المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقال سراب الحقيقة



حسام حربى
15-04-2012, 12:03 PM
http://static.guim.co.uk/sys-images/Admin/BkFill/Default_image_group/2011/9/11/1315766815964/mirage-desert-007.jpg



تبث محطات الإرسال نفس الذبذبات للجميع لكن يختلف إستقبالها باختلاف المستقبِل.. فالتلفزيون الملون سيعرض صورة تختلف عن الأبيض والأسود والذى بدوره سيختلف عن تلفزيون ذو شاشة مشروخة، أما التفزيون المعطّل فلن يعرض شيئاً بالمرة. ولا يختلف الأمر بالنسبة للبشر، فبدون عين ترى غروب الشمس أو نجوم السماء ومشاعر تتأملها لا تُعد الشمس قد غربت ولا تُعد النجوم قد وُجدت، ومن فلسفات الصوفية العميقة عن سبب خلق الإنسان أن الله "كنز مفقود" فخلَقه كى يجده ويتأمل عظمته ويتعرف عليه.. ومن الأسئلة الفلسفية الطريفة "هل يَصدر صوتاً عن شجرة وقعت فى الغابة إن لم يسمعها أحد؟" فطبعاً هى قد أصدرت صوتاً بوقوعها ولكن لأن أحداً لم يسمعه فكأنه لم يكن ومن ثَم فلا يُعتبر قد صَدَر أصلاً. ومشهد مطاردة وإلتهام فهد لغزالة مثلاً قد تراه أنت مأساوياً فى حين يراه أحد الصيادين مثيراً، ومشهد حرب ودمار وخراب يختلف تأثيره بالمُشاهِد فإن كان لدولة أو جماعة يراها ظالمة فهو مشهد سعيد يرى فيه عدالة السماء فى حين يراه من يتعاطف مع تلك الدولة أو الجماعة كمشهد حزين وكئيب ولمن لا يعلم عنها شيئاً لن يكون له أى تأثير

ومن أطرف الأمثلة على ذلك تلاحظها عند تأمل تفسير المسلمين واليهود لإصابة أرئيل شارون بجلطة فى المخ أردته طريح الفراش بين الحياة والموت.. فقد قال المسلمون أن هذا يمثل إنتقام الله منه على جرئمه فى حق الفلسطينيين، بينما أكّد اليهود أنه يمثل إنتقام (يهوة) منه بسبب إنسحابه من غزة! ومثلها عندما أصيب الداعية الإسلامى أحمد ديدات بوعكة مفاجئة أصابته بالشلل التام.. فقد هلل المسيحيون "لإنتقام الرب من عدوه" بينما إزداد المسلمون إيماناً بـ"رغبة الله فى رفع درجات الشيخ فى الجنة"! وبالتأكيد سينظر العلمانيون للحالتين على أنهما مجرد صدفة قد تحدث لأى شخص. ولهذا فلا نستطيع القول بأن أى حدث يمثِّل فى حد ذاته معلومة مفيدة دون إعتبار وجهة نظر تشعر وتكوِّن رأياً إزاءها

ومن هنا تتجلى مدى صعوبة إن لم يكن إستحالة الحكم "العادل" أو "المتزن" على الأمور، فكيف تُصدِر حكماً عادلاً أو متزناً على أى شىء حينما يكون عقلك الذى تستعمله للحكم قد تشكَّل بظروف فريدة لم تشاركك فيها العقول الأخرى التى تَحكم على نفس الشىء؟ فبما أن كل إنسان نشأ فى بيئة وظروف خاصة جعلت له قاموساً للصواب والخطأ يختلف فى تعريفاته عن قواميس الآخرين كان من الحتمى أن يختلف الناس فى نظرتهم للأمور من أول تسخيف الآراء وحتى الإقتتال.. فلا يبدو أن هناك موضوع واحد يتيم يتفق جميع البشر عليه من أول العقوبة المناسبة للسرقة (إن تم التسليم بأنها تستحق العقوبة أصلاً فالشيوعيين مثلاً يرون التأميم جائز) إلى عقوبة القتل (إن سلمنا باتفاق الجميع على خطئه أيضاً فالبعض يراه جائزاً فى حالة "الحرب على الإرهاب" والبعض الآخر فى حالة "الدفاع عن النفس ضد من يحاربون الإرهاب"!) إلى عقوبتى الزنا والشذوذ (إن أجمع الكل على خطئه ولم يعتبره البعض حرية شخصية)

وقد قال القدماء أن "آفة الرأى الهوى"، فلا تستطيع أخذ رأى شيخ فى مشروعية التدخين مثلاً إن كان هذا الشيخ يدخن أو كان يكره التدخين، ويَصعب أن تجد إنساناً ليس لديه إنحياز إما مع وإما ضد التدخين. ومن شبه المستحيل أيضاً أن تجد قاضياً لا ينحاز بأى صورة من الصور للمتهم أو للمجنى عليه، فإن كانت القضية سببها سرقة فقير لسيارة غنى مثلاً فستجد أن القاضى الذى أتى من طبقة مرفهة ينحاز للمسروق لأنه يضع نفسه مكانه ويعرف مدى ارتباط الشخص بسيارته ويحتقر اللص الذى لم يتحكم فى رغباته الخ بينما القاضى الآتى من بيئة أفقر سينحاز للسارق لأنه يعلم معاناته ومدى تأثير الحرمان وقوة الضغوط الواقعة عليه الخ، ناهيك عن أن واضع القانون المحدِّد لعقوبة السرقة كان ولا شك بدوره واقعاً تحت بعض تأثير أحد هذين الإنحيازَين. والأدهى من كل ذلك هو الإنحياز للمعيار الذى سنحتكم إليه فهل هو المساواة أم الديمقراطية ام الدين مثلاً؟ وحتى بداخل كل معيار من هذه عشرات إن لم يكن مئات التفسيرات والنظريات والأطروحات!

ولذا فإن محاولاتنا لتطبيق ما نعتقد أنه عدل أو صواب فى أى مسألة من المسائل لا تعدو عن كونها اجتهادات نسبية. ليس هذا فقط، بل إنه لا يوجد شىء إسمه صواب أو خطأ من الأساس خارج عقولنا. فالصواب والعدل والحق والظلم أفكار مجردة مثلها مثل الجمال والقبح والنجاح والفشل، لا يمكن تعريفها خارج الإطار الشخصى بحسب وجهة نظرك

حسام حربى
https://ubser.wordpress.com