المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخبار سياسية مذكرات مسلم .. عن الحملة الأمريكية



Black_Horse82
13-01-2002, 06:46 AM
(الشبكة الإسلامية)
بقلم / جمال سلطان


( 1 )

على الرغم من الحرص المتكررلقادة الدول الغربية المشاركة في التحالف ضد طالبان الأفغانية ، على نفي أي بعد ديني أو حضاري عن هذه الحرب , إلا أن الرسائل الإعلامية التي تعمد الإعلام الغربي بثها في أعقاب انسحاب قوات طالبان من كابول ومزار الشريف والمدن الأخرى كانت شائنة للغاية, ولا تعطي مصداقية لتصريحات قادة التحالف , وعززت من الانطباع السائد عن حضور البعد الديني أوالحضاري في هذه المواجهات فقد كان إعلان النصر لقوات التحالف يتمثل في بث صور بعض النساءالأفغانيات اللاتي رفعن الحجاب ولبسن الأزياء الأوربية التي تكشف الرأس والوجه وأجزاء من الصدر , مع حوارات صوتية تعلن السعادة والحبور بالتحرر والانعتاق من "أحكام القانون الإسلامي" على حد تعبير بعض المتحدثين .
والحجاب - كرمز إسلامي - أثار موجات من الجدل ، في الغرب ذاته في فرنسا وألمانيا وبريطانيا, لا يخفى على أحد, وكان العناد الغربي في رفض الحجاب على رؤوس الفتيات المسلمات مثار دهشة الكثيرين الذين اعتبروه عنصرية ونوعًا من التعصب الديني ، لا يليق بمجتمع غربي يتحدث عن الحريات العامة وحقوق الإنسان, فالحجاب في النهاية ليس قانون طالبان, ولا هو شعارها, وإنما هو شعار المرأة المسلمة الملتزمة بشعائر دينها في كل مكان, حتى في فرنسا وأمريكا ذاتها, فما معنى رسالة " النصر على الحجاب " التي بثها الإعلام الغربي بتكرار ممل ، وعلى مستويات متعددة من الصحف والمجلات وشاشات التليفزيون ؟
هل هذا مما يعزز فرضية غياب البعد الديني أو الحضاري عن المواجهات الدائرة هناك ، أم أنه - على العكس - يعزز مصداقية المشاعر المتدفقة في العالم الإسلامي ضد الأهداف المضمرة لهذه الحرب ؟
أيضًا الاحتفال المبالغ فيه ببعض الصبية الذين دخلوا إلى صالونات الحلاقة لكي يقوموا بحلق اللحى , واحتفال الإعلام الغربي المدهش بهذا المشهد رغم فجاجته , هل اللحية هي من شعائر طالبان أم من شعائر الإسلام ؟ وهل كل مسلم يلتحي في أمريكا أو مصر أو الخليج هو بالضرورة من "أتباع طالبان", فما هو ـ إذن ـ معنى هذه الرسالة الإعلامية التي تجعل أحد أبرز ثمرات النصر الغربي في أفغانستان "حلق اللحى" ؟
هل هذه رسالة تخدم إبعاد الظلال الدينية والحضارية عن هذا الصراع ؟
كذلك المشاهد المتكلفة التي بثها الإعلام الغربي في احتفالية مسفة عن الشباب الأفغاني في كابول الذي يشغل أشرطة الموسيقى المحلية والغربية , ويضع على صدره صورًا لممثلات أمريكا أو الهند وفنانيها , كذلك الاحتفالية الإعلامية التي قادها محللون غربيون عن إلغاء اسم الإذاعة الأفغانية وتبديلها, والحرص على ذكر أن قوات التحالف ألغت اسم "الشريعة الإسلامية" من الإذاعة, وجعلتها "إذاعة أفغانستان" بدلاً من "إذاعة الشريعة", ما معنى كل ذلك ؟ المؤسف أن هذه الرسائل الإعلامية تعيد إنتاج الرسائل الإعلامية التي كان الإعلام "الشيوعي" الروسي والأفغاني المحلي يبثها في عهد العملاء "بابراك كارميل , ونجيب الله" عن تحديث المجتمع الأفغاني , وكان مفهوم التحديث هو تحويل المجتمع الأفغاني المسلم عن دينه وعقيدته وقيمه وثوابته إلى الشيوعية والإباحية والإلحاد .
وقد سمعت بنفسي بالقاهرة منذ أسابيع بعض المتحدثين من كبار المفكرين اليساريين المصريين, وهو يفاخر بأنه سافر إلى أفغانستان أيام بابراك كارميل, ورأى بنفسه عمليات تحديث أفغانستان مثل إقامة دور للسينما وإنشاء مسارح ـ على حد تعبيره ـ وتأسف أن ثورة المجاهدين على الحكم (الشيوعي) عطلت مسيرة تحديث أفغانستان !
ويبدو أننا من جديد مضطرون إلى سماع نفس الاسطوانة المشروخة عن "تحديث" أفغانستان على يد "التحالف الغربي" هذه المرة, بحلق اللحى, وتعرية النساء, وتقديس رموز الفن الغربي , ومحو اسم الشريعة الإسلامية من قاموس الحياة الأفغاني.

( 2 )
أذكر القارئ بحادثة خطيرة وقعت في أفغانستان قبل الأحداث الأخيرة مباشرة , وهي ضبط مجموعة من المنصرات العاملات تحت ستار " مؤسسات خيرية " تقوم باستغلال بؤس اللاجئين الأفغان لتنصيرهم , واعترفت "الراهبات" بأن الكتب والنشرات التي ضبطت معهن تخصهن , ولكن قلن أنها للاستخدام الشخصي , وهو كلام يصعب تفسيره في ضوء وجود المطبوعات باللغات الأوردية والفارسية .
وفي واقعة المنصرات هذه درس أخلاقي قدمته طالبان , عندما رفضت الاحتفاظ بهن كرهائن, رغم الضغوط والحصار عليها, كما رفضت ـ بطريق أولى وأسهل ـ التخلص منهن بالقتل, وكان هذا لا يكلف الحركة أكثر من نصف دقيقة ومسدس واحد, وإنما قررت إطلاق سراحهن لأنها عاجزة عن "حمايتهن" والتنقل بهن , كما أن توإلى الأحداث جعل فكرة تقديمهن للمحاكمة غير واقعية, وقد أثنت هؤلاء المفرج عنهن على حركة طالبان وأخلاقهم في التعامل معهن .
والمثير للدهشة أن الولايات المتحدة وآلتها الإعلامية رفضت الاعتراف بهذا الموقف الأخلاقي من خصومها ، وادعت أنها هي التي حررتهن, وهي سخافة لا تليق بأصحاب العقول .

من جانب آخر -ولمن لا يتخيل عنف وضراوة الصراع حول "مناطق الفراغ" العقائدي في عالم اليوم -أذكر القارئ بأن بعض "الرهبان والراهبات" يقومون بأعمال "وحشية"إذا اقتضى الأمر ؛ ليمهدوا الطريق أمام "حركة التنصير".
وقد أدانت إحدى المحاكم البلجيكية مؤخرًا ـ البلجيكية وليست محاكم طالبان ـ راهبتين في رواندا تعملان مع "منظمة خيرية مسيحية" ثبت قيامهما بما أسمته المحكمة "أعمال إبادة جماعية", وقضت بسجنهما .
أنقل كذلك ما نقلته الصحف عن وزير الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف ورئيس المحكمة الدستورية الروسية مارات باجلاي ومسؤولين آخرين خلال أحد الاجتماعات الأمنية الموسعة في موسكو ، من إعرابهم عن القلق إزاء تزايد عدد المنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية في روسيا, وقال بيان صدر عن الاجتماع أن تلك الجمعيات التي توفر خدماتها لنحو 20 مليون مسلم ، تعمل على نشر مبادئ الدين الإسلامي في روسيا بما يمثل "خطرًا" على القومية الروسية ـ حسب نص البيان ـ وألمح البيان إلى أنه سيكون هناك اتجاه للحد من نشاط المؤسسات الإسلامية التعليمية في روسيا ، إلى جانب تضييق الخناق على أنشطة الجمعيات الخيرية المتهمة بمساندة ما يوصف بالإرهاب ،بدعوى أنها تمثل خطرًا على النظام الاجتماعي والأمني الروسي .


( 3)
كطبيعة أمريكية راسخة, حيث تمتزج الحياة العادية بالحياة الهوليودية, وحيث تعبر المناظر "السينمائية" عن هوس أمريكي يحول كل شيء إلى "مشهد سينمائي", حرصت آلة الإعلام الأمريكي على نقل وقائع استقبال الرئيس "بوش" لعدد من أطفال المسلمين في أمريكا في البيت الأبيض ، لكي يقدم لهم "كعك العيد", وفي الوقت نفسه تحديدًا, كان السيد بوش يصدر أوامره بمصادرة وإغلاق العديد من الجمعيات الخيرية الأمريكية التي ترعى أطفال المسلمين في البوسنة ،والشيشان وأفغانستان, والعراق, وفلسطين, والصومال, ودون أن يكلف أحد خاطره بتقديم أي دليل مهما كان تافهًا عن "الجريمة" التي ارتكبتها هذه الجمعيات الناشطة منذ سنوات طويلة , والتي جعلت الإدارة الأمريكية تكتشف فجأة أنها خلايا إرهابية خطيرة , لقد بدا الأمر كما لو كان حرب تجويع موازية تفرض على أطفال المسلمين , والمفارقة المحزنة أن الأطفال البائسين والجائعين والعرايا في الصومال, والعراق وأفغانستان, والبوسنة, هم في الحقيقة الأحوج إلى "العطف الإنساني" وليس أطفال أمريكا المسلمين "المستورين" على كل حال!! كما أن هؤلاء في مسيس الحاجة إلى كسرة الخبز وزجاجة الدواء , وليس إلى "كعك العيد", ولكن الهوس "السينمائي" الأمريكي ليس بوسعه إدراك ذلك , كما لم يكن بوسعه إدراك أن أطفال ونساء أفغانستان هم الأحوج إلى الرعاية الطبية من حيوانات حديقة حيوان كابل التي ذرفوا الدموع من أجلها.

( 4 )

كان التساؤل مؤلمًا جدًا على نفسي , عندما قال مسؤول إحدى المؤسسات الخيرية الإسلامية في الخليج : هل سنحتاج إلى إذن من الولايات المتحدة بعد ذلك لكي نؤدي فريضة الزكاة ؟! , التساؤل المؤلم لخص لنا حجم القلق والاندهاش ، الذي أصاب القطاعات الإسلامية الناشطة في مجال العمل الخيري, من جراء الهوس المبالغ فيه جدًا تجاه النشاط الخيري الإسلامي , وهو هوس يجعلنا نطرح أكثر من سؤال عن عملية "استثمار" الفزع العالمي من أحداث الثلاثاء الأمريكي الأسود ، والتعاطف مع الأوجاع الأمريكية, من أجل تصفية حسابات قديمة مع المنظمات الخيرية الإسلامية, التي وقفت حائط صد أمام حملات التنصير واسعة النطاق التي شهدها العالم ، على مدار ربع القرن الأخير كله, ويكفي أن أذكر القارئ بأن مؤسسات التنصير الدولية كانت قد أعلنت سابقًا أن عام "2000" سيكون عام إعلان قارة إفريقيا كقارة مسيحية , ثم مر الموعد المزعوم بفشل كبير , بفضل الجهود الرائعة التي قامت بها شخصيات ومؤسسات خيرية خليجية تحديدًا في قارة إفريقيا, حالت بين الابتزاز الغربي , وعمليات شراء الضمير العقائدي للفقراء والجوعى والبائسين في أدغال إفريقيا وأحراشها , من خلال منظومة ضخمة من المدارس والمستشفيات والمشروعات الحرفية الصغيرة , فضلاً عن العون الغذائي والمادي المباشر .

عمليات التربص بالمؤسسات الخيرية الإسلامية لتصفية الحساب معها بدأت منذ عدة سنوات , وكانت ساحتها الرئيسة في ذلك الوقت هي منطقة البلقان , حيث شنت حملة مطاردة واسعة على الجمعيات الخيرية الإسلامية في ألبانيا والبوسنة وكوسوفو, بالتعاون بين مرتزقة في أجهزة أمن محلية, وأجهزة مخابرات غربية ومؤسسات تنصيرية غربية , في محاولة ضارية لتفريغ (الجيب الإسلامي) في أوربا من نشاط المؤسسات الخيرية العربية للانفراد بالأجيال الجديدة هناك .
وقد تم بالفعل تنصير عشرات الآلاف من المسلمين في ألبانيا تحديدًا , أكرر: عشرات الآلاف , الأمر الذي ينذر بتحويل ألبانيا إلى دولة نصرانية بحلول العقد الثاني من القرن الجديد , لكي نشهد "أندلسًا" جديدة في صورة عصرية, الصورة الخطيرة عبر عنها من جانبه الأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة السيد "كامل الشريف" عندما قال : إن المنظمات الغربية تري في المنظمات الإسلامية منافسًا قويًا يحول بينها وبين تحقيق أهدافها التنصيرية في مناطق المجاعات , إذ إن أغلب هذه المناطق تضم مسلمين, ومن ثم فتحت ستار العمل الإنساني تقوم بعض هذه المنظمات بممارسة التبشير بين المسلمين الجوعى والمرضى, إلا أن وجودالمنظمة الإسلامية التي توفر هذه الخدمات يقطع الطريق أمام حملات التنصير التي تخوضها المنظمات الغربية التبشيرية, وهو ما يكشف بوضوح أسباب الحملة الضارية التي تشن على منظمات الإغاثة الإسلامية , ولأول مرة ـ الكلام ما يزال لكامل الشريف ـ تجد المنظمات التبشيرية الغربية التي تتستر وراء تقديم المعونات والخدمات الإنسانية منظمات إغاثية إسلامية تماثلها أو تتفوق عليها في الإمكانيات والكفاءة الإدارية وتتميز بسرعة الحركة والتواجد في أماكن الأزمات , وهو أمر يعرقل خططها التي تقوم علي مساومة المسلمين علي دينهم ودفعهم إلى تغيير عقيدتهم إلى النصرانية في مقابل توفير الغذاء والدواء والكساء وفرص العمل .

( 5 )
مع مطلع شهر ديسمبر الماضي تسربت تقارير صحفية من دوائر غربية عديدة توضح أن "الدين الإسلامي" أصبح في بؤرة اهتمام الأجهزة السياسية والمخابراتية في كثير من الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية , التقارير التي تسربت تفيد معنىً مشتركًا في الخطط الغربية الجديدة , وهي أن التصادم مع الحالة الإسلامية وضح أنه غير مجد , بل قد يعمق من مشاعر العداء مع الغرب ، ويكسب (المتشددين) زخمًا شعبيًا أكثر , وبالتالي كانت الرؤية الجديدة تنحو باتجاه (احتواء) الحالة الإسلامية , وهذا الاحتواء أتى على لسان مسؤولة كبيرة في الخارجية الأمريكية هي بولا دوبريانسكي, وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون الدولية , وحاصل الاقتراح هو العمل على احتواء الحالة الدينية في العالم الإسلامي عن طريق الدعم المالي لمن يتعاطفون مع الرؤى الغربية (الحضارية) , والتقرير تحدث بوضوح وصراحة شديدة عن "دفع أموال" إلى بعض العلماء أو الشخصيات الدينية التي تروج للقيم العصرية , والتسامح , والحوار الثقافي , ونحو ذلك في المحيط الإسلامي , وقد أكدعلى كلام دوبريانسكي مسؤول كبير آخر في الخارجية الأمريكية , مضيفًا أن الخطة تهدف إلى جذب المزيد من رجال الدين إلى برامج "التبادل الثقافي والأكاديمي " التي تمولها الولايات المتحدة ... التقرير الذي بثته وكالة رويتر جاء مثيرًا في صراحته , لأنها المرة الأولى ـ في حدود علمي ـ الذي تتحدث فيه دوائر غربية مسؤولة عن دفع "رشوة" لرجال دين ومفكرين مسلمين من أجل الترويج للقيم التي يوافق عليها الغرب وتخدم مصالحه, نعم ... هناك حالات قائمة لشخصيات دينية عربية مسلمة في الولايات المتحدة تتقاضى رواتب من الإدارة الأمريكية لتقديم ما يسمى "خدمات" ثقافية ودينية لمؤسسات أمريكية حساسة , مثل وزارة الدفاع , ولكن هذه هي المرة الأولى الذي تطرح فيه صراحة البحث في وضع آليات منتظمة ومؤسسية لرشوة رجال الدين والمفكرين المسلمين من أجل الترويج للقيم(العصرية) الغربية , هذا التقرير المثير أتى متوافقًا مع تقرير آخر نشرته إحدى الصحف العربية المهاجرة في مطلع الشهر نفسه لمراسلها في باكستان (الحياة 3 / 12), يقول : إن البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية ترتب مع الحكومة الباكستانية لإنشاء سلسلة من المدارس الدينية العصرية في باكستان تكون بديلة للمعاهد الدينية التقليدية المستقلة التي تخرج رجال دين "علماء" ينحون باتجاه ما تراه المؤسسات الغربية لونًا من التشدد الديني غير المرغوب فيه , مدارس الدين العصرية الجديدة ستحاول ـ حسب الرؤية الأمريكية ـ تخريج رجال دين يقبلون بالقيم الغربية الحضارية ويروجون لها في المجتمع الإسلامي .

( 6 )

في الوقت نفسه نشرت بعض الصحف نصوص رسائل موجزة أرسلتها الإدارة الأمريكية إلى شخصيات عربية دينية ، فحواها الشكر والامتنان من الإدارة على ما تقدمه هذه الشخصيات من عون في "مكافحة التشدد الديني", مثل هذه التطورات المثيرة تدعوناإلى إعادة النظر في بعض النشاطات التي تبدو(بريئة) رغم إمكانية احتوائها على مخاطر فادحة على الوعي والفكر الإسلامي وعلى مستقبل الأجيال المسلمة, وخاصة النشاطات التي عرفتها بعض العواصم الغربية كحوارات من أجل التسامح الديني , والتعاون الحضاري , والحوار الثقافي, ونحو ذلك, وهي لقاءات ومنتديات لا يعرف أحد على وجه الدقة من أين يأتي تمويلها , وتتركز الآن على شخصيات دينية أو ذات اهتمامات بالشأن الديني مباشرة .
وجدير بالذكر أن هذا الأسلوب الخطير في اختراق النشاطات الإنسانية ليس جديدًا في ساحات الصراع المفتوحة, وإنما جرت تجربته بنجاح في فترات الخمسينيات والستينيات في الدوائر الثقافية والأدبية, أثناء الحرب الباردة والصراع مع القوى اليسارية الناشطة أدبيًا وثقافيًا في ذلك الوقت , وقد كشفت الأيام والاعترافات كيف أن المخابرات الأمريكية كانت تمول نشاطات بعض الشخصيات والجمعيات الأدبية الداعية إلى الحوار والحداثة , وبعض المجلات الأدبية مثل مجلة " حوار " التي اندثرت بعد الفضيحة, وكذلك مجلة "شعر" وكيف كان يتم تمويل مؤتمرات ولجان (حوار ثقافي) في العاصمة الإيطالية روما وغيرها , دون أن يدري كثير من "الطيبين" ما يتم ترتيبه وتوجيهه من خلال هذه النشاطات .
واللافت للنظر أن هذه الجهود الجديدة تتم في الوقت الذي تتعرض فيه المؤسسات الإسلامية المستقلة الخيرية والدعوية لحرب ضروس بهدف إرهابها ، وإرباك مجهوداتها -إن لم يكن إغلاقها بالكامل - دون أن تفكر أية جهة في إدارة حوار مع هذه المؤسسات والجمعيات , على الأقل قبل استخدام العصا الغليظة الباطشة ضدها , قمع هنا .. وحوار هناك , ولا يدري أحد فيم كان القمع ، ولا فيم كان الحوار !

( 7 )
كان صديقي هذا معارضًا , يجتهد في مناقشاتي القديمة معه في أن يثبت أن الضغوط التي يتعرض لها المعارضون هي بتوجيهات خفية من الولايات المتحدة الأمريكية , وأن أوامر الاعتقال هي في الحقيقة طلبات من وكالة الاستخبارات الأمريكية .
وكان يستغرق الساعات في محاولات إثبات وجهة نظره التي يتحدث عنها كأمر خطير لا يعرفه إلا الراسخون في العلم , العالمون ببواطن الأمور , والعالم السري للعلاقات بين الأجهزة الأمنية في العالم, وقد نشر كتابًا في هذا الاكتشاف ما يزال يدافع عنه حتى اليوم .
تذكرت ذلك الصديق هذه الأيام وأنا أتابع ـ كغيري من المراقبين المذهولين ـ تحولات الأحداث في عالم اليوم , وأشفقت على صاحبي والساعات الطويلة التي كان يقضيها في البحث والتقصى والاستدلال المعمق والمضني ،ورأيت أن الأحداث قد أحرقت كل جهده القديم, إذ أن الأمور الآن أصبحت أبسط كثيرًا من أن يستدل عليها باحث أو يغوص في أسرارها متأمل, الآن أوامر الاعتقال تصدر علانية من واشنطن ليتم تنفيذها في العاصمة المطلوب منها تنفيذ الأمر , هكذا بدون لف أو دوران , بل أصبح الحديث عن "العمالة" للمخابرات الأمريكية على سبيل المثال, أشبه بالحديث عن وظيفة مرموقة في السلك الدبلوماسي , وأصبح من المعتاد على آذان المستمعين والمشاهدين لأجهزة البث الفضائي مطالعة الخبر عن جلسات للتنسيق بين قوى سياسية في العالم الإسلامي تحت إشراف CIA كما أن تلقي منظمات وجمعيات عربية للأموال من أجهزة المخابرات الأجنبية يبدو الآن حدثًا لا يشد الأذهان , ولم يعد يلفت الانتباه إلا إذا ظهرت الاتهامات "الفنية" مثل الطعن بعدم وجود " دورة مستندية " للوارد والمنصرف ، من قبل المنظمات التي تتلقى "الهبة" !!

( 8 )

لم يعد ـ فقط ـ هؤلاء الأفغان البائسون هم الذين يذرعون شعاب أفغانستان وجبالها بحثًا عن ابن لادن , حيًا أو ميتًا, لكي ينالوا الجائزة الدولارية التي رصدتها الولايات المتحدة , وإنما أصبح أصحاب أقلام عرب ومسلمون في العواصم العربية , وفي لندن وغيرها يذرعون الصحف وأجهزة الإعلام صخبًا في سب وهجاء ابن لادن والملا عمر , سعيًا وراء نيل الجائزة الدولارية التي رصدتها المخابرات الأمريكية "ثلاثون مليون دولار " لإنجاز حملتها الإعلامية على تنظيم القاعدة وحركة طالبان , وأصبحت تقرأ لبعض الكتاب والباحثين (المرموقين) في صحف ومراكز أبحاث عربية محلية وهم يكتبون أعمدة متكررة مترعة بسخافات وبذاءات لا تليق بكاتب سوقي مبتدئ , بغض النظر عن شخص من يوجه إليه الهجاء فتلك قضية أخرى ، إلا أن الشاهد هو هذا التدني والإسفاف في الكتابة والذي تحول إلى "فضيحة" للكتاب العرب الذين يتبارون في السباق المهين خلف الجائزة الدولارية , أو قطعة من "كعكة" هجاء ابن لادن, وتحولت صحف "كبيرة" إلى مجرد "فضاء" للإعلام الأمريكي , لدرجة يصعب معك أن تفرق بين هذه الصحيفة العربية أو تلك , وبين النشرات التي يصدرها البنتاجون , أو البيانات التي يوزعها السيد "رامسفيلد", وكان مثيرًا للدهشة أن بعض هذه الصحف "العربية" أخلت حتى صفحتها الأولى الرئيسية لتقارير وأخبار مكتوبة مباشرة بأقلام أمريكية صريحة , لم تجد الصحيفة حرجا من تكرار أسمائهم الغريبة مرات عدة في صفحة واحدة ويوم واحد !
وكان أصدقاء من المحامين والمثقفين المصريين قد شكوا لي ـ في حوارات شخصية ـ من أن إحدى الصحف العربية الكبرى التي تصدر من لندن عندما أجرت استطلاعًا حول شريط ابن لادن الذي بثته الولايات المتحدة كدليل على إدانته, أخذت الآراء التي قالت بأن الشريط صحيح وغير مزور , وامتنعت عن نشر الآراء التي رأت أن الشريط مزور , وكان هؤلاء المثقفون في أسف وضيق مما حدث , وتساءلوا ببراءة :
لماذا تفعل الصحيفة ذلك , ولحساب من ؟.


السبت : 12 / 1 / 2002