المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أمريكا وهاجس الأزمة الإقتصادية



محمد السويسي
12-08-2009, 09:12 PM
لاشك أن أزمة الرهن العقاري كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ، أو بالأحرى الشرارة التي أدت إلى إنفجار الأزمة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية . هذا في الظاهر ولكن واقع الأمر فإن تهيؤ هذه الأزمة يعود إلى حوالي عقد من الزمن ، وتداعياتها بهذا الشكل الخطير زاد من تسريعه رفع أسعار البترول بطريقة عشوائية إلى عدة أضعاف بغير المتوقع بما لايتلائم وقدرة السوق على التعامل مع تلك الزيادة واستيعابها بحيث أدت إلى مضاعفة تكاليف الأعباء الحياتية وأرهقتها مع إندراجها على كافة أنماط الإستهلاك ، وبالتالي إخلالها بمقدرة المواطنين الأمريكيين على السداد لسنداتهم العقارية المحسوبة بدقة وتوازن مع مداخليهم قبل أن يدخل بها عنصر غلاء المحروقات وتداعياته السلبية التي أدت بشكل آلي إلى ارتفاع أعباء المعيشة بارتفاع كلفة وسائط النقل الخاصة والعامة ، وبالتالي إرتفاع أسعار الغذاء والحاجات والسلع ، المستوردة منها أو المنتجة محلياً . وأمريكا اليوم في مأزق حقيقي مع تنامي معدل البطالة لديها وإفلاس المصانع والمؤسسات بشكل متواصل . وهذه المشاكل بازدياد دائم لايمكن إيقافها لأنها مرتبطة بواقع السياسات الخارجية الأمريكية السلبية وعجز إدارة أوباما على تعديلها لوقف الإنهيار الإقتصادي الذي تتجه إليه أمريكا بوتيرة سريعة ككرة الثلج من أعلى قمة في الجبل . فالإدارة الأمريكية التي كانت تركن إلى قوة نقدها وسيادته العالمية وقعت في خطأ الإعتداد والغرور وسؤ التقدير والحساب مع تصريح أحد مسؤوليها بأن على العالم ألا ينسى أن الدولار لايزال يطبع في أمريكا وأن العالم لايزال في موقع الحاجة له في التعاملات ؟ هذا الكلام وإن كان فيه تعزية للنفس ومواساة للمواطنين الأمريكيين ، إلا أنه غير مجد ومتسرع وغارق في الجهالة ، بل ومؤذ للنقد الأمريكي لأنه يبعث الخوف لدى الآخرين ويسرًع في المطالبات التي تقودها الصين وروسيا لإستحداث عملة عالمية أو سلة نقد إحتياطية تضم الرنينمين والروبل ، مما يدل على تنسيق ما بينهما لإضعاف الدولار وإخراجه من السوق كعملة إحتياطية مهيمنة للنقد ، يساعدها في ذلك بعض دول أمريكا اللاتينية ، خاصة البرازيل .

ولمواجهة هذا الأمر فإن أمريكا تتخبط ب"تعويمات مالية" ، إن صح التعبير ، بما نراه من عشرات المؤسسات المالية والمصارف التي يتوالى إفلاسها دون تدخل حكومي ، للإبقاء على الأقوى ليعود التوازن المالي إلى البلاد ، وهي عملية روتينية مقبولة قد تؤدي إلى تدعيم الوضع المالي بشكل جيد ، كما تقليم رؤوس وأغصان بعض الأشجار بداية الربيع لتنمو بشكل أفضل وأغزر، إلا أنها غير كافية لأنه وإن نجح هذا التدبير فإنه من المستحيل أن يؤدي إلى النهوض الإقتصادي أو تحسينه ؛ وهو هاجس تعيشه أمريكا بشىء من الرعب والقلق ، مع ضيق الخيارات لديها للخروج من الأزمة ، الأمر الذي لابد من مواجهته بشجاعة قبل فوات الأوان ، كما الدواء الشافي الشديد المرارة الذي لابد منه ، الذي سبق وأن واجهته ألمانيا وسائر أوروبا واليابان وسائر دول آسيا عقب الحرب العالمية الثانية ، تلك الدول التي عاشت على الكفاف من الفقر والعوز للنهوض ببلدانها ، أما الصين فحالة خاصة سنأتي على ذكرها . وبشىء من المقارنه أو المقاربة فالحالة متشابهة جداً بين الوضعين وإن اختلف الشكل والتوقيت والمسافة والزمن ، فأمريكا مهزومة بسياساتها الخارجية وإن لم تُطلق طلقة رصاص عليها . فالمتقاتلين أو المتحاربين ينهزم أحدهما أمام الآخر عندما يصل إلى حالة الإنهاك والإفلاس العسكري والمعنوي والنفسي والإقتصادي ، وخروج أمريكا في حروب علنية عسكرية للخارج ، بشكل مباشر في أفغانستان والعراق ، وغير مباشر في فلسطين المحتلة من خلال إسرائيل قد أنُهكت تماماً ؛ ولاتختلف هزيمتها عن هزيمة ألمانيا ودول المحور في الحرب العالمية الثانية بما دلت عليه الأزمة المالية التي أصابتها وكساد سلعها مع خسارة أسواقها بصورة نهائية لعدم تعديل مسارها وخططها ونظرتها للأمور بما يتلائم وواقع السوق ومتغيراته . فهل هي اليوم على إستعداد لتقبل هذه الهزيمة التي تعيشها في داخلها والتوقيع عليها مع ذاتها ؟. الأمر لايحتاج إلى طول تفكير أو تردد مع حراجة وضعها الإقتصادي الآني والمستقبلي ، إذ أنها اليوم أمام خيارات عدة صعبة وضيقة للنهوض واستعادة دورها الريادي العالمي ، تتطلب منها عدم إضاعة الجهد والوقت في الإلتهاء بتثبيت الدولار خارج شرعية وقوانين التوازن المالي والإقتصادي وفرضه باعتماد الوسائل الإغراقية بطباعته أوإصداره كما يعتقدون مسؤوليها خطأ ، إذ قد يؤدي ذلك إلى زيادة في مصاعبهم المالية وعدم الثقة به وبهم بما يفاقم من حالة التضخم الداخلي لديهم التي هم بغنى عنها حالياً، مع توفر سيولة نقدية هائلة لدى مصارفهم قد تفقد قيمها مع توقف المصانع والإنتاج ، كما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية بفعل الحرب النازية بحيث أن بضعة ملايين من الماركات المحملة في عربة زراعية لم تكن تكفي لشراء ربطة خبز أو بضع حبات من البطاطس؟! إن قوة النقد ترتبط بتدني البطالة وقوة العمالة وانتعاش السوق وتوازن إنتاج المصانع للسلع وتصريفها أو بيعها ، وأي خلل في هذا الأمر يؤدي إلى التدهور الإقتصادي والمالي والإجتماعي في كافة أشكاله . لذا فعلي أمريكا أن تعترف بالمشاكل التي تواجهها وتتعامل معها بعقل منفتح ومتواضع للخروج من المأزق الإقتصادي الذي تعيشه ، كما يلي :
أولا: الإعتراف بوجود الإقتصاد الصيني المهيمن عالمياً بأسعاره الإغراقية والمتنوعة الذي أودى بالأمريكيين مع فقدانهم أسواقهم لصالح البضائع الصينية ، ولهذا تكافح الصين لمحاربة الدولار لإضعافه نهائياً وسحب الثقة منه كعملة إدخارية واحتياطية عالمية مستغلة الأزمة المالية لأنها الوسيلة الوحيد لهيمنتها الإقتصادية مع سعيها الدائم لإقناع العالم بالتعامل بعملتها بوسائل شتى من خلال سلة عملات عالمية أو باتفاقات ثنائية أشبه بالمقايضة تدفع بالدول النامية إلى إقتناء الرنينمين ، وهو أمر بالغ الخطورة على النظام الأمريكي ككل وليس فقط على إقتصاده .
ثانياً : القبول بواقع الفشل للسياسة الأمريكية ، على مدى ثلاثة أرباع القرن ، في فرض إسرائيل ككيان غريب محتل في أرض فلسطين وطرد سكانها مما أدى إلى نزاع مزمن مع العرب في الإصرار على التمسك بإسرائيل ودعم سياساتها في تصفية القضية الفلسطينية وعرقلة أي محاولة لإنشاء وطن فلسطيني ورفض حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم طبقاً لمقررات الأمم المتحدة . فالهدف من إنشائها قد ولى مع إنتهاء الخطر السوفياتي وفشلها التام في الإستحواذ على أموال النفط العربي في بنوكها مع رفض الإعتراف بها أو التعامل معها رغم الحروب العدوانية المتعددة واستعمالها القوة المفرطة ضد الشعب الفلسطيني وجيرانها دون جدوى .
ثالثاً: أخذ العبر والتعلم من النظام الصيني الذي غير مفهوم الأساليب الإستعمارية القديمة في غزو الأسواق الخارجية ببضائعه ، باعتماده سياسة الإنتشار والتوسع السلمي على غير المعتاد منذ الآف السنين . وذلك بأسعار إغراقية غير متوقعة نظراً لرخص الأيدي العاملة لديه . وعلى أمريكا والغرب إعادة النظر بالأجور وتخفيضها تدريجاً من خلال المصانع والمؤسسات الجديدة ، بعدم التدخل بتحديد قيم الحد الأدنى للأجور إلا في نطاق ضيق ، مقابل التوسع الحكومي في الخدمات الإجتماعية والصحية وتخفيض الضرائب على عامة الناس ذات الدخول المنخفضة . إلا أن تحقيق ذلك يبقى أمراً صعباً للغاية وبطيئاً إلى الحد الذي قد يؤدي إلى سلبيات إجتماعية وأمنية غير متوقعة ، ولكن لابد من صيغة ما تفرض نفسها مع ضيق الخيارات . لذا فإن الحل الأفضل هو في نقل التكنولوجيا الغربية لصناعاتها ومصانعها إلى الدول النامية . والدول العربية هي الأفضل لأمريكا وحلفاؤها الصناعيين ، نظراً لمقدرتها على إنتاج سلع رخيصة الثمن مع رخص اليد العاملة فيها وبالتالي القدرة على إستهلاكها . وهذه خاصية يتميز بها العالم العربي عن غيره من البلدان ، نظراً لتوفر الأموال النفطية فيه .
ولكن ذلك لن ينجح إلا في العودة إلى مبادىء ويدرو ويلسون الأربعة عشر والإيمان بها وتطبيقها في إحلال السلام في المنطقة العربية في مقايضة أمريكية ذاتية بين مستقبلها الإقتصادي ورفاهية شعبها ، أو في الإستمرار في دعم السياسات العدوانية لإسرائيل في المنطقة . وإن استمرت في اعتماد سياسة العناد والمكابرة فإن المجتمع الأمريكي لن يختلف في وضعه الإجتماعي والإقتصادي بعد عقد من الزمن عن وضعية دول العالم الثالث ، وانعكاس الهجرة الأمريكية بحيث تضحى باتجاه الجنوب بدلاً أن تكون باتجاه الشمال ، وفي ذلك قمة التدهور والسلبية على غير ماتتمناه الشعوب لأمريكا قوية وعادلة .