهة إلى باريس ستقلع بعد قليل "
كان وقع هذا الصوت الأنثوي ، الحاد في قاعة المطار كالرّعد الذي يشق السماء في ساعة ما - بعد منتصف الليل - حيث الكل نيام !..
" مع من تتكلم هذه المجنونة بحق الله ؟.. و من يتلاعب بأعصابي هنا ؟ "
صعد السلم المتحرك ركضا ثم هرول تائها بين الأروقة.. باحثا عن شيء ما.. حتى توقف أخيرا أمام باب كُتب عليه بخط إلكتروني " غرفة المراقبة و الإعلام ".
أدار المقبض و اندفع داخل الغرفة و لم يستغرب إذ رآها خالية هي الأخرى إلا من الكراسي و الأجهزة..
كان مكبر الصوت منتصبا مكانه.. و شاشات أجهزة الكمبيوتر تضيء بوهجها ظلام الغرفة الباردة.
جدران زجاجية تسمح برؤية ساحة المطار التي كان بها قبل قليل و هي خاوية على عروشها !
و في الجهة الأخرى.. منظر خارجي لمكان إقلاع و هبوط الطائرات.. و لا أثر لأي طائرة.
" أين إذن هذه الطائرة التي ستقلع ؟ "
مرّ بمحاذاة الأجهزة و لوحات المفاتيح و هو يلمسها بيديه في ذهول !
ثم توقف فجأة متجمدا و فكه السفلي يرتعش و ينفتح ببطء.. رجلاه أيضا كانتا ترتعشان !
* * *
أليس هذا الجنون بعينه ؟
* * *
كان يحدّق بشاشات كاميرا المراقبة التي تعج بمئات المسافرين !
الغريب أن هذه الكاميرات تصوّر ، بالضبط ، الساحة التي كان فيها قبل لحظات !..
حوّل نظره بسرعة إلى النافذة الزجاجية الضخمة ، فارتعش قلبه بعنف لما وجد ((نفس الساحة)) خالية ، غارقة في سباتها البارد !
" كيف إذن ؟.. "
بدأت الآن أعصابه تنهار ، فقد أوشك على السقوط أرضا لولا أن يداه أمسكتا بأقرب كرسي !
لهث بانفعال و عيناه جاحظتان.. ثم التفت ببطء لمّا سمع صوتا ما !..
على شاشة أخرى رأى منظر طائرة و هي تتحرك ببطء في مسارها ثم تندفع بسرعة لترتفع أخيرا عن الأرض.
انتقل بصره رغما عنه إلى النافذة الخلفية حيث يظهر فناء الطائرات.. و كان خاليا هو الآخر !
اعتدل مكانه و بلع ريقه بصعوبة و هو يمشي بحذر إلى حيث الميكرفون.. أمسكه بيد مرتعشة ، أدنا فمه ببطء و لبث برهة قبل أن يصرخ:
" أينكم يا ناس ؟؟.. النجدة !.. أنا في مكان فارغ... لا.. أنا في المطار.. و إني لأراكم الآن ، لكني لا أراكم ! "
و ما إن أنهى نداءه المستغيث حتى نبض قلبه نبضة قوية انتشر صداها بصدره طويلا و أحدثت سخونة خنقت أضلعه !..
لقد سمع صوته و هو يخرج من المكبّر... أنثويا !!..
* * *
ركض.. قفز الدرجات المتحركة بل طار فوقها و سرعته كانت تتناقض مع سنه لدرجة مخيفة !
قصد البوابة الزجاجية و لم يتوقف حتى اصطدم بها فارتجّت بعنف !
و نظر إليها بدهشة !..
المفروض أن تنفتح قبل أن يصل إليها !
رأى المارة في الخارج يمشون بسلام.. و سيل السيارات لا ينقطع عن الانسياب..
شعر براحة باردة تسري بشرايينه و بدأ يشير بيديه و يصيح..
ثم ثار شيئا فشيئا حتى أصبح مسعورا تماما فخبط الباب و ركله ثم ضربه برأسه ضربات مخيفة حتى سال خيط من الدم فوق جبهته !
و لم ينتبه له أحدهم !..
ألاَ يسمعون ؟.. أ لن يلتفت واحد فقط ليراه ؟
صرخ بكل ما أوتي من قوة حتى وهن صوته و احمّر وجهه و انتابته نوبة سعال حادة فسكت ثم عاود ضرب الباب بيديه و بأقصى قوة ممكنة حتى كادت مفاصله تنخلع من مكانها !
قضى عليه الرعب و العصبية الجنونية فسقط على ركبتيه منهارا و بكى كما يبكي الأطفال !..
و فجأة !..
* * *
- أمجد عزيزي... أمجد ؟...
- أممم... لا ، لا... إنهم يتجاهلونني.. سأموت في هذا الجحيم !
- سلامتك يا حبيبي ، من هم الذين يتجاهلونك ؟ و أي جحيم تتكلم عنه ؟
انفتح الجفنان على عينين محمرّتين كالجمر تنظران إلى فوق بذعر.. ثم سرعان ما اعتدل أمجد في فراشه و فرك عينيه بقوة و هو ينظر حوله غير مصدق !
ثم فتح شفتيه الشاحبتين أخيرا و وجّه كلامه إلى زوجته الشابة :
- أين أنا ؟
قالت (سناء) و هي تبتسم برقة :
- لا وقت لديك يا حبيبي.. لقد كان – ربما - كابوسا مريعا ! ستحكي لي عنه بالتفصيل فيما بعد ، أما الآن فأسرع لتلحق بندوة الأطباء في باريس.. الطائرة ستقلع بعد ساعة !
تمت بحمد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
- هنا من فضلك !
قالها د.أمجد لسائق سيارة الأجرة النحيل فركنت العربة مستجيبة أمام بناء ضخم.. " مطار الدار البيضاء ".
نزل الدكتور يحمل حقيبتين بيديه و خطا بسرعة نحو بوابة المطار الزجاجية التي ما إن اقترب حتى فُتحت لتنغلق من جديد بعد أن ابتلعته !
لامس وجنتيه هواء المكيف البارد و صدم أذنيه صمت عقيم ، جامد !
" غريب ! "
تمتم بها د.أمجد و هو واقف وسط الساحة الفسيحة للمطار و الخالية تماما رغم كونه منتصف النهار من يوم الاثنين !
مطّ شفتيه في تعجّب و تقدّم و هو يلتفت في كل اتجاه..
الهدوء التام !
صوت قرع حذائه البني الأنيق على البلاط اللامع..
الخواء المزعج !
" أين الجميع ؟.. أليس هذا الجنون بعينه ؟ متى كان أكبر مطار في أيّ دولة فارغا ؟.. هـل... ؟ "
و بلع أفكاره لما خرجت من إحدى الزوايا.. كرة ملوّنة تتدحرج !
كرة كبيرة تدور حول نفسها ببطء و الألوان تتناوب على سطحها بهدوء مستفز وسط وجوم المكان و موته !
" ماذا يعني هذا ؟ "
ثم.. فجأة و قبل أن يحاول الفهم تردّد صدى ضحكات طفولية في المكان و صوت ركض هنا و هناك !
" تعالا هنا يا وغدان... سمير، خالد... تعالا حالا ! "
لابد أنه أب ينادي طفليه اللذان يركضان بمرح.. و هذا البالون لهما حتما. لكنه لا يرى الآن سوى هذا الأخير و هو يستقر ساكنا أمامه تماما !
تنهّد بنفاد صبر و عقد العزم ، فحثّ الخطى بجدية إلى المكان الذي خرجت منه الكرة.. دارت عيناه خلف عويناته السميكة بدهشة و ذعر لمّا لم يجد شيئا سوى كراسي نظيفة، فارغة !
ضغط على صدغيه بقوة حتى يطرد الأفكار التي تدفعه إلى تصديق كل هذا !.. ثم نظر إلى أعلى و هتف بصوت شرخ الصمت:
" مرحباااا.. هل من أحد هنااااا ؟... مرحبااااا... هيهوووو !... لكن أين الجميع ؟ "
" بّووووووووم ! "
صوت انفجار صدّع المكان و أذنيه و اقتلع قلبه اقتلاعا فالتفت بذعر صارخ ليرى... الكرة إياها و قد تحولت إلى أشلاء !
تسمّر مكانه للحظات لم يعرف طولها لأنها امتزجت باللاشيء الذي يطغى على المكان.. ثمّ..
" المرجو من السادة و السيدات المسافرين الكرام الوقوف أمام بوابة الخروج.. الطائرة المتوجهة إلى باريس ستقلع بعد قليل "
كان وقع هذا الصوت الأنثوي ، الحاد في قاعة المطار كالرّعد الذي يشق السماء في ساعة ما - بعد منتصف الليل - حيث الكل نيام !..
" مع من تتكلم هذه المجنونة بحق الله ؟.. و من يتلاعب بأعصابي هنا ؟ "
صعد السلم المتحرك ركضا ثم هرول تائها بين الأروقة.. باحثا عن شيء ما.. حتى توقف أخيرا أمام باب كُتب عليه بخط إلكتروني " غرفة المراقبة و الإعلام ".
أدار المقبض و اندفع داخل الغرفة و لم يستغرب إذ رآها خالية هي الأخرى إلا من الكراسي و الأجهزة..
كان مكبر الصوت منتصبا مكانه.. و شاشات أجهزة الكمبيوتر تضيء بوهجها ظلام الغرفة الباردة.
جدران زجاجية تسمح برؤية ساحة المطار التي كان بها قبل قليل و هي خاوية على عروشها !
و في الجهة الأخرى.. منظر خارجي لمكان إقلاع و هبوط الطائرات.. و لا أثر لأي طائرة.
" أين إذن هذه الطائرة التي ستقلع ؟ "
مرّ بمحاذاة الأجهزة و لوحات المفاتيح و هو يلمسها بيديه في ذهول !
ثم توقف فجأة متجمدا و فكه السفلي يرتعش و ينفتح ببطء.. رجلاه أيضا كانتا ترتعشان !
* * *
أليس هذا الجنون بعينه ؟
* * *
كان يحدّق بشاشات كاميرا المراقبة التي تعج بمئات المسافرين !
الغريب أن هذه الكاميرات تصوّر ، بالضبط ، الساحة التي كان فيها قبل لحظات !..
حوّل نظره بسرعة إلى النافذة الزجاجية الضخمة ، فارتعش قلبه بعنف لما وجد ((نفس الساحة)) خالية ، غارقة في سباتها البارد !
" كيف إذن ؟.. "
بدأت الآن أعصابه تنهار ، فقد أوشك على السقوط أرضا لولا أن يداه أمسكتا بأقرب كرسي !
لهث بانفعال و عيناه جاحظتان.. ثم التفت ببطء لمّا سمع صوتا ما !..
على شاشة أخرى رأى منظر طائرة و هي تتحرك ببطء في مسارها ثم تندفع بسرعة لترتفع أخيرا عن الأرض.
انتقل بصره رغما عنه إلى النافذة الخلفية حيث يظهر فناء الطائرات.. و كان خاليا هو الآخر !
اعتدل مكانه و بلع ريقه بصعوبة و هو يمشي بحذر إلى حيث الميكرفون.. أمسكه بيد مرتعشة ، أدنا فمه ببطء و لبث برهة قبل أن يصرخ:
" أينكم يا ناس ؟؟.. النجدة !.. أنا في مكان فارغ... لا.. أنا في المطار.. و إني لأراكم الآن ، لكني لا أراكم ! "
و ما إن أنهى نداءه المستغيث حتى نبض قلبه نبضة قوية انتشر صداها بصدره طويلا و أحدثت سخونة خنقت أضلعه !..
لقد سمع صوته و هو يخرج من المكبّر... أنثويا !!..
* * *
ركض.. قفز الدرجات المتحركة بل طار فوقها و سرعته كانت تتناقض مع سنه لدرجة مخيفة !
قصد البوابة الزجاجية و لم يتوقف حتى اصطدم بها فارتجّت بعنف !
و نظر إليها بدهشة !..
المفروض أن تنفتح قبل أن يصل إليها !
رأى المارة في الخارج يمشون بسلام.. و سيل السيارات لا ينقطع عن الانسياب..
شعر براحة باردة تسري بشرايينه و بدأ يشير بيديه و يصيح..
ثم ثار شيئا فشيئا حتى أصبح مسعورا تماما فخبط الباب و ركله ثم ضربه برأسه ضربات مخيفة حتى سال خيط من الدم فوق جبهته !
و لم ينتبه له أحدهم !..
ألاَ يسمعون ؟.. أ لن يلتفت واحد فقط ليراه ؟
صرخ بكل ما أوتي من قوة حتى وهن صوته و احمّر وجهه و انتابته نوبة سعال حادة فسكت ثم عاود ضرب الباب بيديه و بأقصى قوة ممكنة حتى كادت مفاصله تنخلع من مكانها !
قضى عليه الرعب و العصبية الجنونية فسقط على ركبتيه منهارا و بكى كما يبكي الأطفال !..
و فجأة !..
* * *
- أمجد عزيزي... أمجد ؟...
- أممم... لا ، لا... إنهم يتجاهلونني.. سأموت في هذا الجحيم !
- سلامتك يا حبيبي ، من هم الذين يتجاهلونك ؟ و أي جحيم تتكلم عنه ؟
انفتح الجفنان على عينين محمرّتين كالجمر تنظران إلى فوق بذعر.. ثم سرعان ما اعتدل أمجد في فراشه و فرك عينيه بقوة و هو ينظر حوله غير مصدق !
ثم فتح شفتيه الشاحبتين أخيرا و وجّه كلامه إلى زوجته الشابة :
- أين أنا ؟
قالت (سناء) و هي تبتسم برقة :
- لا وقت لديك يا حبيبي.. لقد كان – ربما - كابوسا مريعا ! ستحكي لي عنه بالتفصيل فيما بعد ، أما الآن فأسرع لتلحق بندوة الأطباء في باريس.. الطائرة ستقلع بعد ساعة !
تمت بحمد الله