المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هدم … تشريد ... خيام : مخيم رفح للاجئين : حكايات مكلومة … و جرح لا يغيب عن الذاكرة



استشهادي
06-02-2002, 07:31 PM
تقرير خاص :

كل خيمة تخفي أسرار قاطنيها … وكل بيت مهدم يخفي جرحا لا يندمل في قلب أصحابه … و كل وجه في رفح بات يضم حكاية حزينة لا تمحوها الأيام و لا تخطئها ذاكرة التاريخ ... و من بين كل حكاية و حكاية ألف قصة تألفت في ساعة صبر ، فهنا التقت حروف اللاجئين مجتمعة ، من الخيمة بدءوا و إلى الخيمة عادوا و على أطلال نكبتهم جلسوا يتذكرون ، جمعوا كل ما كانوا يملكون و حرموا أنفسهم و أولادهم و استدانوا ، و أخيرا كان ما كان و في دقائق أصبح الحلم مجرد ركام و أصبحت الخيمة لغة التعارف .

بين الخيم الجديدة و الوجع المميت .. و بين الوجوه المفجوعة تجولنا في رفح فجاءت الكلمات ماطرة بحكايات مقهورة …

في اللحظات الأخيرة :

محمد عبد السلام البكري - 48عاما - يداه ترتجفان بردا تحاولان الإمساك بعكازيه الخشبيين كي يتمكن من المشي حتى خيمته الجديدة التي نصبتها وكالة الغوث لمنكوبي رفح ، زخات المطر تشتد و يداه تتقلصان عجزا … و يقول بصوت مرتعش و عيون ملتاعة : "كنت في بيتي في مخيم بلوك (o) و فزعت من نومي على صوت دبابات و تجريف ، و الجدران أخذت تهتز من حولي و حاولت الوصول لعكازيّ فلم أستطع و لم أتمكن من الزحف للخروج من غرفتي ، فالبرد نهش جسدي المنهك لو لا بعض الشباب الذين هرعوا لنجدتي فانتشلوني في اللحظات الأخيرة من تحت حطام بيتي" . و يضيف بحسرة : "لم أترك بيتي رغم عجزي فهو كل ما أملك ، كيف يترك الإنسان حياته و ذكرياته ، إنه قطعة مني لقد هرب أولادي ، و سكنوا في بيت بالإيجار يدفعه لهم أهل الخير منذ ثمانية شهور ، أما أنا فأبيت أن أتركه ، عشت فيه 32 عاما فكيف أتخلى عنه" .

جعلوني عاجزا :

يسود الصمت الخيمة العاجزة عن الصمود في وجه الرياح العاتية إلا من ضربات المطر الشديد ليكسره البكري مرة ثانية بصوت مكلوم مضيفا :" دمروني قبل أن يدمروا بيتي فجعلوني عاجزا ، و يشير إلى ساقيه قائلا : "كسروا قدمي في الانتفاضة الأولى حين اقتحموا بيتي مدعين بوجود نفق يربط بين رفح و الأراضي المصرية في بيتي فقلت لهم بأنه لا شيء من هذا القبيل ، فقلبوا البيت رأسا على عقب ثم قام ضابط الوحدة بصفعي على وجهي فبادلته صفعته و لم أهابه ، فما كان منهم إلا أحكموا الإمساك بي و قام أحدهم بتقييد ساقي و ضربها بمكان إصابة سابقة و ظللت بين المشافي تخللها 8 عمليات حتى بات لدي قصر بين الساقين لأبقى عاجزا ، و ها هم يلاحقوني و يدمروا بيتي مشردين عائلتي" .

شجرة التوت باقية :

"أخرجوني من هنا قبل أن أرى بيتي … حلمي ينهار أمام ناظري" ، بهذه الكلمات تصف ابتسام الغرباوي - 19عاما - ما قالته جدتها الست فتيحة – 80 عاما – و تقول :" انتشل الشباب جدتي المشلولة المصابة بالكساح منذ عشرة سنوات ، بعدما هدموا ثلاثة غرف و منافعها في بيتنا أول أمس و نقلوها لبيت جيراننا ، و لكن حين امتد التجريف و تزايد بكت جدتي و انفطر قلبها ، قالت أخرجوني من رفح لا أريد أن أرى ثمرة عمري يتحطم أمام عيناي" ، و تضيف الغرباوي : "حالة جدتي النفسية سيئة للغاية ، اضطررنا لنقلها لبيت أقاربنا في أحد المخيمات الوسطى ، فهي ولدت و عاشت في هذا البيت" .

و تتحسس ابتسام شجرة توت ضخمة تتوسط البيت الذي جرف نصفه بينما صمدت ثلاث غرف أخرى حتى حين قائلة : "هذه الشجرة لها ذكريات خاصة و قد أطعمت كل الجيران ، لذا حين بزغ الفجر هرعت للاطمئنان على بقائها رغم أني لم أعد متيقنة من ذلك مستقبلا" .

و تقول ابتسام مشيرة إلى غرفتها التي طالها الدمار : "تحطم كل شيء ها هنا ، حتى كتبي لم أتمكن من انتشالها و لدي امتحانات هذه الأيام في الجامعة لا أستطيع التفكير فيما قد أفعله في الأيام القادمة بخصوص دراستي أو العودة لحياتي الطبيعية ، و هذا حال أختي إجلال أيضا فقد بتنا مشردين ، أمي في خيمة الاعتصام و نحن في الغرفتين المتبقيتين لنا و جدتي لدى أقاربنا ، ماذا بعد ذلك !؟ و هل سنتجمع مرة أخرى ؟" .

داليا و نسمة :

داليا و نسمة توأمان عيناهما زرقاوان و وجههما أحمر من شدة البرد تلتصقان بأمهما التي ضمت نسمة أكثر فأكثر إليها . تقول مشيرة لنسمة : "كدنا ننساها من شدة القصف ، فحين هرعنا خارج البيت كانت نائمة و ما كدنا نتفقد بعضنا البعض حتى قفز أبوها جالبا إياها في اللحظات الأخيرة فنجونا بحياتنا بينما كل ما نملك ذهب هباء و اختلط بأديم الأرض" ، و تلتقط حنان أبو لبدة أنفاسها قائلة : "ها أنذا في الشهر الأخير من حملي و لا أعرف كيف قفزت و أخذت أنقذ أطفالي من شدة البرد و الرعب الذي دب أوصالنا ، فنحن عشرة أفراد في بيت واحد لا نجد مأوى لنا من هذا الصقيع سوى خيمة الأونروا التي أعطتنا إياها أول أمس" .

و تقول ابنتها دعاء و وجهها الملائكي يطل من غطاء رأسها الصغير: "استيقظت فزعة من نومي فحملت أختي داليا و هربت بها و كنت أضع كيسا بجانبي به ملابس المدرسة و بعضا من كتبي ، فقد كنا نبيت في حمام بيتنا لأنه كما تقول أمي له سطح باطون و ليس إسبست كباقي غرف البيت و به حماية أكبر حيث أنام و أخوتي الستة فيه منذ ما يقرب من عام ، و لا نكاد ننام من صوت الرصاص و القصف اليومي علينا" .

و تشير دعاء للخيمة قائلة : "الآن أصبح لدينا خيمة بدلا من البيت ، و أحمد الله أن لدي بعضا من كتبي فأنا دائما الأولى على الصف و لا أعرف حين تنتهي إجازتنا المدرسية ماذا سأفعل و من أين سأحضر باقي الكتب و أين سأواصل دراستي و عائلتي مشردة" !! . دعاء كانت تتحدث و كأن عمرها عشرات السنوات بينما هي لا تزيد عن عشرة سنوات فقط ، لكن ما رأته و أقرانها يفوق كل تصور .

ألسنا بشرا ؟!! :

و تقول أم رامي أبو لبدة : "تعودنا حتى أن نضع أوراقنا الثبوتية و شهاداتنا الخاصة بجانبنا في حقيبة صغيرة معلقة على الحائط أمام ناظرنا منذ عام و نصف ، و هو الشيء الوحيد الذي أنقذناه من تحت الدمار من كل حاجيات البيت بمجرد أن هرعنا للخارج" . و تقول شقيقتها : " نت أبكي من شدة البرد و الخوف ، فقد كانت ليلة مرعبة ، فقنابل الصوت هزت أطفالنا و فزعت النساء و الأطفال و لم يكن يوما عاديا على الإطلاق" .

و تستصرخ رئيسة أبو لبدة "أم فادي" - 32 عاما - العالم أجمع قائلة : "أين العرب الذين ينفقون ملايين الدولارات من أموالهم على الرأفة بالحيوان ؟ أليس منهم من يرأف لحال أطفالنا المشردين ؟ ألا يقفون مع أنفسهم وقفة حق مرة واحدة ؟!!" ... و تضيف أم فادي بانفعال : "كسرت يدي اليمنى و جبروها لي حين حاولت إنقاذ أطفالي و الفرار من البيت الذي أخذ يتحطم على رؤوسنا وسط البرد و الصقيع و في حلكة الليل ، ألسنا بشرا ؟ ألا يرثى أحد لحالنا ؟" . و اختتمت كلمتها ببكاء حار على ما آل إليه حالها و أسرتها المكونة من 11 فردا لم يعودوا يملكون شيئا .

مفضلا الموت على الحياة :

و يقول أبو محمد شقفة - 40 عاما - أحد أصحاب البيوت المدمرة : "فررنا من بيوتنا و اتجهنا لننقذ الجيران المتضررين رغم المطر و الرياح العاتية و أخرجنا جارنا أنس أبو جزر الأصم الأبكم الذي لم يكن يدري ما يحدث حوله بينما زوجته و أطفاله يغطون في نوم عميق ، و انتشلناهم من بين الدمار ، فالدبابات وزعت على طول الشريط الحدودي من جهة مخيمنا و أخذت تهدم و تجرف في وقت واحد ما جعل العائلات تفجع و لا تكاد تجد الوقت لنجدة بعضها البعض لولا يقظة بعض الشباب" .

و يضيف شقفة : "أنقذنا جارنا عمر أيضا و كسرنا الباب عليه في البيت و أخرجناه بعدما أبى الخروج من بيته مفضلا الموت على تدمير بيته" ... و يكمل أبو العبد القصاص ما قاله شقفة قائلا : "بقينا في الشوارع لا ملابس معنا و لا ما يحزنون ، و ها نحن صرعى المرض و البرد و أشعر بعظامي تؤلمني بشكل قاتل ، رغم ذلك لم أحصل حتى على خيمة حتى الآن كباقي الناس المتضررة هنا" .

تهاني المصري - 30 عاما - تطل من سطح دارها .. البيوت أمامها سويت بالأرض و باتت حطاما ، عشرات المنازل جرفتها قوات الاحتلال في ليلة ماطرة و بات بيتها في مواجهة الشريط الحدودي في رفح ، مشهد الدمار يثير غثيان (تهاني) ، و يكبر المشهد مع كل صباح و ينام راقدا كبركان على وشك الانفجار .

تقول تهاني المصري : "سؤال بات يؤرقني و يقض مضجعي ، هل سيكون بيتنا في يوم قريب كهذه البيوت المدمرة التي كانت من أسبوع فقط تضج بأطفالها و نسائها فباتت خرابا و حطاما ؟؟" . و تكمل قائلة : "بعد التجريف بيوم واحد قام جنود الاحتلال بتفجير قنبلة ارتجاجية في المنطقة المتاخمة للحدود فهزت كل أرجاء رفح ، و لأن بيتنا قريب من الشريط الحدودي في بلوك (G) شعرنا به ينتفض ، و فزع كل سكان المنطقة من نومهم مذعورين و تحطمت كل النوافذ و الأبواب في بيتنا ، فقد كان الانفجار مريعا" .

خوف و توقع :

و يكمل زوجها يحيى خليل المصري – 40 عاما - الذي يقطن في بلوك(G) الذي يمتد من منزله عند الشريط الحدودي : "بتنا نخشى من استمرار جيش الاحتلال بممارسة اللاإنسانية و أن يستمر في سياسة هدم المنازل فيصلنا الدور في الهدم ، فما حدث على أرض الواقع يجعل كل شيء ممكنا ، فلا وازع ديني و لا إنساني للصهاينة تمنعهم من تكرار فعلتهم مستقبلا" ..

و يضيف المصري : "ها هو بيتنا المكون من طابقين تشقق و لحقه أضرار جسيمة من جراء القصف على المنطقة و القنابل الصهيونية ، فما الذي يضمن لنا في ليلة حالكة ألا يقوم جنود صهاينة بهدم منازلنا لنصبح بلا مأوى ، فهذا البيت بالكاد يقينا البرد و الرياح و قمنا بإصلاحه و ترميمه العديد من المرات طوال العام دون جدوى" .

و يشير إلى عائلته جزعا : "رأيت الناس مشردين في الخيام وسط البرد و الصقيع في رفح و لا أريد مصيرا مشابها لأفراد أسرتي الثلاثة عشر ، و هل من المعقول أن أظل واضعا يدي على وجهي منتظرا المصيبة حتى تحل" .

"ليست المرة الأولى" :

و يضيف المصري : "هاجس الخوف يكبر في داخلنا ، فهنا نحن نعيش في بيوتنا و رغم المخاطر و الأضرار التي لحقت ببيوتنا و نفسيتنا ، لكن إلى متى سأتحمل ذلك ؟؟ و ما الذي سيحدث في الأيام القادمة ؟؟؟؟ .

إرهاب منظم :

و يقول المصري : "نخشى غدا أن يقوموا بتشريد و هدم بيوتنا المتصدعة ثم يدعون أنها بيوت فارغة لا يوجد بها سكان كما فعلوا بادعائهم الأخير في رفح بأنها غير مأهولة بالسكان ... و يضيف : "أعيش مستنكرا ، هل يتوجب أن أقتل في بيتي كي يثبت أني لا زلت أعيش فيه ؟!!" ، و تقاطعه زوجته تهاني قائلة : "الكثير من العائلات المشردة أنقذوها في اللحظات الأخيرة من الموت ، فلولا يقظة الشباب و قيامهم بالطرق على أبواب المنازل و التكبير و التهليل على الناس لحدثت مجزرة رهيبة لأن الناس كانوا نياما متدثرين من برد الشتاء و الأمطار الغزيرة في تلك الليلة" .

"لن نترك بيوتنا" :

ويقول المصري : "هاهم يصرحون و يعلنون أشياء لا صلة لها بالواقع ... إنهم فقط يبغون تدمير بيوتنا ، فقد انتهجوا معنا منذ بداية الانتفاضة سياسة القصف اليومي و إلقاء قنابل الصوت و إطلاق الرصاص عشوائيا لإرهابنا و دفعنا لترك بيوتنا كي يتسنى لهم هدمها بسهولة ، غير أنا صمدنا ما يزيد عن عام و نصف لأننا لن نترك منازلنا ، فلم يجدوا بدا من هدمها على رؤوس قاطنيها بينما يشيعون أنها فارغة من الناس" . و يضيف بعزيمة : "لن يرهبونا و لن نترك بيوتنا ما دمنا أحياء" .

و لا تزال تجثم العديد من الخيم في ميدان العودة برفح في وسط المدينة مغلقة السير مؤكدة على الصمت العربي و العالمي على مسلسل الانتهاكات الصهيونية الذي لا يقف عند التدمير و التشريد لحياة الإنسان الفلسطيني بل العبث بمستقبله و مصير أبنائه .. فهل ستبقى الخيم البيضاء مرتعشة كأصحابها وقتا طويلا ؟؟!! , و هل تخفي الأيام في جعبتها المزيد من الدمار لأهالي رفح .. و إلى متى سيبقى العالم متفرجا !!
:غضب: :غضب: :":