عزمي المعز
25-12-2008, 08:50 AM
(1)
أغصان يابسة تئن بأنين سماوي , أرض مبتلة وقطرات عالقة بالحشائش , النسيم بلغ شفافية حتى أمكن أن يري من خلاله الملائكة عند بداية الغسق , يلفح بلطف يحمل معه رائحة المانجو إلي الأنوف ويداعب الملكوت فيرضخ لتلك المشيئة الخفية فينثني بلين وحياء ..
أصوات تدنو وتبتعد مبعثرة في شكلها منسجمة في جوهرها , أطفال دون العاشرة يرددون ذلك الانسجام بطابع خفي ...
في القولد التقيت بالصديق انعم به من وافر صديق ...
تتقافز إلي مسامعه كحياة أخري تاق إليها في مكنون قلبه , يسمعها بوضوح كحاضره وتمناها بين نفسه أبدا , لحظة اختلجت فيها كل العواطف المتاحة لتشكل له لوحة بالغة الدقة والإتقان , فما تلبث أن تبتعد عن مسامعه رويداً رويدا, ومن ثم تتلاشي ولكن موسيقاها ما تزال تدندن في مخيلته , فترتسم علي شفتيه الرقيقتين تلك الابتسامة العذبة رغم بضع دمعات استأذنت الخروج من مخابئها , تاق لرؤية شيء ما .. شيء اعتجر في أعماقه البعيدة غاص بعيداً بين حنينه التائه وماضيه الدافئ ..
القمر بين فراديس الظلمة وبين عبق نوره السرمدي كفتاة بالغة الفتنة تبرز عينيها بين خمر سوداء ..
قرر قضاء الليلة في أحضان عشته التي حملته كل تلك الآهات , وأخذ يحدق في سمائها ذات القش والحصير , ملامحه التي تخالجت مع تلك الظلمة القبرية مع بصيص ضوء الشمعة الخافت القادم من الشمال , سمرة دافئة وناعمة وعيون خلاسية تبدو عليه وسامة هادئة رغم آثار الشمس الاستوائية الحارقة علي الجبين ..
أمسك القلم بسبابته وإبهامه ومقدمته بفمه وأخذ يديره بحركة آلية محاولاً خلالها اصطفاء التعبير لينتقي أفضله , وأحلام ذلك الشمال الدافئ تنساب إلي مخيلته بلطف فترتاده تلك الابتسامة العذبة حين يطرق بخياله تلك الأبواب المتهالكة وذلك الحوش الذي اتسع لكل جميل في حياته وتلك الراكوبة التي لطالما ربط الحبل علي جوانبها واخذ يتأرجح وضحكاته تعلو وتعلو ..
وقفت شجرة النيم الضخمة التي وسع ظلها الأرجاء وفاض علي الجوار , ترتسم علي ساقها بعض منحوتات الصبي الغريبة فقد كان حينها يقيس طوله علي ذلك الجزع تاركاً إشارة صغيرة تدل عليه وكم تسعه الفرحة حينما يتقدم في القامة ,وعند الأطراف بناية صغيرة يلجها بخياله , غرفة بنيت باللبن وزينها نسج العناكب بسقفها الحصيري ونحت المطر علي جدرانها والشقوق علي الجوانب , توسطها ذلك العنقريب الذي تدلت حباله حتى أوشكت ملامسة الأرض وقد عمت تلك الغرفة فوضي عارمة أوراق ملقاة وأكياس فارغة , حنين هزه لكل ذلك والابتسامة ما تزال , فيشهق شهقة عميقة ويزفرها بهدوء ..
أذنت الشمعة بالرحيل فانقطعت تلك الخواطر وهو يراقب مصرعها مردداً بين نفسه ..
- سبحان الله ما في حاجة بدور نهايتا ..
فتذكر القرية وتلك الهالة الضبابية تغشي عينيه سمع أصواتها الراسخة وهي تناديه حمار شيخ أيوب , وديك ود أحمد ونعجة بت العطا الأصيل يحاصر المكان والأطفال يلعبون بنداءاتهم وهتافاتهم التي تصخب المكان كانوا شبه عراة أجسادهم متسخة وبطونهم منتفخة وتخرج من أنوفهم تلك الألوان التي قلما تغادرهم طيلة السنة , وأجتمع أولئك عند عنقريب السر الشفقان يتجاذبون الحديث بنكهة الماضي التي لن تعود وعبق ذلك التأريخ يستذكرون تلك المواقف فيضحكون بعفوية بالغة وكأنما حدث في لحظتهم تلك يمسحون أطراف أعينهم بأكمام جلابيبهم تلك , قلوبهم لا تحمل هماً , يبتسمون برضاً واضح بملامحهم الطيبة الساذجة , يسردون بألم تارة وبفرح عارم تارة أخري , السيد ود الصديق , إبراهيم ود المبارك الريح ود أمحد طه , اللمين ود الشريف والسر الشفقان ..تأتي صفية بت عمر حاملة ماعون اللبن فتسلم عليهم فيغتالها فرصة الريح ود أمحد طه ليسألها عن أخبار الطيب الذي سافر إلي بور تسودان ..
الباقر الراعي وقد وصل أخيراً بغنم الحلة بعد أن وئد النهار بأكمله بحثاً عن المرعي واضعاً يده اليمني علي عكازه الذي زين بجلود البقر الرقيقة ويحمل علي كتفه صرة تصدر صوت من تلك الأواني الفارغة وكلبه يتبعه وهو يتقافز في نشوة غريبة , تتدافع الأغنام علي بيوت أصحابها فتدفع كل منهم باب صاحبها كفرد من أفراد تلكم العائلة ويقمن الفتيات بدورهن ساعتها فيمهدن لهم طريقهم حتى الزريبة ..
علي المؤذن ينادي بالصلاة والصوت يبتعد رويداً رويدا ومن ثم يتلاشي ...
- مانى عافية منك يا يوسف ... مانى عافية منك ..
نبرات حزن عميق , وقلب لفته تلك الهالة الشاسعة من الألم , تنهمر بعض الدموع علي آثار الزمن المرتسمة علي وجهها الوضاء من غير سوء, كانت جميلة رغم كل شيء بعينيها الواسعتين وشعرها الأسود الذي تخللته بعض النقوش البيضاء تغازلها تلك الضفيرة الدقيقة المتمردة فتمسكها بغنج صبية وترفعها أعلي أذنها اليسرى تنظر إلي الأديم بنفس كسيرة فتشهق بهدوء وتزفرها بهدوء شديد وتردد بين نفسها ..
- الله يرحمك يا ود المجذوب ..
لكم تذكر يوم أن وضعت يوسف . توافدت النسوة إليها ليباركنه لها ويحمدن الله علي سلامتها ,الفرح قد عم الجميع بقدومه , وذبح عبد الرحيم ود المجذوب حينها عجلاً بأكمله ابتهاجاً , لم تسعه الفرحة حينذاك ...
فتجهش بالبكاء , كانت وما تزال تبكيه كلما ذكرته , وترددها ثانية ..
- الله يرحمك يا ود المجذوب .
كان ود المجذوب مراكبياً يعمل في صناعة المراكب وقد ورث صنعته من أبيه المجذوب ود الطاهر الذي ذاع صيته في أرجاء عموم المديرية , يأتيها بالخير الوفير كلما عاد , قفته دائماً محملة بأصناف وأصناف ..
وتذكر ذلك الأصيل عندما أتتها سعاد بت أمحد طه واصطحبتها إلي زواج رقية بت عمر , كانت ما تزال ابنة الأربعة عشرة ربيعاً , تحيطها هالة خفية وسرمدية , بجمالها الدافئ بكل تفاصيلها الناعمة الرقيقة وابتسامة يصعب معها مقاومة ذلك السحر الكامن فيها , ترسل بريقاً لؤلئيا من عينيها الواسعتين صافتي السواد وشعرها الناعم المسدل , كل شيء فيها يوحي بقدسية كقدسية الملائكة , صافية الذهن وتبدو عليها أمارات سذاجة جميلة , وعبد الرحيم وقتها شاب صارم الملامح تكسوه سمرة ناعمة , وشارب غض , يشع منه بريق قوى , عندما التقت عيناهما سرت رعشة غامضة في كيانها فخرجت تلك الابتسامة التي فضحت الدواخل وذلك الحياء العذري يكسو وجهها , تقدم لخطبتها بعد أيام قلائل , وزفت له بعد أشهر .
أحيط الطفل بحب ورعاية شديدين , فقد كان أبوه عبد الرحيم رحمه الله يكن له حباً عظيماً , وقد أغدق في تدليله , والحاجة الحرم والدتها عليها رحمة الله كانت تبكي دائماً عندما تحمله , أطلقت عليه أسم يوسف تيمناً بأخيها يوسف ود المعيجن الذي استشهد مع الخليفة عبد الله في أم دبيكرات .
يوسف ود المعيجن . شخصية كانت تدور فيها محاور البطولة , الشهامة والتضحية, كانت الأساطير تحلق حوله وتلازمه منذ أن بشر به الشيخ الزين فقد كانت نبوءات الشيخ وقتها كنبوءات الرسل..
يوم جاءته فاطمة بت الكبيك ترسم دمعة علي خدها حاملة صغيرها يوسف بيمناها وألصقته بحضنها , دخلت علي الشيخ الزين وكان وقتها جالساً علي عنقريبه الكبير الذي وسر بالدوبارة , ملامحه التي تدعو للرهبة والإجلال , الوقار يشع بريقه من جبينه الوضاء وعينيه الواسعتين الخجولتين يمسك بسبحته اللالوبية يغمغم بكلمات وأذكار , حليق الرأس مهذب اللحية طويلها تنبعث من غرفته رائحة عود وبخور وبخرات . ركوته الفخارية وتبروقته من جلد البقر , ومصحفه الذي خط بيده .
فرشت أرض الغرفة بالرمل الأحمر ورشت بالماء لتضفي علي المكان رطوبة هادئة وحالمة .
أعلمته بمرض صغيرها , فأمسك الشيخ برأس الصغير وبدأ يغمغم بكلماته والصغير يتصبب عرقاً ..
دفع الشيخ بالصغير لأمه , ودفع لها بضع وريقات ..
- بخري منهن مرتين ..
- وكدي ببقي طيب يا أبوي ..
- بمشيئة واحد أحد ..
- الله يباركك يا أبوي ..
فيبتسم الشيخ فيزدان جبينه بوهج ملائكي ويشير إلي الصغير ..
- الوليد ده مبروك ..الوليد ده هدية من الله ..
كبر يوسف وقد حفظ القرءان في سنوات عمره الست , وأخذ الفقه علي يد الشيخ عبد الباقي وعمره لم يتجاوز العاشرة وقد هم والده المعيجن ود سمرة بإرساله للأزهر ولكن قصر اليد وقف حائلاً بين ذلك , كان المعيجن ود سمرة صديق الباشمفتش التركي حميد الأناضولي عندما قرر الأخير إرسال الفتي إلي إستانبول لإلحاقه بمدرسة الحقوق , ولكن فاطمة بت الكبيك وقفت كالحجر في طريق أماني حميد الأناضولي , وكانت ليوسف أحلام أخري فقد كان يحلم في قرارة نفسه , أن يمضي حاجاً إلي بيت الله الحرام , تكسوه تلك الأشواق الصوفية لرؤية بيت الله وقبر رسول الله , يجلس بعد أداء المناسك في ظلمة قبرية يدعو ويبتهل وينوح آملاً بتلك الزيارة يخفق قلبه شوقاً وتغدق أعينه دمعا .
وعندما أذن مؤذن الخليفة هب لندائه ولازمه دهراً حتى استشهاده في 1899. كانت الأساطير والبطولة تسبقه كنسمة ناعمة وكان مثال يجب الحذو به , طيب القلب سليم النية .
تبكيه الحرم بت المعيجن وتري في حفيدها هذا أخيها وكانت تردد ..
- الوليد ده مبيريك .. الوليد ده هدية من الله .. الله يحفظك يا عشاي ..
ما يزال صدي عباراتها يتردد في مسامع بتول , كانت امرأة ولا ككل النساء صائبة في رأيها , حلوة المعشر , طيبة القلب , إن لم تكن أمها لصورتها بالملاك رحمها الله .
الإحساس عندها ما يزال , وطعم شيء ما في حلقها , وتلك الدمعات تبلل وجهها صوتها الذي أختلط بحزن عميق ما تزال تردد به ..
- ماني عافية منك يا يوسف .. ماني عافية منك ..
أغصان يابسة تئن بأنين سماوي , أرض مبتلة وقطرات عالقة بالحشائش , النسيم بلغ شفافية حتى أمكن أن يري من خلاله الملائكة عند بداية الغسق , يلفح بلطف يحمل معه رائحة المانجو إلي الأنوف ويداعب الملكوت فيرضخ لتلك المشيئة الخفية فينثني بلين وحياء ..
أصوات تدنو وتبتعد مبعثرة في شكلها منسجمة في جوهرها , أطفال دون العاشرة يرددون ذلك الانسجام بطابع خفي ...
في القولد التقيت بالصديق انعم به من وافر صديق ...
تتقافز إلي مسامعه كحياة أخري تاق إليها في مكنون قلبه , يسمعها بوضوح كحاضره وتمناها بين نفسه أبدا , لحظة اختلجت فيها كل العواطف المتاحة لتشكل له لوحة بالغة الدقة والإتقان , فما تلبث أن تبتعد عن مسامعه رويداً رويدا, ومن ثم تتلاشي ولكن موسيقاها ما تزال تدندن في مخيلته , فترتسم علي شفتيه الرقيقتين تلك الابتسامة العذبة رغم بضع دمعات استأذنت الخروج من مخابئها , تاق لرؤية شيء ما .. شيء اعتجر في أعماقه البعيدة غاص بعيداً بين حنينه التائه وماضيه الدافئ ..
القمر بين فراديس الظلمة وبين عبق نوره السرمدي كفتاة بالغة الفتنة تبرز عينيها بين خمر سوداء ..
قرر قضاء الليلة في أحضان عشته التي حملته كل تلك الآهات , وأخذ يحدق في سمائها ذات القش والحصير , ملامحه التي تخالجت مع تلك الظلمة القبرية مع بصيص ضوء الشمعة الخافت القادم من الشمال , سمرة دافئة وناعمة وعيون خلاسية تبدو عليه وسامة هادئة رغم آثار الشمس الاستوائية الحارقة علي الجبين ..
أمسك القلم بسبابته وإبهامه ومقدمته بفمه وأخذ يديره بحركة آلية محاولاً خلالها اصطفاء التعبير لينتقي أفضله , وأحلام ذلك الشمال الدافئ تنساب إلي مخيلته بلطف فترتاده تلك الابتسامة العذبة حين يطرق بخياله تلك الأبواب المتهالكة وذلك الحوش الذي اتسع لكل جميل في حياته وتلك الراكوبة التي لطالما ربط الحبل علي جوانبها واخذ يتأرجح وضحكاته تعلو وتعلو ..
وقفت شجرة النيم الضخمة التي وسع ظلها الأرجاء وفاض علي الجوار , ترتسم علي ساقها بعض منحوتات الصبي الغريبة فقد كان حينها يقيس طوله علي ذلك الجزع تاركاً إشارة صغيرة تدل عليه وكم تسعه الفرحة حينما يتقدم في القامة ,وعند الأطراف بناية صغيرة يلجها بخياله , غرفة بنيت باللبن وزينها نسج العناكب بسقفها الحصيري ونحت المطر علي جدرانها والشقوق علي الجوانب , توسطها ذلك العنقريب الذي تدلت حباله حتى أوشكت ملامسة الأرض وقد عمت تلك الغرفة فوضي عارمة أوراق ملقاة وأكياس فارغة , حنين هزه لكل ذلك والابتسامة ما تزال , فيشهق شهقة عميقة ويزفرها بهدوء ..
أذنت الشمعة بالرحيل فانقطعت تلك الخواطر وهو يراقب مصرعها مردداً بين نفسه ..
- سبحان الله ما في حاجة بدور نهايتا ..
فتذكر القرية وتلك الهالة الضبابية تغشي عينيه سمع أصواتها الراسخة وهي تناديه حمار شيخ أيوب , وديك ود أحمد ونعجة بت العطا الأصيل يحاصر المكان والأطفال يلعبون بنداءاتهم وهتافاتهم التي تصخب المكان كانوا شبه عراة أجسادهم متسخة وبطونهم منتفخة وتخرج من أنوفهم تلك الألوان التي قلما تغادرهم طيلة السنة , وأجتمع أولئك عند عنقريب السر الشفقان يتجاذبون الحديث بنكهة الماضي التي لن تعود وعبق ذلك التأريخ يستذكرون تلك المواقف فيضحكون بعفوية بالغة وكأنما حدث في لحظتهم تلك يمسحون أطراف أعينهم بأكمام جلابيبهم تلك , قلوبهم لا تحمل هماً , يبتسمون برضاً واضح بملامحهم الطيبة الساذجة , يسردون بألم تارة وبفرح عارم تارة أخري , السيد ود الصديق , إبراهيم ود المبارك الريح ود أمحد طه , اللمين ود الشريف والسر الشفقان ..تأتي صفية بت عمر حاملة ماعون اللبن فتسلم عليهم فيغتالها فرصة الريح ود أمحد طه ليسألها عن أخبار الطيب الذي سافر إلي بور تسودان ..
الباقر الراعي وقد وصل أخيراً بغنم الحلة بعد أن وئد النهار بأكمله بحثاً عن المرعي واضعاً يده اليمني علي عكازه الذي زين بجلود البقر الرقيقة ويحمل علي كتفه صرة تصدر صوت من تلك الأواني الفارغة وكلبه يتبعه وهو يتقافز في نشوة غريبة , تتدافع الأغنام علي بيوت أصحابها فتدفع كل منهم باب صاحبها كفرد من أفراد تلكم العائلة ويقمن الفتيات بدورهن ساعتها فيمهدن لهم طريقهم حتى الزريبة ..
علي المؤذن ينادي بالصلاة والصوت يبتعد رويداً رويدا ومن ثم يتلاشي ...
- مانى عافية منك يا يوسف ... مانى عافية منك ..
نبرات حزن عميق , وقلب لفته تلك الهالة الشاسعة من الألم , تنهمر بعض الدموع علي آثار الزمن المرتسمة علي وجهها الوضاء من غير سوء, كانت جميلة رغم كل شيء بعينيها الواسعتين وشعرها الأسود الذي تخللته بعض النقوش البيضاء تغازلها تلك الضفيرة الدقيقة المتمردة فتمسكها بغنج صبية وترفعها أعلي أذنها اليسرى تنظر إلي الأديم بنفس كسيرة فتشهق بهدوء وتزفرها بهدوء شديد وتردد بين نفسها ..
- الله يرحمك يا ود المجذوب ..
لكم تذكر يوم أن وضعت يوسف . توافدت النسوة إليها ليباركنه لها ويحمدن الله علي سلامتها ,الفرح قد عم الجميع بقدومه , وذبح عبد الرحيم ود المجذوب حينها عجلاً بأكمله ابتهاجاً , لم تسعه الفرحة حينذاك ...
فتجهش بالبكاء , كانت وما تزال تبكيه كلما ذكرته , وترددها ثانية ..
- الله يرحمك يا ود المجذوب .
كان ود المجذوب مراكبياً يعمل في صناعة المراكب وقد ورث صنعته من أبيه المجذوب ود الطاهر الذي ذاع صيته في أرجاء عموم المديرية , يأتيها بالخير الوفير كلما عاد , قفته دائماً محملة بأصناف وأصناف ..
وتذكر ذلك الأصيل عندما أتتها سعاد بت أمحد طه واصطحبتها إلي زواج رقية بت عمر , كانت ما تزال ابنة الأربعة عشرة ربيعاً , تحيطها هالة خفية وسرمدية , بجمالها الدافئ بكل تفاصيلها الناعمة الرقيقة وابتسامة يصعب معها مقاومة ذلك السحر الكامن فيها , ترسل بريقاً لؤلئيا من عينيها الواسعتين صافتي السواد وشعرها الناعم المسدل , كل شيء فيها يوحي بقدسية كقدسية الملائكة , صافية الذهن وتبدو عليها أمارات سذاجة جميلة , وعبد الرحيم وقتها شاب صارم الملامح تكسوه سمرة ناعمة , وشارب غض , يشع منه بريق قوى , عندما التقت عيناهما سرت رعشة غامضة في كيانها فخرجت تلك الابتسامة التي فضحت الدواخل وذلك الحياء العذري يكسو وجهها , تقدم لخطبتها بعد أيام قلائل , وزفت له بعد أشهر .
أحيط الطفل بحب ورعاية شديدين , فقد كان أبوه عبد الرحيم رحمه الله يكن له حباً عظيماً , وقد أغدق في تدليله , والحاجة الحرم والدتها عليها رحمة الله كانت تبكي دائماً عندما تحمله , أطلقت عليه أسم يوسف تيمناً بأخيها يوسف ود المعيجن الذي استشهد مع الخليفة عبد الله في أم دبيكرات .
يوسف ود المعيجن . شخصية كانت تدور فيها محاور البطولة , الشهامة والتضحية, كانت الأساطير تحلق حوله وتلازمه منذ أن بشر به الشيخ الزين فقد كانت نبوءات الشيخ وقتها كنبوءات الرسل..
يوم جاءته فاطمة بت الكبيك ترسم دمعة علي خدها حاملة صغيرها يوسف بيمناها وألصقته بحضنها , دخلت علي الشيخ الزين وكان وقتها جالساً علي عنقريبه الكبير الذي وسر بالدوبارة , ملامحه التي تدعو للرهبة والإجلال , الوقار يشع بريقه من جبينه الوضاء وعينيه الواسعتين الخجولتين يمسك بسبحته اللالوبية يغمغم بكلمات وأذكار , حليق الرأس مهذب اللحية طويلها تنبعث من غرفته رائحة عود وبخور وبخرات . ركوته الفخارية وتبروقته من جلد البقر , ومصحفه الذي خط بيده .
فرشت أرض الغرفة بالرمل الأحمر ورشت بالماء لتضفي علي المكان رطوبة هادئة وحالمة .
أعلمته بمرض صغيرها , فأمسك الشيخ برأس الصغير وبدأ يغمغم بكلماته والصغير يتصبب عرقاً ..
دفع الشيخ بالصغير لأمه , ودفع لها بضع وريقات ..
- بخري منهن مرتين ..
- وكدي ببقي طيب يا أبوي ..
- بمشيئة واحد أحد ..
- الله يباركك يا أبوي ..
فيبتسم الشيخ فيزدان جبينه بوهج ملائكي ويشير إلي الصغير ..
- الوليد ده مبروك ..الوليد ده هدية من الله ..
كبر يوسف وقد حفظ القرءان في سنوات عمره الست , وأخذ الفقه علي يد الشيخ عبد الباقي وعمره لم يتجاوز العاشرة وقد هم والده المعيجن ود سمرة بإرساله للأزهر ولكن قصر اليد وقف حائلاً بين ذلك , كان المعيجن ود سمرة صديق الباشمفتش التركي حميد الأناضولي عندما قرر الأخير إرسال الفتي إلي إستانبول لإلحاقه بمدرسة الحقوق , ولكن فاطمة بت الكبيك وقفت كالحجر في طريق أماني حميد الأناضولي , وكانت ليوسف أحلام أخري فقد كان يحلم في قرارة نفسه , أن يمضي حاجاً إلي بيت الله الحرام , تكسوه تلك الأشواق الصوفية لرؤية بيت الله وقبر رسول الله , يجلس بعد أداء المناسك في ظلمة قبرية يدعو ويبتهل وينوح آملاً بتلك الزيارة يخفق قلبه شوقاً وتغدق أعينه دمعا .
وعندما أذن مؤذن الخليفة هب لندائه ولازمه دهراً حتى استشهاده في 1899. كانت الأساطير والبطولة تسبقه كنسمة ناعمة وكان مثال يجب الحذو به , طيب القلب سليم النية .
تبكيه الحرم بت المعيجن وتري في حفيدها هذا أخيها وكانت تردد ..
- الوليد ده مبيريك .. الوليد ده هدية من الله .. الله يحفظك يا عشاي ..
ما يزال صدي عباراتها يتردد في مسامع بتول , كانت امرأة ولا ككل النساء صائبة في رأيها , حلوة المعشر , طيبة القلب , إن لم تكن أمها لصورتها بالملاك رحمها الله .
الإحساس عندها ما يزال , وطعم شيء ما في حلقها , وتلك الدمعات تبلل وجهها صوتها الذي أختلط بحزن عميق ما تزال تردد به ..
- ماني عافية منك يا يوسف .. ماني عافية منك ..