عنتر55
14-02-2002, 07:56 PM
التحريف في اللغة
التحريف في اللغة هو ميل الكلمة عن معناها، وتكاد تتفق كلمات اللغويين على تفسيرها بما ذكرنا، وهذه بعض كلماتهم:
ابن منظور:
قال جمال الدين محمد المعروف بابن منظور:
«وتحريف الكلم عن موضعه: تغييره، والتحريف في القران والكلمة تغيير الحرف عن معناه، والكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه، كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشباه فوصفهم الله بفعلهم، فقال تعالى: (يُحرفون الكَلِمَ عن مواضعه).
وقوله في حديث أبي هريرة: آمنت بمحرف القلوب هو المزيل، أي مميلها ومزيفها، وهو الله تعالى(1).
وحكى هذا القول شمول التحريف لما يلي:
أ ـ تغيير الحرف عن معناه.
ب ـ تغيير الكلمة عن معناها.
جـ ـ إن التحريف كان من سمة اليهود فقد غيّروا معاني التوراة وبدّلوها إلى ما يشاببها.
الزبيدي:
قال السيد محمد مرتضى الزبيدي: «والتحريف التغيير والتبديل، ومنه قوله تعالى:
«ثم يحرفونه»، وقوله تعالى أيضاً:
(يحرفون الكلم عن مواضعه) وهو في القرآن، والكلمة تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها، وهي قريبة الشبه»(2).
وما أفاده الزبيدي هو نفس ما ذكره ابن منظور.
احمد بن فارس:
وذكر ابو الحسين أحمد بن فارس في مادة «حرف»: «يقال: انحرف عنه ينحرف انحرافاً، وحرفته أنا عنه، أي عدلت به عنه، ولذلك يقال: محارف وذلك إذا حورف كسبه فيميل به عنه، وذلك كتحريف الكلام وهو عدله عن جهته، قال الله تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه)(3).
لقد اتفقت معاجم اللغة عن تفسير التحريف بميل الكلمة عن معناها.
في رحاب القرآن
وردت مادة لفظة «التحريف» في القرآن الكريم في أربع آيات، ولم تستعمل إلاّ في معناها اللغوي، أما الآيات فهذه:
الآية الأولى:
(من الذين هادوا يحرفون الكَلِم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا)(4).
الآية الثانية:
قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به)(5).
الآية الثالثة:
قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)(6).
الآية الرابعة:
قوله تعالى: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقومٍ آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا)(7).
هذه هي الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظة التحريف وهي مستعملة في معناها اللغوي من دون أن يكون للشارع المقدّس اصطلاح آخر فيه.
أنواع التحريف
اما التحريف فهو على أنواع بعضها تتصادم مع قدسية القرآن الكريم على القول بوقوع التحريف فيه، والبعض الآخر لا تتجافى ولا تتصادم معه، كما يقول بعضهم وفيما يلي ذلك:
الأول: الزيادة.
أما الزيادة في كتاب الله العزيز فتتصور على وجوه وهذه بعضها:
أ ـ الزيادة في الحركات والاعراب، وهذا لا مانع منه لأنه لا يوجب خللاً في المعنى، ولا تبديلاً في الكتاب ـ كما يقول البعض ـ، ولكن التحقيق يفضي بأن تغيير الاعراب على القواعد المقررة في علم النحو مما يوجب الاخلال في المعنى، والتغيير الكامل للكتاب العزيز.
ب ـ الزيادة في الحروف وهو مما يوجب التحريف في كتاب الله العزيز.
ج ـ الزيادة بكلمةٍ أو أكثر فانه من التحريف الظاهر، ولا فرق بين أن تكون الزيادة في الآية أو السورة.
الثاني: النقيصة
أما النقيصة بجميع صورها فهي مما تتنافى مع قدسية القرآن الكريم، فليس فيه أي نقص كما ليس فيه أي زيادة.
الثالث: التأويل حسب الرغبات.
ومن ألوان التحريف تفسير بعضهم لبعض آيات القرآن الكريم بما هو بعيد عن واقع الكتاب العظيم، وذلك تدعيماً لما يراه ويذهب إليه، وفي بعض التفاسير صور كثيرة من ذلك وهي بعيدة كل البعد عن القرآن.
هذه بعض صور التحريف، ومن المؤكد الذي لا ريب فيه أن القرآن الكريم منزّه عن كل تحريف، فلا زيادة ولا نقصان فيه، وإنما هو بعينه المنزل من رب العالمين على عبده ورسوله خاتم النبيّين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وسنذكر في البحوث الآتية ما يدعم ذلك.
أقوال بالتحريف
حكت مصادر الحديث طائفة من الروايات بوقوع التحريف في القرآن الكريم، ونسبته إلى أعلام الصحابة وبعض أمهات المؤمنين، ونحن نشك في هذه الروايات، ونذهب إلى أنها من الموضوعات ونجلّ الصحابة من ذلك، وإن ما نسب إليهم لا نصيب له من الصحة، وهذا عرض لما نسب إليهم:
1 ـ أبو موسى الأشعري:
ونسب إلى أبي موسى الأشعري وقوع التحريف في القرآن، فقد روى أبو الأسود، قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيّار أهل البصرة وقرّاؤهم؟ فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنّا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فانسيتها غير إني حفظت منها، لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، وكنّا نقرأ سورة كنا نشبّهها بالمسبحات فأنسيتها غير إني حفظت منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة(8)».
والآيات الناقضة التي ذُكرت لا تضارع آيات الكتاب العزيز في فصاحتها وبلاغتها وانسجامها، وذلك مما يدل على وضعها.
2 ـ عمر بن الخطاب:
وحفلت مصادر الحديث ببعض الروايات المنسوبة إلى الخليفة الثاني بوقوع التحريف في القرآن، وهذه بعضها:
أ ـ روى عبد الله بن عباس إن عمر بن الخطاب كان جالساً على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها في رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله(9).
ومعنى هذه الرواية أن آية الرجم قد أنزلت على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وقرأها عمر وغيره ولكنها لم ترسم في المصحف الكريم، ولماذا لم يرسمها عمر في أيام خلافته!
أما آية الرجم فهي: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة»(10).
وآية الرجم لا تشابه بقية الآيات في روعة بلاغتها وفصاحتها كما هو ظاهر.
ب ـ روى ابن عباس أن عمر قال: إنا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كُفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبواً عن آبائكم»(11).
وهذه الآية بعيدة كل البعد عن آيات القرآن الكريم التي هي من مناجم الكلام العربي.
ج ـ وآثر عن عمر أنه قال: القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف(12)، وأحصيت حروف القرآن فلم تبلغ ثلث هذا المقدار فيكون الساقط أكثر من ثلثيه(13).
3 ـ عبد الله بن عمر:
ونُسِب إلى عبد الله بن عمر أنه سقط من القرآن الكريم الشيء الكثير قال:
ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كلّه، وما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر(14).
ومعنى هذه الرواية أنه قد حرف من القرآن أشياء كثيرة.
4 ـ عائشة:
ونسبت الرواة إلى عائشة طائفة من الأخبار تدل على سقوط بعض الآيات، وعدم تسجيلها في المصحف، وهذه بعض الروايات:
1 ـ روى أبو يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفين، وقالت: إذا بلغت هذه الآيه فآذني: «وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى» فلما بلغتها آذنتها فأملت عليَّ: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(15).
2 ـ روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت:
كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن(16).
3 ـ روى عمر عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلوماتٍ يُحرّمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن(17).
5 ـ حميدة بنت أبي يونس:
قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ عليَّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلّون الصفوف الأولى. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف(18).
وواضح زيادة الجملة الأخيرة، وذلك لعدم الترابط بينهما وبين ما تقدمها.
6 ـ مسلمة بن مخلد:
روى أبو سفيان الكلاعي، ان مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أُولئك لا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون»(19).
7 ـ أُبي بن كعب:
روى أُبي بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال له: إن الله أمرني أن اقرأ عليك فقرأه «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب» فقرأ فيها إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية من يعمل خيراً فلن يكفره، وقرأ عليه: ولو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب(20).
وهذه الملحقات ليست على نسق الآيات الكريمة وبعيدة عنها كلّ البعد.
8 ـ عبد الله بن مسعود:
سأل أبو الدرداء علقمة فقال له: كيف كان عبد الله ـ يعني ـ ابن مسعود يقرأ: «والليل إذا يخشى والنهار إذا تجلّى» فقال: والذكر والأنثى ما زال بي هؤلاء يستزلّوني عن شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(21).
روى عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ يحك المعوذتين من مصاحفه ويقوله: إنهما ليستا من كتاب الله(22).
هذه بعض الأقوال في تحريف القرآن الكريم ولا نصيب لها من الصحّة حسب ما ندلّل عليه.
بطلان التحريف
واذا تأملنا بدقّة وشمول في أمر تحريف القرآن لوجدناه من سخف القول ومجافياً لنصوص القرآن والسنّة، ونعرض للأدلّة على ذلك.
في رحاب القرآن
ودلّت بعض آيات الكتاب العزيز على سلامته من الانحراف والتلاعب، وأنه على وضعه النازل من رب العالمين.
قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(23). وحكت الآية الكريمه حفظ الله تعالى لكتابه من الضياع والتحريف والتلاعب.
وقال تعالى: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(24).
دلّت الآية على نفي الباطل بجميع أنواعه وألوانه عن الكتاب العزيز، ومن المؤكد ـ حسب الصناعة ـ أن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم، ولا شبهة أن التحريف من أفراد الباطل، فيجب أن يتطرق إلى الكتاب العزيز(25).
الاستدلال بحديث الثقلين
وتضافرت الأخبار بسلامة الكتاب العزيز من أي تحريف، زيادة كان أو نقصاناً، ومن أهمّ تلك الأخبار حديث الثقلين(26) الذي ضمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيه السلامة لأمته من الزيغ والانحراف إن تمسّكت بكتاب الله، وبعترة نبيّه، وهذا نصّه:
«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما...».
وقد عرض الإمام الخوئي إلى الاستدلال بهذا الحديث على سلامة القرآن من التحريف قال: والاستدلال به على عدم تحريف الكتاب يكون من ناحيتين:
الناحية الأولى:
إن القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسّك بالكتاب المنزل لضياعه على الامة بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيامة لصريح أخبار الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً.
وتوضيح ذلك:
إن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلا بد من وجود شخص يكون قريناً للكتاب، ولا بد من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة حتى يردا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الحوض، وليكون التمسك بهما حافظاً للأمة عن الضلال كما يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث، ومن الضروري ان التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم واتّباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم.
وهذا شيء لا يتوقف على الاتصال بالامام والمخاطبة معه شفاهاً، فان الوصول إلى الإمام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان الحضور فضلاً عن أزمنة الغيبة، واشتراط إمكان الوصول إلى الإمام لبعض الناس دعوىً بلا برهان، ولا سبب يوجب ذلك، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه، ويتّبعون أوامره، ومن هذه الأوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يكون إلاّ بالوصول إليه، فلا بد من كونه موجوداً بين الأمة ليمكنها أن تتمسك به لئلا تقع في الضلال، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الإمام الغائب، فان وجوده الواقعي لا يكفي لتمسك الأُمة به.
وأشكل الاستاذ على ما ذكره، وأجاب عنه وأضاف بعد ذلك:
الناحية الثانية:
إن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية، فلا يتمسك بظواهره، فلابد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى امضاء الأئمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا، واقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه.
ومعنى هذا: إن حجية الكتاب الموجود متوقفة على امضاء الأئمة للاستدلال به، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما، بل هو الثقل الأكبر فلا تكون حجيته فرعاً على حجية الثقل الأصغر، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية ـ على القول بالتحريف ـ هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها، اما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط، فان الدليل على هذا الأصل هو بناء العقلاء على اتّباع الظهور وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه، وقد أوضحنا في مباحث الأصول ان القدر الثابت من البناء العقلائي، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة، ولا باحتمال وجود القرينة المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان أو غفلة السامع عن الاستفادة(27). وأطال الاستاذ في تنزيه القرآن من التحريف وأقام الأدلة الحاسمة على ذلك، وانه لم يقع أي تحريف فيه لا في زمان الخلفاء ولا من بعدهم، والقول بالتحريف باطل لا دليل عليه مطلقاً.
سلامة القرآن من التحريف عند الشيعة
وتبنت الشيعة بصورة ايجابية ومتميزة تقديس القرآن الكريم، وإحاطته بهالة من التعظيم لأنه المعجزة الخالدة لعبد الله ورسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم والثقل الأكبر الذي خلّفه لأمته فجعله مصدر هدايتها وسلامتها من الزيغ والانحراف. وما نُسب إليها من التحريف لا نصيب له من الواقع.
ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما أثر عن أئمة الهدى عليهم السَّلام في سموّ شأن الكتاب العزيز وسلامته من كل تحريف، وفيما يلي ذلك:
1 ـ فضل القرآن:
وتواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السَّلام في فضل القرآن الكريم هذه بعضها:
أ ـ روى طلحة بن زيد عن الإمام ابي عبد الله عليه السَّلام أنه قال:
«إن هذا القرآن فيه منار الهدى، ومصابيح الدجى، فليجلُ جالٍ بَصَرهُ، ويفتح للضياء نظره، فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»(28).
ب ـ روى أبو جميلة عن أبي عبد الله عليه السَّلام انه قال:
«كان في وصية أمير المؤمنين عليه السَّلام لأصحابه: اعلموا أن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة»(29).
ج ـ روى أبو بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السَّلام يقول:
«إن القرآن زاجر وآمر، يأمر بالجنة ويزجر عن النار»(30).
د ـ روى الإمام ابو جعفر عليه السَّلام عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«أنا أول رافدٍ على العزيز الجبّار يوم القيامة، وكتابهُ وأهل بيتي، ثم أمتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي»(31).
هـ ـ روى الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام في حديث له عن جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالةٌ من العثرة، ونور من الظلمة(32)، وضياءٌ من الاحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عَدَلَ أحد عن القرآن إلاّ إلى النار»(33).
2 ـ الحثّ على حفظ القرآن:
وحثّ الأئمة الطاهرون عليهم السَّلام على حفظ القرآن الكريم، ووعدوا الحافظين له بالمنزلة الكريمة عند الله تعالى، وهذه بعض ما اثر عنهم:
أ ـ قال الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام:
«من قرأ القرآن فهو غنى ولا فقر بعده، وإلاّ ما به غنى»(34).
ب ـ وروى الفضيل بن يسار عن الإمام أبي عبد الله عليه السَّلام أنه قال:
«الحافظ للقرآن، العامل به مع السفرة الكرام البررة»(35).
ج ـ روى الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام عن جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ماخلا النبيّين والمرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فانّ لهم من الله العزيز الجبّار لمكاناً عليّاً»(36).
د ـ قال الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام:
«من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة»(37).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تشجع على حفظ كتاب الله تعالى، وتذكر ما أعد الله يوم حشره من الأجر الجزيل.
3 ـ التأمل في آيات القرآن:
وحث الإمام زين العابدين عليه السَّلام على التأمل في آيات القرآن الكريم وذلك لما حوته من الذخائر، قال عليه السَّلام:
«آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»(38).
4 ـ قراءة القرآن بركة ورحمة:
وفي قراءة القرآن الكريم بركة ورحمة، وقد حثّ الأئمة الطاهرون على تلاوته، فقد روى الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام عن جده الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال:
«البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويُذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يُذكر الله عز وجل فيه تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين»(39).
هذه بعض الأخبار التي أدلى بها أئمة أهل البيت عليهم السَّلام في فضل القرآن الكريم، وانه الثقل الأكبر الذي خلّفه النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم في أمته لإقامة أخلاقها وتهذيب سلوكها، وجعلها قادة الأمم والشعوب.
ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى ما اثر عن الإمام أبي جعفر عليه السَّلام وغيره في ذم المحرّفين لكتاب الله العزيز إلى ما أعلنه كبار علماء الشيعة من التزامهم بعدم تحريف القرآن زيادة ونقيصة، وفيما يلي ذلك:
ذمّ المحرّفين
1 ـ وأعلن الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السَّلام في رسالته إلى سعد الخير ذمّه المحرفين، وشجبه لما اقترفوه من تغيير وتبديد لكتاب الله تعالى، قال عليه السَّلام:
«وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يرونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم الرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية»(40).
2 ـ روى أبو ذر قال:
«لمّا نزلت هذه الآية (يَومَ تَبيَضُ وُجُوهٌ وتَسوَدُّ وُجُوهٌ) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ترد أمتي عليَّ يوم القيامة على خمس رايات، ثم ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين، فتقول الراية الأولى: أما الأكبر فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا ، وأما الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه.
وتقول الراية الثانية: أما الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه، وأما الأصغر فعاديناه وقاتلناه...»(41).
3 ـ روى الإمام أبو جعفر عليه السَّلام قال:
«دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بمنى فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي، والكعبة البيت الحرام».
وعقّب الإمام ابو جعفر عليه السَّلام على حديث جدّه بقوله:
«أما كتاب الله فحرّفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرّأوا»(42).
وقد دلت هذه الكوكبة من الروايات على ذم المحرفين لكتاب الله تعالى، كما دلت على وقوع التحريف فيه وليس المراد منه الزيادة أو النقيصة، فيه، فذلك باطل جزماً جملة وتفصيلاً، وإنما المراد منه تأويله وتفسيره على غير ما أنزل الله تعالى، فقد عمد بعض المفسرين إلى ذلك دعماً للحكم الأموي والعباسي، فقد ذكر بعض المفسرين أن الآية الكريمة: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) نزلت في ابن ملجم الباغي الأثيم لأنه عمّم بسيفه رائد الحكمة والعدالة الاجتماعية في الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام أخو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وباب مدينة علمه، وكثير من أمثال هذا التفسير توجد في مصادر تفسير القرآن الكريم، وهي بعيدة كل البعد عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه، قد وضعها من لا حريجة له في الدين تقرباً للسلطات الحاكمة التي جهدت على تدعيم حكمها بكل ما خالف القرآن الكريم.
وعلى أي حال فان الشيعة تبرأ من تحريف الكتاب العزيز، وتجمع على أنه هوالكتاب المنزل من رب العالمين لا زيادة ولا نقصان فيه.
كلمات أعلام الشيعة
وأدلى كبار علماء الشيعة بصيانة الذكر الحكيم من كل زيغ وتحريف، وهذه بعض كلماتهم:
1 ـ الشيخ الصدوق:
أما الشيخ الصدوق فهو من أبرز علماء الشيعة قال:
«اعتقادنا في القرآن انه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم عليم، وانه القصص الحقّ، وانه لقول فصل، وما هو بالهزل، وان الله تبارك وتعالى محدثه ومنزله، وربه وحافظه، والمتكلم به»(43).
وأكد الشيخ الصدوق ما ذهبت إليه الشيعة من سلامة القرآن الحكيم من التحريف بقوله:
«اعتقادنا أن القرآن أنزله الله تعالى على نبيّه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين»، وأضاف:
«ومن نسب إلينا انا نقول: إنه أكثر من ذلك فهو كاذب»(44).
2 ـ الشيخ الطوسي:
وأعلن زعيم الطائفة الإمامية الإمام أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي سلامة القرآن الكريم من كل تحريف قال:
«أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن؛ لأن الزيادة منه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين على خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا»(45).
3 ـ العلامة الحلّي:
عرض العلامة الحلي نضر الله مثواه إلى تفنيذ وابطال التحريف في كتاب الله حينما سأله السيد المهنا عن ذلك فأجاب:
«الحق انه لا تبديل، ولا تأخير، ولا تقديم فيه، وانه لم يزد، ولم ينقص، ونعوذ بالله من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم المنقولة بالتواتر»(46).
4 ـ الإمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء:
قال إمام المحقّقين الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره:
«لا زيادة فيه ـ أي في القرآن ـ من سورة ولا آية من بسملة وغيرها، لا كلمة، ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام الله تعالى بالضرورة من المذهب، بل الدين وإجماع المسلمين، وأخبار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرين عليهم السَّلام(47).
5 ـ الإمام شرف الدين:
ونفى الإمام شرف الدين نفياً قاطعاً تحريف القرآن الكريم، قال:
«إن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشر أن القرآن، الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وانه كان مجموعاً مؤلفاً في عهده صلّى الله عليه وآله وسلم، وحفظه ونقله اُلوف من الصحابة، ويظهر القرآن وينتشر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه»(48).
6 ـ المحقق الأردبيلي:
قال المحقق الأردبيلي: واذا ثبت تواتره ـ أي القرآن الكريم ـ فهو مأمون من الاختلال، مع انه مضبوط في الكتب حتى إنه معدود حرفاً حرفاً وحركةً حركة، وكذا الكتابة وغيرها، مما يفيد الظن الغالب، بل العلم، بعدم الزيادة على ذلك والنقص»(49).
7 ـ الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء:
قال الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء: إن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه صلّى الله عليه وآله وسلم للإعجاز والتحدي ولتعلم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وانه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم ـ أي الشيعة الإمامية ـ ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نص الكتاب العظيم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم ـ أي العامة ـ الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فأما أن تؤوّل بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار»(50).
8 ـ العلامة المظفر:
قال العلامة الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله: نعتقد أن القرآن هو الوحي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم فيه تبيان لكلّ شيء، وهو معجزته الخالدة، التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما حوى من حقائق، ومعارف عالية لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه، وهو نفس القرآن المنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو محترف أو مغالط أو مشتبه، وكلّهم على غير هدى فانه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه»(51).
9 ـ المحقق الأميني:
قال المحقق الأميني في ردّه على أكاذيب ابن حزم في تحريف الشيعة للقرآن الكريم:
«لكن القارئ إذا فحص ونقّب لا يجد في طليعة الامامية إلاّ نفاة هذه الفرية... هؤلاء أعلام الامامية وحملة علومهم الكالئين لنواميسهم وعقائدهم قديماً وحديثاً يوقفونك على حين الرجل فيما يقول: وهذه فِرق الشيعة وفي مقدّمتهم الامامية مجمعةً على أن ما بين الدفّتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه»(52).
10 ـ الإمام الطباطبائي:
وبحث الإمام الطباطبائي بحثاً شاملاً وموضوعياً في سلامة القرآن الكريم من كل زيادة ونقيصة، ذكر ذلك في تفسيره للقرآن الكريم (الميزان) واستدلّ عليه بأوثق الأدلة، وكان مما استدل به الروايات التي اثرت عن أئمة الهدى عليهم السَّلام في عرض الأخبار المتعارضة على كتاب الله فما وافقه منها فهو حجة، وما خالفه فهو زخرف، وكذلك حديث الثقلين الذي ينص على التمسك بكتاب الله تعالى، فلو كان محرّفاً فهو غير حجة، ولا مجال لعرض الأخبار عليه والتمسك به»(53).
هذه بعض كلمات أعلام الشيعة، وأعمدتها العلمية في سلامة القرآن الكريم من كل تحريف.
أمور هامة:
ولابد لنا من وقفة قصيرة في بعض الأمور الهامة التي ترتبط بالموضوع، وهي:
مع المحدّث النوري:
ألف المحدث النوري كتاباً أسماه (فصل الخطاب) ذكر فيه وقوع التحريف زيادة ونقيصة في القرآن الكريم، وقد اتخذه خصوم الشيعة وسيلة للتشهير والطعن بهم، وهذا الكتاب خالٍ من الموازين والقيم العلمية، وهو على غرار ما كتبه السيوطي في كتابه (الاتقان) الذي ذكر فيه سيلاً من الروايات على وقوع التحريف في القرآن الكريم.
والكتاب لا يحفل به، فقد اعتمد على الروايات الموضوعة، وقد ردّ عليه الإمام البلاغي نضر الله مثواه قال:
«هذ وإن المحدث المعاصر جهد في كتاب (فصل الخطاب) في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة، وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل.. مع أن المتتبّع المحقّق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد.
وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها، ومنها ما هو مختلف بما يؤوّل إلى التنافي والتعارض.
هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم بأنه كذاب متهم لا استحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف، وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه السَّلام.. وأما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلّو.
وأضاف قائلاً:
ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة أن ننزلها على أن مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يعلم يقيناً شمول عموماتها له، لأنه أظهر الأفراد وأحقها بحكم العام أو ما كان مراداً بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل، أو ما كان هو مورد للنزول، أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم.
وعلى أحد هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد فيها أنه تنزيل، وأنه نزل به جبرئيل.. كما يحمل التحريف الوارد فيها على تحريف المعنى، ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه السَّلام لسعد الخير ـ كما في روضة الكافي ففيها: وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده. وكما يحمل ما فيها من أنه كان في مصحف أمير المؤمنين عليه السَّلام، أو ابن مسعود وينزل على انه بعنوان التفسير والتأويل ، ومما يشهد لذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام للزنديق كما في نهج البلاغة:
«ولقد جئتهم بالكتاب كاملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل».
وهكذا ما ورد من زيادة لولاية علي عليه السَّلام في مصحف فاطمة عليها السلام، ومعلوم أنه كان كتاب تحديث بأسرار العلم، وقد ورد أنه لم يكن فيه شيء من القرآن، وأيضاً ما ورد من تنزيل الأئمة موضع الأمة لا بد من حمله على التفسير وإن التحريف إنما هو في المعنى وكذا نظائره من سائر الروايات(54).
وما أفاده الإمام البلاغي قدس سره وثيق للغاية، وما ذكره المحدث النوري في الافصاح من وقوع التحريف في القرآن الكريم بعيد كل البعد عن الموازين والقيم العلمية، وإن الكتاب العظيم منزه من كل تحريف. وقد تصدى فضيلة العلامة الشيخ محمد هادي معرفة في كتابه (صيانة القرآن من التحريف) إلى تفنيد الروايات التي اعتمد عليها النوري وأنها من الموضوعات، ودلل على ذلك بصورة موضوعية، كما تصدى إلى ضحالة المصادر التي اعتمد عليها النوري، وأنها ليست من الكتب التي يعتمد عليها، ولم يدع في بحثه أي مجال للشك في فساد ما ذكره المحدث النوري.
مع الكليني:
عقد ثقة الإسلام الكليني نضر الله مثواه في كتابه الجليل (أصول الكافي) فصلاً تحت عنوان «انه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمة عليهم السَّلام، وأنهم يعلمون علمه كلّه»(55).
وذكر كوكبة من الأخبار في ذلك، ومن المقطوع به انه لم يذهب إلى تحريف الكتاب العزيز، وإنما مقصوده أن القرآن الكريم لا يحيط بمحتواه، ولا يعرف تأويله ولا ناسخه ولا منسوخه سوى الأئمة الطاهرين عليهم السَّلام الذين هم خزنة علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وورثة آدابه وحكمه، ومضافاً لذلك فان الاخبار الموجودة في الكافي وغيره من كتب الامامية فيها الصحيح والضعيف، والمعيار في صحة الحديث هو أن يكون صحيح السند، وأن لا تكون دلالته مجافيه للكتاب والسنة، فإذا اكتسب ذلك فالرواية صحيحة والا فهي شاذة لا يعمل بها حسبما ذكره علماء الامامية.
يقول الحجة الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله: «ألفت نظر من يحتجّ على الشيعة ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم، ألفت نظره إلى أن الشيعة تعتقد أن كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم، ومنها الكافي والاستبصار والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه، فيها الصحيح والضعيف، وأن كتب الفقه التي ألفها علمائهم فيها الخطأ والصواب، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأن كل ما فيه حق وصواب من أوّله إلى آخره غير القرآن الكريم».
وأضاف:
«إنما يكون الحديث حجة على الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية، وهذه نتيجة طبيعية لفتح باب الاجتهاد لكل من له الأهلية فان الاجتهاد يكون في صحة السند وضعفه كما يكون في استخراج الحكم من آية أو رواية»(56).
مصحف الإمام علي عليه السَّلام:
وقبل أن أطوي الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب أعرض إلى أن بعض الأخبار دلّت على أن للإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام مصحفاً غير المصحف الموجود، وقد جاء به إلى الصحابة فلم يقبلوا منه، وهذا نص حديثه عليه السَّلام:
خاطب الإمام طلحة قائلاً له:
«يا طلحة، إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم عندي بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وخط يدي، وتأويل كل آية آنزلها الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وكل حلال أو حرام أو حدّ أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وخطّ يدي حتى أرش الخدش»(57).
وهناك رواية أخرى تضارع هذه الرواية وهي:
قال جابر: سمعت أبا جعفر عليه السَّلام يقول: «ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السَّلام»(58). وليس المراد من هذين الروايتين وأمثالهما أنه عند الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام وسائر الأوصياء مصحفاً يغاير المصحف المتناول؛ فان ذلك باطل جزماً وإنما المراد أن المصحف الذي عند الإمام عليه السَّلام حافل ببيان معاني الآيات وأسباب نزولها، ومحكمها ومتشابهها، وعامّها وخاصها، ومطلقها ومقيدها، كما أن المراد بمصحف سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام هو ذلك فانه من المقطوع به أن القرآن الكريم كان مجموعاً ومحفوظاً في أيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل الشيخ الطوسي عن الإمام المرتضى أنه قال:
«إن القرآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن»، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن علي جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان يعرض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عدّه ختمات، وكلّ ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور، ولا مبثوث»(59).
وأكد ذلك الإمام الأعظم شرف الدين قدس سره قال: «إن القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة، مؤلفاً على ما هو عليه الآن، وقد عرضه الصحابة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتلوه عليه من أوله إلى آخره، وكان جبرئيل عليه السَّلام يعارضه صلّى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين، وهذا كله من الأمور الضرورية لدى المحققين من علماء الامامية، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم كما لا عبرة بالحشوية من أهل السنة القائلين بتحريف القرآن ـ والعياذ بالله ـ فإنهم لا يفقهون»(60).
وعلى أي حال فان الشيعة الامامية تعتقد اعتقاداً جازماً لا يخامره أدنى شك أن القرآن الكريم المنزل من رب العالمين كان مجموعاً في أيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأنه سالم من كل تحريف، وما ورد في بعض الروايات الشاذة من وجود تحريف فيه فإنها باطلة؛ لأنها تتصادم مع الكتاب العزيز والسنة المقدسة، وما ذكر من الروايات المنافية لذلك فإنها موضوعة أو مؤوّلة.
وفي نهاية هذا الكتاب أني آمل أن يجد القارئ فيه الفائدة والمتعة، وهو ما أتمنّاه، والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــ
(1) لسان العرب 9 / 43.
(2) تاج العروس 6 / 69.
(3) مقاييس اللغة 2 / 42 ـ 43.
(4) سورة النساء: آية 46، أفاد السيد الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية ما نصه: «وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة ـ يعني اليهود ـ بتحريف الكلم عن مواضعه وذلك أما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والاسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، واما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السَّلام في التوراة وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق، كما أولوا ما ورد في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من بشائر التوراة ـ الميزان 4 / 364، وقريب من ذلك جاء في مواهب الرحمن 8 / 277 للإمام السبزواري نضّر الله مثواه.
(5) سورة المائدة: آية 13، نزلت هذه الآية في اليهود، فقد كانوا يفسرون التوراة بغير ما أنزل الله، ويغيرون صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والتحريف بأمرين:
الأول: سوء التأويل، والآخر: التغيير والتبديل. جاء ذلك في مجمع البيان 4 / 173.
(6) سورة البقرة، آية 75، نزلت الآية الكريمة في اليهود الذين رفضوا دعوة الإسلام واستمروا على معاندة الحق، فخاطب الله تعالى نبيّه بقوله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) وقد كان أسلاف اليهود يسمعون كلام الله من موسى مقترناً بالمعجزات فيحرفونه ويتأولونه حسب أهوائهم على علم منهم، وما حال يهود المدينة إلاّ كحال أسلافهم الذين حرفوا كتاب الله تعالى، جاء ذلك في الكاشف 1 / 131 وللإمام الرازي في تفسيره 3 / 134 مباحث في بيان التحريف وصوره.
(7) سورة المائدة، آية 41.
(8) صحيح مسلم 2 / 766.
(9) صحيح البخاري 9 / 208 ـ 209، صحيح مسلم 3 / 1317.
(10) مستدرك الحاكم 4 / 359 وفي الموطأ: ص 458 إن عمر قال: والذي نفسي بيده لولا يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة فارجموهما البتة.
(11) صحيح البخاري 8 / 210.
(12) الاتقان 1 / 121.
(13) البيان في تفسير القرآن: ص203.
(14) الاتقان 2 / 40.
(15) صحيح مسلم 1 / 437 كتاب المساجد. سنن الترمذي 5 / 217. سنن النسائي 1 / 236. سنن أبي داود 1 / 121.
(16) الاتقان 2 / 40.
(17) صحيح مسلم 4 / 167.
(18) الاتقان 2 / 42.
(19) الاتقان 2 / 42.
(20) الدر المنثور 8 / 586.
(21) كشف الحقائق: ص72، نقلاً عن صحيح البخاري 5 / 31، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
(22) مسند أحمد بن حنبل 5 / 129. مجمع الزوائد 1 / 149.
(23) سوره الحجر: 9.
(24) سورة فصّلت: 41 ـ 42.
(25) البيان في تفسير القرآن: ص 210.
(26) حديث الثقلين من الأحاديث النبوية المتواترة، رواه أحمد في مسنده 3 / 14، ورواه جلال الدين السيوطي في جامعه الصغير، ورواه الحاكم في المستدرك 3 / 109، ورواه المناوي في شرحه 3 / 15 وغيرهم.
(27) البيان في تفسير القرآن: ص 212 ـ 214.
(28) أصول الكافي 2 / 438.
(29) أصول الكافي 2 / 439.
(30) أصول الكافي 2 / 439.
(31) أصول الكافي 2 / 600.
(32) في بعض النسخ: «الضلالة».
(33) أصول الكافي 2 / 439.
(34) أصول الكافي 2 / 605.
(35) أصول الكافي 2 / 603.
(36) أصول الكافي 2 / 603.
(37) أصول الكافي 2 / 603.
(38) أصول الكافي 2 / 609.
(39) أصول الكافي 2 / 610.
(40) الوافي: ص 274.
(41) البيان في تفسير القرآن: ص 227.
(42) البيان في تفسير القرآن: ص 227.
(43) كشف الحقائق: ص 47 ـ 48.
(44) صيانة القرآن من التحريف: ص 60.
(45) البيان 1 / 3.
(46) صيانة القرآن الكريم من التحريف: ص 63.
(47) صيانة القرآن الكريم من التحريف: ص 63.
(48) الفصول المهمة: ص 164.
(49) مجمع الفائدة 2 / 218.
(50) أصل الشيعة وأصولها: ص 133.
(51) كشف الحقائق: ص 48.
(52) الغدير 3 / 101.
(53) الميزان.
(54) مقدمة تفسير الألآء 1 / 25 ـ 27.
(55) أصول الكافي 1 / 178.
(56) مجلة رسالة الإسلام: العدد 44، ص 382 ـ 385.
(57) البيان في تفسير القرآن: ص 222.
(58) البيان في تفسير القرآن: ص 223.
(59) مجمع البيان 1 / 15.
(60) أجوبة مسائل جار الله: ص 30.
التحريف في اللغة هو ميل الكلمة عن معناها، وتكاد تتفق كلمات اللغويين على تفسيرها بما ذكرنا، وهذه بعض كلماتهم:
ابن منظور:
قال جمال الدين محمد المعروف بابن منظور:
«وتحريف الكلم عن موضعه: تغييره، والتحريف في القران والكلمة تغيير الحرف عن معناه، والكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه، كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشباه فوصفهم الله بفعلهم، فقال تعالى: (يُحرفون الكَلِمَ عن مواضعه).
وقوله في حديث أبي هريرة: آمنت بمحرف القلوب هو المزيل، أي مميلها ومزيفها، وهو الله تعالى(1).
وحكى هذا القول شمول التحريف لما يلي:
أ ـ تغيير الحرف عن معناه.
ب ـ تغيير الكلمة عن معناها.
جـ ـ إن التحريف كان من سمة اليهود فقد غيّروا معاني التوراة وبدّلوها إلى ما يشاببها.
الزبيدي:
قال السيد محمد مرتضى الزبيدي: «والتحريف التغيير والتبديل، ومنه قوله تعالى:
«ثم يحرفونه»، وقوله تعالى أيضاً:
(يحرفون الكلم عن مواضعه) وهو في القرآن، والكلمة تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها، وهي قريبة الشبه»(2).
وما أفاده الزبيدي هو نفس ما ذكره ابن منظور.
احمد بن فارس:
وذكر ابو الحسين أحمد بن فارس في مادة «حرف»: «يقال: انحرف عنه ينحرف انحرافاً، وحرفته أنا عنه، أي عدلت به عنه، ولذلك يقال: محارف وذلك إذا حورف كسبه فيميل به عنه، وذلك كتحريف الكلام وهو عدله عن جهته، قال الله تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه)(3).
لقد اتفقت معاجم اللغة عن تفسير التحريف بميل الكلمة عن معناها.
في رحاب القرآن
وردت مادة لفظة «التحريف» في القرآن الكريم في أربع آيات، ولم تستعمل إلاّ في معناها اللغوي، أما الآيات فهذه:
الآية الأولى:
(من الذين هادوا يحرفون الكَلِم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا)(4).
الآية الثانية:
قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به)(5).
الآية الثالثة:
قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)(6).
الآية الرابعة:
قوله تعالى: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقومٍ آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا)(7).
هذه هي الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظة التحريف وهي مستعملة في معناها اللغوي من دون أن يكون للشارع المقدّس اصطلاح آخر فيه.
أنواع التحريف
اما التحريف فهو على أنواع بعضها تتصادم مع قدسية القرآن الكريم على القول بوقوع التحريف فيه، والبعض الآخر لا تتجافى ولا تتصادم معه، كما يقول بعضهم وفيما يلي ذلك:
الأول: الزيادة.
أما الزيادة في كتاب الله العزيز فتتصور على وجوه وهذه بعضها:
أ ـ الزيادة في الحركات والاعراب، وهذا لا مانع منه لأنه لا يوجب خللاً في المعنى، ولا تبديلاً في الكتاب ـ كما يقول البعض ـ، ولكن التحقيق يفضي بأن تغيير الاعراب على القواعد المقررة في علم النحو مما يوجب الاخلال في المعنى، والتغيير الكامل للكتاب العزيز.
ب ـ الزيادة في الحروف وهو مما يوجب التحريف في كتاب الله العزيز.
ج ـ الزيادة بكلمةٍ أو أكثر فانه من التحريف الظاهر، ولا فرق بين أن تكون الزيادة في الآية أو السورة.
الثاني: النقيصة
أما النقيصة بجميع صورها فهي مما تتنافى مع قدسية القرآن الكريم، فليس فيه أي نقص كما ليس فيه أي زيادة.
الثالث: التأويل حسب الرغبات.
ومن ألوان التحريف تفسير بعضهم لبعض آيات القرآن الكريم بما هو بعيد عن واقع الكتاب العظيم، وذلك تدعيماً لما يراه ويذهب إليه، وفي بعض التفاسير صور كثيرة من ذلك وهي بعيدة كل البعد عن القرآن.
هذه بعض صور التحريف، ومن المؤكد الذي لا ريب فيه أن القرآن الكريم منزّه عن كل تحريف، فلا زيادة ولا نقصان فيه، وإنما هو بعينه المنزل من رب العالمين على عبده ورسوله خاتم النبيّين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وسنذكر في البحوث الآتية ما يدعم ذلك.
أقوال بالتحريف
حكت مصادر الحديث طائفة من الروايات بوقوع التحريف في القرآن الكريم، ونسبته إلى أعلام الصحابة وبعض أمهات المؤمنين، ونحن نشك في هذه الروايات، ونذهب إلى أنها من الموضوعات ونجلّ الصحابة من ذلك، وإن ما نسب إليهم لا نصيب له من الصحة، وهذا عرض لما نسب إليهم:
1 ـ أبو موسى الأشعري:
ونسب إلى أبي موسى الأشعري وقوع التحريف في القرآن، فقد روى أبو الأسود، قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيّار أهل البصرة وقرّاؤهم؟ فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنّا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فانسيتها غير إني حفظت منها، لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، وكنّا نقرأ سورة كنا نشبّهها بالمسبحات فأنسيتها غير إني حفظت منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة(8)».
والآيات الناقضة التي ذُكرت لا تضارع آيات الكتاب العزيز في فصاحتها وبلاغتها وانسجامها، وذلك مما يدل على وضعها.
2 ـ عمر بن الخطاب:
وحفلت مصادر الحديث ببعض الروايات المنسوبة إلى الخليفة الثاني بوقوع التحريف في القرآن، وهذه بعضها:
أ ـ روى عبد الله بن عباس إن عمر بن الخطاب كان جالساً على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها في رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله(9).
ومعنى هذه الرواية أن آية الرجم قد أنزلت على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وقرأها عمر وغيره ولكنها لم ترسم في المصحف الكريم، ولماذا لم يرسمها عمر في أيام خلافته!
أما آية الرجم فهي: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة»(10).
وآية الرجم لا تشابه بقية الآيات في روعة بلاغتها وفصاحتها كما هو ظاهر.
ب ـ روى ابن عباس أن عمر قال: إنا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كُفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبواً عن آبائكم»(11).
وهذه الآية بعيدة كل البعد عن آيات القرآن الكريم التي هي من مناجم الكلام العربي.
ج ـ وآثر عن عمر أنه قال: القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف(12)، وأحصيت حروف القرآن فلم تبلغ ثلث هذا المقدار فيكون الساقط أكثر من ثلثيه(13).
3 ـ عبد الله بن عمر:
ونُسِب إلى عبد الله بن عمر أنه سقط من القرآن الكريم الشيء الكثير قال:
ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كلّه، وما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر(14).
ومعنى هذه الرواية أنه قد حرف من القرآن أشياء كثيرة.
4 ـ عائشة:
ونسبت الرواة إلى عائشة طائفة من الأخبار تدل على سقوط بعض الآيات، وعدم تسجيلها في المصحف، وهذه بعض الروايات:
1 ـ روى أبو يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفين، وقالت: إذا بلغت هذه الآيه فآذني: «وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى» فلما بلغتها آذنتها فأملت عليَّ: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(15).
2 ـ روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت:
كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن(16).
3 ـ روى عمر عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلوماتٍ يُحرّمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن(17).
5 ـ حميدة بنت أبي يونس:
قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ عليَّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلّون الصفوف الأولى. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف(18).
وواضح زيادة الجملة الأخيرة، وذلك لعدم الترابط بينهما وبين ما تقدمها.
6 ـ مسلمة بن مخلد:
روى أبو سفيان الكلاعي، ان مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أُولئك لا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون»(19).
7 ـ أُبي بن كعب:
روى أُبي بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال له: إن الله أمرني أن اقرأ عليك فقرأه «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب» فقرأ فيها إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية من يعمل خيراً فلن يكفره، وقرأ عليه: ولو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب(20).
وهذه الملحقات ليست على نسق الآيات الكريمة وبعيدة عنها كلّ البعد.
8 ـ عبد الله بن مسعود:
سأل أبو الدرداء علقمة فقال له: كيف كان عبد الله ـ يعني ـ ابن مسعود يقرأ: «والليل إذا يخشى والنهار إذا تجلّى» فقال: والذكر والأنثى ما زال بي هؤلاء يستزلّوني عن شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(21).
روى عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ يحك المعوذتين من مصاحفه ويقوله: إنهما ليستا من كتاب الله(22).
هذه بعض الأقوال في تحريف القرآن الكريم ولا نصيب لها من الصحّة حسب ما ندلّل عليه.
بطلان التحريف
واذا تأملنا بدقّة وشمول في أمر تحريف القرآن لوجدناه من سخف القول ومجافياً لنصوص القرآن والسنّة، ونعرض للأدلّة على ذلك.
في رحاب القرآن
ودلّت بعض آيات الكتاب العزيز على سلامته من الانحراف والتلاعب، وأنه على وضعه النازل من رب العالمين.
قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(23). وحكت الآية الكريمه حفظ الله تعالى لكتابه من الضياع والتحريف والتلاعب.
وقال تعالى: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(24).
دلّت الآية على نفي الباطل بجميع أنواعه وألوانه عن الكتاب العزيز، ومن المؤكد ـ حسب الصناعة ـ أن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم، ولا شبهة أن التحريف من أفراد الباطل، فيجب أن يتطرق إلى الكتاب العزيز(25).
الاستدلال بحديث الثقلين
وتضافرت الأخبار بسلامة الكتاب العزيز من أي تحريف، زيادة كان أو نقصاناً، ومن أهمّ تلك الأخبار حديث الثقلين(26) الذي ضمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيه السلامة لأمته من الزيغ والانحراف إن تمسّكت بكتاب الله، وبعترة نبيّه، وهذا نصّه:
«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما...».
وقد عرض الإمام الخوئي إلى الاستدلال بهذا الحديث على سلامة القرآن من التحريف قال: والاستدلال به على عدم تحريف الكتاب يكون من ناحيتين:
الناحية الأولى:
إن القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسّك بالكتاب المنزل لضياعه على الامة بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيامة لصريح أخبار الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً.
وتوضيح ذلك:
إن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلا بد من وجود شخص يكون قريناً للكتاب، ولا بد من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة حتى يردا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الحوض، وليكون التمسك بهما حافظاً للأمة عن الضلال كما يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث، ومن الضروري ان التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم واتّباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم.
وهذا شيء لا يتوقف على الاتصال بالامام والمخاطبة معه شفاهاً، فان الوصول إلى الإمام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان الحضور فضلاً عن أزمنة الغيبة، واشتراط إمكان الوصول إلى الإمام لبعض الناس دعوىً بلا برهان، ولا سبب يوجب ذلك، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه، ويتّبعون أوامره، ومن هذه الأوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يكون إلاّ بالوصول إليه، فلا بد من كونه موجوداً بين الأمة ليمكنها أن تتمسك به لئلا تقع في الضلال، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الإمام الغائب، فان وجوده الواقعي لا يكفي لتمسك الأُمة به.
وأشكل الاستاذ على ما ذكره، وأجاب عنه وأضاف بعد ذلك:
الناحية الثانية:
إن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية، فلا يتمسك بظواهره، فلابد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى امضاء الأئمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا، واقرار الناس على الرجوع إليه بعد ثبوت تحريفه.
ومعنى هذا: إن حجية الكتاب الموجود متوقفة على امضاء الأئمة للاستدلال به، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما، بل هو الثقل الأكبر فلا تكون حجيته فرعاً على حجية الثقل الأصغر، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية ـ على القول بالتحريف ـ هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها، اما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط، فان الدليل على هذا الأصل هو بناء العقلاء على اتّباع الظهور وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه، وقد أوضحنا في مباحث الأصول ان القدر الثابت من البناء العقلائي، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة، ولا باحتمال وجود القرينة المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان أو غفلة السامع عن الاستفادة(27). وأطال الاستاذ في تنزيه القرآن من التحريف وأقام الأدلة الحاسمة على ذلك، وانه لم يقع أي تحريف فيه لا في زمان الخلفاء ولا من بعدهم، والقول بالتحريف باطل لا دليل عليه مطلقاً.
سلامة القرآن من التحريف عند الشيعة
وتبنت الشيعة بصورة ايجابية ومتميزة تقديس القرآن الكريم، وإحاطته بهالة من التعظيم لأنه المعجزة الخالدة لعبد الله ورسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم والثقل الأكبر الذي خلّفه لأمته فجعله مصدر هدايتها وسلامتها من الزيغ والانحراف. وما نُسب إليها من التحريف لا نصيب له من الواقع.
ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما أثر عن أئمة الهدى عليهم السَّلام في سموّ شأن الكتاب العزيز وسلامته من كل تحريف، وفيما يلي ذلك:
1 ـ فضل القرآن:
وتواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السَّلام في فضل القرآن الكريم هذه بعضها:
أ ـ روى طلحة بن زيد عن الإمام ابي عبد الله عليه السَّلام أنه قال:
«إن هذا القرآن فيه منار الهدى، ومصابيح الدجى، فليجلُ جالٍ بَصَرهُ، ويفتح للضياء نظره، فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»(28).
ب ـ روى أبو جميلة عن أبي عبد الله عليه السَّلام انه قال:
«كان في وصية أمير المؤمنين عليه السَّلام لأصحابه: اعلموا أن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة»(29).
ج ـ روى أبو بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السَّلام يقول:
«إن القرآن زاجر وآمر، يأمر بالجنة ويزجر عن النار»(30).
د ـ روى الإمام ابو جعفر عليه السَّلام عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«أنا أول رافدٍ على العزيز الجبّار يوم القيامة، وكتابهُ وأهل بيتي، ثم أمتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي»(31).
هـ ـ روى الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام في حديث له عن جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالةٌ من العثرة، ونور من الظلمة(32)، وضياءٌ من الاحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عَدَلَ أحد عن القرآن إلاّ إلى النار»(33).
2 ـ الحثّ على حفظ القرآن:
وحثّ الأئمة الطاهرون عليهم السَّلام على حفظ القرآن الكريم، ووعدوا الحافظين له بالمنزلة الكريمة عند الله تعالى، وهذه بعض ما اثر عنهم:
أ ـ قال الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام:
«من قرأ القرآن فهو غنى ولا فقر بعده، وإلاّ ما به غنى»(34).
ب ـ وروى الفضيل بن يسار عن الإمام أبي عبد الله عليه السَّلام أنه قال:
«الحافظ للقرآن، العامل به مع السفرة الكرام البررة»(35).
ج ـ روى الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام عن جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ماخلا النبيّين والمرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فانّ لهم من الله العزيز الجبّار لمكاناً عليّاً»(36).
د ـ قال الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام:
«من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة»(37).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تشجع على حفظ كتاب الله تعالى، وتذكر ما أعد الله يوم حشره من الأجر الجزيل.
3 ـ التأمل في آيات القرآن:
وحث الإمام زين العابدين عليه السَّلام على التأمل في آيات القرآن الكريم وذلك لما حوته من الذخائر، قال عليه السَّلام:
«آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»(38).
4 ـ قراءة القرآن بركة ورحمة:
وفي قراءة القرآن الكريم بركة ورحمة، وقد حثّ الأئمة الطاهرون على تلاوته، فقد روى الإمام أبو عبد الله عليه السَّلام عن جده الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال:
«البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويُذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يُذكر الله عز وجل فيه تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين»(39).
هذه بعض الأخبار التي أدلى بها أئمة أهل البيت عليهم السَّلام في فضل القرآن الكريم، وانه الثقل الأكبر الذي خلّفه النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم في أمته لإقامة أخلاقها وتهذيب سلوكها، وجعلها قادة الأمم والشعوب.
ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى ما اثر عن الإمام أبي جعفر عليه السَّلام وغيره في ذم المحرّفين لكتاب الله العزيز إلى ما أعلنه كبار علماء الشيعة من التزامهم بعدم تحريف القرآن زيادة ونقيصة، وفيما يلي ذلك:
ذمّ المحرّفين
1 ـ وأعلن الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السَّلام في رسالته إلى سعد الخير ذمّه المحرفين، وشجبه لما اقترفوه من تغيير وتبديد لكتاب الله تعالى، قال عليه السَّلام:
«وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يرونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم الرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية»(40).
2 ـ روى أبو ذر قال:
«لمّا نزلت هذه الآية (يَومَ تَبيَضُ وُجُوهٌ وتَسوَدُّ وُجُوهٌ) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ترد أمتي عليَّ يوم القيامة على خمس رايات، ثم ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين، فتقول الراية الأولى: أما الأكبر فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا ، وأما الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه.
وتقول الراية الثانية: أما الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه، وأما الأصغر فعاديناه وقاتلناه...»(41).
3 ـ روى الإمام أبو جعفر عليه السَّلام قال:
«دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بمنى فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي، والكعبة البيت الحرام».
وعقّب الإمام ابو جعفر عليه السَّلام على حديث جدّه بقوله:
«أما كتاب الله فحرّفوا، وأما الكعبة فهدموا، وأما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرّأوا»(42).
وقد دلت هذه الكوكبة من الروايات على ذم المحرفين لكتاب الله تعالى، كما دلت على وقوع التحريف فيه وليس المراد منه الزيادة أو النقيصة، فيه، فذلك باطل جزماً جملة وتفصيلاً، وإنما المراد منه تأويله وتفسيره على غير ما أنزل الله تعالى، فقد عمد بعض المفسرين إلى ذلك دعماً للحكم الأموي والعباسي، فقد ذكر بعض المفسرين أن الآية الكريمة: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) نزلت في ابن ملجم الباغي الأثيم لأنه عمّم بسيفه رائد الحكمة والعدالة الاجتماعية في الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام أخو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وباب مدينة علمه، وكثير من أمثال هذا التفسير توجد في مصادر تفسير القرآن الكريم، وهي بعيدة كل البعد عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه، قد وضعها من لا حريجة له في الدين تقرباً للسلطات الحاكمة التي جهدت على تدعيم حكمها بكل ما خالف القرآن الكريم.
وعلى أي حال فان الشيعة تبرأ من تحريف الكتاب العزيز، وتجمع على أنه هوالكتاب المنزل من رب العالمين لا زيادة ولا نقصان فيه.
كلمات أعلام الشيعة
وأدلى كبار علماء الشيعة بصيانة الذكر الحكيم من كل زيغ وتحريف، وهذه بعض كلماتهم:
1 ـ الشيخ الصدوق:
أما الشيخ الصدوق فهو من أبرز علماء الشيعة قال:
«اعتقادنا في القرآن انه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم عليم، وانه القصص الحقّ، وانه لقول فصل، وما هو بالهزل، وان الله تبارك وتعالى محدثه ومنزله، وربه وحافظه، والمتكلم به»(43).
وأكد الشيخ الصدوق ما ذهبت إليه الشيعة من سلامة القرآن الحكيم من التحريف بقوله:
«اعتقادنا أن القرآن أنزله الله تعالى على نبيّه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين»، وأضاف:
«ومن نسب إلينا انا نقول: إنه أكثر من ذلك فهو كاذب»(44).
2 ـ الشيخ الطوسي:
وأعلن زعيم الطائفة الإمامية الإمام أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي سلامة القرآن الكريم من كل تحريف قال:
«أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن؛ لأن الزيادة منه مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين على خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا»(45).
3 ـ العلامة الحلّي:
عرض العلامة الحلي نضر الله مثواه إلى تفنيذ وابطال التحريف في كتاب الله حينما سأله السيد المهنا عن ذلك فأجاب:
«الحق انه لا تبديل، ولا تأخير، ولا تقديم فيه، وانه لم يزد، ولم ينقص، ونعوذ بالله من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم المنقولة بالتواتر»(46).
4 ـ الإمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء:
قال إمام المحقّقين الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره:
«لا زيادة فيه ـ أي في القرآن ـ من سورة ولا آية من بسملة وغيرها، لا كلمة، ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام الله تعالى بالضرورة من المذهب، بل الدين وإجماع المسلمين، وأخبار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرين عليهم السَّلام(47).
5 ـ الإمام شرف الدين:
ونفى الإمام شرف الدين نفياً قاطعاً تحريف القرآن الكريم، قال:
«إن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشر أن القرآن، الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وانه كان مجموعاً مؤلفاً في عهده صلّى الله عليه وآله وسلم، وحفظه ونقله اُلوف من الصحابة، ويظهر القرآن وينتشر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه»(48).
6 ـ المحقق الأردبيلي:
قال المحقق الأردبيلي: واذا ثبت تواتره ـ أي القرآن الكريم ـ فهو مأمون من الاختلال، مع انه مضبوط في الكتب حتى إنه معدود حرفاً حرفاً وحركةً حركة، وكذا الكتابة وغيرها، مما يفيد الظن الغالب، بل العلم، بعدم الزيادة على ذلك والنقص»(49).
7 ـ الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء:
قال الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء: إن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه صلّى الله عليه وآله وسلم للإعجاز والتحدي ولتعلم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وانه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم ـ أي الشيعة الإمامية ـ ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نص الكتاب العظيم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم ـ أي العامة ـ الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فأما أن تؤوّل بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار»(50).
8 ـ العلامة المظفر:
قال العلامة الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله: نعتقد أن القرآن هو الوحي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم فيه تبيان لكلّ شيء، وهو معجزته الخالدة، التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما حوى من حقائق، ومعارف عالية لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه، وهو نفس القرآن المنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو محترف أو مغالط أو مشتبه، وكلّهم على غير هدى فانه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه»(51).
9 ـ المحقق الأميني:
قال المحقق الأميني في ردّه على أكاذيب ابن حزم في تحريف الشيعة للقرآن الكريم:
«لكن القارئ إذا فحص ونقّب لا يجد في طليعة الامامية إلاّ نفاة هذه الفرية... هؤلاء أعلام الامامية وحملة علومهم الكالئين لنواميسهم وعقائدهم قديماً وحديثاً يوقفونك على حين الرجل فيما يقول: وهذه فِرق الشيعة وفي مقدّمتهم الامامية مجمعةً على أن ما بين الدفّتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه»(52).
10 ـ الإمام الطباطبائي:
وبحث الإمام الطباطبائي بحثاً شاملاً وموضوعياً في سلامة القرآن الكريم من كل زيادة ونقيصة، ذكر ذلك في تفسيره للقرآن الكريم (الميزان) واستدلّ عليه بأوثق الأدلة، وكان مما استدل به الروايات التي اثرت عن أئمة الهدى عليهم السَّلام في عرض الأخبار المتعارضة على كتاب الله فما وافقه منها فهو حجة، وما خالفه فهو زخرف، وكذلك حديث الثقلين الذي ينص على التمسك بكتاب الله تعالى، فلو كان محرّفاً فهو غير حجة، ولا مجال لعرض الأخبار عليه والتمسك به»(53).
هذه بعض كلمات أعلام الشيعة، وأعمدتها العلمية في سلامة القرآن الكريم من كل تحريف.
أمور هامة:
ولابد لنا من وقفة قصيرة في بعض الأمور الهامة التي ترتبط بالموضوع، وهي:
مع المحدّث النوري:
ألف المحدث النوري كتاباً أسماه (فصل الخطاب) ذكر فيه وقوع التحريف زيادة ونقيصة في القرآن الكريم، وقد اتخذه خصوم الشيعة وسيلة للتشهير والطعن بهم، وهذا الكتاب خالٍ من الموازين والقيم العلمية، وهو على غرار ما كتبه السيوطي في كتابه (الاتقان) الذي ذكر فيه سيلاً من الروايات على وقوع التحريف في القرآن الكريم.
والكتاب لا يحفل به، فقد اعتمد على الروايات الموضوعة، وقد ردّ عليه الإمام البلاغي نضر الله مثواه قال:
«هذ وإن المحدث المعاصر جهد في كتاب (فصل الخطاب) في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة، وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل.. مع أن المتتبّع المحقّق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد.
وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها، ومنها ما هو مختلف بما يؤوّل إلى التنافي والتعارض.
هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم بأنه كذاب متهم لا استحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف، وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه السَّلام.. وأما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلّو.
وأضاف قائلاً:
ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة أن ننزلها على أن مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يعلم يقيناً شمول عموماتها له، لأنه أظهر الأفراد وأحقها بحكم العام أو ما كان مراداً بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل، أو ما كان هو مورد للنزول، أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم.
وعلى أحد هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد فيها أنه تنزيل، وأنه نزل به جبرئيل.. كما يحمل التحريف الوارد فيها على تحريف المعنى، ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه السَّلام لسعد الخير ـ كما في روضة الكافي ففيها: وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده. وكما يحمل ما فيها من أنه كان في مصحف أمير المؤمنين عليه السَّلام، أو ابن مسعود وينزل على انه بعنوان التفسير والتأويل ، ومما يشهد لذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام للزنديق كما في نهج البلاغة:
«ولقد جئتهم بالكتاب كاملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل».
وهكذا ما ورد من زيادة لولاية علي عليه السَّلام في مصحف فاطمة عليها السلام، ومعلوم أنه كان كتاب تحديث بأسرار العلم، وقد ورد أنه لم يكن فيه شيء من القرآن، وأيضاً ما ورد من تنزيل الأئمة موضع الأمة لا بد من حمله على التفسير وإن التحريف إنما هو في المعنى وكذا نظائره من سائر الروايات(54).
وما أفاده الإمام البلاغي قدس سره وثيق للغاية، وما ذكره المحدث النوري في الافصاح من وقوع التحريف في القرآن الكريم بعيد كل البعد عن الموازين والقيم العلمية، وإن الكتاب العظيم منزه من كل تحريف. وقد تصدى فضيلة العلامة الشيخ محمد هادي معرفة في كتابه (صيانة القرآن من التحريف) إلى تفنيد الروايات التي اعتمد عليها النوري وأنها من الموضوعات، ودلل على ذلك بصورة موضوعية، كما تصدى إلى ضحالة المصادر التي اعتمد عليها النوري، وأنها ليست من الكتب التي يعتمد عليها، ولم يدع في بحثه أي مجال للشك في فساد ما ذكره المحدث النوري.
مع الكليني:
عقد ثقة الإسلام الكليني نضر الله مثواه في كتابه الجليل (أصول الكافي) فصلاً تحت عنوان «انه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمة عليهم السَّلام، وأنهم يعلمون علمه كلّه»(55).
وذكر كوكبة من الأخبار في ذلك، ومن المقطوع به انه لم يذهب إلى تحريف الكتاب العزيز، وإنما مقصوده أن القرآن الكريم لا يحيط بمحتواه، ولا يعرف تأويله ولا ناسخه ولا منسوخه سوى الأئمة الطاهرين عليهم السَّلام الذين هم خزنة علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وورثة آدابه وحكمه، ومضافاً لذلك فان الاخبار الموجودة في الكافي وغيره من كتب الامامية فيها الصحيح والضعيف، والمعيار في صحة الحديث هو أن يكون صحيح السند، وأن لا تكون دلالته مجافيه للكتاب والسنة، فإذا اكتسب ذلك فالرواية صحيحة والا فهي شاذة لا يعمل بها حسبما ذكره علماء الامامية.
يقول الحجة الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله: «ألفت نظر من يحتجّ على الشيعة ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم، ألفت نظره إلى أن الشيعة تعتقد أن كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم، ومنها الكافي والاستبصار والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه، فيها الصحيح والضعيف، وأن كتب الفقه التي ألفها علمائهم فيها الخطأ والصواب، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأن كل ما فيه حق وصواب من أوّله إلى آخره غير القرآن الكريم».
وأضاف:
«إنما يكون الحديث حجة على الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية، وهذه نتيجة طبيعية لفتح باب الاجتهاد لكل من له الأهلية فان الاجتهاد يكون في صحة السند وضعفه كما يكون في استخراج الحكم من آية أو رواية»(56).
مصحف الإمام علي عليه السَّلام:
وقبل أن أطوي الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب أعرض إلى أن بعض الأخبار دلّت على أن للإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام مصحفاً غير المصحف الموجود، وقد جاء به إلى الصحابة فلم يقبلوا منه، وهذا نص حديثه عليه السَّلام:
خاطب الإمام طلحة قائلاً له:
«يا طلحة، إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم عندي بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وخط يدي، وتأويل كل آية آنزلها الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وكل حلال أو حرام أو حدّ أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وخطّ يدي حتى أرش الخدش»(57).
وهناك رواية أخرى تضارع هذه الرواية وهي:
قال جابر: سمعت أبا جعفر عليه السَّلام يقول: «ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السَّلام»(58). وليس المراد من هذين الروايتين وأمثالهما أنه عند الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام وسائر الأوصياء مصحفاً يغاير المصحف المتناول؛ فان ذلك باطل جزماً وإنما المراد أن المصحف الذي عند الإمام عليه السَّلام حافل ببيان معاني الآيات وأسباب نزولها، ومحكمها ومتشابهها، وعامّها وخاصها، ومطلقها ومقيدها، كما أن المراد بمصحف سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام هو ذلك فانه من المقطوع به أن القرآن الكريم كان مجموعاً ومحفوظاً في أيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل الشيخ الطوسي عن الإمام المرتضى أنه قال:
«إن القرآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن»، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن علي جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان يعرض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عدّه ختمات، وكلّ ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور، ولا مبثوث»(59).
وأكد ذلك الإمام الأعظم شرف الدين قدس سره قال: «إن القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة، مؤلفاً على ما هو عليه الآن، وقد عرضه الصحابة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتلوه عليه من أوله إلى آخره، وكان جبرئيل عليه السَّلام يعارضه صلّى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين، وهذا كله من الأمور الضرورية لدى المحققين من علماء الامامية، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم كما لا عبرة بالحشوية من أهل السنة القائلين بتحريف القرآن ـ والعياذ بالله ـ فإنهم لا يفقهون»(60).
وعلى أي حال فان الشيعة الامامية تعتقد اعتقاداً جازماً لا يخامره أدنى شك أن القرآن الكريم المنزل من رب العالمين كان مجموعاً في أيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأنه سالم من كل تحريف، وما ورد في بعض الروايات الشاذة من وجود تحريف فيه فإنها باطلة؛ لأنها تتصادم مع الكتاب العزيز والسنة المقدسة، وما ذكر من الروايات المنافية لذلك فإنها موضوعة أو مؤوّلة.
وفي نهاية هذا الكتاب أني آمل أن يجد القارئ فيه الفائدة والمتعة، وهو ما أتمنّاه، والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــ
(1) لسان العرب 9 / 43.
(2) تاج العروس 6 / 69.
(3) مقاييس اللغة 2 / 42 ـ 43.
(4) سورة النساء: آية 46، أفاد السيد الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية ما نصه: «وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة ـ يعني اليهود ـ بتحريف الكلم عن مواضعه وذلك أما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والاسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، واما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السَّلام في التوراة وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق، كما أولوا ما ورد في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من بشائر التوراة ـ الميزان 4 / 364، وقريب من ذلك جاء في مواهب الرحمن 8 / 277 للإمام السبزواري نضّر الله مثواه.
(5) سورة المائدة: آية 13، نزلت هذه الآية في اليهود، فقد كانوا يفسرون التوراة بغير ما أنزل الله، ويغيرون صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والتحريف بأمرين:
الأول: سوء التأويل، والآخر: التغيير والتبديل. جاء ذلك في مجمع البيان 4 / 173.
(6) سورة البقرة، آية 75، نزلت الآية الكريمة في اليهود الذين رفضوا دعوة الإسلام واستمروا على معاندة الحق، فخاطب الله تعالى نبيّه بقوله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) وقد كان أسلاف اليهود يسمعون كلام الله من موسى مقترناً بالمعجزات فيحرفونه ويتأولونه حسب أهوائهم على علم منهم، وما حال يهود المدينة إلاّ كحال أسلافهم الذين حرفوا كتاب الله تعالى، جاء ذلك في الكاشف 1 / 131 وللإمام الرازي في تفسيره 3 / 134 مباحث في بيان التحريف وصوره.
(7) سورة المائدة، آية 41.
(8) صحيح مسلم 2 / 766.
(9) صحيح البخاري 9 / 208 ـ 209، صحيح مسلم 3 / 1317.
(10) مستدرك الحاكم 4 / 359 وفي الموطأ: ص 458 إن عمر قال: والذي نفسي بيده لولا يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة فارجموهما البتة.
(11) صحيح البخاري 8 / 210.
(12) الاتقان 1 / 121.
(13) البيان في تفسير القرآن: ص203.
(14) الاتقان 2 / 40.
(15) صحيح مسلم 1 / 437 كتاب المساجد. سنن الترمذي 5 / 217. سنن النسائي 1 / 236. سنن أبي داود 1 / 121.
(16) الاتقان 2 / 40.
(17) صحيح مسلم 4 / 167.
(18) الاتقان 2 / 42.
(19) الاتقان 2 / 42.
(20) الدر المنثور 8 / 586.
(21) كشف الحقائق: ص72، نقلاً عن صحيح البخاري 5 / 31، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
(22) مسند أحمد بن حنبل 5 / 129. مجمع الزوائد 1 / 149.
(23) سوره الحجر: 9.
(24) سورة فصّلت: 41 ـ 42.
(25) البيان في تفسير القرآن: ص 210.
(26) حديث الثقلين من الأحاديث النبوية المتواترة، رواه أحمد في مسنده 3 / 14، ورواه جلال الدين السيوطي في جامعه الصغير، ورواه الحاكم في المستدرك 3 / 109، ورواه المناوي في شرحه 3 / 15 وغيرهم.
(27) البيان في تفسير القرآن: ص 212 ـ 214.
(28) أصول الكافي 2 / 438.
(29) أصول الكافي 2 / 439.
(30) أصول الكافي 2 / 439.
(31) أصول الكافي 2 / 600.
(32) في بعض النسخ: «الضلالة».
(33) أصول الكافي 2 / 439.
(34) أصول الكافي 2 / 605.
(35) أصول الكافي 2 / 603.
(36) أصول الكافي 2 / 603.
(37) أصول الكافي 2 / 603.
(38) أصول الكافي 2 / 609.
(39) أصول الكافي 2 / 610.
(40) الوافي: ص 274.
(41) البيان في تفسير القرآن: ص 227.
(42) البيان في تفسير القرآن: ص 227.
(43) كشف الحقائق: ص 47 ـ 48.
(44) صيانة القرآن من التحريف: ص 60.
(45) البيان 1 / 3.
(46) صيانة القرآن الكريم من التحريف: ص 63.
(47) صيانة القرآن الكريم من التحريف: ص 63.
(48) الفصول المهمة: ص 164.
(49) مجمع الفائدة 2 / 218.
(50) أصل الشيعة وأصولها: ص 133.
(51) كشف الحقائق: ص 48.
(52) الغدير 3 / 101.
(53) الميزان.
(54) مقدمة تفسير الألآء 1 / 25 ـ 27.
(55) أصول الكافي 1 / 178.
(56) مجلة رسالة الإسلام: العدد 44، ص 382 ـ 385.
(57) البيان في تفسير القرآن: ص 222.
(58) البيان في تفسير القرآن: ص 223.
(59) مجمع البيان 1 / 15.
(60) أجوبة مسائل جار الله: ص 30.