المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البلبل وشجرة التوت



محمد السويسي
16-08-2009, 11:03 PM
:ee2: لقد بدأت تباشير الحر ولما ينقضي فصل الربيع ، مما يعني قدوم صيف ساخن دفعني بالإستعجال للنزوح من المدينة نحو الجبل جبراً ، مع الإنقطاع الدائم للكهرباء والتقنين العشوائي غير المنظم . وبدأت البحث عن بيت ملائم يأويني وعائلتي ، سرعان ماوجدت فيه ضالتي ماأن شاهدته وعاينته إذ كان منزلاً منزوياً في آخر القرية ، بعيداً عن عجقة السُوق وضجيجه المسائي حيث يخرج الجميع للتنزه والجلوس في المقاهي ، عدا زحمة السير مع عودة المصطافين إلى بيوتهم بعد عمل يوم طويل في المدينة .

:33:كنت والأولاد نعد الأيام والساعات والدقائق ، بل والثواني مستعجلين إنتهاء السنة الدراسية للإنتقال من الحر المتفاقم لشهر حزيران / يونيو إلى حيث الجو المعتدل نهاراً والبرودة المنعشة ليلاً . ولقد تحققت أمنيتنا في الإنتقال للجبل مع مطلع شهر تموز/ يوليو حيث تمتعنا بليلة هادئة هانئة لم نستغن فيها عن الأغطية لتعاظم البرد بما اضطرنا إلى إغلاق النوافذ وأبواب الشرفات . ومع ذلك فقد نعمنا بنوم عميق لشدة الحر الذي ألم بنا لأسابيع مضت من قيظ المدينة بما لايحتمل .

:biggrin2:إستقيظت فجراً كعادتي وجلست على الشرفة الرحبة المملؤة بأحواض الزهور والياسمين ، أستبق خيوط الشمس الذهبية من خلف الجبل العالي الماثل أمامي ، وهاقد أشرقت على منظر يخلب الألباب ، فإذا بالبيت تحيط به الجنائن الواسعة والبساتين المتعددة المزروعة بجميع أصناف الفاكهة التي تمتد بما يقصر عنها النظر. وفيما أنا جالس أتأمل عظمة الخالق وقدرته في جمال الطبيعة بما يعجز عنه الوصف إرتمت طفلتي نور بسنواتها الخمس في أحضاني ، إذ إنسلت من فراش أمها ووضعت راسها على صدري وقد أسكرها طراوة الجو وبرودته وسط محيط من الورد والرياحين يلف الشرفة طولاً وعرضاً ، وبدأت تتحدث بلدغة الطفولة التي تدخل شغاف القلب تعبيراً عن فرحتها التي ضاعفت من حبوري وقد أختلطت كلماتها بزقزقة العصافير وشدوها حولنا ، فكانت كالموسيقى المرافقة لنغمات صوتها الذي أشجاني وأطربني واخذني إلى افق واسع رحب من الجذل لم أعرفه قبلاً فحملتها على كتفي لتسرح بنظرها في البساتين الخضراء التي لاحدود لها ، إلا سفوح الجبال البعيدة العالية .

:pجاءت زوجتى بالقهوة المعتادة ككل صباح لتفاجأ مثلي بهذا الجمال الأخاذ للطبيعة المحيطة بالبيت التي كانت مختبئة بظلام الليل مع قدومنا بالأمس بعد العشاء ، حيث آثرنا النوم باكراً بعد مشاق يوم طويل من الترحل والإرتحال من المدينة نحو الجبل .

:32: وبينما نحن نتجاذب الحديث كانت طفلتنا تعبث بالزهور تحاول أن تشتم عطرها عندما حط بلبل على غصن شجرة أمامها ؛ وكان قريباً إلى حد أنك تكاد أن تمسك به ، فمدت يدها الصغيرة وكأنها تحاول أن تلاعبه ، فأخذ يصفر ويتنقل من غصن إلى آخر إلى أن قفز إلى داخل الشرفة ليقف لثوان على إحدى شجيرات الورد فزادت ولعاً به مع عودته إلى الشجرة ومكوثه عليها لدقائق عدة متنقلاً برشاقة والطفلة تصرخ به وتدعوه إلى النزول ، إلى أن رحل دون عودة . واقترابه هذا كان يدل على أنه بلبل أليف لأحد سكان الجوار من "هندام ريشه " بما يعني بأن صاحبه يحبسه في القفص أكثر مما يطلقه ؛ كما وأن مظهره ينبىء بأنه من النوع السوري حيث أن له رأس أسود متوج ، وبطن رمادي ، وذنب طويل ينتهي باصفرار .

:02:بعد أن رحل سألتني طفلتي أن أناديه وقد تعلقت به ، كما وأنني أيضاً قد استحببت تواجده وتمنيت استمراره بين الزرع والأشجار رغم تعدد أنواع الطيور التي لحظتها بتنقلها على الشجر وتغريدها ، فمنها الحسون الذهبي والتاجي والوردي والشرشور والصفري والدرسة والدخلة والزرزور ، والخطاف الذي يحلق بعيداً وعالياً كما السنونو ؛ وجميعها من الطيور المهاجرة التي ترحل مع نهاية الصيف .

:28: اختفى البلبل عن الشجرة إلا أنه لم يغب عن مخيلة طفلتي التي ظلت لليوم التالي تسألني عنه ، فوعدتها بخير منه تلاعبه ويأكل من يدها ، ففرحت وتمنت الإسراع في إحضاره . وبالفعل قد توجهت إلى المدينة قاصداً بائع العصافير فوجدت لديه العديد من البلابل المختلفة الأنواع والأحجام فاخترت فرخاً صغيراً قليل الريش لايتعدى عمره العشرة أيام لتكون ابنتي أمه التي تطعمه ليألفها ويتعلق بها بما يفرحها ويحقق رغبتها الطفولية . بعد ثلاثة أيام وضعته على ظاهر القفص لتطعمه مختلف انواع الفواكه التي كان أفضلها لديه التين والموز تقدمها إليه على رأس عود من الخشب .

:wink2:ولم تمر أيام قلائل حتى أضحى فرداً من العائلة مع اشتداد عوده وبراعته في الطيران بين أزهار الشرفة والبستان ، ملازماً لطفلتي يقف على كتفها ويأكل من راحة يدها بما تقدمه له فيزيد من فرحها وفرحي لما يغمرها من سعادة وحبور وقد تحقق حلمها . وكان إن غاب لساعات تسألني عنه فأصفر له فيأتي بسرعة مذهلة وكأنه قابع عن بعد يراقبنا.

:02:ومن هنا تبدأ الحكاية مع البلبل التي كانت لاتخلو من الطرائف بل ومن المشاكل إلى حد الضيق والمشاكسة ، إذ ألف محيطه بأكثر مما كنت أتوقع مع اعتباره جميع أفراد العائلة أصدقاء له يتقرب إليهم بالوقوف على أكتافهم وهم يرفضونه ويتهربون منه ،إلى حد أنه لم يعد يوفر الضيوف " بصداقاته " السمجة تلك بما كان يفاجئهم ويباغتهم فيتولاهم الذعر بتودده الأرعن .

:12:ولم نكن لنرتاح منه إلا عند الغروب حيث يأتي من بين البساتين مسرعاً كالسهم ليتخذ موقعه الغريب على ثريا الصالة الرئيسية لينام عليها حتى الصباح وقد دفن رأسه بين جناحيه غير عابىء بالضجيج أو الحركة .

:oولكن المتاعب الحقيقية بدأت من حيث لم نتوقع إذ نضجت ثمار شجرة التوت الضخمة التي اتخذت بعض أغصانها متكئاً من شرفة منزلنا ، وهي من النوع المعروف بالشامي بثمارها الحمراء القانية ، وإذا بالبلبل مغرم بمذاقها الشديد الحلاوة وكأنه اقتصر على أكلها فقط بما بدأت أثار فعلته تظهر على غسيل الجيران بما أحضروا إلينا من القمصان والشراشف ، فأحرجنا إحراجاً شديداً مع رفضهم لأي تعويض ، وإذا بزوجتي تأتيني بقمصان لي عن حبل الغسيل وقد أصابها ماأصاب جيراني ، فانتابني الغضب وقلت إذن لأذبحنه على فعلته بي وبكم ، قالوا لا وكيف نكون السبب في موته وهو يلاعب أطفالنا ونستيقظ على صفيره الجميل ! فأصابتني الحيرة والتساؤل ، ولما الشكوى إذن ؟ فارتأينا بعد تداول أن نحبسه ليلاً عند نشر الغسيل ولا نطلقه إلا بعد جمعه تلافياً لأضراره .

:wink2:وبالفعل سار الحال على هذا المنوال ، ولكن بعد سجنه لأيام بدأ يعزف عن الحضور عند المساء بحيث لاأراه إلا صباح الغد عندما إنادي له ليأتي إلى الشرفة ويأكل من يدي ويلعب مع إبنتي ، إلا أنه أضحى كثير الغياب مع شدة الرقابة عليه واقتناء جيراننا لهر يردعه ، ولكن مشاكساته لم تنته إلا مع إنتهاء العطلة الصيفية ومشاهدتي له قبل اسبوع من مغادرتنا النهائية إلى المدينة برفقة بلبل آخر مما سرني وأفرحني وقد وجد أنيساً له يلهيه عنا .

:أفكر:وقد نستيه إبنتي تماماً مع بدء العام الدراسي وانشغالها بدروسها . ومع ذلك فقد كنت قلقاً في الصيف التالي من أن يعود إلينا بعد هذا الغياب الطويل مع مشاكساته التي لاتحتمل ، إلا أن الصيف مر على خير بحيث لم نعد نشاهده مطلقاً . وعندما كانت إبنتي تسألني عنه كنت أجيبها لاشك أنه عند أمه التي تمنعه من المغادرة لمساعدتها ، وكان هذا الجواب يرضيها بل ويفرحها لأنه مطيع لأمه .