المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الديك الكاسر



محمد السويسي
14-08-2009, 03:48 PM
كان توجه عبدالله إلى المدرسة وهو فتى في الصف الثاني متوسط برفقة أخيه الذي يكبره بعامين أمراً روتينياً كما كل يوم . وكان في طريقه كثيراً ما يبطىء في مشيه أمام صانع الأقفاص ليمتع نظره بطيور الحسون وشدوها التي وزعت في أقفاص عدة لبيعها . ولم تكن الدواجن التي كانت تتجول أمام المحل الصغير، عند مطلع درج يؤدي إلى السوق لتستوقف الفتى أو تلفت نظره ، لشدة اهتمامه بالعصافير وحبه لها . وقد علق صاحبها على باب مخزنه يافطة صغيرة من الكرتون كتب عليها ، " لدينا بيض طازج " ، مما يعني أن هذه القلة من الدجاجات ذات الألوان المختلفة ، من الصنف البلدي ، التي كان يرعاها ديك أشقر هي بغرض الإستثمار بما تدر على مالكها من بيض لبيعه ، يعينه مدخولها على شؤون الحياة ، وقد تجمع لديه بضعة منه متوسط الحجم كان يضعه في وعاء من التوتياء المجلفن ، الذي أكل الصدأ بعضاً منه لكثرة وقوعه على الأرض على مايبدو ، رفعه فوق صفيحة من التنك تحمل صورة العلم الأمريكي ويدان تتصافحان .

فجأة وبدون مقدمات تغير كل شىء إذ اختفت الدجاجات الملونة ليحل مكانها دجاجاً ناصع البياض مشحم الرقبة بالسواد ، ناصحاً ممتلىء القوام بما مالم يعهد في الدجاج المحلي ، يرعاهم ديك من نفس الفصيلة واللون ، متفرعن متباه مع نفش ريشه الدائم ، خفيف الحركة على ضخامته إلا أنه فائق الحيوية ، شديد الغيرة على " حريمه " من الدجاجات . فكثر البيض لدى صاحبنا لهذا النوع من الدجاج المعروف بالبيًاض الإنكليزي ، واستبدل الوعاء ، بأكبر منه وأوسع ، الذي امتلأ بيضاً من الحجم الكبير ذي اللون الأحمر على عكس الأبيض المعروف ، إلا أن أسعاره كانت مرتفعة جداً حيث جعل كل أربع بيضات بليرة واحدة أو درهم ، بينما يباع البيض الأبيض في السوق ، كل عشرة بليرة واحدة أو درهم . ولما سأله الفتى عبد الله محتجاً لما هذا الغلاء ؟ أجاب بأن هذا البيض له زبائنه الخاصة ، حيث يستعمل لتفريخ الصيصان عندما " تقرق" الدجاجة لديهم ، فيدس صاحبها عدة بيضات بين بيوضها ما أن تكون خارج حضنتها .

لقد أضحى المرور بجانب صانع الأقفاص متعة للتفرج على هذه الدواجن الجميلة ، ولكن مالبث الأمر ان تحول إلى نقمة مع توطن هذه الدجاجات ولما يمر على وجودها في الحي سوى زمن قصير ، إذ فاجأ الديك الولهان ، عبد الله وأخيه ، بهجوم صاعق على الصدر والرأس بما لم يكن متوقعاً ، ودون مقدمات ، فسبب لهما الخمش بمنقاره ومخالبه ، ثم ارتد على أولاد آخرين متابعاً أذاه ، فالتفت الفتى إلى صاحب الديك ليلفت نظره فوجده متلهياً بشكل خبيث يراقب من خلف نظارتيه مايجري دون التفات وهو منهمك بصنع أحد الأقفاص ، مما يعني أنه كان مسروراً بما يجري وكأنه كان يتوقعه وينتظره ليزيد من متعته .

تابع عبدالله سيره وقد أدهشه ماجرى لهول المفاجأة قائلاً في نفسه لعله جنون مؤقت لن يتكرر . وفي العودة من المدرسة كان يفكر في الديك ويتساءل مع أخيه ، أيفعلها ياترى مرة أخرى ؟ وماذا سيكون رد فعلهما لصد هذا العدوان الطارىء؟ فحزما أمرهما على أن يمرا على قريب لهما نجار وأخذا من عنده عصوين من الخشب غليظتان ليدافعا عن نفسيهما إن هاجمهما مرة أخرى . وفي طريقهما إلى البيت اقتربا لبضعة أمتار من الدرج فإذا به يلمحهما وقد خلت الساحة من أولاد المدرسة الذين اعتادوا أن يعبرون من هذه الدرب، إلا أنهما تابعا سيرهما متظاهرين بعدم المبالاة.

إلا أن الديك بالغ في التحدي عندما وقف على رأس الدرج يترقب عبدالله وأخيه متصهيناً وقد نجح في حرف الأولاد ممن سبقهما عن طريقهم إلى طريق آخر، خوفاً من اذاه ، وكأنه مدرب على هذا العمل . وقف الصبيان يتفكران وهما يسرقان النظر إليه ، إذ كانت أعينهما على صاحبه صانع الأقفاص الستيني ذو الوجه الأحمر والعيون الزرقاء بما يشبه السواح الأمريكان الذين كانوا يزورون القلعة الأثرية في المدينة ، التي لاتبعد أكثر من خمسين متراً عن مخزنه صعوداً ، والذي على ما يبدو من سلوكه قد تطبع بطبائعهم لكثرة مايمرون أمامه ويتحادث معهم بلغتهم ، فقد كان شديد الإفتراء والتبلي وسريع الغضب دون تفكير . لقد شعرا أنه يراقبهما حيث يقفان ، ليرى رد فعلهما وقد أخفيا العصي خلف ظهريهما بين ثيابهما فآثرا أن يخرج كل منها قلماً يدافع فيه عن نفسه عند الهجوم المحتمل ، وحملا حقيبتيهما الجلديتان بين أيديهما ليحميا صدريهما ووجهيهما ويبعدا الديك بأقلام الرصاص لكزاً في صدره أينما اتفق . ولم يكن الديك ليشغل بال عبدالله فلقد اعتاد أن يربي الطيور التي كانت هوايته المغرم بها على أنواعها في حديقة منفصلة عن المنزل ، حوت الدواجن البيًاضة ودجاج الزينة من كل الأنواع والألوان ، فمنها البلدي والإفرنسي والإنكليزي والهندي والمنقرش والمكشكش ، ومنها دجاج الحبش ودجاج غينيا والبط والأوز والحجل ، كما عصافير الحسون والبلبل والكنار الأصفر والببغاء ،عدا خروف عيد الأضحى الذي كان يحضره والده بعد عيد رمضان مباشرة من كل عام ، لذا لم يكن هذا الديك ليعييه أو يخيفه . فتابع سيره صعوداً مع أخيه وقد أخذ جانباً حائط الدرج ، حتى الإلتصاق ، متجنباً فتح معركة معه تحسباً من صاحبه اللئيم . ومع إصرارهما على الصعود تراجع الديك خلف المحل مراوحاً مكانه محمحماً متظاهراً بمراودة إحدى دجاجاته ، ثم باغتهما من على بعد متر بهجوم عنيف كانا مستعدان له تماماً فتصديا بالحقيبتين معاً وبدءا وخزه بالأقلام فارتد إلى الوراء على بعد مترين لقوة دفعهما له وكأنه فوجىء بتلك المقاومة العنيفة الغير متوقعة ، فاعتقدا أنهما قد إنتصرا عليه ووضعا حداً لعدوانه . ولكنه كان ألئم من صاحبه فأتخذ وقفة الهجوم والإستعداد عند الحائط متوثباً الهجوم طيراناً على رأسيهما على مايبدو ، ولكن ما إن علا عن الأرض لنصف متر حتى كانت حقيبتيهما الجلديتان تصب بثقلها عليه في الهواء ثم امتشقا كل منهما عصاه وبدءا يوسعانه ضرباً وقد أضحى على الأرض ، فعلا زعيقه وهرب متسربلاً بجبنه داخل دكان صاحبه الذي بدأ الصراخ والجري خلفهما وقد حمل عصاً بيده فكانا أسرع منه عدواً مع كبر سنه وامتلاء جسمه، إلا أنه أرغى وأزبد وشتم ، منتصراً لديكه على عدوانه . ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ في المساء حضر والدهما وقد اشتكاهما إليه بأنهما قد تعديا على الديك وآذاه . كانت هذه الشكوى أمراً عجباً تنطبق والمثل السائر " ضربني وبكى وسبقني واشتكى " ولولا أن والدهما يعرف سلوك الديك وعدوانيته لعوقبا ، إلا أنه طلب منهما ألا يمرا من تلك الطريق نهائياً وأن يتخذا طريقاً آخر وإن بعدت . فأحسا بالظلم ، وكان لابد من معاقبة الديك الذي انتصر عليهما بافتراء سيده صاحب القميص الأزرق المقلم ومؤازرته له .

لسنوات عدة وأهل عبدالله يقتنون الدواجن ، ولديهم العديد منها دائماً وهو الذي يقوم على خدمتها لولعه بها ، ولكن لم يسبق له أن ووجه بهذا النوع من الطيور، فما قصة هذا الديك ؟ سأل والده فأجابه ، بأنه ديك لاحم يطعمه صاحبه لحماً ممزوجاً بالحر والفلفل ليزيد من عدوانيته ، وحذره بألا يفعل ذلك مع دجاجهم . بدأ عبدالله يفكر برد الصاع صاعين بدون أن يثير ريبة صاحب الديك ، ولكن كيف ؟ فوضع وأخيه خطة محكمة وحددا لها موعداً مؤجلاً لأسبوعين إلى أن ينساهما صاحب الديك فلايشك بأمرهما عند تنفيذها . وفي اليوم التالي وهما عائدان من المدرسة ، كان لابد من المرور أمام الدرج فتوجس الديك منهما الريبة فآثر الهرب خوفاً بالقرب من سيده ، إلا أنهما تابعا سيرهما متخذين الطريق الأخرى بمحاذاة سور الدرج بعيداً عنه ، وما أن إطمأن الديك لذلك حتى اعتلى السور وبدأ بالصياح متحدياً ، مما أثار استغراب عبدالله فالتفت إليه مخاطباً ، حسناً لقد طبقت المثل " كل ديك على مزبلته صياح " . ولكن ماأن مر أسبوع على مهادنة الديك للمارة حتى عاد إلى سيرته الأولى بالإستفزاز والتحدي بما رأيا منه وقد لاحق طفلتان في السابعة من العمر مذعورتان حتى نهاية الدرج ، فكان لابد من التصدي له بالتهويل عليه بالحقائب ، التي كان قد ذاق وطأتها وملاحقته ، ليخرج سيده بقميصه الأزرق من الدكان مزمجراً متوعداً إن تعرضا له .

أمام هذا العدوان المتمادي كان لابد من تقديم موعد العقاب لثلاثة أيام ، لوضع حد لاعتداءاته المتمادية ، ليتطابق مع يوم العطلة المدرسية الأسبوعي فلا يشك بهما صاحبه ، فأستحضرا قبل يوم كيساً كبيراً من الخيش وأعدا قبضة من اللحم المفروم جبلاها بالفلفل والحر ليثيرا شهيته . وفي الوقت المحدد أتياه من حيث لايحتسب ، من زقاق معتم ضيق خلف المحل ، ناحية القلعة . أطلا بحذر على الديك الذي كان ملتهياً بدجاجاته يبحث في الأرض الأسمنتية عن شىء من الطعام يدعوها إليه حيث لاشىء ، فرمى عبدالله له بعضاً من اللحم والقمح على بعد متر منه لاستدراجه ، وهو متخف دون أن يراه ، ثم وزع الباقي بسرعة وهو يتراجع لعشرين خطوة حتى نهاية الزقاق حيث رمى أكبر كتلة من اللحم . وبدأ يترقب مع أخيه في العتمة لدقيقتين ، فانتهى إليهما بأسرع مما كان يتصوران ، إذ أنه عند كل كتلة من الطعام ، كان " يبقبق " لتهرع الدجاجات إليه للأكل ، فيتركها لها لتلتهمها بثوان ثم لينتقل لأخرى ، إلى أن وصل إلى حتفه عند مدخل البيت المعتم الذي ترصداه فيه ، فانقض عليه عبدالله بسرعة البرق بعد أن رمى كيس الخيش عليه واطبق على منقاره فكممه بلاصق بلاستيكي رفيع لئلا يصيح . ففرت الدجاجات مذعورة تنجو بريشها متخلية عن راعيها من حيث أتت ، وأمسك أخيه بقائمتي الديك ، وفق الخطة الموضوعة ، ليقص له جناحيه وذيله حتى يكف عن المباهاة والتصهين ، ثم أودع رسالة في رقبته ربطاً لصاحبه الأزرق العينين وقد ضمنها إنذاراً بما فحواه " لقد مر الأمر على سلام اليوم ولكن إن لم تحبسه في قفص لمنع أذاه عن الأطفال فسنذبحه " التوقيع "أهالي الحي" ، ثم أطلق سراحه بأقل من ثلاث دقائق وغادر وأخيه بسرعة البرق في زقاق طويل مجاور معتم مسقوف .

لأسبوع كامل لم يعد عبدالله يشاهد الديك وقد غاب عن السمع والرؤيا كلياً ، إلا أنه ظل مداوماً على سيرته الأولى في تغيير وجهة سيره ، إلى أن رأى في الأسبوع التالي ديكاً أسوداً طويل الذيل وهو يصيح بين الدجاجات فتعجب للأمر ، وتوجه نحو صاحب الدكان متذرعاً بشراء البيض مستفسراً أين الديك الأبيض ؟ هل مات ؟ قال لا ، بل بعته واشتريت الأسود مكانه ، لأن الديك السابق قد سبب لي المشاكل مع الجيران ولاأريد الإختلاف معهم . سأله ألن تطعمه اللحم بالحر والفلفل كما كنت تفعل مع الديك الأبيض ؟ فنظر إليه ملياً وقال له ومن أخبرك أنني كنت أطعمه ذلك ؟ أجابه ، استاذي في المدرسة أخبرني بإن الدجاج يعود إلى بدائيته الأولى ويصبح متوحشاً عندما نطعمه اللحم والحر . فأجابه باختصار وقد التفت إلى عمله ، لا لن أفعل .

ومع رحيل الديك الكاسر عاد الحي إلى حيويته مع عودة الأطفال إليه للعب بحرية أمام منازلهم مع تعقل سيده صاحب العيون الزرقاء ، الذي تبين فيما بعد أنه كان مهاجراً إلى أمريكا لعقود ثلاث وعاد خالي الوفاض ، بعد أن تخلت عنه زوجته الأمريكية وأولاده ، إلا من طباعهم التي آل بعضاً منها إليه .