المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قمة العشرين وسياسة المراوحة



محمد السويسي
15-08-2009, 08:14 PM
إن إنفجار الأزمة المالية العالمية التي إنطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية أيلول الماضي أظهرت خللاً كبيراً في إداء الأنظمة الرأسمالية الغربية في القطاعين المالي والإقتصادي بالنظر لتفاعلات الأزمة وتداعياتها بشكل واسع وخطير، كما توسع الحلقات وتموجاتها في المياه الراكدة كرد فعل لرمي حجر مفاجىء وسط بحيرة هادئة.

ولم تكن تلك الأزمة مفاجئة بالنسبة للمراقبين لأنها كانت إمتداداً طبيعياً ونتيجة حتمية لممارسات غربية خاطئة داخلياً وخارجياً لفترة طويلة ، إلا أنها كانت على مايبدو مفاجئة للقادة الأمريكيين ، في سياق أزمة الرهن العقاري ، الذين كانوا قد شغلوا على مدى عقد كامل بإحياء السياسات الإستعمارية القديمة بالتوسع في زمن غير مجدى مع سيادة العولمة وتفشيها كأمر واقع إقتضته التطورات والحاجات الإقتصادية والعلمية والمالية والتقدم الحضاري الذي إختصر المسافات وأسقط الحواجز بين الشعوب رغم الحدود الوهمية بين الأنظمة والدول .

أمام التدهور المالي الداهم تداعت الإجتماعات الغربية على مدى شهور عدة لمعالجة الأزمة دون أي نتيجة إيجابية ، إلى أن كان إجتماع القمة الأخير لمجموعة دول العشرين التي تمثل خمساً وثمانون بالمئة من الإقتصاد العالمي في الثاني من نيسان كمحاولة جدية للبحث عن حلول ناجعة للأزمة ووضع قواعد وأسس متينة تزيل الأسباب التي أدت لهذا التدهور ووضع الموانع والحدود لعدم تكرارها .

وقد تبنت كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا حزم من المقترحات لإصلاح الوضع المالي العالمي ، مالبث أن فرط عقدها وتلاشت أمام وجهة النظر الأمريكية في الإصلاح التي كانت تعكس مصالحها الآنية والبعيدة المدى بما لايتوافق ومصالح الآخرين أوتطلعاتهم . وقد أضطرت الدول المجتمعة مرغمة ، بتأثير من علاقاتها ومصالحها المتشابكة مع الولايات المتحدة ،إلى مسايرة المقترحات الأمريكية التي أبقت النظام المالي العالمي المتردي على حاله دون أي إصلاح بما يؤذي الدول النامية لعجزها عن إصلاح وضعها إلا من خلال النظرة الغربية ونهجها ومعاونتها ، كالأعمى يقاد ويسير بنظر الآخرين ، بينما أمريكا تسعى ذاتياً لإصلاح وضعها الداخلي بشكل دؤوب وفق مقاييس خاصة ملائمة لحاجاتها بما لايتناسب مع حاجات الآخرين ونظرتهم .

وفيما يلي إيجابيات وسلبيات مؤتمر نيسان وفقاً للعناوين التي تم تداولها كالآتي:


- في السرية المصرفية والملاذات الآمنة :
تعتبر السرية المصرفية إحدى أسوأ التدابير المؤذية لمسيرة دول العالم الثالث وإعاقة نهوضها بما تقدمه من ملاذات آمنة في بعض بنوك الدول الأوروبية كسويسرا ولوكسمبورغ وبلجيكا وغيرهم لأنها تسهل أعمال التهرب الضريبي للأفراد والشركات والتستر عليها كما التستر على أموال المنظمات الإرهابية ومافيا المخدرات والأموال العامة المختلسة من قبل بعض المسؤولين والحكام في دول عدة ورفض التصريح أو الإعلام عنها ، ولو بأمر قضائي ، إستناداً لقانون السرية المصرفية التي تعاني منه شعوب الدول النامية الويلات مع تبدد ثرواتها خارج الوطن على حساب تطورها وازدهارها . ورغم أن الولايات المتحدة لاتعمل بنظام السرية المصرفية لدى بنوكها إلا أنها لم تعر أي إهتمام فيما مضى للأصوات الإصلاحية المطالبة بتعديل هذا النظام أوإلغاؤه .


ولكن إنفجار الأزمة المالية لدى أمريكا كشف عن فساد مالي كبير لديها من خلال إستغلال المناصب الحكومية والخاصة ، حيث فُقدت مئات المليارات من الدولارات ،نتيجة الحرب في العراق بما أدى إلى تسيب المؤسسات المالية والحكومية في الداخل الأمريكي ، وأودعت خارج البلاد. فكان لابد من إعادة النظر بقانون السرية المصرفية لكشف الأموال الأمريكية المنهوبة ، المحمية بهذا التدبير لدى البنوك الأوروبية ، الذي كان هذا القانون بمثابة الملاذ الآمن لها من الملاحقات القضائية ، وبالتالي إستردادها . وتلك إحدى ايجابيات مؤتمر نيسان الذي نأمل أن يتكلل بالنجاح في شأن هذا المطلب عند المتابعة رغم معارضة السويسريين لتحقيق هذا المطلب إلا بشكل جزئي غير مقبول ، لأن هذا النظام أو القانون يعتبر في حقيقة الأمر أحد أهم مصادر ثرواتهم الوطنية . ولكن هل أن المطالبة بإلغاء السرية المصرفية يعتبر أمراً كافياً لإصلاح مالي حقيقي لدول العالم الثالث القاصرة عن مساعدة نفسها ؟ بالطبع لا ، لأنه كان من الأفضل الأخذ بالإقتراح الفرنسي الذي سبق المؤتمر وضاع في دهاليزه بإنشاء مصرف عالمي بمساهمة دول المؤتمر يضع النصوص والقواعد المصرفية الملائمة على أسس أخلاقية ، وفق تعبير رئيس وزراء بريطانيا ، لتمارسها المصارف في معاملاتها المالية في العالم أجمع بشكل سليم ومتعاون مع حكوماتها بحيث يحرم المال " الحرام " من الملاذ الآمن .


- في تحرير التجارة العالمية :
إن موضوع تحرير التجارة العالمية الذي طرحته أمريكا في المؤتمر هو مطلب حق يراد به باطل لأنه يعني رفع " الحمائية " أي رفع القيود والتدابير الجمركية والتشريعية التي تحمي الزراعة والصناعة الوطنيتان في كل بلد لصالح البضائع الأمريكية مع إزالة كل عوامل المنافسة ، بما يؤدي حتماً إلى تدمير الإقتصاد الوطني لهذه الدول ، تحت حجة المعاملة بالمثل وفقاً لنصوص بعض بنود منظمة التجارة العالمية التي ترعى تنظيم هذا الأمر ، كما رعى القرد توزيع قطعة الجبن بالتساوي بين متنازعين فكانت من نصيبه على دفعات عند كل تعديل للقسمة .


وهكذا الأمر يجري من خلال " الحمائية " إذ أنها سيف ذو حدين يؤذي الطرفين خاصة وأن ضررها أكبر من نفعها كما الخمر والميسر لأن أمريكا بإصرارها على تطبيق تلك الإتفاقية على معظم دول العالم كما هو حاصل الآن فإن سلبيات تلك المعاهدة تؤدي إلى الإضرار الشديد بالإمكانيات المالية لتلك الدول وبالتالي عدم قدرتها على إستيراد السلع الغربية مع فقدان السيولة من بين أيدي مواطنيها نتيجة فقدان أو تراجع أعمالهم ومداخيلهم من الزراعة والصناعة لإنعدام المنافسة ؛ مما يعني كساداً للبضائع الأمريكية وإفلاس مصانعها ومؤسساتها المالية كما هو حاصل حالياً .


هذا الكساد الذي كان قسماً كبيراً منه ناتج بتأثير منظمة التجارة التي أنشأت منذ العام 1995 بطمع أمريكي لإحتكار التجارة العالمية من أجل سلعها فقط في وقت غير ملائم ، مما أدى إلى تنامي وإزدهار التجارة الصينية وسيادتها على الأسواق العالمية مع إنخفاض القدرات الشرائية للعالم الثالث بحيث إنحصرت قدراتهم المالية في البضائع الصينة لتدني أسعارها بفضل الممارسات الأمريكية الخاطئة التي جاءت عن غير قصد لقصر نظرها فكانت كصاحب الدجاجة التى تبيض بيضة ذهبية كل يوم فعمد إلى ذبحها ليستولي على البيض جميعه فخسر كنزه لطمعه وجهله . وأنه لأمر مؤسف ألا تدرك الدول العربية ودول العشرين أخطار التوقيع على تلك الإتفاقية ومدى سلبياتها بحيث أنها عمدت على الإستمرار في دعمها والإلحاح في ذلك بناء لرغبة أمريكية. بل أن أمريكا قد بالغت في هذا الأمر عندما أعلنت قبل سنوات أن أصل الحبوب الزراعية هي من أراضيها ومن الأراضي الإسترالية المتعاونة معها وأن على العالم أن يمتنع عن تأصيل الحبوب الزراعية وتخزينها وإلا كان ذلك عملاً عدائياً ضد الولايات المتحدة قد يعني مقاضاتها إن لم تشتر منها حاجاتها من هذه الحبوب ؟! إلا أن وجود الصين والروس حالا دون السير بهذا الإجراء الهمايوني الذي لم تشهد القرون الوسطى له مثيلا.


- في صندوق النقد الدولي :
إن صندوق النقد الدولي عند تأسيسه العام 1944 جاء كحاجة ضرورية ملحة عقب الحرب العالمية الثانية لإصلاح الخراب والدمار النازي الذي أصاب أوروبا ودمر إقتصادها على كل الصعد فكانت بحاجة للإعانات الفورية لإعادة نهوضها وقد أفلست وشارفت على الهلاك . ولكن الممارسات التي انتهجها الصندوق خارج أوروبا مع الدول النامية جعلت توجهاته متماشية ومتلائمة مع المصالح الأمريكية بل وخاضعة لها مما أفقده دوره المحايد ورسالته المفترضة في مساعدة الشعوب . وقد تجلى ذلك في موقفه من مصر العام 1956 عندما نكث بوعده في تمويل السد العالي إستجابة لرغبة أمريكا لخلافها مع مصر على صفقة الأسلحة التشيكية بما لايعني صندوق النقد فيما لو كان على الحياد وفقاً للمبادىء التي قام عليها .


لقد كان رأي البريطانيين عقب الأزمة المالية الحالية ضرورة إلغاء صندوق النقد والبنك الدوليان لإنتفاء الحاجة إليهما مع تنامي العولمة واتساع رقعتها بشكل غير محدود ، إلا أن نتائج إجتماع القمة مطلع نيسان كانت مغايرة للتوجه الأوروبي المسبق بما سارت عليه خلال الإجتماعات في دعم الصندوق بما يتماشى والرغبات الأمريكية ، بحيث أنها قد وافقت على تمويل صندوق النقد بخمسمائة مليار دولار لمساعدة الدول المتعثرة الموقعة على إتفاقية منظمة التجارة العالمية لحفز إقتصادها والتعويض عليها ؟! وإن تعثر دول العالم الثالث الموقعة على إتفاقية منظمة التجارة أمر طبيعي لأن بعض بنودها تنص على رفع كل القيود الجمركية عن سلع مائة وإثنان وخمسون دولة موقعة عليها ، وبالتالي تضحى خزينة الدول غير الصناعية أو المنتجة ،وفقاً لمضمون هذا البند وتدابيره ، خالية الوفاض من المورد الأساسي لدخولها من الرسوم الجمركية مع إستبدالها بالضريبة على القيمة المضافة التي تعتبر ضريبة داخلية على القدرات الشرائية للمواطنين ، لاتمس المطارح الملائمة لها من المستوردات الخارجية من البضائع ، إلا أنها لاتفي بحاجات الخزينة ومتطلباتها كما الرسوم الجمركية ، وبذلك تضحى الدولة بحاجة لإعانات وقروض خارجية تتراكم على مدى الزمن بحيث يتعذر سدادها ، وتصبح مهمات الحكومات أكثرتعقيداً في القيام بواجباتها والحياة المعيشية لمواطنيها أكثر صعوبة وهنا يأتي دعم الصندوق الدولي كمخدر للإستمرار في تلك السياسات بما يمنع النهوض الإقتصادي مع زيادة أعباء الديون . لذا دعت الكثير من دول العالم إلى إلغاء بند الحمائية المجحف من عقد منظمة التجارة ، بل إلغاء المنظمة ككل بصفتها وجه جديد من وجوه الإستعمار البائد ، خاصة وأن الولايات المتحدة التي تلزم به الدول الأخرى لاتلتزم به إلا بما يلائم مصالحها خاصة بالنسبة للبضائع الصينية .


لذا فإن مهمات صندوق النقد أضحت منذ إنشاء منظمة التجارة العام 1995 وسيلة أمريكية سلبية لتسهيل فتح أسواق لسلعها الزراعية ، مع عجزها عن منافسة الأسعار الإغراقية للبضائع الصينية ، فعملت على رفع أسعار النفط والغذاء في وقت سابق إلى مستوى غير محتمل ، للتعويض عن تراجع اسواقها مما دفع بزعماء اليابان والإتحاد الأوربي إلى مطالبة دول العالم بالتصدي لمشكلة إرتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط الذي قد يؤدي إلى تفاقم مشكلة الفقر ويقوض الإقتصاد العالمي ، وفق ماجاء في البيان الذي أصدروه بعد قمة جمعتهم في العاصمة طوكيو الشهر الماضي :

" أن إرتفاع الأسعار قد يبطىء نمو الإقتصاد العالمي وتكون له آثار سلبية على الدول النامية والمتطورة على حد سواء".


لذا كان مستغرباً أن تصر أمريكا على السير في مسألة صندوق النقد ودعمه رغم فشله في تحقيق رغباتها في فتح أسواق لها للنهوض باقتصادها الزراعي الذي يعاني من أزمة لديها كما القطاعات الأخرى على مدى عقد ونصف تقريباً . لذا كان من الأوفق إلغاء صندوق النقد أو تصويب مهماتهو تصويب مهماته لفشله المزمن في حياده وبالتالي تعطل واجباته الأساسية ، كما إلغاء منظمة التجارة الدولية والأخذ بوجهة نظر الدول الأوربية بالإكتفاء بالإتفاقات الثنائية بين الدول لأنها بعد التجربة أكثرنفعاً وجدوى.


- تعزيز النظام المالي :
وهو أحد أولويات البنود التي تطرق إليها مؤتمر قمة العشرين لأن الأزمة المالية إنطلقت لخلل في النظام المالي للمؤسسات المالية والمصارف من حيث سؤ الإداء وضعف الرقابة وفوضى التوسع والإنتشار لهذه القطاعات . وقد انفض الإجتماع الأخير لدول العشرين دون التوصل إلى وضع أي آلية للإصلاح سوى التمنيات متوسلين إعادة مناقشة الأمر في إجتماعات مقبلة ، ولكن هذا لم يمنع رئيس وزراء إستراليا من شن حملة "ضد رعاة البقر في الأسواق المالية الذين جلبوا الخراب للأسواق العالمية وتركوا آثاراً حقيقية على الوظائف في كل مكان " .
رغم هذا الإنتقاد العنيف والصريح فإن أمريكا لم تسر قدماً في الإصلاح المالي العالمي عمداً رداً على عدم إتخاذ خطوات عملية من قبل المؤتمرين لرفع السرية المصرفية كاملة لدى سويسرا وبعض الدول الأوروبية بحيث تم الإكتفاء بإحالتها على "منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية" التي أصدرت لائحة سوداء وأخرى رمادية تتضمن أسماء الدول المخالفة التي تعتبر ملاذاً للتهرب الضريبي لامتناعها عن رفع السرية المصرفية، مع التهديد بالعقوبات الدولية . كما أن هناك أسباباً أخرى لاتشجع أمريكا على المشاركة الجدية في المؤتمرات المعنية بالأزمة بسبب مطالبة أكثر الدول المشاركة ، خاصة الصين واليابان وروسيا والهند ، بضرورة إيجاد عملة إحتياطية دولية جديدة بديلاً عن الدولار وهذا ماترفضه أمريكا بشدة ، ورفضها متوقع لأن الدولار هو عنوان قوتها وسيادتها على العالم . لذا فإنها ترفض أي إصلاح جدي للنظام المالي العالمي وفق النظرة الأوروبية على أسس وقواعد جديدة لأن في ذلك إضعاف لنقدها وفق تقديراتها لأن لديها من المرونة والمقدرة ، التي يفتقدها الأخرين ، على إستغلال أي فوضى مالية عالمية لمصلحتها بما يعزز إقتصادها ويعيد إنعاش نقدها .


لقد جاء الأوربيون إلى اجتماع قمة العشرين مستلهمين روحية إتفاقية "برايتون وودز" التي كانت قد فَكَت بعبقرية فذة الإرتباط بين الدولار والذهب بما لايصدق ومنحت الدولار صفة الإحتياط النقدي لوضع نظام مالي جديد مشابه ومتلائم والأزمة المتداولة لإصلاح الوضع الحالي وبعث نهوض إقتصادي متين كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية . إلا أن المؤتمرين فاتهم أن قادة أمريكا اليوم هم غيرهم بالأمس من حيث المسؤولية والإدراك. ومع إستعراضنا لمسيرة الإقتصاد الأمريكي منذ الأربعينات فإن كل الخطوات المالية لديهم تصاغ بما يمنع من تكرار أزمة الثلاثينات التي لاتزال تهيمن على تفكيرهم وتبعث فيهم الخوف والتخبط أحياناً. وخطوات العهد الحالي تدل على فهم لما جرى وكيفية الإصلاح ولكن على أساس داخلي فقط إذ ليس لهم أي مصلحة في أي إصلاح عالمي لايصب في خانتهم ، لأنهم يدركون بالتجربة أن متانة النقد الأمريكي لاتقوم إلا على الفوضى المالية من حامليه . ولامتصاص التضخم ومنع تفاقمه فهم قد وضعوا باسلوب ونهج متمم لنهج وأسلوب إتفاقية برايتون وودز ، مبادىء الأسواق المالية وطرق عملها التي هي عبارة عن فوضى منظمة لكل المساهمين فيها بما يتماشى قياساً مع المثل الإنكليزي "فرق تسد " – وتعني هنا التفريق بين المال وصاحبه – بما تقدمه الأسواق المالية من دعايات مغلوطة وأوهام ووعود كاذبة بالثراء السرابي للإستيلاء على المال بطريقة لاأخلاقية . ولولا الجهل لما وقع أحد ضحيتهم ، خاصة في أسواق العالم العربي .
إن من ميزة الأمريكيين قدرتهم على التكيف في إستغلال الكوارث المالية والإقتصادية لصالحهم ؛ وقد جاءت تلك الأزمة هبة سماوية لهم غير متوقعة ، كما المطر في عز الصيف ،لأنها قد قضت على التضخم بعد إستفحاله وأوقفت تدهور الدولار بتحفز ليعود إلى الإرتفاع مع الإنتهاء من التدابير المالية التي يقومون بها من حيث الرقابة المصرفية واختزال المصارف بإعادة دمجها ، والإشراف على المؤسسات المالية دون أي تعديل في فوضى عملها من حيث الدعاية والإغراء الكاذب ،لأن هذه الفوضى تصب في مصلحتهم التي يجنونها إيجاباً عند كل أزمة وفي كل فترة لإمتصاص التضخم . وقد يلائم فوضى الأسواق المالية الولايات المتحدة لقوة نقدها ولكنه لايلائم مطلقاً الدول الأخرى خاصة الدول النامية لذا فإن إتباع خطواتها من قبلهم وتقليدها أمر بالغ الخطورة على وضعهم الإقتصادي ونهوضهم لأنهم لايدرون كيفية الخروج من الأزمة عند الوقوع بها كما الأمريكيين لأسباب عدة . كما وأن هذه الأزمة قد أعطت الأمريكيين المرونة لإعادة تخفيض الرواتب والأجور إلى الحد الذي يضحى ملائماً لإنتاج سلع بكلفة مقبولة للتصدير أمام المنافسة الكبرى للصين ، لأن أجور اليد العاملة تلعب الدور الرئيس في كلفة الإنتاج وأسعار السلع زيادةً أو نقصاناً . ولكن كان الأفضل من تلك التدابير المتخذة حالياً إتباع الطرق والأساليب الأسهل والأضمن وهو نقل مصانع الإنتاج الأمريكية إلى البلدان العربية حيث التدني الفعلي للأجور وتحقيق الأرباح الوفيرة لوجود أسواق جاهزة متعطشة للسلع المنتجة بكلفة بسيطة بحيث تضحى قادرة على مواجهة الأسعار الإغراقية للبضائع الصينية التي تغزو المنطقة منذ عقود بما يقلق مضاجع الأمريكيين خاصة والغرب عامة .


إن الأزمة المالية التي ضربت العالم كان فرصة ذهبية للعالم العربي لو أحسن إستغلالها مع حالة الضعف والوهن النفسي الذي أصاب الغرب وقتذاك لاستيراد المصانع الحديثة المتطورة في صناعة السيارات والطائرات والأجهزة الكهربائية و الألكترونية وغيرها التي تعاني صعوبات في سيولتها بسبب الأزمة وتداعياتها لإعادة تشغيلها مع رخص اليد العاملة لدى الدول العربية وفتح باب النهوض الإقتصادي واسعاً . ولايزال المجال مفتوحاً أمام العرب لتحقيق هذا الأمر حتى نهاية العام الحالي قبل أن يستعيد الغرب توازنه المالي والنفسي . ولكن لاأمل في أي تطور أو تقدم للعالم العربي مع تقليده "مشية الحجل " في إتباعه للنظم الغربية الغير ملائمة لمسيرته الإقتصادية مع إختلاف الوقائع والظروف والحاجات والأهداف بدليل أنظمة ألأسواق المالية لديه التي تتسبب بالكوارث الدائمة للمشاركين بها ، دون أن يعوا كيفية الإصلاح والتطوير أو التحسين مع تقيدهم الأعمى بالنظم الغربية دون أي تعديل . ولاحاجة لإعادة عرض المقترحات للإصلاح وقد سبق أن أشرت إليها في مقالات عدة .


و ألخص بأن الأهداف الأمريكية من المشاركة في تلك المؤتمرات الإقتصادية الإصلاحية ،الغير مجدية للدول النامية ، ترنو إلى تحقيق ثلاثة مطالب رئيسية مهمة ،


أولاها: تعميم " الحمائية " الدولية وفق بنود منظمة التجارة العالمية وهي تدبير شديد السلبية حتى على الولايات المتحدة للأسباب التي شرحناها أنفاً بحيث أنها كانت بداية التدهور المالي والإقتصادي للأمريكيين غداة ظهورها منتصف العقد الماضي . والسبب في تمسك الأمريكيين بها إعتقادهم الخاطىء بأنهم قادرون على تخطيها وتجاوزها بعقد الإتفاقيات الثنائية مع الدول الآخرى وهذا أمر لن يجدي لهم نفعاً سوى تعزيز المصالح التجارية الصينية بما هو معاكس لأهداف الحمائية التي وضعت في الأساس لمواجهة النمو الصيني وإعاقته .

والمطلب الثاني ، هو رفع السرية المصرفية لدى بعض المصارف الأوروبية ، خاصة السويسرية التي لامصلحة لها في هذا الرفع أو الإلغاء بما حققته من ثراء نتيجة ذلك ، إلا أن أمريكا ليست جادة حتى الآن في تعميم هذا الأمر إن أتيح لها الإطلاع على حسابات مواطنيها بحرية مطلقة . ويرفض السويسريون الإستجابة لذلك ، سوى إعطاء الإفادة للوائح بأسماء محددة تتقدم بها أمريكا مع إبداء الأسباب المقنعة ، وهنا يكمن الخلاف وتباين المواقف . وتحقيق رفع السرية المصرفية هو أمر إيجابي لمصلحة الدول النامية نتمنى تحقيقه حماية لأموالها .

أما المطلب الثالث للأمريكيين فهو التصدي لأي مجهود يبذل لاستبدال الدولار كاحتياط نقدي دولى بأي عملة أخرى مستحدثة أو قيد التدوال ، أوإعادة العمل بنظام التغطية الذهبية كما كان سابقاً كاحتياط نقدي ، بما له من سلبيات على الوضع الإقتصادي الأمريكي لايمكنها تحمله ، والذي أصبح من الماضي مع عقد إتفاقية برايتون وودز التي تتمسك بها أمريكا بكل حذافيرها لفقدان الكفاءة لديها في الفهم والتحليل و التطوير بما حل بها مؤخراً من كوارث إقتصادية .


وأختم بنصيحة للدول النامية أن تلك الإجتماعات غير ملائمة لهم بما يفرض عليهم من إلتزامات من الدول الصناعية السبع هي في غير مصلحتهم ، وألا يتقيدوا بالمناهج الإقتصادية الغربية لأن عدم ملائمتها لهم هو أمر طبيعي وفقاً لواقع كل دولة على حدة . فالقانون الإقتصادي ليس نصاً جامداً بل عملية حية متواصلة متفاعلة تتطلب التطوير والتعديل الدائم نحو الأحسن بما تقتضيه الظروف والحاجات .