المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إنترنت والعولمة



holly_smoke
10-02-2001, 07:26 PM
إنترنت والعولمة

يحتدم الجدل بين مثقفينا منذ مدة حول ظاهرة العولمة. فثمة من يرى فيها نوعاً من الاستعمار الجديد والغزو الثقافي. وهناك، في الطرف النقيض، من يجد فيها فرصاً لحل المعضلات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي نواجهها. ويمتد طيف الآراء بين هذا وذاك، على طول المسافة الفاصلة بين الموقفين.

والسمة المشتركة لغالبية المواقف حول العولمة، هو تصورها كحدث يُنتظر وقوعه، ويتزامن مع أحداث أخرى، مثل تعميم الاتفاقية العالمية للتجارة والتعرفة GATT، واستكمال بلورة العلاقات بين التكتلات الاقتصادية الإقليمية، وتسوية الصراع في "الشرق الأوسط"، وغيرها من الأحداث التي تتناول إعادة صياغة العلاقات الدولية لحقبة ما بعد الحرب الباردة. بل أننا نجد من ينبري لإصدار الفتاوى بجوازها أو عدم جوازها، ويضع شروطاً للقبول بها، وكأنها مسألة اختيار.

والعولمة globalization، لمن لم يتابع هذه النقاشات، هي ظاهرة تحول العالم إلى كيان أكثر اندماجاً من النواحي الاقتصادية والثقافية، والمصطلح مشتق من الصورة المجازية للقرية العالمية global village. وتعني العولمة، من بين أمور أخرى، تراجع دور الدول القومية ومؤسساتها والحدود التقليدية التي تفصل فيما بينها، أمام كيانات ومؤسسات عالمية، وتحقيق قدر أكبر من الحرية لحركة السلع والأفكار والأفراد.

وفيما يقف المثقفون ورجال الأعمال التقليديون بين خائف رافض، وفرح مهلل، بانتظار حلول عصر العولمة، يجد المواكبون لثورة تكنولوجيا المعلومات أنفسهم على عتبات هذا العصر، وهم يعايشون تباشيره كجزء من حقائق حياتهم اليومية. وليس ذلك لأن تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تُعد من الشروط الضرورية لتحقيق العولمة، بل ولأن صناعة المعلومات تشكل بطبيعتها صورة نموذجية لاقتصاد المستقبل المعولم.

وتُعد شبكة إنترنت من أبرز أدوات العولمة بمختلف أبعادها، الثقافية والاقتصادية والنفسية. فبفضل انتشارها الواسع، الذي يغطي معظم أنحاء الكوكب الأرضي، وسرعتها الفائقة في تحقيق تبادل المعلومات، ودورها المتزايد كسوق للتبادل التجاري، تتحول إنترنت إلى إحدى أبرز ساحات العولمة. ويعود ذلك أساساً، إلى أن فضاء إنترنت مستقل إلى حد بعيد، عن الحدود الجيوسياسية القائمة في عالمنا. فنادراً ما تتضمن عناوين المواقع في شبكة ويب، ما يشير إلى اسم البلد الذي يوجد فيه الموقع. ولا يحتاج المبحرون في عباب الشبكة العالمية، إلى جوازات سفر وتأشيرات دخول أو خروج. وهم لا يتوقفون في المطارات، مثل المسافرين التقليديين، ليعانوا ضروباً من التعسف ونبش الأمتعة، والتمييز بسبب جنسياتهم، أو ألوان عيونهم، أو مجرد الالتباس في الأسماء. ويصعب على سلطات الرقابة التقليدية، تفحص فحوى النبضات الكهربائية التي تمثل المعلومات المتدفقة عبر إنترنت، والتحكم بدخولها تبعاً لذلك.

إنه حقاً عالم بدون حدود.

وتشكل التجارة الإلكترونية المتنامية عبر إنترنت، اختراقاً آخر لمفهوم الحدود التقليدية للدول القومية. فبفضل التجارة الإلكترونية، أصبح بإمكانك شراء السلع والخدمات من أسواق بعيدة في أقصى الأرض، بدون أن تبرح مقعدك أمام كمبيوترك الشخصي. صحيح أن بإمكان سلطات الجمارك في بلدك -إذا شاءت- فرض رسوم على مشترياتك المرسلة إليك بواسطة البريد عند تسلمها، ولكن هذه المشتريات كثيراً ما تستعصي على المفاهيم والإجراءات الجمركية التقليدية. فكيف يمكن، مثلاً، لسلطات الجمارك أن تطالبك بدفع رسوم لقاء برمجية استجلبتها عبر المودم من موقع في إنترنت، ودفعت ثمنها بواسطة بطاقة الائتمان؟

ولا تتوقف التجارة الإلكترونية على السلع والخدمات، بل يمكن أن تتعداها إلى العمالة أيضاً. فإذا كنت مثلاً من مواطني إحدى بلدان العالم الثالث، وأردت الالتحاق بعمل في شركة أمريكية بحاجة إلى مهاراتك، فستحتاج إلى معاملات طويلة ومعقدة للحصول على إذن بالعمل Green Card، من سلطات الهجرة الأمريكية، وقد لا تحصل عليه. ولكن إنترنت تمكن أصحاب العديد من المهارات، مثل مبرمجي الكمبيوتر والمترجمين والكتاب، من بيع مهاراتهم وخبراتهم عبر إنترنت، أو شغل وظائف في بلدان أخرى، بدون أن يغادروا أوطانهم. ويشكل ذلك اختراقاً لتدابير حماية العمالة الوطنية، التي تطبقها غالبية البلدان الصناعية المتقدمة، بتأثير نفوذ النقابات المهنية، ومشاعر النفور من الأجانب المتفشية فيها.

وتفتح غزارة موارد المعلومات التي توفرها إنترنت، آفاقاً غير مسبوقة أمام الباحثين والعاملين في إنتاج ونشر المعرفة في البلدان النامية، بما يضعهم في كثير من الأحيان على قدم المساواة مع نظرائهم في الدول المتقدمة. فعندما أسسنا الطبعة العربية من مجلة PC Magazine قبل أكثر من ثلاثة أعوام، كنا في البداية شديدي الاعتماد على المجلة الأمريكية الأم، كمصدر للمعلومات والأخبار. أما الآن، فلدينا قدر أكبر من الخيارات بفضل استخدامنا المكثف لموارد إنترنت، بل أننا أصبحنا نسبق المجلة الأم في نشر الكثير من الأخبار والمعلومات من مصادرها الأصلية.

وتعتبر المجموعات الإخبارية في إنترنت news groups، والتي تُعد بالآلاف، أداة أخرى للعولمة، فهي تحرر الأفراد الذين يشتركون في اهتماماتها وميولهم الثقافية من القيود الجغرافية، وتحولهم إلى مجموعات عالمية فعالة لتبادل المعلومات، والتفاعل الوجداني وتنسيق الأعمال المشتركة.

بيد أن نموذج العولمة الذي تجسده إنترنت، لا ينجو من مثالب العولمة بشكل عام. ويرى فيها الكثيرون، وبحق، أداة للإمبريالية الثقافية الأمريكية في بسط هيمنتها على بقية العالم. ولكن الهيمنة الثقافية الأمريكية ومعها اللغة الإنجليزية، ليست ظاهرة استثنائية في التاريخ البشري. فقد سادت قبلها الثقافة واللغة العربيتان لمئات السنين، في مساحات شاسعة من العالم، تتجاوز حدود بلاد العرب والمناطق التي فتحوها. وسادت قبلها الثقافات اليونانية والرومانية والآرامية كثقافات عالمية، وذلك عندما كان أصحابها منتجين للمعارف والفنون.

ولا ننسى أخيراً، أن الثقافة الأمريكية هي ذاتها نتاج عالمي، تمخض عن امتزاج ثقافة المهاجرين الأوروبيين بثقافات المهاجرين الآخرين من آسيا وأفريقيا، في إطار "الحلم الأمريكي"، والقهر الثقافي والإبادة العرقية لسكانها الأصليين. وبالمثل، ستكون الثقافة التي ستتمخض عنها عملية العولمة، في فضاء إنترنت أو خارجه، مزيجاً لثقافات شعوب الكوكب، بكل فضائلها ورذائلها، وبنكهة أمريكية طاغية.