المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دنيا عجيبة (قصة حقيقية)



علي(لبنان)
17-01-2002, 02:30 PM
شئ من الواقع
بقلم: سعاد حلمي
السبت 3 فبراير (شباط) 2001
دنيا عجيبة
رأيتها أول مرة في مكتب صديقي المحامي، ضئيلة، شاحبة، مذعورة. أخبرني أن "جورج" الذي نتعامل معه رجاه أن يجد لها عملا. حاصلة على دبلوم تجارة متوسطة، وقد توفي والدها، الذي كان من معارفه القدامى ولم يترك لها معاشا أو مالا يمكن أن يضمن لها لقمة العيش، حتى تعثر على وظيفة مضمونة. شعرت نحوها بالشفقة، وعرضت عليها عرضا قبلته بعد تردد رضيت أن تعيش معي لتدير لي شؤون بيتي، رضيت أيضا في ما بعد أن تعطيني كل شئ، بل رحبت بأن أغير اسمها من خديجة إلى شهيرة، لم أتوقف كثيرا أمام راحتي معها، بل وتعلقي بها، مرددا لنفسي أنه يكفيها حياتها مع نجم كبير مثلي تتمنى أية فتاة أن تعيش معه. كانت تمنح بلا حدود، وكنت آخذ بلا امتنان. حتى كان ذلك اليوم الذي التفت فيه حولي مجموعة العمل، التي اشتركت معي في آخر مسلسل تلفزيوني، وأصروا على أن يكون الاحتفال بهذه المناسبة في بيتي. كما سبق أن عودتهم لم أستطع الفكاك، عدت إلى شهيرة بالخبر، فقالت بلهجتها المريحة: "لاتحمل هما، سأتولى إعداد كل شئ".

كانت عند وعدها..مائدة حافلة بكل ما لذ وطاب، شئ لم يخطر لي على بال..والبيت غاية في النظافة والنظام، وهي وقفت ضئيلة، مرهقة، في عينيها نظرة خوف وترقب. لا..لم أقلها..الكلمة التي أعتقد أنها كانت في انتظارها، لم أطلب منها أن تظهر في الحفل. ما كان يمكن أن أقدم على ذلك. انكمشت في وقفتها..شعرت بها كأنها على وشك أن تتلاشى. وقالت بصوت مختنق: "سأغلق علي باب الحجرة المجاورة للمطبخ. اطمئن، لكن إذا احتجت وأصحابك إلى شئ فسأكون تحت أمركم".

امتلأت الشقة بالشلة الصاخبة، الجو الذي اعتدت عليه قبل أن تدخل شهيرة حياتي. هذه المرة لم أكن في حالة انسجام، رغم أني لم أفكر لحظة في القابعة داخل جدران الحجرة المنعزلة. حتى سمعت صيحة إحداهن: "ما هذه؟ أية تحفة تحتفظ بها أيها الخبيث؟". هرولت، على أحد المقاعد، كانت شهيرة غائصة.. ونظرة ذعر في عينيها. تعلقت نظرتها بي مستغيثة، في حين تجمع الباقون على صوت ضحكات الزميلة. شعرت بارتباك شديد. تمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني، لو كانت على صورة أخرى ما وجدت حرجا في أن أعلن أنها قريبة.. أو صديقة.. كل شئ مقبول في ذلك الوسط الفني، لا أحد يتطفل على حياة الآخر. لكن شهيرة.. بالأصح خديجة.. لا.. محال. ابتلعت ريقي وقلت: "إنها الشغالة الجديدة". وبهدوء أغلقت الباب عليها من جديد… وتقبلت اعتذار الزميلة التي أساءت الظن بذوقي.

مع خيوط الفجر عاد الهدوء إلى البيت.. ذهبت إليها، رغم الدموع التي غرق فيها وجهها لم تعاتبني، بل كانت كريمة معي كأن شيئا لم يحدث. وخرجت كالعادة ظهرا.. وعدت مساء لأجد البيت نظيفا هادئا، لكن لا أثر فيه لشهيرة.. دهشت.. أخذت أبحث عنها في كل الحجرات. أخيرا عثرت على ورقة صغيرة بخط يدها المنمق.. كتبت: "وداعا.. وشكرا على كل ما منحتني". بعصبية مزقت الورقة.. وقلت "في ستين داهية.. أحسنت صنعا.. حملت عني مهمة إنهاء كابوس وجودها غير المبرر في حياتي". شهر.. شهران.. بل ستة شهور، والكل من حولي يلمح إلى أن أحوالي غريبة. أصبحت عصبيا.. لم أعد أحترم كالعادة مواعيدي..صرت سرعان ما أزهد أية امرأة ولو كانت ملكة جمال. لم أعد أطيق العودة إلى البيت، حيث الفراغ الموحش. افتقاد كل شئ.. حتى الأشياء الصغيرة.

كالضال الذي اهتدى إلى غايته، بدأت عملية البحث عنها.. لم يعد يشغلني إلا ذلك الأمر. ذهبت إلى صديقي المحامي، الذي أخبرني أن جورج لم يعد يعرف عنها شيئا. بعد شهرين اهتديت إلى مكان عملها الجديد.. بائعة في محل ملابس جاهزة. وقفت على الرصيف المقابل في انتظار خروجها ساعة الانصراف. لمحت شابة رشيقة أنيقة جميلة. لو لم تلحظني هي.. ولو لم تتقدم مني. إذن ما عرفتها.. شهيرة.. محال.. كيف أصبحت على هذه الصورة الرائعة؟ كيف تلاشت ضآلتها؟ أين ذهب شحوبها وانكسارها؟ وهتفت بمرح لم آلفه فيها: "أية مصادفة؟ كيف حالك؟ سهرتك التمثيلية الأخيرة كانت رائعة". مرت لحظات قبل أن أرد وأنا أتأملها: "ليست مصادفة. لقد مضت شهور وأنا أبحث عنك". قالت بلهجة لا تخلو من التهكم: "غريبة، خير..لماذا؟". قلت متوسلا: "لكي أطلب منك العودة". رفعت نحوي وجهها دقيق الملامح، بل الجميل، وقالت: "آسفة، لا يمكن. لأول مرة أرفض لك طلبا". قلت بلهفة: "كل شروطك مجابة.. أنا في حاجة إليك يا شهيرة". قالت: "أنا مخطوبة لشاب مكافح مثلي.. يحبني، ولا يخجل من تقديمي إلى أهله و أصحابه". قلت: "أنا أحبك يا شهيرة". قاطعتني قائلة بابتسامة: "الآخر يعشق حتى اسمي الحقيقي.. خديجة.. شهيرة لم يعد لها وجود". قلت متضرعا: "حياتي دونك لا تساوي شيئا.. عودي إلي.. سأتزوجك، سأعلن هذا الزواج على الملأ. ستصبحين زوجة نجم مشهور". قالت وهي تمد يدها لي: "مع السلامة، لدي موعد مع خطيبي، الذي أعاد إلي ثقتي بنفسي، ومنحني ما ضننت أنت به علي. فات الأوان. لست آسفة ولا نادمة.. والله يغفر لي ولك".

واختفت في خطوات رشيقة كأنها غزال.. نحو المستقبل وعدت أدراجي مهزوما.

alamid
17-01-2002, 02:35 PM
مشكور